أميركا: "شرط السعادة أن لا تدمع عينك لمعاناة جارك"
بلال خبيز 29 أغسطس 2023
آراء
(gettyimages)
شارك هذا المقال
حجم الخط
قارئ رايموند كارفر (*) خارج أميركا هو قارئ مأخوذ. يؤخذ القارئ بهذه القدرية الهائلة التي تجعل شخصيات رايموند كارفر، الأميركية، تمر على الأحداث كما لو أنها لم تمر بها. الأحداث التي تجري في قصص كارفر هي أحداث تشبه انسكاب المطر أو سطوع الشمس. نحن القراء والشخصيات، معًا وجميعًا في آن، لا بد لنا في ما يجري من أحداث. فلنتصرف كما لو أنها تجري بمعزل عنا. فليقتل جارنا زوجته، ما يهمنا من الموضوع، أن صراخًا أزعج نومنا وأجبرنا على احتساء فنجانين من القهوة في منتصف الليل، تمامًا كما لو أن عاصفة مفاجئة ضربت المدينة التي نعيش فيها. ولا بأس في أن يتأخر دفن هذه الشابة المقتولة، المهم أن لا نخالف القانون ونتصرف كمبتدئين في الحياة المدينية، أما قلق أهلها عليها فشأن يخصهم ولا حيلة لنا حياله. ثم هناك الألوف الذين يقتلون يوميًا على هذه الكرة الأرضية. فلو صرفنا على كل قتيل دقيقة حزن واحدة لما أمكننا أن ننجز أي من أعمالنا أو نولي الاهتمام لما نريد أن نهتم به. هذه القتيلة هنا في جوارنا لا نعرفها، لذلك هي تشبه قتيلة في البلقان أو في تركيا، لا صلة نسب تربطنا بها، ولا نعرف عنها إلا أنها قتلت في ريعان شبابها. هذه أمور تحدث ولا داعي لافتعال أزمة.
قارئ رايموند كارفر غير الأميركي هو قارئ مأخوذ بغرابة ما يقرأ. ثقافة العيش الأميركية نفسها هي شأن غريب عما ألفناه. ولأننا غرباء لا نفهم ما الذي يجري فعلًا في تلك النواحي. لو أن رهط رجال في بغداد أو دمشق عثر في رحلة صيد على جثة فتاة شابة ملقاة على ضفة نهر صغير، لاضطرب يومهم وربما الأيام التي تليه. فالعثور على جثة عن طريق المصادفة ليس من الأمور التي تحدث كل يوم. إنها حدث كبير ويجدر بنا نحن الذين ما زلنا نقيم للقصص والروايات وزنًا كبيرًا أن نجعله حدثنا الأكبر ومادة قصصنا. لكن شخصيات كارفر تمر على أحداث كبيرة كهذه كما لو أنها من تحصيل الحاصل. الأرجح أن شخصيات كارفر الأميركية لا تقيم وزنًا للقصص، ولا ترغب في إعادة روايتها. الرواية، ماذا عنها؟ وهل يجدر بنا أن نروي أحداثًا لتصير الرواية رواية؟ ثم لنسأل أنفسنا أسئلة أخرى، هل الموت نهاية حدث؟ هل الزواج أو الوقوع في الحب نهاية حدث؟ الأرجح أن لا، الناس تموت كل يوم، وليس ثمة شيء ينتهي، والرجال يقعون في حب النساء كل لحظة والنساء كذلك، ما الذي يجعلنا نقيم اعتبارًا لهذه الحوادث النافلة؟
طيب، هذا مفهوم ومنطقي بما يكفي لنصمت قليلًا ونتفكر. إنما ما الذي يجدر بنا أن نرويه، إذا كانت مثل هذه الأحداث لا تصنع محطات وقف للزمن الذي يمتد بلا نهاية فوق أعمارنا؟ يقول رايموند كارفر، ما يجدر أن نرويه، هو ما نتعلمه كل لحظة، هل فعلت هذه المرأة حسنًا حين رفعت سماعة الهاتف بيدها اليسرى؟ هل كان يجدر بهذا الرجل أن يفتح ثلاجة جيرانه في غيابهم ويأكل من جبنتهم وخبزهم من دون أن يستأذنهم؟ هل يفترض بهذه المرأة التي تقود سيارتها في طريق جبلية مقفرة أن تصدق أن الرجل الذي ترجل من سيارته عارضًا عليها المساعدة لا ينوي شيئًا آخر؟ أم يجدر بها الحذر منه لعله يكون قاتلًا متسلسلًا أو مهووسًا باغتصاب النساء الوحيدات؟
إيراد هذه التساؤلات كلها لا يفسر سحر كارفر، بالنسبة لقرائه الأميركيين أو غير الأميركيين. كارفر ساحر لأنه يعرف ما الذي يلم شعث هذه البلاد الممتدة بين محيطين، والتي تضم أجناسًا وأعراقًا ولغات ومذاهب تعصى على العد. ساحر لأنه يعرف أن انتساب المرء إلى الإنسانية في هذه البلاد لا يتصل بقوة المشاعر الإنسانية التي تعتمل في صدره، بل بقدرته على تجاوز امتحان العيش تحت حد القانون. الخروج على القانون مغر في هذه البلاد، النظام الضريبي يفرض على المواطن الأميركي أن يدفع ضرائبه سنويًا دفعة واحدة. الناجحون في أعمالهم يدفعون مبالغ طائلة كل عام من مدخراتهم كضرائب على إنتاجهم. والأرجح أن كل واحد منهم يشعر أنه يبذل لهذه الأمة الكثير، كلما حرر شيكًا لسلطات الولاية أو السلطة الفيدرالية. ومسألة أن لا يتهرب من الدفع شائكة وبالغة الصعوبة. ولا شك في أن كل واحد منهم يقاوم إغراء الاحتيال على القانون، وبعضهم يسقط في فخ الغواية هذه. وما يمنع البعض عن التجاوب مع هذه الغواية هو رغبته في أن يكون مواطنًا محترمًا في مجتمعه. والمواطن المحترم هو الذي يدفع فواتيره وضرائبه بانتظام، ويملك سجلًا جيدًا في تعاملاته المالية. أما كيف يعيش وهل هو خبيث أم طيب، وهل يخبئ سلاحًا تحت وسادته؟ فتلك أمور لا تهم أي كان. ذلك أن لكل امرئ قصته مع النجاح والفشل، ولكل شخص هنا سنواته المظلمة، وإخفاقاته وزمن تعرضه للخيانات، وسنوات وحدته المطلقة، وشعوره بأنه منبوذ وليس ثمة من يكلمه أو يهتم لأمره. وهو تاليًا لن يكون مستعدًا لسماع معاناة غيره: مفهوم، أنا آسف لما حدث لك، يكفينا حديثًا في هذا الموضوع، ولنباشر عملنا، بل دعني لا أضيع لك وقتك بإخبارك قصص معاناتي، كما ضيعت وقتي. الوقت هو الدم الذي يغذينا وعلينا ألا نهدره أو نتبرع به.
أميركا تغذي ادعاء أنها بلاد الناجحين، أما الفاشلون فيجدر بهم العودة من حيث جاؤوا، أو الموت على قارعة الشارع. المواطن الصالح هو من يدفع ضرائبه وفواتيره بانتظام، ويجدر به ألا ينحني أمام المشكلات التي تعترض الكائن البشري. الوقوع في الحب ليس سببًا لإهمال العمل، ورفع دعوى طلاق أمام المحكمة يعني أن الزوجين غلبا المشاعر على المصالح، ويجدر بهما أن يدفعا الثمن، من حر أموالهما واستقرارهما الاجتماعي. أما القتيلة التي وجدت جثتها مرمية على حافة النهر، فكان يجدر بها ألا تتبع نزوتها وتخرج مع رجل لا تعرفه حق المعرفة. وماذا لو كانت تعيش وحيدة وتمضي أيامًا طوالًا من دون أن تكلم أحدًا؟ هذا من شؤون الحياة النافلة وليس سببًا لولوج مجاهل مغامرة مجنونة فقط لأنها تريد رفقة هذه الليلة. أما المرأة التي بلغت سن تقاعدها وتعيش وحيدة في خريف عمرها، فلا يجدر بها أن تشكو. إذا مرضت تستطيع الاتصال بالطوارئ، وإذا جاعت تستطيع الإنفاق على طعامها من راتبها التقاعدي، أما أن تشتاق لأولادها، فهذا ليس من حقوقها، ولا يجدر بها أن تهدر أوقاتهم الثمينة. ولا يفترض بها أن تنحني أمام رغبتها بالحديث مع أي كان. الله وحده يعلم ما الذي قد يجرها الحديث إليه. الخلاصة: لا تفتح قلبك حتى لمن تشاركه السكن والعيش عقودًا، واحتفظ بأسرارك ما أمكنك، لن تعرف متى يعمد الآخر إلى استغلالها وبيعها وتحويلها قرائن لتجريمك وإدانتك.
رايموند كارفر يكتب هذا كله في خلفية المشهد. هذه أميركا، والعيش هنا يفرض على متنكبيه أن يكونوا دائمًا على أهبة الاستعداد للاستيقاظ مبكرًا والذهاب إلى العمل بذهن متفتح ونشيط، لم تفسده ليلة البارحة الحمراء، أو تحلل جثة الجار المسن، أو حتى صراخ الشابة الجميلة التي تقيم في الشقة المجاورة. فشرط السعادة الكبرى يتمثل في قدرة المرء أن يعيش لامباليًا بما يجري من حوله. اللامبالاة، ما هذه الوصفة السحرية التي تصنع عيشًا على هذا القدر من الهدوء؟ وأي إعصار أو حرب أو تصحر أو جفاف قد تجعل عين المرء تدمع قليلًا وهو يشاهد مثل هذه المجريات على شاشة التلفزيون؟
(*) الأحداث المشار إليها في سياق المقالة هي أحداث تجري في خلفية قصص كتبها رايموند كارفر. وهذه القصص مستلة من أعمال رايموند كارفر الكاملة، ومنشورة في كتاب جمعه وأعده المخرج السينمائي الكبير روبرت ألتمان وحمل عنوان "شورت كات" وكتب له مقدمته تكريمًا لذكرى صديقه الكاتب.
بلال خبيز 29 أغسطس 2023
آراء
(gettyimages)
شارك هذا المقال
حجم الخط
قارئ رايموند كارفر (*) خارج أميركا هو قارئ مأخوذ. يؤخذ القارئ بهذه القدرية الهائلة التي تجعل شخصيات رايموند كارفر، الأميركية، تمر على الأحداث كما لو أنها لم تمر بها. الأحداث التي تجري في قصص كارفر هي أحداث تشبه انسكاب المطر أو سطوع الشمس. نحن القراء والشخصيات، معًا وجميعًا في آن، لا بد لنا في ما يجري من أحداث. فلنتصرف كما لو أنها تجري بمعزل عنا. فليقتل جارنا زوجته، ما يهمنا من الموضوع، أن صراخًا أزعج نومنا وأجبرنا على احتساء فنجانين من القهوة في منتصف الليل، تمامًا كما لو أن عاصفة مفاجئة ضربت المدينة التي نعيش فيها. ولا بأس في أن يتأخر دفن هذه الشابة المقتولة، المهم أن لا نخالف القانون ونتصرف كمبتدئين في الحياة المدينية، أما قلق أهلها عليها فشأن يخصهم ولا حيلة لنا حياله. ثم هناك الألوف الذين يقتلون يوميًا على هذه الكرة الأرضية. فلو صرفنا على كل قتيل دقيقة حزن واحدة لما أمكننا أن ننجز أي من أعمالنا أو نولي الاهتمام لما نريد أن نهتم به. هذه القتيلة هنا في جوارنا لا نعرفها، لذلك هي تشبه قتيلة في البلقان أو في تركيا، لا صلة نسب تربطنا بها، ولا نعرف عنها إلا أنها قتلت في ريعان شبابها. هذه أمور تحدث ولا داعي لافتعال أزمة.
قارئ رايموند كارفر غير الأميركي هو قارئ مأخوذ بغرابة ما يقرأ. ثقافة العيش الأميركية نفسها هي شأن غريب عما ألفناه. ولأننا غرباء لا نفهم ما الذي يجري فعلًا في تلك النواحي. لو أن رهط رجال في بغداد أو دمشق عثر في رحلة صيد على جثة فتاة شابة ملقاة على ضفة نهر صغير، لاضطرب يومهم وربما الأيام التي تليه. فالعثور على جثة عن طريق المصادفة ليس من الأمور التي تحدث كل يوم. إنها حدث كبير ويجدر بنا نحن الذين ما زلنا نقيم للقصص والروايات وزنًا كبيرًا أن نجعله حدثنا الأكبر ومادة قصصنا. لكن شخصيات كارفر تمر على أحداث كبيرة كهذه كما لو أنها من تحصيل الحاصل. الأرجح أن شخصيات كارفر الأميركية لا تقيم وزنًا للقصص، ولا ترغب في إعادة روايتها. الرواية، ماذا عنها؟ وهل يجدر بنا أن نروي أحداثًا لتصير الرواية رواية؟ ثم لنسأل أنفسنا أسئلة أخرى، هل الموت نهاية حدث؟ هل الزواج أو الوقوع في الحب نهاية حدث؟ الأرجح أن لا، الناس تموت كل يوم، وليس ثمة شيء ينتهي، والرجال يقعون في حب النساء كل لحظة والنساء كذلك، ما الذي يجعلنا نقيم اعتبارًا لهذه الحوادث النافلة؟
طيب، هذا مفهوم ومنطقي بما يكفي لنصمت قليلًا ونتفكر. إنما ما الذي يجدر بنا أن نرويه، إذا كانت مثل هذه الأحداث لا تصنع محطات وقف للزمن الذي يمتد بلا نهاية فوق أعمارنا؟ يقول رايموند كارفر، ما يجدر أن نرويه، هو ما نتعلمه كل لحظة، هل فعلت هذه المرأة حسنًا حين رفعت سماعة الهاتف بيدها اليسرى؟ هل كان يجدر بهذا الرجل أن يفتح ثلاجة جيرانه في غيابهم ويأكل من جبنتهم وخبزهم من دون أن يستأذنهم؟ هل يفترض بهذه المرأة التي تقود سيارتها في طريق جبلية مقفرة أن تصدق أن الرجل الذي ترجل من سيارته عارضًا عليها المساعدة لا ينوي شيئًا آخر؟ أم يجدر بها الحذر منه لعله يكون قاتلًا متسلسلًا أو مهووسًا باغتصاب النساء الوحيدات؟
قارئ رايموند كارفر غير الأميركي هو قارئ مأخوذ بغرابة ما يقرأ. ثقافة العيش الأميركية نفسها هي شأن غريب عما ألفناه |
"كارفر يكتب هذا كله في خلفية المشهد. هذه أميركا، والعيش هنا يفرض على متنكبيه أن يكونوا دائمًا على أهبة الاستعداد للاستيقاظ مبكرًا والذهاب إلى العمل بذهن متفتح، لم تفسده ليلة البارحة الحمراء، أو تحلل جثة الجار المسن، أو حتى صراخ الشابة الجميلة التي تقيم في الشقة المجاورة" |
رايموند كارفر يكتب هذا كله في خلفية المشهد. هذه أميركا، والعيش هنا يفرض على متنكبيه أن يكونوا دائمًا على أهبة الاستعداد للاستيقاظ مبكرًا والذهاب إلى العمل بذهن متفتح ونشيط، لم تفسده ليلة البارحة الحمراء، أو تحلل جثة الجار المسن، أو حتى صراخ الشابة الجميلة التي تقيم في الشقة المجاورة. فشرط السعادة الكبرى يتمثل في قدرة المرء أن يعيش لامباليًا بما يجري من حوله. اللامبالاة، ما هذه الوصفة السحرية التي تصنع عيشًا على هذا القدر من الهدوء؟ وأي إعصار أو حرب أو تصحر أو جفاف قد تجعل عين المرء تدمع قليلًا وهو يشاهد مثل هذه المجريات على شاشة التلفزيون؟
(*) الأحداث المشار إليها في سياق المقالة هي أحداث تجري في خلفية قصص كتبها رايموند كارفر. وهذه القصص مستلة من أعمال رايموند كارفر الكاملة، ومنشورة في كتاب جمعه وأعده المخرج السينمائي الكبير روبرت ألتمان وحمل عنوان "شورت كات" وكتب له مقدمته تكريمًا لذكرى صديقه الكاتب.