ذو الـرُّمَّة
(77-117هـ/696-735م)
ذو الرُّمَّة هو غَيْلانُ بن عُقْبَة بن مسعود، من بني عدي بن عبد مناة. شاعر من فحول الطبقة الثانية في عصره. يختلف الرواة في سبب تلقيبه بذي الرُّمَّة، ففيهم من يزعم أنَّ مَيَّة التي أحبها وتغنى بها في شعره، هي التي لقبته بهذا اللقب. وذلك أنه عندما استسقاها ماء، كان على كتفه قطعة من حبل يقال لها«رُّمَّة» (والرمَّة: قطعة من الحبل البالي)، فقدمت له الماء وقالت له: اشرب يا ذا الرُّمَّة. وفيهم من يردُّ هذا اللقب إلى الحصين بن عبدة العدوي معلم القبيلة الذي علمه القرآن والكتابة. بينما يرى آخرون أنه لُقِّبَ بذلك، لقوله في بعض شعره: «أَشْعَثُ باقي رُمةِ التقليد».
ولد ذو الرُّمَّة في خلافة عبد الملك ابن مروان، في فيفاء من فيافي الدهناء الرملية قرب واحة يَبْرِين ببادية اليمامة، كما تشير إلى ذلك أخباره وبعض أشعاره:
تحنُّ إلى الدَّهْنا بخَفَّانَ ناقتي
وأنَّى الهوى مِنْ صوتها المُتَرَنِّمِ
إلى إِبلٍ بالزُّرْقِ أوطانُ أهلها
يَحُلُّون منها كلَّ علياءَ معْلَمِ
يقال إنّ أمه من بني أسد وكانت تسمى «ظبية». وكان له ثلاثة أخوة، هم: مسعود وجِرفاس وهشام وكلهم شاعر، ويبدو أنَّ أباه قد مات مبكرا، إذ ليس له ذكر في أخبار ذي الرُّمَّة أو شعره. بينما تتحدث الأخبار عن أمه، التي أحاطته برعايتها وحبها إلى جانب اهتمامها بتعليمه وتثقيفه، فقد دفعته إلى الحصين العدوي معلم القبيلة ليلقنه شيئاً من القرآن الكريم، وليعلمه الكتابة والقراءة. ومدة التأسيس هذه، تركت أثرها الكبير في نفس ذي الرمة وسلوكه، حتى أصبحت الثقافة الدينية مقومًا من مقومات شخصيته، وعنصراً من عناصر العمل الفني عنده. فكان صادقاً في إيمانه خاشعاً في صلاته، وكان يقول: «إنَّ العبد إذا قام بين يدي الله لحقيقٌ أن يخشع».
وقد تجلت نزعته الدينية في الأدعية والابتهالات التي أوردها في شعره، يقول:
يا صاحبيَّ انظُرا آواكُمَا درجٌ
عالٍ وظلٌّ من الفِرْدَوس ممدودُ
ويقول أيضاً:
ولا زلتما في حَبْرةٍ ما بقيتما
وصاحبتما يوم الحساب محمدا
الحبرة: الحبور والسرور
ولاشك في أنَّ ثقافته الدينية ساعدته على تلقيح شعره بصور ومعان وألفاظ، تنطوي على كثير من الجدة والطرافة.
أما مكان وفاته، فقد تعددت الروايات عنها؛ فقالوا إنه مات في الصحراء، وقالوا إنه مات بالحَجْر قاعدة اليمامة، وقالوا إنه مات بالدهناء، وروايات أخرى غيرها.
أغرت أسواق المديح التي كانت رائجة في ذلك العصر، ذا الرُّمَّة بالارتحال من البادية إلى المدن والأمصار المتحضرة. فاتجه إلى العراق وتحديدا إلى المدينتين الشهيرتين البصرة والكوفة، حيث قصور الولاة والأمراء. فمدح العديد منهم وخاصة (بلال بن أبي بُردة حفيد أبي موسى الأشعري)، الذي مدحه بقصائد طويلة يذكر فيها عدله في القضاء وبَصَرَه بالأحكام، ومقدرته على ضبط أمور العراق الداخلية وتحقيق الأمن والطمأنينة.
وقد ترددت أخبار عن زيارته أصبهان أو أصفهان، التي تقع في إيران حالياً. وفي ديوانه ثلاث قصائد يذكر الرواة أنه نظمها هناك، وهي: البائية والرائية والسينية. أما سفرته إلى دمشق، فيكتنفها الغموض وعدم الدقة. ويقال إنّ الخليفة عبد الملك بن مروان طلب رؤيته فجيء به إليه، فأنشده البائية الضخمة:
ما بالُ عَيْنِكَ منها الماءُ ينسكبُ
كأنَّه مِنْ كُلىً مَفْرِيَّةٍ سَرِبُ
تتعدد عند ذي الرُّمَّة الأغراض الشعرية، فقد نظم شعراً في المديح والفخر وفي موضوعات حياتية أخرى كالأحاجي والألغاز. لكنه تميز بشعر الحب وتفرد بشعر الصحراء، حتى أصبح بحق: شاعر الحب والصحراء. فقد أحب ذو الرُّمَّة (ميَّة)، حباً شغله عن كل ما عداها، ورأى فيها المثل الأعلى الذي يبحث عنه. ووقف قلبه عليها، مع أنه لم يتزوجها، وصارت كل شيء في حياته. فهي التي ألهمته الشعر، وبقيت مصدر إلهامه حتى النفس الأخير من حياته، وقد تغنى فيها بخمس وخمسين قصيدة.
وقد بكى حبيبته ميَّة في شعره، وأبكى كل من حوله. ولكن ماذا يفيد البكاء، إذا كان لا يستطيع أن يرد غائباً أو أن يقرب حبيباً؟
بكيتُ على ميٍّ بها إذ عرفتُها
وهجتُ الهوى حتى بكى القومُ من أجلي
فظلُّوا ومنهم دمعُه غالبٌ له
وآخـرُ يثـني عَـبرةَ العـين بالهمـلِ
وهل هَمَلان العين راجعُ ما مضى
من الوجد أو مُدنيكِ يا ميُّ من أهلي
أقولُ، وقد طال التنـائي ولَبَّسَتْ
أمورٌ بنا أسباب شَغْلٍ إلـى الشَّغْـلِ
ألا لا أبالـي الموتَ إن كان قبلَه
لقـاءٌ بميٍّ وارتـجاعٌ مـن الوصـلِ
أما الصحراء فهو لا يصفها وصف الشاعر الذي يشاهدها ويعجب بها، وإنما وَصْف من يندمج فيها ويفنى في جمالها. فهو يصف مناظرها بجميع تفاصيلها، ويرسم أيامها ولياليها وصخورها ورمالها وأشجارها وطيورها وحيواناتها، وغيمها وبرقها ورعدها ومطرها، وكل ما يلمع في سمائها من كواكب ونجوم. حتى أنه دعا نفسه «أخا القفر» من شدة حبه للصحراء وانبهاره بها.
اختلفت آراء النقاد وتناقضت، في شعر ذي الرُّمَّة. ففيهم من يعده شعراً رائعاً، وفيهم من يرى أنه لا يرقى إلى سوية أشعار معاصريه، وفيهم من يقول إنه يحفل بسرقات أدبية.
فالأصمعي يعدُّ ذا الرُّمَّة من أشعر الناس، ولاسيما في التشبيهات الشعرية. وقد أعجب اللغويين شعره لإكثاره من استعمال الغريب، فأتاح لهم إكثار الشروح.
وابن قتيبة يقول عنه: «إنه أحسن الناس تشبيهاً، وأجودهم تشبيباً، وأوصفهم لرمل وهاجرة وفلاة وماء وحيَّة، فإذا صار إلى المديح والهجاء، خانه الطبع وذاك أخَّرَهُ عن الفحول».
أما أبو عمرو بن العلاء الذي كان معاصراً له، فيضطرب رأيه فيه. فتارة يجعله خاتمة الشعراء، ويقول: «إن امرأ القيس أول الشعراء، وذا الرمة آخرهم»، وتارة يرى أن شعره حلو في أوله، فإذا كثر إنشاده صار ضعيفاً.
ربما لم ينل ذو الرمة الموقع الذي يستحقه، لأنه عاش في زمن جرير والفرزدق والأخطل، هؤلاء الفحول الذين طبعوا عصرهم بطابعهم الخاص، واستطاعوا بما أوجدوه من قيم جديدة أن يغيِّروا من القيم الفنية الموروثة. فهم الذين نهضوا فنياً بشعر الهجاء والمديح، حتى أصبح كل من لا يجيد فنيَّ المديح والهجاء خارجاً عن نطاق الفحولة الشعرية.
أو ربما لأنَّ البكاء في دار ميَّة، ألهاه عن كل ما سواه كما قال عنه جرير. أو لأنَّ تجافيه عن المديح والهجاء، وانشغاله بوصف حيوانات الصحراء وتفاصيلها، قعد به عن غاية الشعراء، كما قال له الفرزدق.
وإذا كان بعض الدارسين لشعر ذي الرُّمَّة، يأخذون عليه لغته الصعبة والحوشي من الألفاظ، فإنهم بالمقابل لا ينكرون أنه شاعر مجلٍ يستحق المرتبة العالية بين شعراء عصره.
جمانة طه
(77-117هـ/696-735م)
ذو الرُّمَّة هو غَيْلانُ بن عُقْبَة بن مسعود، من بني عدي بن عبد مناة. شاعر من فحول الطبقة الثانية في عصره. يختلف الرواة في سبب تلقيبه بذي الرُّمَّة، ففيهم من يزعم أنَّ مَيَّة التي أحبها وتغنى بها في شعره، هي التي لقبته بهذا اللقب. وذلك أنه عندما استسقاها ماء، كان على كتفه قطعة من حبل يقال لها«رُّمَّة» (والرمَّة: قطعة من الحبل البالي)، فقدمت له الماء وقالت له: اشرب يا ذا الرُّمَّة. وفيهم من يردُّ هذا اللقب إلى الحصين بن عبدة العدوي معلم القبيلة الذي علمه القرآن والكتابة. بينما يرى آخرون أنه لُقِّبَ بذلك، لقوله في بعض شعره: «أَشْعَثُ باقي رُمةِ التقليد».
ولد ذو الرُّمَّة في خلافة عبد الملك ابن مروان، في فيفاء من فيافي الدهناء الرملية قرب واحة يَبْرِين ببادية اليمامة، كما تشير إلى ذلك أخباره وبعض أشعاره:
تحنُّ إلى الدَّهْنا بخَفَّانَ ناقتي
وأنَّى الهوى مِنْ صوتها المُتَرَنِّمِ
إلى إِبلٍ بالزُّرْقِ أوطانُ أهلها
يَحُلُّون منها كلَّ علياءَ معْلَمِ
يقال إنّ أمه من بني أسد وكانت تسمى «ظبية». وكان له ثلاثة أخوة، هم: مسعود وجِرفاس وهشام وكلهم شاعر، ويبدو أنَّ أباه قد مات مبكرا، إذ ليس له ذكر في أخبار ذي الرُّمَّة أو شعره. بينما تتحدث الأخبار عن أمه، التي أحاطته برعايتها وحبها إلى جانب اهتمامها بتعليمه وتثقيفه، فقد دفعته إلى الحصين العدوي معلم القبيلة ليلقنه شيئاً من القرآن الكريم، وليعلمه الكتابة والقراءة. ومدة التأسيس هذه، تركت أثرها الكبير في نفس ذي الرمة وسلوكه، حتى أصبحت الثقافة الدينية مقومًا من مقومات شخصيته، وعنصراً من عناصر العمل الفني عنده. فكان صادقاً في إيمانه خاشعاً في صلاته، وكان يقول: «إنَّ العبد إذا قام بين يدي الله لحقيقٌ أن يخشع».
وقد تجلت نزعته الدينية في الأدعية والابتهالات التي أوردها في شعره، يقول:
يا صاحبيَّ انظُرا آواكُمَا درجٌ
عالٍ وظلٌّ من الفِرْدَوس ممدودُ
ويقول أيضاً:
ولا زلتما في حَبْرةٍ ما بقيتما
وصاحبتما يوم الحساب محمدا
الحبرة: الحبور والسرور
ولاشك في أنَّ ثقافته الدينية ساعدته على تلقيح شعره بصور ومعان وألفاظ، تنطوي على كثير من الجدة والطرافة.
أما مكان وفاته، فقد تعددت الروايات عنها؛ فقالوا إنه مات في الصحراء، وقالوا إنه مات بالحَجْر قاعدة اليمامة، وقالوا إنه مات بالدهناء، وروايات أخرى غيرها.
أغرت أسواق المديح التي كانت رائجة في ذلك العصر، ذا الرُّمَّة بالارتحال من البادية إلى المدن والأمصار المتحضرة. فاتجه إلى العراق وتحديدا إلى المدينتين الشهيرتين البصرة والكوفة، حيث قصور الولاة والأمراء. فمدح العديد منهم وخاصة (بلال بن أبي بُردة حفيد أبي موسى الأشعري)، الذي مدحه بقصائد طويلة يذكر فيها عدله في القضاء وبَصَرَه بالأحكام، ومقدرته على ضبط أمور العراق الداخلية وتحقيق الأمن والطمأنينة.
وقد ترددت أخبار عن زيارته أصبهان أو أصفهان، التي تقع في إيران حالياً. وفي ديوانه ثلاث قصائد يذكر الرواة أنه نظمها هناك، وهي: البائية والرائية والسينية. أما سفرته إلى دمشق، فيكتنفها الغموض وعدم الدقة. ويقال إنّ الخليفة عبد الملك بن مروان طلب رؤيته فجيء به إليه، فأنشده البائية الضخمة:
ما بالُ عَيْنِكَ منها الماءُ ينسكبُ
كأنَّه مِنْ كُلىً مَفْرِيَّةٍ سَرِبُ
تتعدد عند ذي الرُّمَّة الأغراض الشعرية، فقد نظم شعراً في المديح والفخر وفي موضوعات حياتية أخرى كالأحاجي والألغاز. لكنه تميز بشعر الحب وتفرد بشعر الصحراء، حتى أصبح بحق: شاعر الحب والصحراء. فقد أحب ذو الرُّمَّة (ميَّة)، حباً شغله عن كل ما عداها، ورأى فيها المثل الأعلى الذي يبحث عنه. ووقف قلبه عليها، مع أنه لم يتزوجها، وصارت كل شيء في حياته. فهي التي ألهمته الشعر، وبقيت مصدر إلهامه حتى النفس الأخير من حياته، وقد تغنى فيها بخمس وخمسين قصيدة.
وقد بكى حبيبته ميَّة في شعره، وأبكى كل من حوله. ولكن ماذا يفيد البكاء، إذا كان لا يستطيع أن يرد غائباً أو أن يقرب حبيباً؟
بكيتُ على ميٍّ بها إذ عرفتُها
وهجتُ الهوى حتى بكى القومُ من أجلي
فظلُّوا ومنهم دمعُه غالبٌ له
وآخـرُ يثـني عَـبرةَ العـين بالهمـلِ
وهل هَمَلان العين راجعُ ما مضى
من الوجد أو مُدنيكِ يا ميُّ من أهلي
أقولُ، وقد طال التنـائي ولَبَّسَتْ
أمورٌ بنا أسباب شَغْلٍ إلـى الشَّغْـلِ
ألا لا أبالـي الموتَ إن كان قبلَه
لقـاءٌ بميٍّ وارتـجاعٌ مـن الوصـلِ
أما الصحراء فهو لا يصفها وصف الشاعر الذي يشاهدها ويعجب بها، وإنما وَصْف من يندمج فيها ويفنى في جمالها. فهو يصف مناظرها بجميع تفاصيلها، ويرسم أيامها ولياليها وصخورها ورمالها وأشجارها وطيورها وحيواناتها، وغيمها وبرقها ورعدها ومطرها، وكل ما يلمع في سمائها من كواكب ونجوم. حتى أنه دعا نفسه «أخا القفر» من شدة حبه للصحراء وانبهاره بها.
اختلفت آراء النقاد وتناقضت، في شعر ذي الرُّمَّة. ففيهم من يعده شعراً رائعاً، وفيهم من يرى أنه لا يرقى إلى سوية أشعار معاصريه، وفيهم من يقول إنه يحفل بسرقات أدبية.
فالأصمعي يعدُّ ذا الرُّمَّة من أشعر الناس، ولاسيما في التشبيهات الشعرية. وقد أعجب اللغويين شعره لإكثاره من استعمال الغريب، فأتاح لهم إكثار الشروح.
وابن قتيبة يقول عنه: «إنه أحسن الناس تشبيهاً، وأجودهم تشبيباً، وأوصفهم لرمل وهاجرة وفلاة وماء وحيَّة، فإذا صار إلى المديح والهجاء، خانه الطبع وذاك أخَّرَهُ عن الفحول».
أما أبو عمرو بن العلاء الذي كان معاصراً له، فيضطرب رأيه فيه. فتارة يجعله خاتمة الشعراء، ويقول: «إن امرأ القيس أول الشعراء، وذا الرمة آخرهم»، وتارة يرى أن شعره حلو في أوله، فإذا كثر إنشاده صار ضعيفاً.
ربما لم ينل ذو الرمة الموقع الذي يستحقه، لأنه عاش في زمن جرير والفرزدق والأخطل، هؤلاء الفحول الذين طبعوا عصرهم بطابعهم الخاص، واستطاعوا بما أوجدوه من قيم جديدة أن يغيِّروا من القيم الفنية الموروثة. فهم الذين نهضوا فنياً بشعر الهجاء والمديح، حتى أصبح كل من لا يجيد فنيَّ المديح والهجاء خارجاً عن نطاق الفحولة الشعرية.
أو ربما لأنَّ البكاء في دار ميَّة، ألهاه عن كل ما سواه كما قال عنه جرير. أو لأنَّ تجافيه عن المديح والهجاء، وانشغاله بوصف حيوانات الصحراء وتفاصيلها، قعد به عن غاية الشعراء، كما قال له الفرزدق.
وإذا كان بعض الدارسين لشعر ذي الرُّمَّة، يأخذون عليه لغته الصعبة والحوشي من الألفاظ، فإنهم بالمقابل لا ينكرون أنه شاعر مجلٍ يستحق المرتبة العالية بين شعراء عصره.
جمانة طه