الذرائعية
الذريعة هي الوسيلة وجمعها ذرائع. والذرائعية instrumentalism هي مذهب جون ديوي[ر]، الذي يقرر أن الأفكار والنظريات والمعارف والنتائج والغايات وسائل وذرائع دائمة لبلوغ غايات جديدة، وتعديل وتوضيح المعايير والمعارف دوماً في ضوء الخبرات المتراكمة، أي إنها ذرائع لمزيد من العمل، وعلى هذا كل نظرية هي أداة أو ذريعة إلى العمل، ولا قيمة لها إلا إذا كان لها نتيجة عملية.
والعلة الذرائعية هي العلة الأداة لإحداث النتيجة. والمنطق الذرائعي هو الذي يبني أحكامه على التجربة، وإن كان من المسوغ له أن يلجأ إلى الاستدلال، لكنه في كل الأحوال وسيلة العقل لتحصيل المعرفة وإثرائها بالخبرة التي تعدل من المعلومات السابقة وتضيف إليها، وتمنحه في النهاية اليقين وتنقله إلى مرحلة الاعتقاد.
والذرائعية ضرب من ضروب البراغماتيةpragmatism، أهم إسهام فكري أمريكي راج في الربع الأول من القرن العشرين، وتأثر بها الكثيرون في أوربا وغيرها، ومن هؤلاء جورج سيمل[ر] وإدموند هوسرل[ر] وهنري برغسون[ر].
والبراغماتية فلسفة صاغها واخترع اسمها لأول مرة تشارلز بيرس، كمنهج للتفكير أو كنظرية في المعنى، وأعاد وليم جيمس[ر] صياغتها نظريةً في الصدق، وطورها جون ديوي وأذاعها نظريةً في القيمة، وفرديناند شيلر مذهباً في الإرادة.
البراغماتية عند بيرس وجيمس
وصف بيرس البراغماتية بأنها منهج للتيقن من معاني الكلمات الصعبة والمفهومات المجردة، وأرادها أن تكون قاعدة منطقية يعبر عنها قوله المشهور: «تدبر الآثار التي يجوز أن يكون لها نتائج فعلية على الموضوع الذي نفكر فيه، وعندئذٍ تكون فكرتنا عن هذه الآثار هي كل فكرتنا عن هذا الموضوع». ويزيد الأمر توضيحاً قوله: «إن فكرتنا عن أي شيء هي فكرتنا عن آثاره المحسوسة»، بمعنى أن الفكرة هي التي تعطي لسلوكنا معناه، ولكن جيمس طور فكرة بيرس وقلب هذه القاعدة في المعنى إلى قاعدة في الصدق، ووصف البراغماتية بأنها لا تحدد معاني الكلمات فقط لكنها أيضاً نظرية للتيقن من صدق الواقع، فطالما أن الفكرة هي مضمون سلوكنا، فإنها تصدق بما يكون لها من نتائج طيبة، أو بمقدار ما تساعدنا في الوصول إلى علاقات مرضية مع أجزاء الخبرة الماضية والمستقبلية.
وقد ضايق بيرس تحريف جيمس لنظريته، وآثر أن يطلق عليها في نهاية الأمر اسم البراغماتيكية (البراغماطيقية)pragmaticism عام (1905) تمييزاً لها من براغماتية جيمس، ومستعيراً تعبير كَنْت عن الفكرة البراغماتية عن الشيء، ويقصد بها الفكرة أو المعتقد belief الذي يرسخ في الأذهان عن الشيء، والذي بمقتضاه يسلك المرء حيال هذا الشيء سلوكاً خاصاً يجعل من الممكن الاستفادة منه لتحقيق ما يصبو إليه من غايات. وليس هذا المعتقد الذي يستقر في الذهن عن الشيء هو فكرة عن آثاره المحسوسة فقط، ذلك لأن المعتقد لا يكون معتقداً إلا إذا كان له تأثير في السلوك، بحيث ينظم هذا السلوك ويؤدي إليه، وهو ما يسمى بالعادة. فالمعتقد هو عادة سلوكية يطورها كل كائن لنفسه ويحقق بها حاجاته، وهذه العادات هي قواعد السلوك التي تحدد ما يمكن أن يفعله المرء في ظروف معينة لتحقيق نتائج معينة، وامتلاك هذه العادات يعني العلم بطرائق إشباع الحاجات. وعلى هذا فإن براغماتية بيرس تجعل المعنى قائماً في طريقة السلوك إزاء لفظ معين، فإذا كان هناك تجريد، فالتجريد يكون لطريقة السلوك وليس لصفات الأشياء. وإن الوصول إلى الخصائص الحسية أو المفسرة لكلمة ما معناه إجراء عملي نقوم به، ونصل إلى نتائج، ويتألف معنى التصور أو الفكرة من مجموعة تلك النتائج، وبمعنى آخر: إن الأفكار ما هي إلا خطط للسلوك العملي.
أما نظرية الصدق التي انتهت إليها البراغماتية عند جيمس، فقد أصبحت جوهر الفلسفة العملية، وسادت كحركة واضحة المعالم، جعلت من العمل مبدأ مطلقاً، تدرس الواقع لا المجرد. والفيلسوف العملي يهتم بالمدرك percept وليس المتصور concept، أي يهتم بالأشياء. والفلسفة العملية اسمية طالما أنها تبحث في الجزئي وليس الكلي، ومن ثم فالفلسفة العملية فلسفة تحليلية، والمنهج العملي هو المنهج الذي يفسر أي معنى بتعقب نتائجه العملية. لهذا اصطبغ مذهب جيمس بطابع النفعية، وكانت براغماتيته تجريبية متطرفة، تبيح للمرء أن يكون له معتقدات تجاوز التجربة والبيئة لتحفظ على حياته التكامل، فتجعل مجرد الاعتقاد فيها مبرراً لصدقها، فعندما يستحيل الحكم على الأفكار بأنها صادقة أو كاذبة، لابد من اللجوء إلى إرادة الاعتقاد، فالاعتقاد قد يخلق وسائل تحققها، كما أن الفكرة قد تحقق الواقعة. فتصبح الفكرة حقيقة عندما تثبت التجربة أنها صالحة ومفيدة، ويصير الحق هو الملائم في مجال التفكير، والخير هو الملائم في مجال السلوك. وليست المنفعة الفردية هي معيار صدق الفكرة، لكن الفكرة الصادقة هي التي تتلاءم مع غيرها من الأفكار التي ثبتت صحتها عملياً.
الذرائعية عند ديوي
يطلق على براغماتية ديوي الفلسفة الأداتية - الذرائعية، فقد تأثر بما ذهب إليه بيرس من أن جميع أنواع الفكر ليست إلا حركة تتجه من موقف مثير للشك إلى موقف اعتقادي مستقر، لكنه وصف تفسير بيرس بالجمود، كما تأثر بكتابات جيمس ووصف تفسيره بالذاتية فبدلاً من أن يحض على البحث عن النتيجة الصادقة، دعا إلى البحث عن النتيجة التي ينبغي أن تكون، ووصف الصادق بأنه المفيد.
وقد أقام ديوي نوعاً من البراغماتية، أطلق عليه الذرائعية، ووصفها بأنها منهج لاستخلاص النتائج النهائية التي ينبغي للمرء أن ينتهي إليها لو أخذ بالحسبان كل ظروف المشكلة مثار التفكير، ووصف ديوي الفكر الذرائعي بأنه نوع من التكيف لتحديات البيئة.
والعلة الذرائعية هي العلة الأداة لإحداث النتيجة، كالقلم الذي يكتب به، وكاليد التي هي أداة التنفيذ للإرادة العاقلة. والمنطق الذرائعي هو الذي يبني أحكامه على التجربة وإن كان من المسوغ له أن يلجأ إلى الاستدلال، لكنه في كل الأحوال وسيلة العقل لتحصيل المعرفة وإثرائها بالخبرة التي تعدل من المعلومات السابقة وتضيف إليها، وتمنحه في النهاية اليقين وتنقله إلى مرحلة الاعتقاد، فالفكر في المذهب الذرائعي ليس سوى أداة أو وسيلة للنجاح في الحياة.
وقد احتلت ذرائعية ديوي مكانة بارزة في مجالي التربية والتعليم، إذ يراهما من أهم وسائل الإصلاح الاجتماعي : «ليست التربية الحقة وسيلة للحياة، وإنما هي الحياة نفسها». فهاجم النظرية التربوية التي تجعل من المتعلم إنساناً سلبياً مهمته تلقي المعلومات واختزانها.
فهو يرى في التفكير وسيلة أو أداة، أو آلة لحل مشكلات الناس التي يواجهونها في حياتهم الاجتماعية والخاصة، وبمعنى آخر فهو يعد المعرفة آلة أو وظيفة في خدمة مطالب الحياة، والمعرفة التي لا توصل إلى عمل فيه خير للفرد أو للجماعة ليست بشيء.
وقد نشأ العقل وتطور في أثناء جهاد الإنسان الطويل في سبيل الملاءمة بينه وبين البيئة التي يعيش فيها، أي إنه تطور في ميدان المحافظة على البقاء، فالعقل عملية نمو مستمر، وليس في نظره سوى عضو من أعضاء الإنسان، شأنه شأن أي عضو آخر مثل اليد أو الساق أو اللسان، فهو وسيلة أو أداة وليس غاية في نفسه، تلك هي وظيفة الفكر ووظيفة العقل عند ديوي، وهي وظيفة إيجابية فعّالة، غايتها صلاح الفرد والجماعة وتقدمهما. أما الكليات الشاملة، والحقائق العامة، والمثل العليا التي لا سبيل إلى تحقيقها إضافة إلى «المدن الفاضلة» التي يحلم بها الحالمون من الفلاسفة والأدباء، فليست في نظره من الفلسفة ولا من الثقافة أو العلم بشيء مادامت لا تؤدي إلى نتائج عملية.
إن ما حفّز ديوي إلى انتهاج هذا الطريق، ما هو إلا الرغبة الصادقة في العمل من أجل الرقي بالحياة الاجتماعية وتحقيق الحرية الثقافية بأكمل معانيها وأوسعها في ظل الحرية السياسية، والديمقراطية السليمة، والنظم الاقتصادية التي تتيح للفرد المجال للخلق والابتكار.
إن فلسفة الأداتية، كما يسميها ديوي، تصلح للوصول بالإنسان والجماعات إلى مثل هذه الحرية المنشودة، إنها تحارب كل شيء من شأنه الجنوح إلى الركود، أو الجمود، أو النكوص والتراجع، والعراقيل التي تقف في وجه التقدم والتجدد الاجتماعيين، فهي تشجع على إجراء التجارب، وكسب الخبرة والإفادة منها لما فيه خير البشرية، كما تشجع على المغامرة المعقولة في سبيل التقدم والرقي.
والإنسان عند ديوي مخلوق له قيمة، وهي لا تظهر إلا في المواقف التي تتصارع فيها رغباته أو أخلاقياته، وفي المواقف المشكلة تظهر ميوله الحقيقية، ويتبدى الطريق الصحيح الذي عليه أن يتبعه. وهو لا يلجأ لمجموعة قيمه ليحل الإشكال، لكنه يقوم الموقف ويقارن بين مختلف الطرق المتاحة، ويسمي ديوي هذه العملية التقويمvaluation. وما يختاره الفرد من غايات أو خيرات بعد تفكير وتمحيص هو خبرات مرغوبة أو معقولة، وينبغي أن يدرب الفرد على تصور أهداف جديدة والسعي إليها، وطالما هناك حياة، ستكون هناك مواقف جديدة دائماً متفجرة بالصراع وتتطلب قرارات وأحكاماً وأفعالاً. وبهذا المعنى لا تكتمل أبداً الحياة الخلقية للإنسان، وتتحول الغايات أبداً إلى وسائل لبلوغ أهداف جديدة. ويظهر واضحاً دور العقل، ويعلن ديوي إيمانه بقدرة العقل على تصور المستقبل الذي هو إسقاط لما يتمناه المرء في الحاضر، وعلى اختراع الوسائل لتحقيقه. وهذا الفهم للتقويم يقوم على مفهوم اجتماعي ويفترض مجتمعاً يتشارك أفراده الخبرات، ولهم معاييرهم ووسائلهم المشتركة، ويلعب التقويم الذكي دوره في جعل هذا المجتمع واقعاً مجسماً، وهنا أيضاً يتم اختيار وتوضيح وتعديل المعايير والغايات في ضوء الخبرات المتراكمة للمجتمع.
كانت أهم إسهامات البراغماتية- الذرائعية تقويضها لمفاهيم الميتافيزيقا التقليدية، ولذلك تعاطف بيرس وجيمس وديوي مع مذهب الواقعية ضد المثالية، المذهب الذي أخذ يروج في أواخر القرن العشرين، ويجعل الاهتمام بالبراغماتية بوصفها حركة حية اهتماماً تاريخياً، لا تأثير له، كما من قبل في أوائل هذا القرن. فقد اتجهت البراغماتية بتأثير ديوي ولويس وكارناب وكواين وآخرين إلى أن تكون النظرية التي تقول بأن كل ألوان الخبرة، بما فيها الفكر الفلسفي والنظريات العلمية والعقائد، لابد أن تفهم في ضوء الغرض الإنساني، فالأفكار أدوات لتحقيق ما يصبو إليه الإنسان من غايات، والحكم عليها يكون بمقدار كفايتها في خدمة هذه الغايات، ومن ثم صارت البراغماتية اسماً للموقف الذي يؤكد أهمية النتائج كاختبار لصلاحية الأفكار.
أحمد أبو زايد
الذريعة هي الوسيلة وجمعها ذرائع. والذرائعية instrumentalism هي مذهب جون ديوي[ر]، الذي يقرر أن الأفكار والنظريات والمعارف والنتائج والغايات وسائل وذرائع دائمة لبلوغ غايات جديدة، وتعديل وتوضيح المعايير والمعارف دوماً في ضوء الخبرات المتراكمة، أي إنها ذرائع لمزيد من العمل، وعلى هذا كل نظرية هي أداة أو ذريعة إلى العمل، ولا قيمة لها إلا إذا كان لها نتيجة عملية.
والعلة الذرائعية هي العلة الأداة لإحداث النتيجة. والمنطق الذرائعي هو الذي يبني أحكامه على التجربة، وإن كان من المسوغ له أن يلجأ إلى الاستدلال، لكنه في كل الأحوال وسيلة العقل لتحصيل المعرفة وإثرائها بالخبرة التي تعدل من المعلومات السابقة وتضيف إليها، وتمنحه في النهاية اليقين وتنقله إلى مرحلة الاعتقاد.
والذرائعية ضرب من ضروب البراغماتيةpragmatism، أهم إسهام فكري أمريكي راج في الربع الأول من القرن العشرين، وتأثر بها الكثيرون في أوربا وغيرها، ومن هؤلاء جورج سيمل[ر] وإدموند هوسرل[ر] وهنري برغسون[ر].
والبراغماتية فلسفة صاغها واخترع اسمها لأول مرة تشارلز بيرس، كمنهج للتفكير أو كنظرية في المعنى، وأعاد وليم جيمس[ر] صياغتها نظريةً في الصدق، وطورها جون ديوي وأذاعها نظريةً في القيمة، وفرديناند شيلر مذهباً في الإرادة.
البراغماتية عند بيرس وجيمس
وصف بيرس البراغماتية بأنها منهج للتيقن من معاني الكلمات الصعبة والمفهومات المجردة، وأرادها أن تكون قاعدة منطقية يعبر عنها قوله المشهور: «تدبر الآثار التي يجوز أن يكون لها نتائج فعلية على الموضوع الذي نفكر فيه، وعندئذٍ تكون فكرتنا عن هذه الآثار هي كل فكرتنا عن هذا الموضوع». ويزيد الأمر توضيحاً قوله: «إن فكرتنا عن أي شيء هي فكرتنا عن آثاره المحسوسة»، بمعنى أن الفكرة هي التي تعطي لسلوكنا معناه، ولكن جيمس طور فكرة بيرس وقلب هذه القاعدة في المعنى إلى قاعدة في الصدق، ووصف البراغماتية بأنها لا تحدد معاني الكلمات فقط لكنها أيضاً نظرية للتيقن من صدق الواقع، فطالما أن الفكرة هي مضمون سلوكنا، فإنها تصدق بما يكون لها من نتائج طيبة، أو بمقدار ما تساعدنا في الوصول إلى علاقات مرضية مع أجزاء الخبرة الماضية والمستقبلية.
وقد ضايق بيرس تحريف جيمس لنظريته، وآثر أن يطلق عليها في نهاية الأمر اسم البراغماتيكية (البراغماطيقية)pragmaticism عام (1905) تمييزاً لها من براغماتية جيمس، ومستعيراً تعبير كَنْت عن الفكرة البراغماتية عن الشيء، ويقصد بها الفكرة أو المعتقد belief الذي يرسخ في الأذهان عن الشيء، والذي بمقتضاه يسلك المرء حيال هذا الشيء سلوكاً خاصاً يجعل من الممكن الاستفادة منه لتحقيق ما يصبو إليه من غايات. وليس هذا المعتقد الذي يستقر في الذهن عن الشيء هو فكرة عن آثاره المحسوسة فقط، ذلك لأن المعتقد لا يكون معتقداً إلا إذا كان له تأثير في السلوك، بحيث ينظم هذا السلوك ويؤدي إليه، وهو ما يسمى بالعادة. فالمعتقد هو عادة سلوكية يطورها كل كائن لنفسه ويحقق بها حاجاته، وهذه العادات هي قواعد السلوك التي تحدد ما يمكن أن يفعله المرء في ظروف معينة لتحقيق نتائج معينة، وامتلاك هذه العادات يعني العلم بطرائق إشباع الحاجات. وعلى هذا فإن براغماتية بيرس تجعل المعنى قائماً في طريقة السلوك إزاء لفظ معين، فإذا كان هناك تجريد، فالتجريد يكون لطريقة السلوك وليس لصفات الأشياء. وإن الوصول إلى الخصائص الحسية أو المفسرة لكلمة ما معناه إجراء عملي نقوم به، ونصل إلى نتائج، ويتألف معنى التصور أو الفكرة من مجموعة تلك النتائج، وبمعنى آخر: إن الأفكار ما هي إلا خطط للسلوك العملي.
أما نظرية الصدق التي انتهت إليها البراغماتية عند جيمس، فقد أصبحت جوهر الفلسفة العملية، وسادت كحركة واضحة المعالم، جعلت من العمل مبدأ مطلقاً، تدرس الواقع لا المجرد. والفيلسوف العملي يهتم بالمدرك percept وليس المتصور concept، أي يهتم بالأشياء. والفلسفة العملية اسمية طالما أنها تبحث في الجزئي وليس الكلي، ومن ثم فالفلسفة العملية فلسفة تحليلية، والمنهج العملي هو المنهج الذي يفسر أي معنى بتعقب نتائجه العملية. لهذا اصطبغ مذهب جيمس بطابع النفعية، وكانت براغماتيته تجريبية متطرفة، تبيح للمرء أن يكون له معتقدات تجاوز التجربة والبيئة لتحفظ على حياته التكامل، فتجعل مجرد الاعتقاد فيها مبرراً لصدقها، فعندما يستحيل الحكم على الأفكار بأنها صادقة أو كاذبة، لابد من اللجوء إلى إرادة الاعتقاد، فالاعتقاد قد يخلق وسائل تحققها، كما أن الفكرة قد تحقق الواقعة. فتصبح الفكرة حقيقة عندما تثبت التجربة أنها صالحة ومفيدة، ويصير الحق هو الملائم في مجال التفكير، والخير هو الملائم في مجال السلوك. وليست المنفعة الفردية هي معيار صدق الفكرة، لكن الفكرة الصادقة هي التي تتلاءم مع غيرها من الأفكار التي ثبتت صحتها عملياً.
الذرائعية عند ديوي
يطلق على براغماتية ديوي الفلسفة الأداتية - الذرائعية، فقد تأثر بما ذهب إليه بيرس من أن جميع أنواع الفكر ليست إلا حركة تتجه من موقف مثير للشك إلى موقف اعتقادي مستقر، لكنه وصف تفسير بيرس بالجمود، كما تأثر بكتابات جيمس ووصف تفسيره بالذاتية فبدلاً من أن يحض على البحث عن النتيجة الصادقة، دعا إلى البحث عن النتيجة التي ينبغي أن تكون، ووصف الصادق بأنه المفيد.
وقد أقام ديوي نوعاً من البراغماتية، أطلق عليه الذرائعية، ووصفها بأنها منهج لاستخلاص النتائج النهائية التي ينبغي للمرء أن ينتهي إليها لو أخذ بالحسبان كل ظروف المشكلة مثار التفكير، ووصف ديوي الفكر الذرائعي بأنه نوع من التكيف لتحديات البيئة.
والعلة الذرائعية هي العلة الأداة لإحداث النتيجة، كالقلم الذي يكتب به، وكاليد التي هي أداة التنفيذ للإرادة العاقلة. والمنطق الذرائعي هو الذي يبني أحكامه على التجربة وإن كان من المسوغ له أن يلجأ إلى الاستدلال، لكنه في كل الأحوال وسيلة العقل لتحصيل المعرفة وإثرائها بالخبرة التي تعدل من المعلومات السابقة وتضيف إليها، وتمنحه في النهاية اليقين وتنقله إلى مرحلة الاعتقاد، فالفكر في المذهب الذرائعي ليس سوى أداة أو وسيلة للنجاح في الحياة.
وقد احتلت ذرائعية ديوي مكانة بارزة في مجالي التربية والتعليم، إذ يراهما من أهم وسائل الإصلاح الاجتماعي : «ليست التربية الحقة وسيلة للحياة، وإنما هي الحياة نفسها». فهاجم النظرية التربوية التي تجعل من المتعلم إنساناً سلبياً مهمته تلقي المعلومات واختزانها.
فهو يرى في التفكير وسيلة أو أداة، أو آلة لحل مشكلات الناس التي يواجهونها في حياتهم الاجتماعية والخاصة، وبمعنى آخر فهو يعد المعرفة آلة أو وظيفة في خدمة مطالب الحياة، والمعرفة التي لا توصل إلى عمل فيه خير للفرد أو للجماعة ليست بشيء.
وقد نشأ العقل وتطور في أثناء جهاد الإنسان الطويل في سبيل الملاءمة بينه وبين البيئة التي يعيش فيها، أي إنه تطور في ميدان المحافظة على البقاء، فالعقل عملية نمو مستمر، وليس في نظره سوى عضو من أعضاء الإنسان، شأنه شأن أي عضو آخر مثل اليد أو الساق أو اللسان، فهو وسيلة أو أداة وليس غاية في نفسه، تلك هي وظيفة الفكر ووظيفة العقل عند ديوي، وهي وظيفة إيجابية فعّالة، غايتها صلاح الفرد والجماعة وتقدمهما. أما الكليات الشاملة، والحقائق العامة، والمثل العليا التي لا سبيل إلى تحقيقها إضافة إلى «المدن الفاضلة» التي يحلم بها الحالمون من الفلاسفة والأدباء، فليست في نظره من الفلسفة ولا من الثقافة أو العلم بشيء مادامت لا تؤدي إلى نتائج عملية.
إن ما حفّز ديوي إلى انتهاج هذا الطريق، ما هو إلا الرغبة الصادقة في العمل من أجل الرقي بالحياة الاجتماعية وتحقيق الحرية الثقافية بأكمل معانيها وأوسعها في ظل الحرية السياسية، والديمقراطية السليمة، والنظم الاقتصادية التي تتيح للفرد المجال للخلق والابتكار.
إن فلسفة الأداتية، كما يسميها ديوي، تصلح للوصول بالإنسان والجماعات إلى مثل هذه الحرية المنشودة، إنها تحارب كل شيء من شأنه الجنوح إلى الركود، أو الجمود، أو النكوص والتراجع، والعراقيل التي تقف في وجه التقدم والتجدد الاجتماعيين، فهي تشجع على إجراء التجارب، وكسب الخبرة والإفادة منها لما فيه خير البشرية، كما تشجع على المغامرة المعقولة في سبيل التقدم والرقي.
والإنسان عند ديوي مخلوق له قيمة، وهي لا تظهر إلا في المواقف التي تتصارع فيها رغباته أو أخلاقياته، وفي المواقف المشكلة تظهر ميوله الحقيقية، ويتبدى الطريق الصحيح الذي عليه أن يتبعه. وهو لا يلجأ لمجموعة قيمه ليحل الإشكال، لكنه يقوم الموقف ويقارن بين مختلف الطرق المتاحة، ويسمي ديوي هذه العملية التقويمvaluation. وما يختاره الفرد من غايات أو خيرات بعد تفكير وتمحيص هو خبرات مرغوبة أو معقولة، وينبغي أن يدرب الفرد على تصور أهداف جديدة والسعي إليها، وطالما هناك حياة، ستكون هناك مواقف جديدة دائماً متفجرة بالصراع وتتطلب قرارات وأحكاماً وأفعالاً. وبهذا المعنى لا تكتمل أبداً الحياة الخلقية للإنسان، وتتحول الغايات أبداً إلى وسائل لبلوغ أهداف جديدة. ويظهر واضحاً دور العقل، ويعلن ديوي إيمانه بقدرة العقل على تصور المستقبل الذي هو إسقاط لما يتمناه المرء في الحاضر، وعلى اختراع الوسائل لتحقيقه. وهذا الفهم للتقويم يقوم على مفهوم اجتماعي ويفترض مجتمعاً يتشارك أفراده الخبرات، ولهم معاييرهم ووسائلهم المشتركة، ويلعب التقويم الذكي دوره في جعل هذا المجتمع واقعاً مجسماً، وهنا أيضاً يتم اختيار وتوضيح وتعديل المعايير والغايات في ضوء الخبرات المتراكمة للمجتمع.
كانت أهم إسهامات البراغماتية- الذرائعية تقويضها لمفاهيم الميتافيزيقا التقليدية، ولذلك تعاطف بيرس وجيمس وديوي مع مذهب الواقعية ضد المثالية، المذهب الذي أخذ يروج في أواخر القرن العشرين، ويجعل الاهتمام بالبراغماتية بوصفها حركة حية اهتماماً تاريخياً، لا تأثير له، كما من قبل في أوائل هذا القرن. فقد اتجهت البراغماتية بتأثير ديوي ولويس وكارناب وكواين وآخرين إلى أن تكون النظرية التي تقول بأن كل ألوان الخبرة، بما فيها الفكر الفلسفي والنظريات العلمية والعقائد، لابد أن تفهم في ضوء الغرض الإنساني، فالأفكار أدوات لتحقيق ما يصبو إليه الإنسان من غايات، والحكم عليها يكون بمقدار كفايتها في خدمة هذه الغايات، ومن ثم صارت البراغماتية اسماً للموقف الذي يؤكد أهمية النتائج كاختبار لصلاحية الأفكار.
أحمد أبو زايد