في خصائص أدب مارسيل بروست: البحث عن الحقيقة
علاء رشيدي 28 أغسطس 2023
تغطيات
شارك هذا المقال
حجم الخط
السيرة الذاتية والتحصيل العلمي والقراءات الأولى
في عام 2002، بدأ مشروع د. جمال شحيد في تكملة ترجمة وإعادة ترجمة الأجزاء السبعة التي تكوّن كتاب السيرة الذاتية "بحثًا عن الزمن المفقود" للأديب الفرنسي مارسيل بروست. صدرت الترجمة العربية الكاملة لهذا العمل الأدبي كاملة في عام 2019. وعقب صدورها، باشر شحيد بتأليف كتاب بعنوان "مارسيل بروست أو ملاك الليل" (2023)، والذي يرحل مع القارئ في عوالم بروست الشخصية، الأدبية، الفكرية، والفنية، وفي عوالم سباعيته. وكما يكتب شحيد: "سعيت في هذا الكتاب لتزويد المكتبة العربية بدراسة تقدم النقاط الأساسية لأعمال بروست عامة، وللسباعية خاصة، لا سيما وأن الكتب التي صدرت عنه قليلة جدًا في مكتبتنا العربية. ولقد آثرت أن أطلق على كتابي عنوان "مارسيل بروست أو ملاك الليل"، وهو عنوان اقتبسته من كتاب للباحث الإيطالي جيوفاني ماشيا، الصادر في ميلانو عام 1979م، ذلك أن بروست كان ينام في النهار، ويكتب في الليل".
يسعى الفصل الأول من الكتاب بعنوان "من هو مارسيل بروست؟" إلى تأطير مراحل الحياة التي عاشها بروست، من دون الإسهاب في التفاصيل، مكتفيًا بالنقاط الأساسية والخطوط العريضة التي تهم القارئ العربي، لا سيما وأن بروست مزج بين شخصية راوي السباعية وشخصيته ككاتب (ما هي القواسم المشتركة بينهما أحيانًا كثيرة)، ثم ينتقل الكتاب بنا من نشأة بروست وأصوله، إلى طفولته، إلى تحصيله العلمي وقراءاته الأساسية.
في عام 1883م، سافر بروست إلى سويسرا في رحلة ترفيهية، ولدى عودته إلى باريس ألف قصة "اللامبالي"، التي أضافها لاحقًا في باكورة أعماله ("المسرات والأيام") والتي صدرت عام 1896م. واتفق مع الرسامة مادلين لومير كي تزين بمائياتها نصوص الكتاب، الذي صدر كألبوم فني. يبدأ الكتاب بنص رسالة عنوانها "إلى صديقي ويلي هيث"، لكن ما يلي المقدمة هو مجموعة من القصص، تحمل عناوين: موت بلدارسار سيلفاند فيكونت سيلفانيا، فيوليت أو المجتمع المخملي، شذرات من كوميديا إيطالية، ونص هجائي أنيق عنوانه "بوفار وبيكوشيه"، ثم ينتقل الكتاب إلى بورتريهات لعدد من الرسامين والموسيقيين يتوجها بنص جميل بعنوان "سوناتا في ضوء القمر" يعلق فيها على سوناتا بيتهوفن: "ولمع القمر فوق آلام الليل المتجلية، ولمع في قلبي الذي انقشعت عنه الغيوم وزالت منه الكآبة"؛ مستذكرًا في نهاية المجموعة مشاهداته عن منطقة النورماندي التي كان يحبها في طفولته. ويشرح لنا شحيد عن وجود نوى عديدة في كتاب "المسرات والأيام" سيفصلها بروست ويطورها في سباعيته، إذ "جمع بين دفتيه شقين، شقًا يهتم بالإنسان في المجتمع، وبالحداثة والموت، وشقًا يشيد بالإنسان والطبيعة والفن والحياة منها: بورتريهات رسامين وموسيقيين، سوناتا ضوء القمر، لقاء على ضفة البحيرة، ريح بحرية في الريف، شواطئ النسيان، البحر، وأشياء نورماندية...".
ينتقل بنا الكتاب إلى رواية "جان سانتوي" التي بدأ بروست بكتابتها في عام 1895م، ولم تطبع إلا عام 1952. وتروي الرواية قصة الشاب جان سانتوي المهووس بالأدب والشعر والفن طفلًا يافعًا وشابًا، وكيف انضم إلى العالم المخملي الباريسي، وإلى الصالونات الأدبية. وفي الرواية لعبة مرايا بين الراوي وصديقه اللذين يمضيان أشهر الصيف في الريف الغربي في فرنسا. ورغم أن هذه الرواية الضخمة هي سيرة حياة سانتوي، وهي بالتالي من دون حبكة ومن دون نهاية، إلا أنها تروي الوقائع التي عاشها البطل في إيلييه، ثم في ريفتون وباريس، وتتوقف الرواية عند الحياة المخملية لهذا البطل، وتعرفه على شخصيات المجتمع الأرستقراطي والبورجوازي الباريسي، وتتكلم أيضًا عن شيخوخة أبويه، وتكرس فصلًا كاملًا لقضية دريفوس. وهو الضابط الفرنسي اليهودي الذي اتهم ظلمًا بأنه تواطأ مع الألمان في حرب 1870 التي خسرتها فرنسا. ويحلل بروست عقلية كبار الضباط الذين حاكموا دريفوس، وجردوه من رتبه، وأمروا بنفيه إلى جزيرة الشيطان في غويانا.
الانتقال من السيرة الذاتية إلى الدراسة النصية
أما الكتاب النقدي الذي كان له أثر أساسي في تاريخ الحركة النقدية الأدبية، لدوره في نقل الاهتمام النقدي من السيرة الذاتية للكاتب إلى تحليل عناصر النص الأدبي، فقد ألفه بروست في عام 1954 بعنوان "ضد سانت بوف"، وهو عبارة عن مجموعة مقالات نشرت في ملحق الفيغارو، حيث أطلق عليها تسمية "معارضات وأخلاط"، ويتضمن تعليقات عدد من كتاب القرن التاسع عشر (بلزاك، فلوبير، سانت بوف، رينييه، غونكور، فاغيه، رينان، وسان سيمون). أما شارل أوغستان سانت بوف (1804 ـ 1869م) فقد كان ناقدًا أدبيًا، وأستاذًا في الكوليج دو فرانس، وعضوًا في المجمع العلمي الفرنسي، واشتهر بكتبه الضخمة (أحاديث يوم الإثنين، بو رويال، وقائع باريسية)، وغيرها من كتب مراجعات حول أعمال الكتاب، حيث ركز في النقد الأدبي على مقولة البحث في السيرة الذاتية للكتاب والأدباء لأجل الولوج وفهم أفضل لنصوصهم وكتبهم، وسادت نظريته هذه حتى منتصف القرن العشرين، وطبق شارل موراس هذه النظرية على السياسة والسياسيين، حتى عام 1908م، حيث كتب بروست معارضًا هذه النظرية النقدية، مبرهنًا أن ذات الكاتب ـ الإنسان تختلف عن ذات ـ الكاتب الفنان، ومؤكدًا على أن اللغة ليست شيئًا جامدًا ومكتملًا، وعلى أن كل كاتب يتعامل مع اللغة بطريقة شخصية. وانتقد بروست نظرية سانت بوف القائلة بأننا لن نفهم عمل الكاتب إلا إذا ربطناه بحياته، وإذا توصلنا إلى معرفة تفاصيلها وخفاياها عن طريق أقاربه وأصدقائه ومعارفه. وأكد بروست على أن النص يرتبط بالنص أساسًا وليس بتفاصيل حياة صاحبه.
الرسم والموسيقى والفنون في النص الأدبي
يتوقف الفصل الثاني من الكتاب بعنوان "ثقافة بروست" عند الروافد الفنية في عوالم بروست الأدبية والإبداعية، ومنها الشغف الموسيقي. ففي أعمال بروست إشارات عديدة إلى موسيقيين كثيرين، فقد كان صديق عمره رينالدو هان، وهو ملحن أعجب بفنه، فلحن (لو كانت لأبياتي أجنحة، فيكتور هوغو)، (الساعة الرائعة، بول فيرلين)، و(إلى كلوريس، تيوفيل لوفيو)، وكان يظهر في السباعية بإسم الإله المتخفي وجسد فيها رمز الفن الموسيقي الكلاسيكي الفرنسي، كما يظهر المؤلف الفرنسي سيزار فرانك تحت اسم (فانتوي)، الذي وردت سوناتاته مرات عديدة في السباعية، وكذلك تعرف بروست شخصيًا على المؤلف الموسيقي كاميل سانت سان، وذكر عمله الموسيقي "شمشمون ودليلة" في السباعية، وكذلك أعجب بروست بموسيقى غابريل فورييه، وكتب عنها: "لا أحب ولا أعجب ولا أعبد موسيقاك فقط، بل إنني أيضًا متيم بها". وكانت ثقافة بروست الموسيقية واسعة، فقد أحب شوبان، فاغنر، المؤلفين الروس، بالإضافة إلى الموسيقيين الفرنسيين الذين ذكرناهم، وفي نظره، أن الموسيقى تتكلم كالحب الطاهر والسعادة. يكتب شحيد: "كان بروست يواشج بين لغة الموسيقى واللغة الروائية عبر الكلمات، حيث يرى أن الخطاب الموسيقي يمكن أن يترجم روائيًا، وأن الإيقاع الداخلي للجملة يتأثر بالألحان والأنغام".
وكما المقاربة التي تشرح سابقًا العلاقة بين الأدب والموسيقى، فإنها تمتد كذلك لتشمل فن الرسم، فيرى شحيد في هذا السياق أنه ورغم وجود كتاب كثيرين أجروا مقاربة بين فن الرسم والأدب، ومنهم السيدة دولافاييت، وبلزاك، وغونكور، وزولا، وأناتول فرانس، ولكن مقاربتهم بقيت محدودة، أما بروست فتناول فن الرسم بصورة أعمق، ففي السباعية تظهر شخصية فنان محترف هو إيليستير، وشخصية هاوي فن وهو سوان. وكان بروست ينظر إلى العالم من خلال لوحات مجموعة من الفنانين الكبار. وقد أبرزت الناقدة نايلة تمراز في كتابها "بروست، لوحة وفن" (2010) أن كتابة بروست متأثرة بفن اللوحات، أي أن يكون الفن مرسومًا بالكلمات والألوان، وتتخلله خطوط وأشكال. ورد في كتاب "فن الشعر"، هوارسيوس: "إن الرسم، حسب بلوتاركوس، هو الشعر الصامت، وإن الشعر هو الرسم الناطق". وكذلك ثمة إحالات عديدة في السباعية إلى لوحات فنية، وركز على بعض أسماء الفنانين (بوتيليي، كارباتشيو، جيوتو، مانتينيا، رامبرنت، مورو). ويجب التذكير أن بروست ولد في أوج تأثير الحركة الفنية الانطباعية في الفن، ودافع كثيرًا عن أصدقائه الانطباعيين ومنهم مانيه، رينوار، مونيه، وديغا. يكتب بروست في "الزمن المستعاد": "إن الأسلوب لدى الكاتب، شأنه شأن اللون عند الفنان، ليس مسألة تتعلق بالتقنية، وإنما بالرؤيا، فهو كشف يستحيل تحقيقه بطرق مباشرة وواعية، كشف للتباين النوعي في الشكل الذي يتجلى لنا فيه العالم".
يدرس الفصل الثالث من الكتاب بنية السباعية، حيث بدأت السباعية بمقولتين وجزأين أساسيين: الزمن المفقود، والزمن المستعاد، وتشعبت لاحقًا إلى 3 أجزاء: سوان، جانب منازل الغيرمانت، والزمن المستعاد، ثم تطورت إلى خمسة أجزاء، واكتملت بسبعة. وتبقى مقولة الزمن المفقود والزمن المستعاد هي النسيج الأساسي المتين، القائم على التوازي والتعارض بين هذين الزمنين. يكتب د. شحيد: "ولا تعني فكرة الزمن المفقود أن هذا الزمن انتهى وشبع موتًا، بل تعني أنه زمن يُفقد مرارًا وتكرارًا، أي أن فقدانه يتكرر، لأنه لم يندثر، مما يدل على أن بروست أراده زمنًا يتجه نحو المستقبل، أو الزمن الآتي". وتشكل شخصيات "بحثًا عن الزمن المفقود" إسقاطًا على العالم الجواني للكاتب الذي حرص على ترك مسافة بينه وبين هؤلاء الشخصيات. ويدرس بروست تنامي الشخصيات، وكيف تعرف عليها الراوي، كيف راحت تتصرف، كيف استرعت انتباهه، ويكشف كل لقاء بين الراوي وبينها جانبًا من جوانب الشخصية وتفصيلًا من تفاصيل حياتها وتطلعاتها. لكن الراوي لا يستطيع أن يدلف إلى العالم الجواني للشخصية إلا عن طريق بعض العلامات والأحداث والشهادات.
الزمن الذاتي... الزمن الروائي والزمن التاريخي
تحت عنوان "مركزية مقولة الزمن"، يدرس شحيد عنصر الزمن في النص الأدبي عند بروست، الذي اهتم كثيرًا بهذه المقولة، فوسم بها سباعيته، وختمها بجزء عنوانه "الزمن المستعاد"، إذ تبدأ السباعية بعبارة تتكلم عن الوقت، أي الزمن المعدود: "كثيرًا ما آويت إلى سريري في ساعة مبكرة، وكانت عيناي أحيانًا حالما أطفئ شمعتي، تغمضان بسرعة لا تدع لي متسعًا من الوقت أقول فيه إنني أنام، وبعد نصف ساعة توقظني فكرة أن الوقت حان للبحث عن النوم، فأبتغي وضع المجلد الذي ما زال بين يدي". وتنتهي السباعية بهذه العبارة: "وبدا لي أن قوتي قد خارت ولا أستطيع أن أحافظ على هذا الماضي الذي تشبث بي، وراح يهوى وينأى". ويوضح شحيد الفارق بين الزمن التاريخي والزمن الروائي، لأن بروست لا يريد أن يكتب رواية تاريخية تراعي معطيات التاريخ وتفاصيله. لذلك نجد في "بحثًا عن الزمن المفقود" انزياحات زمنية مقصودة تتعلق بعمر الشخصيات. وفي "الزمن المستعاد" ثمة نص مخيف عن تهالك الإنسان الطاعن في السن الذي نكلت به السنون، وفيه يربط بروست بين تسارع العمر وانزياح الزمن. ويتربص الزمن بالشخصيات ويسقطها في شراكه، ويتلمظ لسقوطها، ويفرك يديه تشفيًا. ولا يغفل بروست تغير اللغة الناجم عن التقدم في السن، وكذلك تغير السلوك مع تغير السنين. ويرتبط الزمن بالأحداث التاريخية، التي تتزامن مع الأحداث الروائية وتتقاطع معها، ففي السباعية يتكلم بروست عن أحداث الربع الأخير من القرن التاسع عشر، والربع الأول من القرن العشرين. ويلاحظ النقاد أن بروست حول التاريخ إلى أدب، وأنه تعامل مع الحدث التاريخي ليس كمؤرخ، وإنما كروائي نظر إلى الحرب كخلفية لم يتوقف عندها طويلًا، ليتابع من ثم جولاته في الصالونات المخملية، وليراقب مساحات شخصياته التي جار عليها الزمن. يتعامل بروست، إذًا، مع الزمن التاريخي حسب مقتضيات الرواية وتداعياتها، ويرى أن الزمن لا يضيع عندما نفتح السباعية.
الأدب البروستي و"ألف ليلة وليلة"
يدرس الكتاب في الفصل الرابع (سمات السرد البروستي)، مفصلًا التقنيات التي استعملها الأديب في تحقيق نصوصه، منها استخدام الرسائل بكثرة، اللجوء إلى المعارضات Pastiches، وهي تعني التقليد في الأسلوب، وأحيانًا تعني المحاكاة الساخرة Parodie، وهي نوع من الهزل والتفكه، وهي معارضة تقتبس أسلوب الشخص المنتقد والمواضيع التي عالجها. ومن الأسلوب السردي أيضًا توظيف الحكاية ضمن الحكاية، بالإضافة إلى توظيف الفنون المصاحبة للأدب، كالرسم والموسيقى، والأوبرا والمسرح. وأخيرًا، تقنية تجميع الأحداث التاريخية، كتجميع وقائع الحرب الكبرى (1914 ـ 1918)م في الجزء الأخير من السباعية. وكذلك يوضح شحيد خصوصية خواتيم السرد في السباعية، فبينما يحظى السرد عمومًا في الرواية الكلاسيكية بخاتمة تلي الحبكة، وتكون إما سعيدة، وإما مأساوية، ففي السباعية لا توجد خاتمة حدثية، بل نص مفتوح، لا نعرف فيه مصائر الشخصيات التي ظهرت على مسرحها. فلا يوجد في الكتاب أبطال أصلًا، بل شخصيات تقارب المئتين تتحرك على هذا المسرح الفسيح الذي يتسع لها كلها. ويتمثل السرد التخييلي البروستي أيضًا بالجمل الإعتراضية والاسترجاعات والتقاطعات، مما يدل على أن جوًا من الاضطراب والحيرة والتوجس يهيمن على نفسية الراوي المأزوم، الذي يشعر بأن الزمن يُفلت من يديه، وبات الموت يتربص به في كل لحظة.
لعبة الذاكرة والنسيان
الفصل الخامس بعنوان "لعبة الذاكرة والنسيان عند بروست"، حيث يعد بروست من أكثر الأدباء العالميين الذين اهتموا بالذاكرة والتذكر والاستذكار والنسيان اهتمامًا خاصًا. فالذكرى غير الطوعية تبزغ فجأة من دون أن يتوقعها المرء، وفي ظروف غريبة. وهي ليست مرتبطة حتمًا بالدماغ، بل ببعض الأعضاء الأخرى أحيانًا. ويميز بروست بين الذاكرة الطوعية والذاكرة غير الطوعية. وترتبط الأولى بالعقل الذي يمحص الذكريات ويغربلها ويحللها ويستوعبها. وهي ذاكرة باردة ونفعية ومصطنعة وأحادية الشكل وتفتقر إلى الألوان، وقارنها بروست بالرسامين الرديئين الذين يكررون لوحاتهم، وهي ذاكرة تستخدم شذرات من الماضي، وفيها تشحب صور الماضي وتتلاشى تدريجيًا ثم تزول، لأنها صور جفّت وفقدت بريقها الإنساني. أما الذاكرة الحقيقية في نظر بروست فهي الذاكرة غير الطوعية، هي التي تجعل الماضي قريب المنال منا وتحييه لنا من جديد، تجعله ذا طعم ورائحة وينبض بالحياة. إنها الذاكرة المرتبطة بأحاسيسنا وانفعالاتنا وخلجاتنا وصبواتنا وتباريحنا. كما يتوقف بروست عند ضياع الذكريات الممتلكة، بسبب تلف الدماغ: "إننا لا نملك ذكرياتنا جميعها إن لم نملك القدرة على استذكارها، ولكن ما عسى أن تكون ذكرى لا نتذكرها؟ إننا لا نتذكر ذكرياتنا العائدة للسنوات الثلاثين الأخيرة، ولكنها ذكريات تعود إلى ما كان أبعد من حياتنا البشرية، فالفرد الذي سأكونه بعد الموت لا دواعي لديه لتذكر الشخص الذي كنته منذ مولدي أكثر مما يتذكر هذا الأخير ما كنته قبل مولدي".
يخصص الكتاب في الفصل السادس المعنون بـ"الحياة الحقيقية هي الأدب" فقرة خاصة لدراسة العلاقة بين كتاب "ألف ليلة وليلة" والسباعية البروستية. يرى د. شحيد أن من يقرأ السباعية بتمعن يلمس ولع بروست بكتاب "ألف ليلة وليلة"، فلقد ورد ذكرها في "بحثًا عن الزمن المفقود" 13 مرة، وفي جميع أجزائها، مما يدل على أنها معلم أساسي من معالم هذه السباعية، كما يثبت شغف بروست بهذا المؤلف الأدبي، وإن حضور الشرق يفرض نفسه، بعد جميع الاستشهادات، حيث يتماهى هذا الشرق مع "ألف ليلة وليلة". وإلى جانب هذه الصورة السحرية للشرق، ينظر بروست إلى الشرق كمجاز. وبما أن "ألف ليلة وليلة" لدى بروست تتسم بالسحر، يلعب الحلم دورًا في التواشج بينهما، وغالبًا ما تخضع مقولة الزمن لهذا التواشج.
في عيون محفوظ وبارت ودولوز
يخصص الكتاب في فصله الأخير قسمًا خاصًا للكتاب والفنانين والنقاد الذين كتبوا عن بروست وأدبه، فيذكر منهم ألبير كامو، الذي وعلى الرغم من تغير الرؤية الأدبية بين بداية القرن ومنتصفه في فرنسا، كان من عشاق السباعية، وأورد في الدفتر الخامس من دفاتره بعض الإشارات التي تشيد ببروست، وبعض العبارات التي تذكر بأجوائه وأسلوبه الأدبي. وكذلك الأديب التركي أورهان باموق، وهو من عشاق سباعية بروست، ويعدها من أهم الروايات في القرن العشرين، ويرى أنها مفتاح أساسي من مفاتيح حضارة الغرب. وفي روايته "الكتاب الأسود" يتكلم عن صحافي عجوز يشعر بأنه يتماهى مع بروست، ويتخيل أن ألبرتين تعشقه. أما رولان بارت فرغم أنه لم يكرس كتابًا كاملًا عن بروست على غرار ما فعله مع أدباء آخرين، إلا أنه كتب مجموعة من المقالات، وأعطى عددًا من المحاضرات، ليصبح بروست في سنوات بارت التدريسية الأخيرة مركزًا أساسيًا في دروسة ومحاضراته. وفي "الكتابة في درجة الصفر" (1953) توقف بارت عند توصيف الشخصيات الأساسية في السباعية بشتى تلويناتها وردود أفعالها ومستوياتها اللغوية وتعدد أصواتها. أما في الفن السينمائي، فيحضر السينمائي الإيطالي فيسكونتي، الذي لم ير الفيلم الذي أعده عن السباعية النور، مع أنه كان جاهزًا للإخراج، ويبقى فيسكونتي من المعجبين ببروست. وبخصوص الأديب المصري نجيب محفوظ، فقد قرأ سباعية بروست كاملة باللغة الإنكليزية، وقال: "إن نصيحتي كي تستمتع بها أن تقرأ منها كل جلسة عددًا محدودًا من الصفحات، وكأنك تقرأ ديوانًا من الشعر، أتذكر أن بروست صرح عن تأثره بـ’ألف ليلة وليلة’، ربما في تركيب الرواية، حيث تتوالد الحكايات، كل جزء كأنه رواية متكاملة، خيوط بسيطة تربط بينها". وأخيرًا يتوقف الكتاب مع كتابات الفيلسوف جيل دولوز الذي أصدر في عام 1964 دراسة عنوانها "مارسيل بروست والعلامات"، وفيها نظر إلى بروست كأديب ومفكر قريب من الفلسفة. في هذا الكتاب، رأى دولوز أن بروست في "بحثًا عن الزمن المفقود" كان يبحث عن الحقيقة، أي عن خلق معان، وأن سباعيته هي كناية عن ماكينة هائلة تنتج علامات: "وهناك علامات تجبرنا على التفكير في الزمن الضائع، وأن كل شيء في تبدّل واندثار". ويتوقف دولوز عند ثلاثة فضاءات يتبلور فيها هذا التعلم: فضاء المجتمع المخملي، فضاء الحب، فضاء الإنطباعات والمشاعر. وفي فصل بعنوان "العلامة والحقيقة"، يرى دولوز أن البحث عن الزمن المفقود هو في المحصلة بحث عن الحقيقة: "العنصر الهام في السباعية ليس الذاكرة والزمن، بل العلامة والحقيقة. العنصر الهام ليس الاستذكار، بل التعلم. ذلك أن الذاكرة لا قيمة لها إلا كطاقة قادرة على تفسير بعض العلامات. إن السباعية هي بحث عن الحقيقة قبل كل شيء".
علاء رشيدي 28 أغسطس 2023
تغطيات
شارك هذا المقال
حجم الخط
السيرة الذاتية والتحصيل العلمي والقراءات الأولى
في عام 2002، بدأ مشروع د. جمال شحيد في تكملة ترجمة وإعادة ترجمة الأجزاء السبعة التي تكوّن كتاب السيرة الذاتية "بحثًا عن الزمن المفقود" للأديب الفرنسي مارسيل بروست. صدرت الترجمة العربية الكاملة لهذا العمل الأدبي كاملة في عام 2019. وعقب صدورها، باشر شحيد بتأليف كتاب بعنوان "مارسيل بروست أو ملاك الليل" (2023)، والذي يرحل مع القارئ في عوالم بروست الشخصية، الأدبية، الفكرية، والفنية، وفي عوالم سباعيته. وكما يكتب شحيد: "سعيت في هذا الكتاب لتزويد المكتبة العربية بدراسة تقدم النقاط الأساسية لأعمال بروست عامة، وللسباعية خاصة، لا سيما وأن الكتب التي صدرت عنه قليلة جدًا في مكتبتنا العربية. ولقد آثرت أن أطلق على كتابي عنوان "مارسيل بروست أو ملاك الليل"، وهو عنوان اقتبسته من كتاب للباحث الإيطالي جيوفاني ماشيا، الصادر في ميلانو عام 1979م، ذلك أن بروست كان ينام في النهار، ويكتب في الليل".
يسعى الفصل الأول من الكتاب بعنوان "من هو مارسيل بروست؟" إلى تأطير مراحل الحياة التي عاشها بروست، من دون الإسهاب في التفاصيل، مكتفيًا بالنقاط الأساسية والخطوط العريضة التي تهم القارئ العربي، لا سيما وأن بروست مزج بين شخصية راوي السباعية وشخصيته ككاتب (ما هي القواسم المشتركة بينهما أحيانًا كثيرة)، ثم ينتقل الكتاب بنا من نشأة بروست وأصوله، إلى طفولته، إلى تحصيله العلمي وقراءاته الأساسية.
في عام 1883م، سافر بروست إلى سويسرا في رحلة ترفيهية، ولدى عودته إلى باريس ألف قصة "اللامبالي"، التي أضافها لاحقًا في باكورة أعماله ("المسرات والأيام") والتي صدرت عام 1896م. واتفق مع الرسامة مادلين لومير كي تزين بمائياتها نصوص الكتاب، الذي صدر كألبوم فني. يبدأ الكتاب بنص رسالة عنوانها "إلى صديقي ويلي هيث"، لكن ما يلي المقدمة هو مجموعة من القصص، تحمل عناوين: موت بلدارسار سيلفاند فيكونت سيلفانيا، فيوليت أو المجتمع المخملي، شذرات من كوميديا إيطالية، ونص هجائي أنيق عنوانه "بوفار وبيكوشيه"، ثم ينتقل الكتاب إلى بورتريهات لعدد من الرسامين والموسيقيين يتوجها بنص جميل بعنوان "سوناتا في ضوء القمر" يعلق فيها على سوناتا بيتهوفن: "ولمع القمر فوق آلام الليل المتجلية، ولمع في قلبي الذي انقشعت عنه الغيوم وزالت منه الكآبة"؛ مستذكرًا في نهاية المجموعة مشاهداته عن منطقة النورماندي التي كان يحبها في طفولته. ويشرح لنا شحيد عن وجود نوى عديدة في كتاب "المسرات والأيام" سيفصلها بروست ويطورها في سباعيته، إذ "جمع بين دفتيه شقين، شقًا يهتم بالإنسان في المجتمع، وبالحداثة والموت، وشقًا يشيد بالإنسان والطبيعة والفن والحياة منها: بورتريهات رسامين وموسيقيين، سوناتا ضوء القمر، لقاء على ضفة البحيرة، ريح بحرية في الريف، شواطئ النسيان، البحر، وأشياء نورماندية...".
ينتقل بنا الكتاب إلى رواية "جان سانتوي" التي بدأ بروست بكتابتها في عام 1895م، ولم تطبع إلا عام 1952. وتروي الرواية قصة الشاب جان سانتوي المهووس بالأدب والشعر والفن طفلًا يافعًا وشابًا، وكيف انضم إلى العالم المخملي الباريسي، وإلى الصالونات الأدبية. وفي الرواية لعبة مرايا بين الراوي وصديقه اللذين يمضيان أشهر الصيف في الريف الغربي في فرنسا. ورغم أن هذه الرواية الضخمة هي سيرة حياة سانتوي، وهي بالتالي من دون حبكة ومن دون نهاية، إلا أنها تروي الوقائع التي عاشها البطل في إيلييه، ثم في ريفتون وباريس، وتتوقف الرواية عند الحياة المخملية لهذا البطل، وتعرفه على شخصيات المجتمع الأرستقراطي والبورجوازي الباريسي، وتتكلم أيضًا عن شيخوخة أبويه، وتكرس فصلًا كاملًا لقضية دريفوس. وهو الضابط الفرنسي اليهودي الذي اتهم ظلمًا بأنه تواطأ مع الألمان في حرب 1870 التي خسرتها فرنسا. ويحلل بروست عقلية كبار الضباط الذين حاكموا دريفوس، وجردوه من رتبه، وأمروا بنفيه إلى جزيرة الشيطان في غويانا.
الانتقال من السيرة الذاتية إلى الدراسة النصية
أما الكتاب النقدي الذي كان له أثر أساسي في تاريخ الحركة النقدية الأدبية، لدوره في نقل الاهتمام النقدي من السيرة الذاتية للكاتب إلى تحليل عناصر النص الأدبي، فقد ألفه بروست في عام 1954 بعنوان "ضد سانت بوف"، وهو عبارة عن مجموعة مقالات نشرت في ملحق الفيغارو، حيث أطلق عليها تسمية "معارضات وأخلاط"، ويتضمن تعليقات عدد من كتاب القرن التاسع عشر (بلزاك، فلوبير، سانت بوف، رينييه، غونكور، فاغيه، رينان، وسان سيمون). أما شارل أوغستان سانت بوف (1804 ـ 1869م) فقد كان ناقدًا أدبيًا، وأستاذًا في الكوليج دو فرانس، وعضوًا في المجمع العلمي الفرنسي، واشتهر بكتبه الضخمة (أحاديث يوم الإثنين، بو رويال، وقائع باريسية)، وغيرها من كتب مراجعات حول أعمال الكتاب، حيث ركز في النقد الأدبي على مقولة البحث في السيرة الذاتية للكتاب والأدباء لأجل الولوج وفهم أفضل لنصوصهم وكتبهم، وسادت نظريته هذه حتى منتصف القرن العشرين، وطبق شارل موراس هذه النظرية على السياسة والسياسيين، حتى عام 1908م، حيث كتب بروست معارضًا هذه النظرية النقدية، مبرهنًا أن ذات الكاتب ـ الإنسان تختلف عن ذات ـ الكاتب الفنان، ومؤكدًا على أن اللغة ليست شيئًا جامدًا ومكتملًا، وعلى أن كل كاتب يتعامل مع اللغة بطريقة شخصية. وانتقد بروست نظرية سانت بوف القائلة بأننا لن نفهم عمل الكاتب إلا إذا ربطناه بحياته، وإذا توصلنا إلى معرفة تفاصيلها وخفاياها عن طريق أقاربه وأصدقائه ومعارفه. وأكد بروست على أن النص يرتبط بالنص أساسًا وليس بتفاصيل حياة صاحبه.
الرسم والموسيقى والفنون في النص الأدبي
يتوقف الفصل الثاني من الكتاب بعنوان "ثقافة بروست" عند الروافد الفنية في عوالم بروست الأدبية والإبداعية، ومنها الشغف الموسيقي. ففي أعمال بروست إشارات عديدة إلى موسيقيين كثيرين، فقد كان صديق عمره رينالدو هان، وهو ملحن أعجب بفنه، فلحن (لو كانت لأبياتي أجنحة، فيكتور هوغو)، (الساعة الرائعة، بول فيرلين)، و(إلى كلوريس، تيوفيل لوفيو)، وكان يظهر في السباعية بإسم الإله المتخفي وجسد فيها رمز الفن الموسيقي الكلاسيكي الفرنسي، كما يظهر المؤلف الفرنسي سيزار فرانك تحت اسم (فانتوي)، الذي وردت سوناتاته مرات عديدة في السباعية، وكذلك تعرف بروست شخصيًا على المؤلف الموسيقي كاميل سانت سان، وذكر عمله الموسيقي "شمشمون ودليلة" في السباعية، وكذلك أعجب بروست بموسيقى غابريل فورييه، وكتب عنها: "لا أحب ولا أعجب ولا أعبد موسيقاك فقط، بل إنني أيضًا متيم بها". وكانت ثقافة بروست الموسيقية واسعة، فقد أحب شوبان، فاغنر، المؤلفين الروس، بالإضافة إلى الموسيقيين الفرنسيين الذين ذكرناهم، وفي نظره، أن الموسيقى تتكلم كالحب الطاهر والسعادة. يكتب شحيد: "كان بروست يواشج بين لغة الموسيقى واللغة الروائية عبر الكلمات، حيث يرى أن الخطاب الموسيقي يمكن أن يترجم روائيًا، وأن الإيقاع الداخلي للجملة يتأثر بالألحان والأنغام".
"يسعى الفصل الأول من الكتاب بعنوان "من هو مارسيل بروست؟" إلى تأطير مراحل الحياة التي عاشها بروست، من دون الإسهاب في التفاصيل، مكتفيًا بالنقاط الأساسية التي تهم القارئ العربي" |
وكما المقاربة التي تشرح سابقًا العلاقة بين الأدب والموسيقى، فإنها تمتد كذلك لتشمل فن الرسم، فيرى شحيد في هذا السياق أنه ورغم وجود كتاب كثيرين أجروا مقاربة بين فن الرسم والأدب، ومنهم السيدة دولافاييت، وبلزاك، وغونكور، وزولا، وأناتول فرانس، ولكن مقاربتهم بقيت محدودة، أما بروست فتناول فن الرسم بصورة أعمق، ففي السباعية تظهر شخصية فنان محترف هو إيليستير، وشخصية هاوي فن وهو سوان. وكان بروست ينظر إلى العالم من خلال لوحات مجموعة من الفنانين الكبار. وقد أبرزت الناقدة نايلة تمراز في كتابها "بروست، لوحة وفن" (2010) أن كتابة بروست متأثرة بفن اللوحات، أي أن يكون الفن مرسومًا بالكلمات والألوان، وتتخلله خطوط وأشكال. ورد في كتاب "فن الشعر"، هوارسيوس: "إن الرسم، حسب بلوتاركوس، هو الشعر الصامت، وإن الشعر هو الرسم الناطق". وكذلك ثمة إحالات عديدة في السباعية إلى لوحات فنية، وركز على بعض أسماء الفنانين (بوتيليي، كارباتشيو، جيوتو، مانتينيا، رامبرنت، مورو). ويجب التذكير أن بروست ولد في أوج تأثير الحركة الفنية الانطباعية في الفن، ودافع كثيرًا عن أصدقائه الانطباعيين ومنهم مانيه، رينوار، مونيه، وديغا. يكتب بروست في "الزمن المستعاد": "إن الأسلوب لدى الكاتب، شأنه شأن اللون عند الفنان، ليس مسألة تتعلق بالتقنية، وإنما بالرؤيا، فهو كشف يستحيل تحقيقه بطرق مباشرة وواعية، كشف للتباين النوعي في الشكل الذي يتجلى لنا فيه العالم".
يدرس الفصل الثالث من الكتاب بنية السباعية، حيث بدأت السباعية بمقولتين وجزأين أساسيين: الزمن المفقود، والزمن المستعاد، وتشعبت لاحقًا إلى 3 أجزاء: سوان، جانب منازل الغيرمانت، والزمن المستعاد، ثم تطورت إلى خمسة أجزاء، واكتملت بسبعة. وتبقى مقولة الزمن المفقود والزمن المستعاد هي النسيج الأساسي المتين، القائم على التوازي والتعارض بين هذين الزمنين. يكتب د. شحيد: "ولا تعني فكرة الزمن المفقود أن هذا الزمن انتهى وشبع موتًا، بل تعني أنه زمن يُفقد مرارًا وتكرارًا، أي أن فقدانه يتكرر، لأنه لم يندثر، مما يدل على أن بروست أراده زمنًا يتجه نحو المستقبل، أو الزمن الآتي". وتشكل شخصيات "بحثًا عن الزمن المفقود" إسقاطًا على العالم الجواني للكاتب الذي حرص على ترك مسافة بينه وبين هؤلاء الشخصيات. ويدرس بروست تنامي الشخصيات، وكيف تعرف عليها الراوي، كيف راحت تتصرف، كيف استرعت انتباهه، ويكشف كل لقاء بين الراوي وبينها جانبًا من جوانب الشخصية وتفصيلًا من تفاصيل حياتها وتطلعاتها. لكن الراوي لا يستطيع أن يدلف إلى العالم الجواني للشخصية إلا عن طريق بعض العلامات والأحداث والشهادات.
الزمن الذاتي... الزمن الروائي والزمن التاريخي
تحت عنوان "مركزية مقولة الزمن"، يدرس شحيد عنصر الزمن في النص الأدبي عند بروست، الذي اهتم كثيرًا بهذه المقولة، فوسم بها سباعيته، وختمها بجزء عنوانه "الزمن المستعاد"، إذ تبدأ السباعية بعبارة تتكلم عن الوقت، أي الزمن المعدود: "كثيرًا ما آويت إلى سريري في ساعة مبكرة، وكانت عيناي أحيانًا حالما أطفئ شمعتي، تغمضان بسرعة لا تدع لي متسعًا من الوقت أقول فيه إنني أنام، وبعد نصف ساعة توقظني فكرة أن الوقت حان للبحث عن النوم، فأبتغي وضع المجلد الذي ما زال بين يدي". وتنتهي السباعية بهذه العبارة: "وبدا لي أن قوتي قد خارت ولا أستطيع أن أحافظ على هذا الماضي الذي تشبث بي، وراح يهوى وينأى". ويوضح شحيد الفارق بين الزمن التاريخي والزمن الروائي، لأن بروست لا يريد أن يكتب رواية تاريخية تراعي معطيات التاريخ وتفاصيله. لذلك نجد في "بحثًا عن الزمن المفقود" انزياحات زمنية مقصودة تتعلق بعمر الشخصيات. وفي "الزمن المستعاد" ثمة نص مخيف عن تهالك الإنسان الطاعن في السن الذي نكلت به السنون، وفيه يربط بروست بين تسارع العمر وانزياح الزمن. ويتربص الزمن بالشخصيات ويسقطها في شراكه، ويتلمظ لسقوطها، ويفرك يديه تشفيًا. ولا يغفل بروست تغير اللغة الناجم عن التقدم في السن، وكذلك تغير السلوك مع تغير السنين. ويرتبط الزمن بالأحداث التاريخية، التي تتزامن مع الأحداث الروائية وتتقاطع معها، ففي السباعية يتكلم بروست عن أحداث الربع الأخير من القرن التاسع عشر، والربع الأول من القرن العشرين. ويلاحظ النقاد أن بروست حول التاريخ إلى أدب، وأنه تعامل مع الحدث التاريخي ليس كمؤرخ، وإنما كروائي نظر إلى الحرب كخلفية لم يتوقف عندها طويلًا، ليتابع من ثم جولاته في الصالونات المخملية، وليراقب مساحات شخصياته التي جار عليها الزمن. يتعامل بروست، إذًا، مع الزمن التاريخي حسب مقتضيات الرواية وتداعياتها، ويرى أن الزمن لا يضيع عندما نفتح السباعية.
الأدب البروستي و"ألف ليلة وليلة"
"ورد ذكر "ألف ليلة وليلة" في "بحثًا عن الزمن المفقود" 13 مرة، مما يدل على أنها معلم أساسي من معالم هذه السباعية" |
يدرس الكتاب في الفصل الرابع (سمات السرد البروستي)، مفصلًا التقنيات التي استعملها الأديب في تحقيق نصوصه، منها استخدام الرسائل بكثرة، اللجوء إلى المعارضات Pastiches، وهي تعني التقليد في الأسلوب، وأحيانًا تعني المحاكاة الساخرة Parodie، وهي نوع من الهزل والتفكه، وهي معارضة تقتبس أسلوب الشخص المنتقد والمواضيع التي عالجها. ومن الأسلوب السردي أيضًا توظيف الحكاية ضمن الحكاية، بالإضافة إلى توظيف الفنون المصاحبة للأدب، كالرسم والموسيقى، والأوبرا والمسرح. وأخيرًا، تقنية تجميع الأحداث التاريخية، كتجميع وقائع الحرب الكبرى (1914 ـ 1918)م في الجزء الأخير من السباعية. وكذلك يوضح شحيد خصوصية خواتيم السرد في السباعية، فبينما يحظى السرد عمومًا في الرواية الكلاسيكية بخاتمة تلي الحبكة، وتكون إما سعيدة، وإما مأساوية، ففي السباعية لا توجد خاتمة حدثية، بل نص مفتوح، لا نعرف فيه مصائر الشخصيات التي ظهرت على مسرحها. فلا يوجد في الكتاب أبطال أصلًا، بل شخصيات تقارب المئتين تتحرك على هذا المسرح الفسيح الذي يتسع لها كلها. ويتمثل السرد التخييلي البروستي أيضًا بالجمل الإعتراضية والاسترجاعات والتقاطعات، مما يدل على أن جوًا من الاضطراب والحيرة والتوجس يهيمن على نفسية الراوي المأزوم، الذي يشعر بأن الزمن يُفلت من يديه، وبات الموت يتربص به في كل لحظة.
لعبة الذاكرة والنسيان
الفصل الخامس بعنوان "لعبة الذاكرة والنسيان عند بروست"، حيث يعد بروست من أكثر الأدباء العالميين الذين اهتموا بالذاكرة والتذكر والاستذكار والنسيان اهتمامًا خاصًا. فالذكرى غير الطوعية تبزغ فجأة من دون أن يتوقعها المرء، وفي ظروف غريبة. وهي ليست مرتبطة حتمًا بالدماغ، بل ببعض الأعضاء الأخرى أحيانًا. ويميز بروست بين الذاكرة الطوعية والذاكرة غير الطوعية. وترتبط الأولى بالعقل الذي يمحص الذكريات ويغربلها ويحللها ويستوعبها. وهي ذاكرة باردة ونفعية ومصطنعة وأحادية الشكل وتفتقر إلى الألوان، وقارنها بروست بالرسامين الرديئين الذين يكررون لوحاتهم، وهي ذاكرة تستخدم شذرات من الماضي، وفيها تشحب صور الماضي وتتلاشى تدريجيًا ثم تزول، لأنها صور جفّت وفقدت بريقها الإنساني. أما الذاكرة الحقيقية في نظر بروست فهي الذاكرة غير الطوعية، هي التي تجعل الماضي قريب المنال منا وتحييه لنا من جديد، تجعله ذا طعم ورائحة وينبض بالحياة. إنها الذاكرة المرتبطة بأحاسيسنا وانفعالاتنا وخلجاتنا وصبواتنا وتباريحنا. كما يتوقف بروست عند ضياع الذكريات الممتلكة، بسبب تلف الدماغ: "إننا لا نملك ذكرياتنا جميعها إن لم نملك القدرة على استذكارها، ولكن ما عسى أن تكون ذكرى لا نتذكرها؟ إننا لا نتذكر ذكرياتنا العائدة للسنوات الثلاثين الأخيرة، ولكنها ذكريات تعود إلى ما كان أبعد من حياتنا البشرية، فالفرد الذي سأكونه بعد الموت لا دواعي لديه لتذكر الشخص الذي كنته منذ مولدي أكثر مما يتذكر هذا الأخير ما كنته قبل مولدي".
"كان بروست يواشج بين لغة الموسيقى واللغة الروائية عبر الكلمات، حيث يرى أن الخطاب الموسيقي يمكن أن يترجم روائيًا، وأن الإيقاع الداخلي للجملة يتأثر بالألحان والأنغام" |
يخصص الكتاب في الفصل السادس المعنون بـ"الحياة الحقيقية هي الأدب" فقرة خاصة لدراسة العلاقة بين كتاب "ألف ليلة وليلة" والسباعية البروستية. يرى د. شحيد أن من يقرأ السباعية بتمعن يلمس ولع بروست بكتاب "ألف ليلة وليلة"، فلقد ورد ذكرها في "بحثًا عن الزمن المفقود" 13 مرة، وفي جميع أجزائها، مما يدل على أنها معلم أساسي من معالم هذه السباعية، كما يثبت شغف بروست بهذا المؤلف الأدبي، وإن حضور الشرق يفرض نفسه، بعد جميع الاستشهادات، حيث يتماهى هذا الشرق مع "ألف ليلة وليلة". وإلى جانب هذه الصورة السحرية للشرق، ينظر بروست إلى الشرق كمجاز. وبما أن "ألف ليلة وليلة" لدى بروست تتسم بالسحر، يلعب الحلم دورًا في التواشج بينهما، وغالبًا ما تخضع مقولة الزمن لهذا التواشج.
في عيون محفوظ وبارت ودولوز
يخصص الكتاب في فصله الأخير قسمًا خاصًا للكتاب والفنانين والنقاد الذين كتبوا عن بروست وأدبه، فيذكر منهم ألبير كامو، الذي وعلى الرغم من تغير الرؤية الأدبية بين بداية القرن ومنتصفه في فرنسا، كان من عشاق السباعية، وأورد في الدفتر الخامس من دفاتره بعض الإشارات التي تشيد ببروست، وبعض العبارات التي تذكر بأجوائه وأسلوبه الأدبي. وكذلك الأديب التركي أورهان باموق، وهو من عشاق سباعية بروست، ويعدها من أهم الروايات في القرن العشرين، ويرى أنها مفتاح أساسي من مفاتيح حضارة الغرب. وفي روايته "الكتاب الأسود" يتكلم عن صحافي عجوز يشعر بأنه يتماهى مع بروست، ويتخيل أن ألبرتين تعشقه. أما رولان بارت فرغم أنه لم يكرس كتابًا كاملًا عن بروست على غرار ما فعله مع أدباء آخرين، إلا أنه كتب مجموعة من المقالات، وأعطى عددًا من المحاضرات، ليصبح بروست في سنوات بارت التدريسية الأخيرة مركزًا أساسيًا في دروسة ومحاضراته. وفي "الكتابة في درجة الصفر" (1953) توقف بارت عند توصيف الشخصيات الأساسية في السباعية بشتى تلويناتها وردود أفعالها ومستوياتها اللغوية وتعدد أصواتها. أما في الفن السينمائي، فيحضر السينمائي الإيطالي فيسكونتي، الذي لم ير الفيلم الذي أعده عن السباعية النور، مع أنه كان جاهزًا للإخراج، ويبقى فيسكونتي من المعجبين ببروست. وبخصوص الأديب المصري نجيب محفوظ، فقد قرأ سباعية بروست كاملة باللغة الإنكليزية، وقال: "إن نصيحتي كي تستمتع بها أن تقرأ منها كل جلسة عددًا محدودًا من الصفحات، وكأنك تقرأ ديوانًا من الشعر، أتذكر أن بروست صرح عن تأثره بـ’ألف ليلة وليلة’، ربما في تركيب الرواية، حيث تتوالد الحكايات، كل جزء كأنه رواية متكاملة، خيوط بسيطة تربط بينها". وأخيرًا يتوقف الكتاب مع كتابات الفيلسوف جيل دولوز الذي أصدر في عام 1964 دراسة عنوانها "مارسيل بروست والعلامات"، وفيها نظر إلى بروست كأديب ومفكر قريب من الفلسفة. في هذا الكتاب، رأى دولوز أن بروست في "بحثًا عن الزمن المفقود" كان يبحث عن الحقيقة، أي عن خلق معان، وأن سباعيته هي كناية عن ماكينة هائلة تنتج علامات: "وهناك علامات تجبرنا على التفكير في الزمن الضائع، وأن كل شيء في تبدّل واندثار". ويتوقف دولوز عند ثلاثة فضاءات يتبلور فيها هذا التعلم: فضاء المجتمع المخملي، فضاء الحب، فضاء الإنطباعات والمشاعر. وفي فصل بعنوان "العلامة والحقيقة"، يرى دولوز أن البحث عن الزمن المفقود هو في المحصلة بحث عن الحقيقة: "العنصر الهام في السباعية ليس الذاكرة والزمن، بل العلامة والحقيقة. العنصر الهام ليس الاستذكار، بل التعلم. ذلك أن الذاكرة لا قيمة لها إلا كطاقة قادرة على تفسير بعض العلامات. إن السباعية هي بحث عن الحقيقة قبل كل شيء".