جذبت طفرة الاهتمام بالذكاء الاصطناعي الانتباه إلى قدرة الخوارزميات المذهلة على محاكاة البشر، وأيضًا إلى حقيقة أن هذه الخوارزميات قد تُزيح الكثير من البشر عن وظائفهم.
سيمر الطريق نحو هذا التحول الاقتصاديّ حتمًا بمكان العمل، إذ تتوقّع دراسةٌ أجرتها شركة (غولدمان ساكس) أن ثلثي الوظائف الموجودة حاليًّا قد تتأثر بالذكاء الاصطناعي في العقد القادم، وأن ما يتراوح بين الربع والنصف من العمل الذي ينجزه البشر حاليًّا قد تستولي عليه الخوارزميّات. قد يمسّ التأثير ما يصل إلى 300 مليون وظيفةٍ حول العالم، وقد أصدرت شركة (ماكينزي) الاستشاريّة دراستها الخاصّة التي تنبأت بأن الذكاء الاصطناعيّ سينمّي من الاقتصاد العالمي بقيمة 4.4 تريليون دولار سنويًّا. هذه الأرقام الضخمة لها تبعاتٌ بالغة الأهمية، لكن إلى أي حدٍّ نستطيع الوثوق في هذه التنبؤات؟
يدرس برنامج بحثي باسم (الكوكب الرقمي) تأثير التكنولوجيات الرقمية في الحياة والمعيشة حول العالم، وكيف يتغير هذا التأثير مع مرور الوقت. إن النظر إلى موجات سابقة من التكنولوجيات الرقمية (كالحواسيب الشخصية والإنترنت) وإلى تأثيرها في العمال يعطينا لمحة عن التأثير الممكن للذكاء الاصطناعي في السنوات القادمة، والاستدلال بهذا التاريخ لتوقع مستقبل العمل يتلخص بوجوب الاستعداد لبعض المفاجآت.
ثورة تكنولوجيات المعلوماتية ومفارقة الإنتاجيّة
إن إنتاجيّة العامل هي إحدى المقاييس الأساسية المُعتمدة في تتبع تأثيرات التكنولوجيا في الاقتصاد، وتُعرَّف بمردود العمل الذي ينتجه الموظف في الساعة. يُعد هذا الإحصاء المجرد مهمًا لكل فردٍ يعمل، لأنه مرتبطٌ مباشرةً بالأجر الذي يتوقّع العامل أن يتقاضاه مقابل كلّ ساعة عمل. بعبارةٍ أخرى، من المتوقع أن يؤدي ارتفاع الإنتاجية إلى ارتفاع الأجور.
منتجات الذكاء الاصطناعي التوليدي قادرةٌ على إنتاج المحتوى المكتوب والبصريّ والسمعي أو البرمجيات دون مشاركة الإنسان كثيرًا. مِهَن الدّعاية والترفيه والعمل الإبداعيّ والتحليلي ستكون من أول المهن التي تتأثر بذلك. فالأشخاص العاملون في هذه المجالات قد يتخوّفون من استعمال الشركات للذكاء الاصطناعيّ التوليدي لإنجاز الأعمال التي اعتادوا إنجازها، لكن الاقتصاديين يرون في ذلك فرصةً لتعزيز إنتاجيّة القوى العاملة بالمجمل.
تتوقّع دراسة غولدمان ساكس أن تزيد الإنتاجية بنسبة 1.5% سنويًّا نتيجةً لاعتماد الذكاء الاصطناعيّ التوليدي فقط، ما يعادل ضعف نسبة الزيادة في الإنتاجية بين 2010 و 2018. أما دراسة ماكينزي فتذهب إلى أبعد من ذلك، إذ تُفيد بأن هذه التكنولوجيا وغيرها من أشكال التشغيل الآلي سوف تقود إلى بلوغ الحدود الإنتاجية القادمة، إذ ستُرفّع منها بنسبة 3.3% سنويًّا بحلول سنة 2040. وهذا الارتفاع في الإنتاجية إلى حدٍّ يقارب نِسب الارتفاع التي سُجِّلت في السنوات السابقة أمرٌ يُرحب به الاقتصاديون والعمال أيضًا، على الأقل نظريًّا.
إذا تتبعنا تاريخ ازدياد الإنتاجيّة في الولايات المتحدة طوال القرن الماضي، سنجد أنها كانت في تسارع، إذ بلغت نسبة الزيادة ما يقارب 3% سنويًّا بين عامي 1920 و1970، ما رفع من قيمة الرواتب الحقيقيّة ومستوى المعيشة. والمثير للاهتمام في الأمر هو أن زيادة الانتاجيّة تباطأت في السبعينات والثمانينات، وتزامن ذلك مع انتشار الحواسيب والتكنولوجيّات الرقمية الأولى. (مفارقة الإنتاجيّة) هذه لخصها تعليقٌ شهير للاقتصاديّ بوب سولو خرّيج جامعة (ام أي تي): «يمكننا رؤية عصر الحواسيب في كلّ مكانٍ باِستثناء إحصائيّات الإنتاجيّة».
المشكّكون في التكنولوجيا الرقمية يلقون باللوم على الوقت غير المنتج الذي يقضيه الناس على وسائل التواصل الاجتماعي أو التسوق، ويذهبون إلى أن التحوّلات الأقدم مثل انتشار الكهرباء أو محرك الاحتراق الداخلي كان لها دورٌ أكبر في تغيير طبيعة العمل بطريقةٍ جذريّة. لكن المتفائلين بالتكنولوجيا لم يتفقوا، وقالوا أن التكنولوجيات الرقمية الجديدة تحتاج إلى وقت لكي تترجم نجاعتها إلى نموٍّ في الإنتاجيّة، ذلك وأنه لا بدّ من تطوّراتٍ وتغيّراتٍ أخرى مكملةٍ توازي هذه التكنولوجيا. لكن آخرين يخشون أن مقاييس الإنتاجيّة ليست ملائمةً لإدراك قيمة الحواسيب.
لوهلةٍ بدا أن المتفائلين على حق، ففي النصف الثاني من التسعينات حين ظهرت الشبكة العنكبوتية تضاعفت نسبة نموّ الإنتاجيّة من 1.5% في النصف الأول من تلك العشرية إلى 3% في النصف الثاني. ظلّت هنالك خلافاتٌ حول ما يجري بالفعل، ما زاد من الحيرة بخصوص وجود حلٍّ للمفارقة من عدمه. قال البعض أن الاستثمارات في التكنولوجيات الرقمية بالفعل بدأت تؤتي أكلها أخيرًا، فيما كانت هنالك نظرةٌ أخرى مفادها أن الابتكارات التكنولوجية والإدارية في بعض المجالات المحوريّة كانت هي المحرّك الأساسي.
بغض النظر عن التفسير، انتهت طفرة أواخر التسعينات بغموضٍ كما بدأت بغموض. مع أن الاستثمار الهائل من الشركات الكبرى في الحواسيب والانترنت سبب تغيرات حوّلت مكان العمل، فيظلّ من الصعب التيقّن من مدى استفادة الاقتصاد وأجور العمّال من التكنولوجيا.
بداية الألفيّة الثالثة: ركود جديد، حماسٌ جديد، وآمالٌ جديدة
تزامنت بداية القرن الواحد والعشرين مع ما يسمّى بانفجار فقاعة الانترنت، واتسم عام 2007 بثورةٍ تكنولوجيّة أخرى: جهاز آيفون لشركة آبل، الذي اشتراه المستهلكون بالملايين ونشرته الشركات بطرقٍ عدّة. لكن إنتاجيّة العمل توقف نموها مرة أخرى في أواسط العشريّة، وازدادت ازديادًا طفيفًا سنة 2009 خلال الركود الاقتصاديّ الكبير، ثم رجعت إلى تباطؤها من 2010 حتى 2019.
خلال هذا التباطؤ الجديد، كان المتفائلون بالتكنولوجيا ينتظرون أن تهبّ رياح التغيير. كان الذكاء الاصطناعيّ والتشغيل الآلي حديث الساعة وكان المُتوقَّع أن يغيّرا العمل وإنتاجيّة العامل كليًّا. فضلًا عن التشغيل الآلي الصناعي التقليدي والطائرات دون طيّار والروبوتات المتقدّمة، كان الابتكار ورأس المال يتدفّقان نحو تكنولوجيّاتٍ ستغير قواعد اللعبة، من ضمنها السيارات ذاتيّة القيادة والدّفع الآلي عند الخروج من متاجر الأغذية وحتى الروبوتات الصانعة للبيتزا. يُتوقَّع أن الذكاء الاصطناعي والتشغيل الآلي سيرفعان من نسبة نموّ الإنتاجية إلى ما يفوق 2% سنويًّا على مدى عقد، مقارنةً بانخفاضها إلى نسبة 0.4% بين 2010 و2014.
لكن قبل أن نبلغ تلك المرحلة ونقدّر كيف ستلقي التكنولوجيّات الجديدة بظلالها على مكان العمل، جدّت مفاجأةٌ أخرى: جائحة كوفيد-19.
دَفعةٌ في الإنتاجية ثمّ تقهقرها خلال الجائحة
مع كل السلبيات التي سببتها الجائحة، فإن إنتاجيّة العامل ارتفعت بشدّةٍ بعد بدايتها في 2020؛ إذ ازداد مردود العمل في الساعة بنسبة 4.9% عالميًّا، وهي أعلى نسبة زيادةٍ منذ صارت البيانات متوفّرة.
يعود الفضل في جزءٍ كبيرٍ من هذا الارتفاع الشاهق إلى التكنولوجيا: إذ أن الشركات لجأت الأكثر استعمالًا للمعرفة (ومن ثم الأكثر إنتاجيّة) إلى العمل عن بعد، وحافظت على استمراريتها عبر التكنولوجيّات الرقميّة مثل مؤتمرات الفيديو وتكنولوجيات الاتصال مثل (سلاك)، وتوفير الوقت في المواصلات والتركيز على رفاهية الموظفين.
بينما كان من الواضح أن التكنولوجيات الرقمية ساعدت في تعزيز الإنتاجية العمال بالفكر، حصل تحوّلٌ متسارعٌ نحو المزيد من التشغيل الآلي في قطاعاتٍ أخرى، ذلك وأن العمال وجب عليهم البقاء في منازلهم من أجل سلامتهم وللالتزام بالحجر الصحي. استثمرت الشركات الناشطة في قطاعاتٍ متعدّدة من تصنيع اللحوم إلى المعاملات في المطاعم والنزل وحتى التجارة بالتجزئة في التشغيل الآلي، ما ساعد على تعزيز إنتاجيتها. ولكن ظهر منعطف آخر في هذا الطريق في مجال التكنولوجيا.
انتهت طفرة الاستثمارات في قطاع التكنولوجيا التي حدثت عامي 2020-2021، كما انتهت معها الضجّة التي اُثيرت حول المركبات ذاتية القيادة والروبوتات الصانعة للبيتزا. حتى الوعود المغرية الأخرى مثل وعد شركة ميتا بإحداث ثورة في مكان العمل بدأت تتلاشى، وبالتوازي مع ذلك، اندفع الذكاء الاصطناعي التوليدي إلى مقدمة المشهد، واعدًا بإمكانيّاتٍ مباشرةٍ أكثر لتعزيز الإنتاجية والتأثير في الوظائف على نطاقٍ واسع. وبدأت دائرة الضجّة حول التكنولوجيا الحديثة من جديد.
نظرةٌ في الأفق: العوامل الاجتماعية في مسار التكنولوجيا
نظرًا للتطوّرات المفاجأة العديدة التي حدثت إلى الآن، ما الذي نتوقّعه من الآن فصاعدًا؟ فيما يلي أربع مسائل جديرة بالنظر:
أولا، مستقبل العمل ليس مجرّد أرقامٍ مجرّدةٍ تخصّ العمال والأدوات التقنية التي يستعملونها أو العمل الذي ينجزونه، إذ على المرء أن يأخذ بالحسبان تأثير الذكاء الاصطناعي في عوامل مختلفةٍ مثل التنوع في مكان العمل والتفاوتات الاجتماعية، التي تؤثر بدورها تأثيرًا عميقًا في الفرص الاقتصاديّة وثقافة مكان العمل.
مثلاً، في حين قد يساعد التحوّل إلى العمل عن بعدٍ عمومًا في تدعيم التنوّع عندما تكون عملية التوظيف أكثر مرونة، نرى أن الاستعمال المتزايد للذكاء الاصطناعي له يأتي على الأرجح بنتائج عكسية. إذ أن للسود واللاتينيين تمثيلًا نسبيًّا أكبر من غيرهم في 30 مهنةً تعد الأكثر عرضةً للتشغيل الآلي، ولهم تمثيلٌ نسبيٌّ أقل في 30 مهنةً هي الأقل عرضةً لذلك. ومع أن الذكاء الاصطناعي يساعد العمال على إنجاز المزيد في وقتٍ أقل، وأن هذه الإنتاجيّة الزائدة قد ترفع من أجور الموظّفين، لكنها قد تقود إلى خسارة كبيرةٍ في أجور من ستستبدل وظائفهم.
وجدت دراسةٌ أجريت عام 2021 أن التفاوت في الأجور يتجه إلى الازدياد أكثر في البلدان التي تعتمد شركاتها كثيرًا على الروبوتات التي تُسرع إلى اعتماد تكنولوجيا الروبوتات الأحدث.
ثانيًا، بينما تبحث الشركات بعد كوفيد-19 عن التوازن بين العمل حضوريًّا والعمل عن بعد، ستظل آثار ذلك على الإنتاجية والآراء حول الموضوع ملتبسةً ومتحوّلة.
إذ تظهر دراسةٌ نُشرت عام 2022 تحسّن نجاعة العمل عن بعد وتزايد ارتياح الشركات والموظفين لترتيبات العمل من المنزل، لكن وفقا دراسةٍ أخرى صدرت عام 2023، فإن الموظفين والمديرين يختلفون حول تأثيرها، إذ يرى المديرون أن العمل عن بعد يقلل من الإنتاجية بينما يرى الموظفون أن العكس صحيح.
ثالثًا، قد تؤثر ردة فعل المجتمع في انتشار الذكاء الاصطناعي التوليدي تأثيرًا بالغًا في مساره وفي أثره بالنتيجة. تشير التحاليل إلى أن برامج المساعدة في المحادثات القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي قد عززت من إنتاجية موظفي خدمة العملاء بنسبة 14%. لكن تنادي أصوات الآن بتقدير أهم مخاطر الذكاء الاصطناعي التوليدي وأخذها بالحسبان. أضف إلى ذلك، فإن الإقرار بحجم القدرة الحاسوبية الهائلة للذكاء الاصطناعي وتكلفته البيئية قد يحدّ من تطوره واستعماله.
وأخيرًا، نظرًا لتوقعات الاقتصاديين وغيرهم من الخبراء في السابق، بوسعنا القول إن العديد من التنبؤات الحالية حول تأثير تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي سيظهر خطؤها أيضًا، فالأرقام التي نسمعها أن 300 مليون وظيفةٍ ستتأثر وأن الاقتصاد العالمي سينمو بنسبة 4.4 تريليون دولار سنويًّا هي أرقامٌ ملفتةٌ للنظر، لكن الناس يميلون لإضفاء مصداقيّةٍ على هذه الأرقام اكثر مما ينبغي.
بالإضافة إلى أن الوظائف التي ستتأثر لا تعني بالضرورة الوظائف التي ستُفقد، بل قد تكون وظائف زائدة أو حتى تحوّلًا إلى وظائف أخرى. من الأفضل استعمال تحليلاتٍ مثل تلك التي أجرتها غولدمان أو ماكينزي لتنشيط خيالنا في ما يتعلق بالسيناريوهات الممكنة لمستقبل العمل والعمال. ربما من الأفضل أن نتصور استباقيًّا العوامل العديدة التي قد تؤثر فيما قد يحدث فعليًّا، وأن نبحث عن علامات الخطر المبكرة ونجهّز لها بما يلزم. لطالما كان تاريخ العمل ومستقبله مليئًا بالمفاجآت، فلا تتفاجؤوا إن بدت تكنولوجيات المستقبل مربكةً بنفس القدر.
سيمر الطريق نحو هذا التحول الاقتصاديّ حتمًا بمكان العمل، إذ تتوقّع دراسةٌ أجرتها شركة (غولدمان ساكس) أن ثلثي الوظائف الموجودة حاليًّا قد تتأثر بالذكاء الاصطناعي في العقد القادم، وأن ما يتراوح بين الربع والنصف من العمل الذي ينجزه البشر حاليًّا قد تستولي عليه الخوارزميّات. قد يمسّ التأثير ما يصل إلى 300 مليون وظيفةٍ حول العالم، وقد أصدرت شركة (ماكينزي) الاستشاريّة دراستها الخاصّة التي تنبأت بأن الذكاء الاصطناعيّ سينمّي من الاقتصاد العالمي بقيمة 4.4 تريليون دولار سنويًّا. هذه الأرقام الضخمة لها تبعاتٌ بالغة الأهمية، لكن إلى أي حدٍّ نستطيع الوثوق في هذه التنبؤات؟
يدرس برنامج بحثي باسم (الكوكب الرقمي) تأثير التكنولوجيات الرقمية في الحياة والمعيشة حول العالم، وكيف يتغير هذا التأثير مع مرور الوقت. إن النظر إلى موجات سابقة من التكنولوجيات الرقمية (كالحواسيب الشخصية والإنترنت) وإلى تأثيرها في العمال يعطينا لمحة عن التأثير الممكن للذكاء الاصطناعي في السنوات القادمة، والاستدلال بهذا التاريخ لتوقع مستقبل العمل يتلخص بوجوب الاستعداد لبعض المفاجآت.
ثورة تكنولوجيات المعلوماتية ومفارقة الإنتاجيّة
إن إنتاجيّة العامل هي إحدى المقاييس الأساسية المُعتمدة في تتبع تأثيرات التكنولوجيا في الاقتصاد، وتُعرَّف بمردود العمل الذي ينتجه الموظف في الساعة. يُعد هذا الإحصاء المجرد مهمًا لكل فردٍ يعمل، لأنه مرتبطٌ مباشرةً بالأجر الذي يتوقّع العامل أن يتقاضاه مقابل كلّ ساعة عمل. بعبارةٍ أخرى، من المتوقع أن يؤدي ارتفاع الإنتاجية إلى ارتفاع الأجور.
منتجات الذكاء الاصطناعي التوليدي قادرةٌ على إنتاج المحتوى المكتوب والبصريّ والسمعي أو البرمجيات دون مشاركة الإنسان كثيرًا. مِهَن الدّعاية والترفيه والعمل الإبداعيّ والتحليلي ستكون من أول المهن التي تتأثر بذلك. فالأشخاص العاملون في هذه المجالات قد يتخوّفون من استعمال الشركات للذكاء الاصطناعيّ التوليدي لإنجاز الأعمال التي اعتادوا إنجازها، لكن الاقتصاديين يرون في ذلك فرصةً لتعزيز إنتاجيّة القوى العاملة بالمجمل.
تتوقّع دراسة غولدمان ساكس أن تزيد الإنتاجية بنسبة 1.5% سنويًّا نتيجةً لاعتماد الذكاء الاصطناعيّ التوليدي فقط، ما يعادل ضعف نسبة الزيادة في الإنتاجية بين 2010 و 2018. أما دراسة ماكينزي فتذهب إلى أبعد من ذلك، إذ تُفيد بأن هذه التكنولوجيا وغيرها من أشكال التشغيل الآلي سوف تقود إلى بلوغ الحدود الإنتاجية القادمة، إذ ستُرفّع منها بنسبة 3.3% سنويًّا بحلول سنة 2040. وهذا الارتفاع في الإنتاجية إلى حدٍّ يقارب نِسب الارتفاع التي سُجِّلت في السنوات السابقة أمرٌ يُرحب به الاقتصاديون والعمال أيضًا، على الأقل نظريًّا.
إذا تتبعنا تاريخ ازدياد الإنتاجيّة في الولايات المتحدة طوال القرن الماضي، سنجد أنها كانت في تسارع، إذ بلغت نسبة الزيادة ما يقارب 3% سنويًّا بين عامي 1920 و1970، ما رفع من قيمة الرواتب الحقيقيّة ومستوى المعيشة. والمثير للاهتمام في الأمر هو أن زيادة الانتاجيّة تباطأت في السبعينات والثمانينات، وتزامن ذلك مع انتشار الحواسيب والتكنولوجيّات الرقمية الأولى. (مفارقة الإنتاجيّة) هذه لخصها تعليقٌ شهير للاقتصاديّ بوب سولو خرّيج جامعة (ام أي تي): «يمكننا رؤية عصر الحواسيب في كلّ مكانٍ باِستثناء إحصائيّات الإنتاجيّة».
المشكّكون في التكنولوجيا الرقمية يلقون باللوم على الوقت غير المنتج الذي يقضيه الناس على وسائل التواصل الاجتماعي أو التسوق، ويذهبون إلى أن التحوّلات الأقدم مثل انتشار الكهرباء أو محرك الاحتراق الداخلي كان لها دورٌ أكبر في تغيير طبيعة العمل بطريقةٍ جذريّة. لكن المتفائلين بالتكنولوجيا لم يتفقوا، وقالوا أن التكنولوجيات الرقمية الجديدة تحتاج إلى وقت لكي تترجم نجاعتها إلى نموٍّ في الإنتاجيّة، ذلك وأنه لا بدّ من تطوّراتٍ وتغيّراتٍ أخرى مكملةٍ توازي هذه التكنولوجيا. لكن آخرين يخشون أن مقاييس الإنتاجيّة ليست ملائمةً لإدراك قيمة الحواسيب.
لوهلةٍ بدا أن المتفائلين على حق، ففي النصف الثاني من التسعينات حين ظهرت الشبكة العنكبوتية تضاعفت نسبة نموّ الإنتاجيّة من 1.5% في النصف الأول من تلك العشرية إلى 3% في النصف الثاني. ظلّت هنالك خلافاتٌ حول ما يجري بالفعل، ما زاد من الحيرة بخصوص وجود حلٍّ للمفارقة من عدمه. قال البعض أن الاستثمارات في التكنولوجيات الرقمية بالفعل بدأت تؤتي أكلها أخيرًا، فيما كانت هنالك نظرةٌ أخرى مفادها أن الابتكارات التكنولوجية والإدارية في بعض المجالات المحوريّة كانت هي المحرّك الأساسي.
بغض النظر عن التفسير، انتهت طفرة أواخر التسعينات بغموضٍ كما بدأت بغموض. مع أن الاستثمار الهائل من الشركات الكبرى في الحواسيب والانترنت سبب تغيرات حوّلت مكان العمل، فيظلّ من الصعب التيقّن من مدى استفادة الاقتصاد وأجور العمّال من التكنولوجيا.
بداية الألفيّة الثالثة: ركود جديد، حماسٌ جديد، وآمالٌ جديدة
تزامنت بداية القرن الواحد والعشرين مع ما يسمّى بانفجار فقاعة الانترنت، واتسم عام 2007 بثورةٍ تكنولوجيّة أخرى: جهاز آيفون لشركة آبل، الذي اشتراه المستهلكون بالملايين ونشرته الشركات بطرقٍ عدّة. لكن إنتاجيّة العمل توقف نموها مرة أخرى في أواسط العشريّة، وازدادت ازديادًا طفيفًا سنة 2009 خلال الركود الاقتصاديّ الكبير، ثم رجعت إلى تباطؤها من 2010 حتى 2019.
خلال هذا التباطؤ الجديد، كان المتفائلون بالتكنولوجيا ينتظرون أن تهبّ رياح التغيير. كان الذكاء الاصطناعيّ والتشغيل الآلي حديث الساعة وكان المُتوقَّع أن يغيّرا العمل وإنتاجيّة العامل كليًّا. فضلًا عن التشغيل الآلي الصناعي التقليدي والطائرات دون طيّار والروبوتات المتقدّمة، كان الابتكار ورأس المال يتدفّقان نحو تكنولوجيّاتٍ ستغير قواعد اللعبة، من ضمنها السيارات ذاتيّة القيادة والدّفع الآلي عند الخروج من متاجر الأغذية وحتى الروبوتات الصانعة للبيتزا. يُتوقَّع أن الذكاء الاصطناعي والتشغيل الآلي سيرفعان من نسبة نموّ الإنتاجية إلى ما يفوق 2% سنويًّا على مدى عقد، مقارنةً بانخفاضها إلى نسبة 0.4% بين 2010 و2014.
لكن قبل أن نبلغ تلك المرحلة ونقدّر كيف ستلقي التكنولوجيّات الجديدة بظلالها على مكان العمل، جدّت مفاجأةٌ أخرى: جائحة كوفيد-19.
دَفعةٌ في الإنتاجية ثمّ تقهقرها خلال الجائحة
مع كل السلبيات التي سببتها الجائحة، فإن إنتاجيّة العامل ارتفعت بشدّةٍ بعد بدايتها في 2020؛ إذ ازداد مردود العمل في الساعة بنسبة 4.9% عالميًّا، وهي أعلى نسبة زيادةٍ منذ صارت البيانات متوفّرة.
يعود الفضل في جزءٍ كبيرٍ من هذا الارتفاع الشاهق إلى التكنولوجيا: إذ أن الشركات لجأت الأكثر استعمالًا للمعرفة (ومن ثم الأكثر إنتاجيّة) إلى العمل عن بعد، وحافظت على استمراريتها عبر التكنولوجيّات الرقميّة مثل مؤتمرات الفيديو وتكنولوجيات الاتصال مثل (سلاك)، وتوفير الوقت في المواصلات والتركيز على رفاهية الموظفين.
بينما كان من الواضح أن التكنولوجيات الرقمية ساعدت في تعزيز الإنتاجية العمال بالفكر، حصل تحوّلٌ متسارعٌ نحو المزيد من التشغيل الآلي في قطاعاتٍ أخرى، ذلك وأن العمال وجب عليهم البقاء في منازلهم من أجل سلامتهم وللالتزام بالحجر الصحي. استثمرت الشركات الناشطة في قطاعاتٍ متعدّدة من تصنيع اللحوم إلى المعاملات في المطاعم والنزل وحتى التجارة بالتجزئة في التشغيل الآلي، ما ساعد على تعزيز إنتاجيتها. ولكن ظهر منعطف آخر في هذا الطريق في مجال التكنولوجيا.
انتهت طفرة الاستثمارات في قطاع التكنولوجيا التي حدثت عامي 2020-2021، كما انتهت معها الضجّة التي اُثيرت حول المركبات ذاتية القيادة والروبوتات الصانعة للبيتزا. حتى الوعود المغرية الأخرى مثل وعد شركة ميتا بإحداث ثورة في مكان العمل بدأت تتلاشى، وبالتوازي مع ذلك، اندفع الذكاء الاصطناعي التوليدي إلى مقدمة المشهد، واعدًا بإمكانيّاتٍ مباشرةٍ أكثر لتعزيز الإنتاجية والتأثير في الوظائف على نطاقٍ واسع. وبدأت دائرة الضجّة حول التكنولوجيا الحديثة من جديد.
نظرةٌ في الأفق: العوامل الاجتماعية في مسار التكنولوجيا
نظرًا للتطوّرات المفاجأة العديدة التي حدثت إلى الآن، ما الذي نتوقّعه من الآن فصاعدًا؟ فيما يلي أربع مسائل جديرة بالنظر:
أولا، مستقبل العمل ليس مجرّد أرقامٍ مجرّدةٍ تخصّ العمال والأدوات التقنية التي يستعملونها أو العمل الذي ينجزونه، إذ على المرء أن يأخذ بالحسبان تأثير الذكاء الاصطناعي في عوامل مختلفةٍ مثل التنوع في مكان العمل والتفاوتات الاجتماعية، التي تؤثر بدورها تأثيرًا عميقًا في الفرص الاقتصاديّة وثقافة مكان العمل.
مثلاً، في حين قد يساعد التحوّل إلى العمل عن بعدٍ عمومًا في تدعيم التنوّع عندما تكون عملية التوظيف أكثر مرونة، نرى أن الاستعمال المتزايد للذكاء الاصطناعي له يأتي على الأرجح بنتائج عكسية. إذ أن للسود واللاتينيين تمثيلًا نسبيًّا أكبر من غيرهم في 30 مهنةً تعد الأكثر عرضةً للتشغيل الآلي، ولهم تمثيلٌ نسبيٌّ أقل في 30 مهنةً هي الأقل عرضةً لذلك. ومع أن الذكاء الاصطناعي يساعد العمال على إنجاز المزيد في وقتٍ أقل، وأن هذه الإنتاجيّة الزائدة قد ترفع من أجور الموظّفين، لكنها قد تقود إلى خسارة كبيرةٍ في أجور من ستستبدل وظائفهم.
وجدت دراسةٌ أجريت عام 2021 أن التفاوت في الأجور يتجه إلى الازدياد أكثر في البلدان التي تعتمد شركاتها كثيرًا على الروبوتات التي تُسرع إلى اعتماد تكنولوجيا الروبوتات الأحدث.
ثانيًا، بينما تبحث الشركات بعد كوفيد-19 عن التوازن بين العمل حضوريًّا والعمل عن بعد، ستظل آثار ذلك على الإنتاجية والآراء حول الموضوع ملتبسةً ومتحوّلة.
إذ تظهر دراسةٌ نُشرت عام 2022 تحسّن نجاعة العمل عن بعد وتزايد ارتياح الشركات والموظفين لترتيبات العمل من المنزل، لكن وفقا دراسةٍ أخرى صدرت عام 2023، فإن الموظفين والمديرين يختلفون حول تأثيرها، إذ يرى المديرون أن العمل عن بعد يقلل من الإنتاجية بينما يرى الموظفون أن العكس صحيح.
ثالثًا، قد تؤثر ردة فعل المجتمع في انتشار الذكاء الاصطناعي التوليدي تأثيرًا بالغًا في مساره وفي أثره بالنتيجة. تشير التحاليل إلى أن برامج المساعدة في المحادثات القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي قد عززت من إنتاجية موظفي خدمة العملاء بنسبة 14%. لكن تنادي أصوات الآن بتقدير أهم مخاطر الذكاء الاصطناعي التوليدي وأخذها بالحسبان. أضف إلى ذلك، فإن الإقرار بحجم القدرة الحاسوبية الهائلة للذكاء الاصطناعي وتكلفته البيئية قد يحدّ من تطوره واستعماله.
وأخيرًا، نظرًا لتوقعات الاقتصاديين وغيرهم من الخبراء في السابق، بوسعنا القول إن العديد من التنبؤات الحالية حول تأثير تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي سيظهر خطؤها أيضًا، فالأرقام التي نسمعها أن 300 مليون وظيفةٍ ستتأثر وأن الاقتصاد العالمي سينمو بنسبة 4.4 تريليون دولار سنويًّا هي أرقامٌ ملفتةٌ للنظر، لكن الناس يميلون لإضفاء مصداقيّةٍ على هذه الأرقام اكثر مما ينبغي.
بالإضافة إلى أن الوظائف التي ستتأثر لا تعني بالضرورة الوظائف التي ستُفقد، بل قد تكون وظائف زائدة أو حتى تحوّلًا إلى وظائف أخرى. من الأفضل استعمال تحليلاتٍ مثل تلك التي أجرتها غولدمان أو ماكينزي لتنشيط خيالنا في ما يتعلق بالسيناريوهات الممكنة لمستقبل العمل والعمال. ربما من الأفضل أن نتصور استباقيًّا العوامل العديدة التي قد تؤثر فيما قد يحدث فعليًّا، وأن نبحث عن علامات الخطر المبكرة ونجهّز لها بما يلزم. لطالما كان تاريخ العمل ومستقبله مليئًا بالمفاجآت، فلا تتفاجؤوا إن بدت تكنولوجيات المستقبل مربكةً بنفس القدر.