اندونيسيه(تاريخ)
Indonesia - Indonésie
تاريخ إندونيسية
ظهر اصطلاح «إندونيسية» في أوربة في أواخر القرن التاسع عشر، وبدأ القادة الوطنيون في جاوة استخدامه عام 1928م، وأصبح يطلق رسمياً عام 1942م على ما عرف في القرنين التاسع عشر والعشرين باسم «الهند الهولندية».
الأعراق القديمة: إذا استُثنيت قبائل البابوا في جزيرة غينية الجديدة الغربية أو إيريان الغربية وفي جزيرة هلمهيرة Halmahera وجزر الملوك، وفي فلوريس في جزر الصوند الصغرى، والبقايا المتفرقة من شعب فيدي، فإن الغالبية العظمى من سكان إندونيسية تنتسب إلى المجموعة العرقية الكبيرة الملاوية - البولينيزية.
العلاقات الحضارية:
أ ـ مع رومة: يبدو أن جزر الأرخبيل الإندونيسي كان لها علاقات تجارية مع الامبراطورية الرومانية في العصور القديمة. إذ يذكر بلينيوس أن بعض جزر هذا الأرخبيل كانت تصدر الفلفل والقرنفل وجوز الطيب إلى رومة عن طريق البحر في عهد الامبراطور أُغسطس (29ق.م - 14م). ويذكر بطلميوس في كتابه «تقويم البلدان» مجموعة من الأسماء في الأرخبيل مثل مرفأ «بنسور» في بارو Baros الذي كان يُصدر منه كافور سومطرة، و«بتك» شمالي سومطرة.
ب - مع الهند: إن المصادر المكتوبة التي يبدأ معها تاريخ إندونيسية، وتعود إلى ما بين القرنين الخامس والخامس عشر للميلاد، تشهد على التأثير القوي الذي مارسته الهند على الأرخبيل في مختلف مجالات الحياة في هذه الحقبة. يدل على ذلك إدخال الكتابة إلى الأرخبيل عن طريق الهند باستخدام اللغة السنسكريتية أو أبجديات مشتقة من الأبجديات الهندوسية كتلك التي استخدمها «بتك» سومطرة، وأهالي بالي، والمكسار والبوغيون في جنوب سولاويسي، وما استلهم الأدب الإندونيسي من الملاحم الهندية، وانتشار الديانات الهندية كالسيفية والبوذية والبراهمانية والمهايانا وقيام الممالك الاستبدادية وتقسيم المجتمع إلى طوائف، ولهذا أطلق المؤرخون الهولنديون على ممالك هذه الحقبة اسم «الممالك المهنَّدة».
ممالك إندونيسية:
1ـ الممالك المهنّدة وتأثير البوذية:
امبراطورية سريفجاية Srivijaya البوذية (ق7ـ13م) تأسست مملكة سريفجاية الساحلية حول مدينة باليمبانغ في الجنوب الشرقي من جزيرة سومطرة وقد تضافرت جملة من العوامل على نهوضها: موقعها بين مضيقي الصوند وملقة حيث كانت ترسو السفن التجارية القادمة من الصين، والنشاط التجاري بين الصين (في عهد أسرة تانغ 617 - 907م) وبحار الجنوب والهند، والأوضاع الاقتصادية العالمية، وغنى المملكة. كل ذلك جعلها تبسط سلطانها على الملايو وإقليم جامبي Jambi وغربي جاوة في نهاية القرن السابع الميلادي.
وفي عام 775، أخضعت ليغور Ligore (ناخون Nakhon اليوم) في أرخبيل الملايو لسلطانها. وبفضل سيطرتها على مضيقي الصوند وملقة، وعلى أرخبيل الملايو حتى برزخ كرا Kra، هيمنت على التجارة البحرية في المنطقة لستة قرون. وكان لتجارها وكالات تجارية في كانتون Canton = Guangzhou وسواتو Swatow = Shantou في الصين، ونالندة في البنغال وعلى سواحل كوروماندل (شرقي الهند).
ومع أن بعض الممالك التابعة لها قد استعادت حريتها (مثل كامب Kampe وملايو في القرن الحادي عشر، وليغور 1230م) فإن المملكة كانت تؤلف في القرن الثالث عشر امبراطورية كبيرة تحظى باحترام خمس عشرة دولة تقع بين جاوة، وجنوب شرقي باندون Bandon (سورات تاني Surat Thani اليوم ) في تايلاند، إلا أن توسع الجاويين والسياميين معاً سلبها السيطرة على المضايق وأدى من ثم إلى تدمير اقتصادها.
2ـ الممالك الجاوية (ق7ـ14م):
مملكة ماترام Mataram: قامت هذه المملكة في وسط جاوة في المدة ما بين القرن السابع وبداية القرن العاشر وتعاقب على عرشها سلالتان: السلالة الصنجية السيفية والسلالة السلاندرية البوذية. وقد شيدت السلالة الأولى سنة 772م معبد بارابودور كما شيدت السلالة الثانية معابد برامبانن Prambanan البوذية العظيمة في مدة حكمها الثانية بداية القرن 10م. وهي أضخم تعبير فني عن العبقرية الإندونيسية في التوفيق بين بيئتها وتقاليدها ونماذج الهندسة المعمارية الهندية.
في عام 929م، أدت كارثة، لم تعرف ما هي، إلى انتقال عاصمة المملكة إلى وادي برانتاس Brantas في شرقي الجزيرة. وفي 1016م، شنت مملكة سريفجاية هجوماً على مملكة ماترام وهدمت عاصمتها. ولكن أعيد بناء المملكة في عهد الملك إيرلنغاAirlanga (1019- 1049م). واحتلت جزيرة بالي. وقد استفاد إيرلنغا من ضعف مملكة سريفجاية في إعادة توحيد وسط جزيرة جاوة وشرقيها. وأسهم الأمن والاستقرار وجهود إيرلنغا في إعادة بناء اقتصاد المملكة بسرعة. وازدهرت المبادلات التجارية في عهده مع شرقي إندونيسية وسومطرة والهند الصينية. وشهدت المملكة ازدهار الأدب فيها. بعد وفاة إيرلنغا، قسمت المملكة إلى إمارتين، جنغالا Djanggala وكيدري Kediri. وفي 1077، أعادت مملكة كيدري للامبراطورية وحدتها وشهدت ازدهار التجارة والأدب. وفي عام 1222، قضى ملك سينغازاري Singasari )مالنغ Malang اليوم) على مملكة كيدري. وقد وسّع كيرتنغارا Kertanegara )1268ـ1292) آخر ملوك كيدري مملكته إذ ضم مادورة وجزيرة بالي وصوند. وأصبحت جاوة كلها تخضع للمرة الأولى لسلطة واحدة.
3ـ امبراطورية مجابهيت Majapahit (1293-1520م): رفض كيرتنغارا ملك سنغازاري تقديم الولاء لامبراطور الصين المغولي قُبلاي خان، فأرسل الامبراطور المغولي جيشاً لتأديبه في وقت شهدت فيه المملكة انتفاضة قُتل فيها كيرتنغارا، واستطاع خلفه فيجايا استخدام القوات الصينية بمهارة للقضاء على هذه الانتفاضة. ثم انقلب على هذه القوات وتوج ملكاً في مدينة مجابهيت في وادي برانتاس الأدنى (1293م). وسرعان ما أصبحت مجابهيت مركزاً لامبراطورية جاوة الموحدة. وفي عهد الملك العظيم راجاساناغارا Rajasanagara (1350- 1389م) ووزيره غاجاه مادا (1331 - 1364) عرفت مجابهيت نهضة عظيمة، وأصبحت مركزاً لشبكة تجارية مهمة في الأرخبيل. وفي نهاية القرن الرابع عشر، كانت مجابهيت تفرض سلطانها على الجزر كافة التي تتألف منها إندونيسية الحالية إضافة إلى أرخبيل الملايو حتى كيدة. ويبدو أن العلاقات بين مجابهيت وهذه الجزر كانت تجارية أكثر منها سياسية. ومهما يكن من أمر فإن أهمية الجزر التابعة لها تكمن في مدلولها السياسي الذي يعبر عنه وجود تصور لوحدة «جيو - سياسية» لجزر الأرخبيل آنذاك. كما كانت مجابهيت تقيم علاقات تجارية مع الصين والهند المسلمة.
وبدءاً من نهاية القرن الرابع عشر، أخذت هيمنة مجابهيت والعقيدة التوليفية الهندوسية - البوذية التي كانت مذهباً للامبراطورية تأفلان بتأثير الإسلام وازدهار التجارة في مرافئ سومطرة وأرخبيل الملايو. وفي 1520، سقطت الامبراطورية تحت ضربات تحالف قاده ملك ديماك «روان بتاه».
الإسلام في إندونيسية:
1ـ انتشار الإسلام: إن بداية انتشار الدين الإسلامي في جزر الأرخبيل الإندونيسي غير معروفة على وجه التحقيق. وما يعرف عن ذلك مصدره بعض كتب الرحالة والجغرافيين الصينيين والعرب والغربيين الذين زاروا بعض جزر الأرخبيل (ابن بطوطة، ماركو بولو، وغيرهما).
ومع أن العرب كانوا يتاجرون مع آسيا الجنوبية منذ العصور القديمة، وأن كتابات الرحالة والجغرافيين العرب حول الهند الصينية وأرخبيل الملايو أصبحت غزيرة منذ القرن التاسع للميلاد، فإن الإسلام لم ينتشر في جنوب شرقي آسيا إلا في القرن الثالث عشر. ويبدو أن الفضل في انتشار الإسلام في جزر الأرخبيل الإندونيسي يعود إلى تجار الهند المسلمين أكثر مما يعود إلى التجار العرب المسلمين (عرب حضرموت). ومردّ ذلك إلى كثرة التجار الهنود. كما أن العقيدتين البراهمانية والبوذية كانتا تؤثران تأثيراً عظيماً في سكان الأرخبيل، مما يجعل الإندونيسيين أكثر تقبلاً للإسلام القادم من الهند.
انتشر الإسلام في إندونيسية تدريجياً وسلمياً، وعلى طول الطرق التجارية البحرية أولاً، ثم انتقل من الشواطئ إلى الداخل والمرتفعات الجبلية. وقد ساعدت عدة عوامل على اتساع انتشار الإسلام في جزر الأرخبيل (إلا بالي): الطبيعة السلمية لانتشاره عن طريق التجار المسلمين، وزواج الكثيرين منهم بعض نساء البلاد، وتحسن حال السكان المحليين بدخولهم في دين المسلمين من أصحاب النفوذ، وسماحة الإسلام، والمنافسة التجارية والسياسية بين الدول الغربية.
2ـ الممالك الإسلامية: دخل الإسلام الأرخبيل الإندونيسي من الجهة الشمالية الغربية في القرن الثالث عشر للميلاد. ثم أخذ ينتشر باتجاه شرقي الأرخبيل ووسطه. وكان الموطن الأول لانتشاره ممالك شمالي سومطرة (لاموري، بيرلاك، باسي أوبازه) وفي 1420 أصبحت ملقة، في أرخبيل الملايو، مملكة إسلامية ما لبثت أن عرفت نهضة سريعة بعد إعادة فتح الصين للطريق البحري بينها وبين البحر الأحمر، فقد بسطت نفوذها على جانبي مضيق ملقة. وأخذت تفرض رقابتها على المضيق والسفن ومصادر التموين الملاوية كالأرز والذهب والقصدير التي تعبر هذا المضيق. وفي نهاية القرن الخامس عشر، أصبحت ملقة الدولة التجارية والسياسية الأولى في المنطقة، ومنها انتقل الإسلام نحو الشرق، فدخل مملكة ترناتة في جزر المُلُوك بدءاً من النصف الأول للقرن الخامس عشر، ومملكة تيدورة في النصف الثاني منه. ومن ملقة أيضاً انتقل الإسلام إلى الساحل الشمالي من جاوة على يد تجار مسلمين جاويين وكجراتيين وعرب، وشهد منتصف القرن الخامس عشر ظهور عدد من السلطنات الإسلامية الصغيرة في جاوة مثل جبرة Japara، وسورابايا، وتوبان، وغريسيك Gresik. كما شهدت الحقبة نفسها تزايد المسلمين من أهل البلاد، بفضل المهاجرين وإقامة ولايات صغيرة على الشاطئ سرعان ما حاولت أن تقبض على زمام الأمور في شرقي جاوة.
وفي القرن السادس عشر، بعد أن قضى تحالف لسلاطين الممالك الساحلية يتزعمه ملك ديماك، على امبراطورية مجابهيت (1520)، برزت في جاوة عدة ممالك إسلامية هي غريسيك وتوبان في الشرق، وديماك (نحو 1540) وتشيربون Tjrebon في الشمال، وبانتن Banten (1568)، أو بانتم Bantem في الغرب، التي سرعان ما بسطت نفوذها على بلاد الصوند، وعلى لامبونغ Lampung في سومطرة، وباجنغ Pajang في وسط جاوة.
وتقول الرواية المحلية إن «جاوة دخلت في الإسلام بجهود ثمانية أو تسعة من أولياء الله». أصبح كل منهم يحمل لقب التشريف «سنن» (سوسوهن) ويطلق مسلمو الجزيرة على هؤلاء الأولياء أسماء الأماكن التي نشروا فيها الإسلام أو دفنوا فيها. منهم مالك إبراهيم سنن غريسيك، ويلقب أيضاً بمولانا المغربي (1419)، ورادن رحمت سنن أمبيل (1470)، وسنن بوننغ Bonang، ورادن باكو سنن جيري Giri، وسنن كننج جاتي.
وتقول بعض المصادر البرتغالية إن الفضل في تأسيس أول مملكة إسلامية في الجزء الغربي من جاوة يعود إلى سنن كننج جاتي. وهو بازي الأصل ذهب عام 1521 إلى مكة المكرمة، حيث أمضى ثلاث سنوات في الدرس والتحصيل في علوم الدين. عاد بعدها إلى جبرة، وأخذ بالدعوة للدين الإسلامي فيها، وتزوج أخت ملك ديماك. ومن ديماك انتقل إلى بانتن في غربي جاوة، فأدخل أميرها في الإسلام واكتسب فيها سلطاناً سياسياً. وفي 1527 نجح في انتزاع مدينة سنده كُلبه (بتافية الحديثة) من ملك بجاجران Pajajaran. وفي عام 1546، انتقل سنن كننج إلى تشيربون. ومن المرجح أنه توفي فيها نحو 1570. كما شهد القرن السادس عشر توطد الإسلام في سلطنة أتشه وتعاظم نفوذها بذلك. وتأسست سلطنتا بروني Brunei وبنجرماسين Banjarmasin المسلمتان في شمالي جزيرة كليمنتان وجنوبيها على التوالي، كما انتقل الإسلام من باليمانغ إلى سوكدانغ Sukadang ثم غربي الجزيرة. وفي 1590 اعتلى عرش سوكدانغ أول أمير مسلم، كيري كُسُمه، وفي النصف الثاني من القرن السادس عشر، بدأ الإسلام ينتشر في جزيرة سولاويسي عن طريق سلطنة ترناتة. وكان أول أمير من غووا Gowa أو غوا Coa دخل في الإسلام هو السلطان علاء الدين (1603)، وبقي في الحكم حتى 1639. وسرعان ما انتشر الإسلام بين شعوب المكسار والشعوب البوغينية التي تقيم في جنوبي سولاويسي.
وفي القرن السابع عشر، بلغت سلطنة أتشه أوج عظمتها، كما ازدهرت سلطنة مكسار بعد أن أصبحت في زهاء نصف قرن، ملتقى دولياً للطرق التجارية في الأرخبيل. فمنذ مطلع هذا القرن أخذ أمراء جنوب جزيرة سولاويسي يدخلون في الإسلام. واستطاع سلاطين مكسار فرض سلطانهم على الأمراء الآخرين في جنوبي الجزيرة. وبعد أن طرد الهولنديون البرتغاليين من ترناتة وأمبوان ثم من ملقة (1641)، نقل البرتغاليون نشاطهم التجاري إلى مكسار. مما نشط الحركة التجارية في السلطنة. وساعد على تحولها إلى مركز ثقافي مهم. يشهد على ذلك مكتبة السلطان باتينغا لوانغ Patinggaloang الغنية بالخرائط والكتب اللاتينية والإسبانية والبرتغالية التي أثارت إعجاب الأوربيين. وفي حين توسعت مملكة ماترام التي أسسها السلطان سينابتي Senapati (1582- 1601) في وسط جزيرة جاوة، حتى إنها أصبحت تشكل أقوى دولة في الجزيرة في القرن السابع عشر.
فقد عمل سلطانها أغنغ Agung «السلطان العظيم» (1613 - 1645) على إعادة عظمة امبراطورية مجابهيت. وقام ببناء المساجد الكبيرة. ونجح في بسط سلطان ماترام على موانئ بازيزير Pasisir وشرقي جاوة ومادورة وجزيرة بالي. كما أقام علاقات مع سلاطين جزيرتي كليمنتان وسومطرة. وجهز حملتين عسكريتين (1628 - 1629م) لطرد الهولنديين من بتافية. إلا أن جهوده لم تكلل بالنجاح.
أكثر الإندونيسيين من أهل السنة على المذهب الشافعي. وهم ميالون إلى التصوف وكانت الطريقة الشكارية أكثر الطرق الصوفية انتشاراً بين الإندونيسيين في القرنين السادس عشر والسابع عشر إلى جانب الطرق القادرية والنقشبندية والشاذلية التي ازداد أنصارها بعدئذ، كما أخذ يتردد على جزر الأرخبيل من وقت لآخر علماء مبرزون من العرب من أهل مكة والمدينة، ويزورون بلاط الأمراء، وقد يمكثون هناك طويلاً، كما يمكن تلمس أثر الشيعة بين الإندونيسيين، وتنتشر بينهم عادة تبجيل الأولياء وتقديم النذور لهم والتبرك بهم.
أثر الإسلام: كان للإسلام وما يزال تأثير عظيم في مناحي الحياة كافة في إندونيسية. ففي المجال الديني، أدى انتشار الإسلام إلى القضاء التدريجي على الديانات الهندية التي غلبت على جزر الأرخبيل بين القرنين الخامس والخامس عشر للميلاد. كما أدى إلى إحداث ثورة روحية بين الإندونيسيين. وأصبح المسجد مركزاً دينياً يبسط منه الإسلام تأثيره في حياة الشعب بأكمله. وتطبق الشريعة الإسلامية على قانون الأسرة، وقد حال الإسلام دون توسع انتشار المسيحية. ففي حين يؤلف المسلمون نحو 90% من سكان الجزر، فإن النصارى يمثلون 3.5% والهندوسيون 2% والباقي بوذيون أو من الديانات الوثنية والأرواحية.
وفي مجال الفن، أدى انتشار الإسلام إلى خمول أشكال الفنون التي ازدهرت من الاحتكاك الحميم لشعوب الأرخبيل بالثقافة الهندوسية. فقد تخلى الإندونيسيون عن بناء المعابد. في حين أخذ بناء المساجد الجامعة يتزايد في جزر الأرخبيل إلى جانب المساجد الصغيرة.
أما في المجال الاجتماعي فقد أدى انتشار الإسلام في الأرخبيل إلى زوال نظام الطوائف وانتشار مبدأ المساواة بين أبناء المجتمع. كما أدخل نمط حياة جديداً في المجتمع الإندونيسي، وأصبح عاملاً رئيسياً أسهم في توحيد المجتمع الإندونيسي وتماسكه.
وفي المجال التربوي، قدم الإسلام إلى أجزاء مهمة من الأرخبيل أنماطاً عدة للنظام التربوي الإسلامي مدة طويلة. فقد شمل هذا النظام مستويات التعليم كافة من الابتدائي حتى الجامعي. وكان على من يرغب في التعليم الأعلى أن يقصد مكة أو القاهرة. وفي الحواضر الإندونيسية الكبرى، كانت الشهرة العظيمة للفقهاء تجتذب الكثير من طلاب الدراسات الدينية الشبان من أنحاء شتى من جزر الأرخبيل. وكان الأمراء والسلاطين يشجعون الدراسات الدينية بإعفاء قرى كثيرة من الضرائب وغيرها. وأنشئت معاهد خاصة بالدراسات الدينية، يتلقى الطلاب فيها العلوم الإسلامية من أصول الدين وطرق صوفية وحديث وتفسير وأصول الفقه. وكانت الكتب التي تدرّس في هذه المؤسسات كتباً عربية أو مترجمة إلى اللغة الملاوية. وكان أسمى ما يطمح إليه طالب العلم متابعة تحصيله الدراسي في مكة المكرمة. كما تأسست في شمالي سومطرة وفي جاوة عدة مدارس صوفية.
وفي مجال الأدب نشأ أدب إسلامي رفيع متأثر بالمعاني الدينية. ثم ما لبث بعض الإندونيسيين الذين تلقوا العلوم الإسلامية في مكة أن قاموا بتأليف ما تلقوه باللغة المحلية. وبدأ الأدب الإسلامي يشق لنفسه طريقاً بحلوله محل الأشكال الأدبية السابقة كما في أدب جاوة ومكسار. ففي أدب مكسار مثلاً، كان تأثير الأدب الإسلامي شديداً حتى إن اللغة العربية استخدمت في كتابته. وأكثر ما يظهر تأثير الأدب الإسلامي واضحاً في الأدب المكتوب باللغتين الاتشهينزية والملاوية. ففي ثلاثة قرون على الأقل (أوائل ق17 - أوائل ق20) ازدهر في اللغات المحلية تراث مكتوب يتعلق بموضوعات إسلامية من تفسير وفقه وكلام. وأسهم تطور حركة التحديث وظهور المنظمات والأحزاب الإسلامية في تزايد إنتاج الأدب الإسلامي. ويظهر تأثير الإسلام أيضاً في الأدب الإندونيسي المعاصر.
وفي مجال اللغة استخدمت بعض اللغات الإندونيسية (بعض لغات سومطرة واللغة الجاوية) الأبجدية العربية في كتابة هذه اللغات. وأخذ الكثير من المفردات العربية ولاسيما المصطلحات الفنية المتعلقة باللغة والفلسفة والدين وبعض الألفاظ العامة. وتعدّ اللغة الملاوية في أكثر اللغات الإندونيسية تأثراً باللغة العربية. ففي البداية استخدمت الأبجدية العربية لكتابتها، ودخل إليها غير قليل من المفردات العربية. أما اليوم فقد استبدلت بالأبجدية العربية الأبجدية اللاتينية في جميع اللغات التي كانت تكتب بها، إلا اللغة الجاوية (الآخذة بالاتجاه القائل باستعمال اللاتينية).
وفي المجال السياسي كان تأثير الإسلام عظيماً حتى إنه أصبح أداة نضال سياسية وروحية للمدن الساحلية التجارية الدولية في الأرخبيل الإندونيسي. إذ أصبح الإسلام ديناً يوحد بين تجار هذه المدن وملوكها، وعاملاً أساسياً في النضال الذي قادته لمحاربة السلطة المركزية لامبراطورية مجابهيت الهندوسية، وتأسيس الإمارات والسلطنات الإسلامية في القرنين السادس عشر والسابع عشر. وأصبح حكامها يحملون لقب السلطان أو الخليفة. كما أصبح قصر السلطان المركز الطبيعي للحياة السياسية والثقافية والاجتماعية، فحوله تبنى الأرباض وتؤلف توابع له. وفيه تحفظ المخطوطات الخاصة بحكم السلاطين، ويقيم أمهر الحرفيين وأكبر الفرق الموسيقية وأفضل فرق الراقصات، والكتاب الرسميون الذين يقومون بكتابة التاريخ الحولي.
من جهة أخرى أصبح الإسلام أداة نضال سياسية لمحاربة الاستعمار البرتغالي والتوغل الاستعماري الهولندي في جزر الأرخبيل. فقد دعمت الطرق الصوفية الثورة التي كانت تندلع من حين لآخر معارضةً للحكم الاستعماري. وكان الإسلام عنصراً رئيسياً من عناصر انبثاق الوعي بالذات الإندونيسية. والعامل الأول في توحيد الأمة والدولة الإندونيسية وله أثر مهم في ظهور المنظمات والأحزاب السياسية الإسلامية المناهضة للنظام الاستعماري الهولندي.
الاستعمار الهولندي: بدأ التدخل الأوربي في جزر الأرخبيل الإندونيسي مع احتلال البرتغال لملقة (1511) للسيطرة على تجارة التوابل. ثم دخل أوربيون جدد حلبة المنافسة، فبلغ الإنكليز ترناتة (1579)، والهولنديون بانتن (1596). لكن استقرار الأوربيين في الموانئ والمناطق الساحلية واقتصار نشاطهم عليها أكثر من قرنين لم يكن له تأثير مهم في بنية المجتمعات في الأرخبيل ولم يؤدِ إلى تغيير الوضع الاقتصادي فيه. فأوربة التي اتجهت إلى الميركنتيلية لم يكن لديها ما تبيعه لسكانه. وما كان يبحث عنه الأوربيون هو التوابل والسيطرة على طرق تجارتها بفضل عدد محدود من القواعد الاستراتيجية. مما جعل البرتغال عاجزة عن بناء امبراطورية آسيوية بثلاث قواعد استراتيجية هي غوا وملقة ومكاو، لهذا لم يكن القرن السادس عشر «قرن البرتغال» في آسيا كما لم يكن القرن السابع عشر «قرن الهولنديين».
وقد تمثل العنصر الجديد الوحيد في آسيا بالحرب الشعواء التي قادها البرتغاليون والإسبان على الإسلام.
سعت شركة الهند الشرقية الهولندية بعد تأسيسها (1602) إلى القضاء على منافسيها من الأوربيين في الأرخبيل قضاءً عنيفاً. وعلى الرغم من احتلال الشركة لجاكرتة وتأسيس بتافية (1619)، وإخراج البرتغال، آخر منافسيها باحتلال ملقة (1641)، لم تصبح الشركة القوة الإقليمية أو الاقتصادية الأولى في المنطقة، لأنها لم تكن تسيطر إلا على بعض القواعد الصغيرة في جاوة وسومطرة والمُلُوك وأرخبيل الملايو. كما كانت حصتها في تجارة الأرخبيل الإندونيسي قليلة، إلا أن الشركة استطاعت فيما بين 1641 - 1799م أن تفرض احتكارها للتجارة الخارجية على ممالك الأرخبيل وإماراته، وتعاظمت قوتها من إضعاف هذه الممالك وتفرقها على الرغم من المقاومة البطولية لسكانها. ومع ذلك فقد كانت الشركة تمر في نهاية القرن الثامن عشر، بأزمة مالية عصيبة بسبب النفقات العسكرية البيروقراطية الباهظة والرشوة مما أجبرها على تسليم ممتلكاتها مع ديونها إلى الحكومة الهولندية سنة 1800م.
على أثر حروب نابليون في أوربة، وضم هولندة للامبراطورية، انتقلت الممتلكات الهولندية في الأرخبيل إلى فرنسة (1810). وفي آب 1811، احتل الإنكليز بتافية في جاكرتة، وطردوا الهولنديين من جاوة. وتميز الحكم الإنكليزي (1811 - 1816) بالعودة إلى حرية الزراعة والتجارة. وبموجب معاهدة فيينة، عادت جاوة إلى هولندة (1816). ولم تتمكن هولندة من فرض سلطانها على جزر الأرخبيل كافة إلا في بداية القرن العشرين.
واجه التوغل الاستعماري الكثير من الثورات والانتفاضات وحركات المقاومة الوطنية العنيفة للسكان المحليين، وخاصة في الممالك الإسلامية، مما أقلق بشدة السلطات الاستعمارية. فبين 1810 و1830 مثلاً، قامت عدة ثورات في باليمبانغ (1812و1819و1821) وثورة بدري Padri في مننغكابو (1815 - 1824) في جزيرة سومطرة، وثورة جزر المُلُوك (1817)، وانتفاضة جاكرتة بقيادة أميرها ديبونيغورDiponegoro (1825- 1830). وبعد عزم الإدارة الهولندية فرض الحكم المباشر على الممالك والإمارات المتمتعة بالحكم الذاتي، شهدت المدة فيما بين 1870-1903 حروباً وثورات متعددة جديدة.
ولم تتمكن هولندة من إخضاع مملكة آتشه إلا بعد حرب دامت ثلاثين عاماً (1873 - 1908)؛ كما لم تستطع فرض سلطانها على سلطنة جامبي إلا في 1906؛ وفرضت سلطتها على ملك الباتاك سينغا منغراجا Singa mangaradja في 1907 في سومطرة. كما لم يتم إخضاع جزيرة بالي وفلوريس في جزر الصوند الصغرى إلا في 1908.
بعد السياسة الاقتصادية الاحتكارية لشركة الهند الشرقية الهولندية التي استمرت حتى نهاية القرن الثامن عشر تبنت الحكومة الاستعمارية الهولندية سياسة احتكار الدولة لـ «نظام الزراعات» الإجبارية (1830-1870) ثم ألغي هذا النظام تدريجياً بين 1870 و1918 لمصلحة نظام المزارع الرأسمالية الخاصة، وابتداء من 1902، تبنت الإدارة الاستعمارية «السياسة الخلقية» la voie morale أو la voie ethique، ومؤداها أن تساعد الحكومة على تنمية ثروات إندونيسية بوساطة شركات رأسمالية يشارك فيها الإندونيسيون، وأن تقوم الإدارة الاستعمارية بحمايتهم من الاستغلال، إلا أن هذه السياسات لم تفلح في تحسين مستوى معيشة الإندونيسيين، بل أدت أيضاً إلى التدهور المستمر في وضعهم الاقتصادي وانخفاض مستواهم المعاشي. هذا عدا الاضطهاد السياسي والثقافي والاجتماعي وتخلف إندونيسية على كل الصعد.
منذ بداية القرن العشرين، بدأت طبقات اجتماعية إندونيسية جديدة من برجوازية عقارية أو تجارية تظهر، ونخبة المثقفين والموظفين، وطبقة عاملة تتكون من عمال المزارع والمناجم. وسرعان ما وعت هذه الطبقات، ولاسيما النخبة المثقفة، تناقضات النظام الاستعماري، كما أن إخفاق الثورات والمقاومة الوطنية في الوقوف في وجه السيطرة الاستعمارية والاستغلال الاقتصادي جعل هذه النخبة تدرك أن القضاء على النظام الاستعماري يقتضي تعرّف سر تفوق الغرب ومحاربته بطرقه ووسائله وأسلحته نفسها. كما أن الإسلام السمح والمنفتح على الأفكار العصرية السائدة في إندونيسية، وبقاء الأوساط الإسلامية على اتصال مستمر مع العالم الخارجي (التجارة والحج)، وعدّها الإسلام ديناً ونوعاً من الهوية القومية كل أولئك جعل هذه الأوساط تفعل فعلها في توعية الإندونيسيين بهويتهم الثقافية والقومية، وفي ظهور الوعي القومي في إندونيسية.
الحركة الوطنية:
1ـ بدايات الحركة الوطنية: شهدت بداية القرن العشرين ظهور بعض الحركات الثقافية الحديثة (البودي أو تومو 1908) والاقتصادية (ساريكات إسلام 1911) والدينية (المحمدية 1912) وألّفت هذه التجمعات نواة للأحزاب السياسية التي تأسست بعد الحرب العالمية الأولى، وتولت قيادة الحركة الوطنية في إندونيسية. فبعد الحرب، تحولت «ساريكات إسلام» إلى حزب سياسي، ضم 2.5 مليون عضو في 1919، سرعان ما أخذ يطالب بالاستقلال. وتأسس الحزب الشيوعي الإندونيسي (1920)، الذي سرعان ما نظم الثورة (1926) لتأسيس الجمهورية الإندونيسية السوفييتية. إلا أن عمليات القمع التي نظمتها الإدارة الاستعمارية والقضاء على الكثير من أعضائه أو تشتيتهم ألجأه إلى العمل السري (1927). وبمبادرة من أعضاء رابطة الطلاب الإندونيسيين في هولندة، تأسس الحزب الوطني الإندونيسي بزعامة أحمد سوكارنو (1927) للنضال من أجل استقلال إندونيسية السياسي والاقتصادي، إلا أن الإدارة الاستعمارية شعرت بسرعة بخطر الحركة الوطنية. فنفت سوكارنو وبعض قادة الحركة الوطنية إلى فلوريس (1927) مما ألجأ رفاقه إلى العمل السري.
أسهمت بعض الإجراءات التي اتخذها المحتل الياباني (1942ـ1945) مثل حظر اللغة الهولندية، وعودة الزعماء الوطنيين وعلى رأسهم سوكارنو، والسماح بنوع من النشاط السياسي، في تزايد قوة الشعور المعادي لهولندة لدى الجماهير وفي تصعيد الحركة الوطنية. فرفعوا لأول مرة العلم الإندونيسي ورددوا النشيد الوطني، ونُظمت حركات المقاومة السرية، واستخدم القادة الوطنيون منظمة «مركز السلطة الشعبية» (وهي تنظيم أسسه اليابانيون لتجنيد الموارد الإندونيسية والإندونيسيين في الحرب) لإعادة الصلة بين قادة الحركة الوطنية والجماهير والتعريف بأنفسهم، وكذلك عززوا الروح الوطنية بين أفراد جيش المدافعين المتطوعين، وناهضوا به الهولنديين والامبريالية.
2ـ إعلان استقلال إندونيسية في نيسان 1945: وافق اليابانيون على تأليف «لجنة تحقيق لإعداد الاستقلال». درست هذه اللجنة المبادئ التي ستقوم عليها الدولة الإندونيسية المستقلة. وأسس سوكارنو (1901-1970) «اللجنة الإندونيسية» لإعداد الاستقلال. وفي 17 آب 1945، (أي بعد ثلاثة أيام من استسلام اليابانيين)، أعلن سوكارنو استقلال إندونيسية، وقام بتنظيم الجمهورية على الرغم من معارضة اليابانيين، وحررت القوات الوطنية جاكرتة، وألفت حكومة وطنية برئاسة محمد حتا وكان سوكارنو نائباً له، يساعدهما حكومة من سبعة أعضاء.
3ـ عودة الهولنديين وقيام الثورة (1945 - 1949): بعد نزول قوات الحلفاء (أيلول 1945)، واحتلالها للمدن الإندونيسية، عاد الجيش الهولندي إلى إندونيسية. فنظمت حكومة الجمهورية المقاومة المسلحة في أرياف جاكرتة. فقامت السلطات الهولندية بتنظيم حملتين في تموز 1947، وكانون الأول 1948، وقصفت جاكرتة واحتلتها ونفت سوكارنو ورفاقه. وفي عام 1949، أقامت الحكومة الهولندية اتحاداً يتألف من ست دول وتسعة أقاليم خاصة، تتمتع فيه بالسلطة الفعلية. لكن المعارضة السلمية للسكان والمعارضة المسلحة للقوات العسكرية الجمهورية، وضغط الأمم المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية، اضطرت هولندة للاعتراف باستقلال «الولايات المتحدة الإندونيسية» برئاسة سوكارنو في 12آب 1950، و تم إعلان دستور «الجمهورية الإندونيسية المتحدة».
4ـ من التجربة الديمقراطية على النمط الأوربي إلى نظام «الديمقراطية الموجهة»: احتفظت إندونيسية بعلاقات اقتصادية وثيقة مع هولندة في نطاق «الاتحاد الهولندي – الإندونيسي». واستمرت في الاحتفاظ بهذه العلاقات بعد إلغائه (1954)، وعاشت إندونيسية تجربة برلمانية ديمقراطية على النمط الغربي (1950 - 1957). واجهت الحكومة إبانها قيام حركات انفصالية بقيادة بعض الزعماء المسلمين المتشدّدين (كارتوز وفيرجو Kartosuwirjo) في غربي جاوة؛ وقهار مُذّكر في سولاويسي؛ وداود بورويه Beureeh في أتجه، وكانت تلك الحركات تهدف إلى تنظيم المجتمع بحسب الشريعة الإسلامية. في حين أدى تمسك هولندة بإيريان الغربية إلى تدهور العلاقات الإندونيسية - الهولندية. وتبنى سوكارنو سياسة مناهضة للامبريالية، وانضم ببلاده إلى حركة عدم الانحياز عام 1955.
ولكن الحركة العسكرية في سومطرة، ثم في سولاويسي، التي نظمها بعض الضباط المؤيدين للدول الغربية للاحتجاج على سياسة سوكارنو اليسارية، وتقديم الوزراء المحافظين ونائب الرئيس استقالاتهم، كل أولئك دفع سوكارنو إلى إلغاء النظام البرلماني وتبني ما أسماه نظام «الديمقراطية الموجهة» (Démocratie dirigée (1963- 1957. وهو نظام جمهوري رئاسي يحتكر الرئيس فيه جميع السلطات.
ولمّا رفضت الأمم المتحدة تبني قرار بإعادة إيريان الغربية إلى إندونيسية (1957)، قرر سوكارنو مصادرة الممتلكات الهولندية في إندونيسية وطرد الرعايا الهولنديين منها. من جهة أخرى، أشرك سوكارنو الشيوعيين في الحكومة، وشددت إندونيسية من موقفها المعادي للغرب، ونظمت حملة عنيفة لاستعادة إيريان مما اضطر هولندة للانسحاب منها وإعادتها لإندونيسية (1963).
ورأى سوكارنو في إعلان بريطانية إقامة دولة ماليزية عملاً عدائياً تجاه إندونيسية ونوعاً من الاستعمار الجديد، فتبنى سياسة المواجهة وأعلن انسحاب إندونيسية من الأمم المتحدة (1965).
5ـ العودة إلى النظام الليبرالي (1965): على أثر التدهور الشديد للأوضاع الاقتصادية والمالية قام الجيش بقيادة المقدم أوتونغ Utung بانقلاب عسكري في ليل الأول من تشرين الأول 1965 وأعلن تأليف مجلس ثوري وطني. وفي اليوم التالي استولى المقدم محمد سوهارتو على السلطة، وشهدت البلاد في بداية عهده مذبحة للشيوعيين. وفرض الإقامة الجبرية على سوكارنو (1967) حتى وفاته (1970)، وفي عام 1966 أعلن الجنرال سوهارتو قيام «نظام جديد» برئاسته. وبدءاً من 27 آذار 1968 أصبح رئيساً للجمهورية. وسوهارتو من أنصار النظام الرأسمالي ومن ألد أعداء الشيوعيين الصينيين (وهم أكثر من ثلاثة ملايين في إندونيسية). ومنذ بداية عهده أخذ يعمل على إعادة بناء نظام اقتصادي رأسمالي وأنهى «سياسة المواجهة» مع ماليزية. وقرر عودة إندونيسية إلى الأمم المتحدة. كما نهج سياسة الوفاق والتعاون مع أسترالية والدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية. وكان لإندونيسية دور مهم في تأسيس منظمة جنوب شرقي آسيا ASEAN للتعاون الاقتصادي، التي اتخذت من جاكرتة مقراً لها.
وفي عام 1998 عمت إندونيسية اضطرابات عنيفة طالبت بإصلاحات سياسية واقتصادية وبمزيد من الحرية والديمقراطية، كما طالبت بإنهاء الحكم الدكتاتوري وتنحي سوهارتو عن الحكم متهمة إياه بالفساد والاستبداد. وقد أسهم في اندلاع هذه الاضطرابات انهيار أسواق المال الآسيوية ومنها السوق الإندونيسية والتدهور الاقتصادي الذي لحق البلاد بسببها، وكذلك الحرائق المدمرة التي أصابت الغابات. وفي 21 أيار عام 1998 اضطر سوهارتو للاستقالة تاركاً السلطة لنائبه يوسف حبيبي. وجرت انتخابات حرة فاز فيها حزب النضال الثوري بزعامة ميغاواتي ابنة الرئيس السابق سوكارنو. وفي 20 تشرين الأول 1999 انتخب عبد الرحمن وحيد رئيساً لإندونيسية وميغاواتي نائبة له. وبدأت سلسلة من الإصلاحات السياسية والاقتصادية وحملة لمكافحة الفساد ومحاسبة أنصار النظام السابق وعلى رأسهم سوهارتو وأفراد أسرته.
وفي خضم هذه الاضطرابات نشطت بعض الحركات الانفصالية بدعم خارجي تطالب بالاستقلال، وجرت حوادث دامية في إقليم تيمور الشرقية أدت إلى تدخل عسكري دولي وإجراء استفتاء تحت إشراف الأمم المتحدة نجم عنه استقلال الإقليم عن إندونيسية 4/9/1999. تبعها محاولات انفصالية واضطرابات في أقاليم مختلفة في سومطرة وغيرها عام 2000 – 2001.
صباح كعدان
Indonesia - Indonésie
تاريخ إندونيسية
ظهر اصطلاح «إندونيسية» في أوربة في أواخر القرن التاسع عشر، وبدأ القادة الوطنيون في جاوة استخدامه عام 1928م، وأصبح يطلق رسمياً عام 1942م على ما عرف في القرنين التاسع عشر والعشرين باسم «الهند الهولندية».
الأعراق القديمة: إذا استُثنيت قبائل البابوا في جزيرة غينية الجديدة الغربية أو إيريان الغربية وفي جزيرة هلمهيرة Halmahera وجزر الملوك، وفي فلوريس في جزر الصوند الصغرى، والبقايا المتفرقة من شعب فيدي، فإن الغالبية العظمى من سكان إندونيسية تنتسب إلى المجموعة العرقية الكبيرة الملاوية - البولينيزية.
العلاقات الحضارية:
أ ـ مع رومة: يبدو أن جزر الأرخبيل الإندونيسي كان لها علاقات تجارية مع الامبراطورية الرومانية في العصور القديمة. إذ يذكر بلينيوس أن بعض جزر هذا الأرخبيل كانت تصدر الفلفل والقرنفل وجوز الطيب إلى رومة عن طريق البحر في عهد الامبراطور أُغسطس (29ق.م - 14م). ويذكر بطلميوس في كتابه «تقويم البلدان» مجموعة من الأسماء في الأرخبيل مثل مرفأ «بنسور» في بارو Baros الذي كان يُصدر منه كافور سومطرة، و«بتك» شمالي سومطرة.
ب - مع الهند: إن المصادر المكتوبة التي يبدأ معها تاريخ إندونيسية، وتعود إلى ما بين القرنين الخامس والخامس عشر للميلاد، تشهد على التأثير القوي الذي مارسته الهند على الأرخبيل في مختلف مجالات الحياة في هذه الحقبة. يدل على ذلك إدخال الكتابة إلى الأرخبيل عن طريق الهند باستخدام اللغة السنسكريتية أو أبجديات مشتقة من الأبجديات الهندوسية كتلك التي استخدمها «بتك» سومطرة، وأهالي بالي، والمكسار والبوغيون في جنوب سولاويسي، وما استلهم الأدب الإندونيسي من الملاحم الهندية، وانتشار الديانات الهندية كالسيفية والبوذية والبراهمانية والمهايانا وقيام الممالك الاستبدادية وتقسيم المجتمع إلى طوائف، ولهذا أطلق المؤرخون الهولنديون على ممالك هذه الحقبة اسم «الممالك المهنَّدة».
ممالك إندونيسية:
1ـ الممالك المهنّدة وتأثير البوذية:
امبراطورية سريفجاية Srivijaya البوذية (ق7ـ13م) تأسست مملكة سريفجاية الساحلية حول مدينة باليمبانغ في الجنوب الشرقي من جزيرة سومطرة وقد تضافرت جملة من العوامل على نهوضها: موقعها بين مضيقي الصوند وملقة حيث كانت ترسو السفن التجارية القادمة من الصين، والنشاط التجاري بين الصين (في عهد أسرة تانغ 617 - 907م) وبحار الجنوب والهند، والأوضاع الاقتصادية العالمية، وغنى المملكة. كل ذلك جعلها تبسط سلطانها على الملايو وإقليم جامبي Jambi وغربي جاوة في نهاية القرن السابع الميلادي.
وفي عام 775، أخضعت ليغور Ligore (ناخون Nakhon اليوم) في أرخبيل الملايو لسلطانها. وبفضل سيطرتها على مضيقي الصوند وملقة، وعلى أرخبيل الملايو حتى برزخ كرا Kra، هيمنت على التجارة البحرية في المنطقة لستة قرون. وكان لتجارها وكالات تجارية في كانتون Canton = Guangzhou وسواتو Swatow = Shantou في الصين، ونالندة في البنغال وعلى سواحل كوروماندل (شرقي الهند).
ومع أن بعض الممالك التابعة لها قد استعادت حريتها (مثل كامب Kampe وملايو في القرن الحادي عشر، وليغور 1230م) فإن المملكة كانت تؤلف في القرن الثالث عشر امبراطورية كبيرة تحظى باحترام خمس عشرة دولة تقع بين جاوة، وجنوب شرقي باندون Bandon (سورات تاني Surat Thani اليوم ) في تايلاند، إلا أن توسع الجاويين والسياميين معاً سلبها السيطرة على المضايق وأدى من ثم إلى تدمير اقتصادها.
2ـ الممالك الجاوية (ق7ـ14م):
مملكة ماترام Mataram: قامت هذه المملكة في وسط جاوة في المدة ما بين القرن السابع وبداية القرن العاشر وتعاقب على عرشها سلالتان: السلالة الصنجية السيفية والسلالة السلاندرية البوذية. وقد شيدت السلالة الأولى سنة 772م معبد بارابودور كما شيدت السلالة الثانية معابد برامبانن Prambanan البوذية العظيمة في مدة حكمها الثانية بداية القرن 10م. وهي أضخم تعبير فني عن العبقرية الإندونيسية في التوفيق بين بيئتها وتقاليدها ونماذج الهندسة المعمارية الهندية.
في عام 929م، أدت كارثة، لم تعرف ما هي، إلى انتقال عاصمة المملكة إلى وادي برانتاس Brantas في شرقي الجزيرة. وفي 1016م، شنت مملكة سريفجاية هجوماً على مملكة ماترام وهدمت عاصمتها. ولكن أعيد بناء المملكة في عهد الملك إيرلنغاAirlanga (1019- 1049م). واحتلت جزيرة بالي. وقد استفاد إيرلنغا من ضعف مملكة سريفجاية في إعادة توحيد وسط جزيرة جاوة وشرقيها. وأسهم الأمن والاستقرار وجهود إيرلنغا في إعادة بناء اقتصاد المملكة بسرعة. وازدهرت المبادلات التجارية في عهده مع شرقي إندونيسية وسومطرة والهند الصينية. وشهدت المملكة ازدهار الأدب فيها. بعد وفاة إيرلنغا، قسمت المملكة إلى إمارتين، جنغالا Djanggala وكيدري Kediri. وفي 1077، أعادت مملكة كيدري للامبراطورية وحدتها وشهدت ازدهار التجارة والأدب. وفي عام 1222، قضى ملك سينغازاري Singasari )مالنغ Malang اليوم) على مملكة كيدري. وقد وسّع كيرتنغارا Kertanegara )1268ـ1292) آخر ملوك كيدري مملكته إذ ضم مادورة وجزيرة بالي وصوند. وأصبحت جاوة كلها تخضع للمرة الأولى لسلطة واحدة.
3ـ امبراطورية مجابهيت Majapahit (1293-1520م): رفض كيرتنغارا ملك سنغازاري تقديم الولاء لامبراطور الصين المغولي قُبلاي خان، فأرسل الامبراطور المغولي جيشاً لتأديبه في وقت شهدت فيه المملكة انتفاضة قُتل فيها كيرتنغارا، واستطاع خلفه فيجايا استخدام القوات الصينية بمهارة للقضاء على هذه الانتفاضة. ثم انقلب على هذه القوات وتوج ملكاً في مدينة مجابهيت في وادي برانتاس الأدنى (1293م). وسرعان ما أصبحت مجابهيت مركزاً لامبراطورية جاوة الموحدة. وفي عهد الملك العظيم راجاساناغارا Rajasanagara (1350- 1389م) ووزيره غاجاه مادا (1331 - 1364) عرفت مجابهيت نهضة عظيمة، وأصبحت مركزاً لشبكة تجارية مهمة في الأرخبيل. وفي نهاية القرن الرابع عشر، كانت مجابهيت تفرض سلطانها على الجزر كافة التي تتألف منها إندونيسية الحالية إضافة إلى أرخبيل الملايو حتى كيدة. ويبدو أن العلاقات بين مجابهيت وهذه الجزر كانت تجارية أكثر منها سياسية. ومهما يكن من أمر فإن أهمية الجزر التابعة لها تكمن في مدلولها السياسي الذي يعبر عنه وجود تصور لوحدة «جيو - سياسية» لجزر الأرخبيل آنذاك. كما كانت مجابهيت تقيم علاقات تجارية مع الصين والهند المسلمة.
وبدءاً من نهاية القرن الرابع عشر، أخذت هيمنة مجابهيت والعقيدة التوليفية الهندوسية - البوذية التي كانت مذهباً للامبراطورية تأفلان بتأثير الإسلام وازدهار التجارة في مرافئ سومطرة وأرخبيل الملايو. وفي 1520، سقطت الامبراطورية تحت ضربات تحالف قاده ملك ديماك «روان بتاه».
الإسلام في إندونيسية:
1ـ انتشار الإسلام: إن بداية انتشار الدين الإسلامي في جزر الأرخبيل الإندونيسي غير معروفة على وجه التحقيق. وما يعرف عن ذلك مصدره بعض كتب الرحالة والجغرافيين الصينيين والعرب والغربيين الذين زاروا بعض جزر الأرخبيل (ابن بطوطة، ماركو بولو، وغيرهما).
ومع أن العرب كانوا يتاجرون مع آسيا الجنوبية منذ العصور القديمة، وأن كتابات الرحالة والجغرافيين العرب حول الهند الصينية وأرخبيل الملايو أصبحت غزيرة منذ القرن التاسع للميلاد، فإن الإسلام لم ينتشر في جنوب شرقي آسيا إلا في القرن الثالث عشر. ويبدو أن الفضل في انتشار الإسلام في جزر الأرخبيل الإندونيسي يعود إلى تجار الهند المسلمين أكثر مما يعود إلى التجار العرب المسلمين (عرب حضرموت). ومردّ ذلك إلى كثرة التجار الهنود. كما أن العقيدتين البراهمانية والبوذية كانتا تؤثران تأثيراً عظيماً في سكان الأرخبيل، مما يجعل الإندونيسيين أكثر تقبلاً للإسلام القادم من الهند.
انتشر الإسلام في إندونيسية تدريجياً وسلمياً، وعلى طول الطرق التجارية البحرية أولاً، ثم انتقل من الشواطئ إلى الداخل والمرتفعات الجبلية. وقد ساعدت عدة عوامل على اتساع انتشار الإسلام في جزر الأرخبيل (إلا بالي): الطبيعة السلمية لانتشاره عن طريق التجار المسلمين، وزواج الكثيرين منهم بعض نساء البلاد، وتحسن حال السكان المحليين بدخولهم في دين المسلمين من أصحاب النفوذ، وسماحة الإسلام، والمنافسة التجارية والسياسية بين الدول الغربية.
2ـ الممالك الإسلامية: دخل الإسلام الأرخبيل الإندونيسي من الجهة الشمالية الغربية في القرن الثالث عشر للميلاد. ثم أخذ ينتشر باتجاه شرقي الأرخبيل ووسطه. وكان الموطن الأول لانتشاره ممالك شمالي سومطرة (لاموري، بيرلاك، باسي أوبازه) وفي 1420 أصبحت ملقة، في أرخبيل الملايو، مملكة إسلامية ما لبثت أن عرفت نهضة سريعة بعد إعادة فتح الصين للطريق البحري بينها وبين البحر الأحمر، فقد بسطت نفوذها على جانبي مضيق ملقة. وأخذت تفرض رقابتها على المضيق والسفن ومصادر التموين الملاوية كالأرز والذهب والقصدير التي تعبر هذا المضيق. وفي نهاية القرن الخامس عشر، أصبحت ملقة الدولة التجارية والسياسية الأولى في المنطقة، ومنها انتقل الإسلام نحو الشرق، فدخل مملكة ترناتة في جزر المُلُوك بدءاً من النصف الأول للقرن الخامس عشر، ومملكة تيدورة في النصف الثاني منه. ومن ملقة أيضاً انتقل الإسلام إلى الساحل الشمالي من جاوة على يد تجار مسلمين جاويين وكجراتيين وعرب، وشهد منتصف القرن الخامس عشر ظهور عدد من السلطنات الإسلامية الصغيرة في جاوة مثل جبرة Japara، وسورابايا، وتوبان، وغريسيك Gresik. كما شهدت الحقبة نفسها تزايد المسلمين من أهل البلاد، بفضل المهاجرين وإقامة ولايات صغيرة على الشاطئ سرعان ما حاولت أن تقبض على زمام الأمور في شرقي جاوة.
وفي القرن السادس عشر، بعد أن قضى تحالف لسلاطين الممالك الساحلية يتزعمه ملك ديماك، على امبراطورية مجابهيت (1520)، برزت في جاوة عدة ممالك إسلامية هي غريسيك وتوبان في الشرق، وديماك (نحو 1540) وتشيربون Tjrebon في الشمال، وبانتن Banten (1568)، أو بانتم Bantem في الغرب، التي سرعان ما بسطت نفوذها على بلاد الصوند، وعلى لامبونغ Lampung في سومطرة، وباجنغ Pajang في وسط جاوة.
وتقول الرواية المحلية إن «جاوة دخلت في الإسلام بجهود ثمانية أو تسعة من أولياء الله». أصبح كل منهم يحمل لقب التشريف «سنن» (سوسوهن) ويطلق مسلمو الجزيرة على هؤلاء الأولياء أسماء الأماكن التي نشروا فيها الإسلام أو دفنوا فيها. منهم مالك إبراهيم سنن غريسيك، ويلقب أيضاً بمولانا المغربي (1419)، ورادن رحمت سنن أمبيل (1470)، وسنن بوننغ Bonang، ورادن باكو سنن جيري Giri، وسنن كننج جاتي.
وتقول بعض المصادر البرتغالية إن الفضل في تأسيس أول مملكة إسلامية في الجزء الغربي من جاوة يعود إلى سنن كننج جاتي. وهو بازي الأصل ذهب عام 1521 إلى مكة المكرمة، حيث أمضى ثلاث سنوات في الدرس والتحصيل في علوم الدين. عاد بعدها إلى جبرة، وأخذ بالدعوة للدين الإسلامي فيها، وتزوج أخت ملك ديماك. ومن ديماك انتقل إلى بانتن في غربي جاوة، فأدخل أميرها في الإسلام واكتسب فيها سلطاناً سياسياً. وفي 1527 نجح في انتزاع مدينة سنده كُلبه (بتافية الحديثة) من ملك بجاجران Pajajaran. وفي عام 1546، انتقل سنن كننج إلى تشيربون. ومن المرجح أنه توفي فيها نحو 1570. كما شهد القرن السادس عشر توطد الإسلام في سلطنة أتشه وتعاظم نفوذها بذلك. وتأسست سلطنتا بروني Brunei وبنجرماسين Banjarmasin المسلمتان في شمالي جزيرة كليمنتان وجنوبيها على التوالي، كما انتقل الإسلام من باليمانغ إلى سوكدانغ Sukadang ثم غربي الجزيرة. وفي 1590 اعتلى عرش سوكدانغ أول أمير مسلم، كيري كُسُمه، وفي النصف الثاني من القرن السادس عشر، بدأ الإسلام ينتشر في جزيرة سولاويسي عن طريق سلطنة ترناتة. وكان أول أمير من غووا Gowa أو غوا Coa دخل في الإسلام هو السلطان علاء الدين (1603)، وبقي في الحكم حتى 1639. وسرعان ما انتشر الإسلام بين شعوب المكسار والشعوب البوغينية التي تقيم في جنوبي سولاويسي.
وفي القرن السابع عشر، بلغت سلطنة أتشه أوج عظمتها، كما ازدهرت سلطنة مكسار بعد أن أصبحت في زهاء نصف قرن، ملتقى دولياً للطرق التجارية في الأرخبيل. فمنذ مطلع هذا القرن أخذ أمراء جنوب جزيرة سولاويسي يدخلون في الإسلام. واستطاع سلاطين مكسار فرض سلطانهم على الأمراء الآخرين في جنوبي الجزيرة. وبعد أن طرد الهولنديون البرتغاليين من ترناتة وأمبوان ثم من ملقة (1641)، نقل البرتغاليون نشاطهم التجاري إلى مكسار. مما نشط الحركة التجارية في السلطنة. وساعد على تحولها إلى مركز ثقافي مهم. يشهد على ذلك مكتبة السلطان باتينغا لوانغ Patinggaloang الغنية بالخرائط والكتب اللاتينية والإسبانية والبرتغالية التي أثارت إعجاب الأوربيين. وفي حين توسعت مملكة ماترام التي أسسها السلطان سينابتي Senapati (1582- 1601) في وسط جزيرة جاوة، حتى إنها أصبحت تشكل أقوى دولة في الجزيرة في القرن السابع عشر.
فقد عمل سلطانها أغنغ Agung «السلطان العظيم» (1613 - 1645) على إعادة عظمة امبراطورية مجابهيت. وقام ببناء المساجد الكبيرة. ونجح في بسط سلطان ماترام على موانئ بازيزير Pasisir وشرقي جاوة ومادورة وجزيرة بالي. كما أقام علاقات مع سلاطين جزيرتي كليمنتان وسومطرة. وجهز حملتين عسكريتين (1628 - 1629م) لطرد الهولنديين من بتافية. إلا أن جهوده لم تكلل بالنجاح.
أكثر الإندونيسيين من أهل السنة على المذهب الشافعي. وهم ميالون إلى التصوف وكانت الطريقة الشكارية أكثر الطرق الصوفية انتشاراً بين الإندونيسيين في القرنين السادس عشر والسابع عشر إلى جانب الطرق القادرية والنقشبندية والشاذلية التي ازداد أنصارها بعدئذ، كما أخذ يتردد على جزر الأرخبيل من وقت لآخر علماء مبرزون من العرب من أهل مكة والمدينة، ويزورون بلاط الأمراء، وقد يمكثون هناك طويلاً، كما يمكن تلمس أثر الشيعة بين الإندونيسيين، وتنتشر بينهم عادة تبجيل الأولياء وتقديم النذور لهم والتبرك بهم.
أثر الإسلام: كان للإسلام وما يزال تأثير عظيم في مناحي الحياة كافة في إندونيسية. ففي المجال الديني، أدى انتشار الإسلام إلى القضاء التدريجي على الديانات الهندية التي غلبت على جزر الأرخبيل بين القرنين الخامس والخامس عشر للميلاد. كما أدى إلى إحداث ثورة روحية بين الإندونيسيين. وأصبح المسجد مركزاً دينياً يبسط منه الإسلام تأثيره في حياة الشعب بأكمله. وتطبق الشريعة الإسلامية على قانون الأسرة، وقد حال الإسلام دون توسع انتشار المسيحية. ففي حين يؤلف المسلمون نحو 90% من سكان الجزر، فإن النصارى يمثلون 3.5% والهندوسيون 2% والباقي بوذيون أو من الديانات الوثنية والأرواحية.
وفي مجال الفن، أدى انتشار الإسلام إلى خمول أشكال الفنون التي ازدهرت من الاحتكاك الحميم لشعوب الأرخبيل بالثقافة الهندوسية. فقد تخلى الإندونيسيون عن بناء المعابد. في حين أخذ بناء المساجد الجامعة يتزايد في جزر الأرخبيل إلى جانب المساجد الصغيرة.
أما في المجال الاجتماعي فقد أدى انتشار الإسلام في الأرخبيل إلى زوال نظام الطوائف وانتشار مبدأ المساواة بين أبناء المجتمع. كما أدخل نمط حياة جديداً في المجتمع الإندونيسي، وأصبح عاملاً رئيسياً أسهم في توحيد المجتمع الإندونيسي وتماسكه.
وفي المجال التربوي، قدم الإسلام إلى أجزاء مهمة من الأرخبيل أنماطاً عدة للنظام التربوي الإسلامي مدة طويلة. فقد شمل هذا النظام مستويات التعليم كافة من الابتدائي حتى الجامعي. وكان على من يرغب في التعليم الأعلى أن يقصد مكة أو القاهرة. وفي الحواضر الإندونيسية الكبرى، كانت الشهرة العظيمة للفقهاء تجتذب الكثير من طلاب الدراسات الدينية الشبان من أنحاء شتى من جزر الأرخبيل. وكان الأمراء والسلاطين يشجعون الدراسات الدينية بإعفاء قرى كثيرة من الضرائب وغيرها. وأنشئت معاهد خاصة بالدراسات الدينية، يتلقى الطلاب فيها العلوم الإسلامية من أصول الدين وطرق صوفية وحديث وتفسير وأصول الفقه. وكانت الكتب التي تدرّس في هذه المؤسسات كتباً عربية أو مترجمة إلى اللغة الملاوية. وكان أسمى ما يطمح إليه طالب العلم متابعة تحصيله الدراسي في مكة المكرمة. كما تأسست في شمالي سومطرة وفي جاوة عدة مدارس صوفية.
وفي مجال الأدب نشأ أدب إسلامي رفيع متأثر بالمعاني الدينية. ثم ما لبث بعض الإندونيسيين الذين تلقوا العلوم الإسلامية في مكة أن قاموا بتأليف ما تلقوه باللغة المحلية. وبدأ الأدب الإسلامي يشق لنفسه طريقاً بحلوله محل الأشكال الأدبية السابقة كما في أدب جاوة ومكسار. ففي أدب مكسار مثلاً، كان تأثير الأدب الإسلامي شديداً حتى إن اللغة العربية استخدمت في كتابته. وأكثر ما يظهر تأثير الأدب الإسلامي واضحاً في الأدب المكتوب باللغتين الاتشهينزية والملاوية. ففي ثلاثة قرون على الأقل (أوائل ق17 - أوائل ق20) ازدهر في اللغات المحلية تراث مكتوب يتعلق بموضوعات إسلامية من تفسير وفقه وكلام. وأسهم تطور حركة التحديث وظهور المنظمات والأحزاب الإسلامية في تزايد إنتاج الأدب الإسلامي. ويظهر تأثير الإسلام أيضاً في الأدب الإندونيسي المعاصر.
وفي مجال اللغة استخدمت بعض اللغات الإندونيسية (بعض لغات سومطرة واللغة الجاوية) الأبجدية العربية في كتابة هذه اللغات. وأخذ الكثير من المفردات العربية ولاسيما المصطلحات الفنية المتعلقة باللغة والفلسفة والدين وبعض الألفاظ العامة. وتعدّ اللغة الملاوية في أكثر اللغات الإندونيسية تأثراً باللغة العربية. ففي البداية استخدمت الأبجدية العربية لكتابتها، ودخل إليها غير قليل من المفردات العربية. أما اليوم فقد استبدلت بالأبجدية العربية الأبجدية اللاتينية في جميع اللغات التي كانت تكتب بها، إلا اللغة الجاوية (الآخذة بالاتجاه القائل باستعمال اللاتينية).
وفي المجال السياسي كان تأثير الإسلام عظيماً حتى إنه أصبح أداة نضال سياسية وروحية للمدن الساحلية التجارية الدولية في الأرخبيل الإندونيسي. إذ أصبح الإسلام ديناً يوحد بين تجار هذه المدن وملوكها، وعاملاً أساسياً في النضال الذي قادته لمحاربة السلطة المركزية لامبراطورية مجابهيت الهندوسية، وتأسيس الإمارات والسلطنات الإسلامية في القرنين السادس عشر والسابع عشر. وأصبح حكامها يحملون لقب السلطان أو الخليفة. كما أصبح قصر السلطان المركز الطبيعي للحياة السياسية والثقافية والاجتماعية، فحوله تبنى الأرباض وتؤلف توابع له. وفيه تحفظ المخطوطات الخاصة بحكم السلاطين، ويقيم أمهر الحرفيين وأكبر الفرق الموسيقية وأفضل فرق الراقصات، والكتاب الرسميون الذين يقومون بكتابة التاريخ الحولي.
من جهة أخرى أصبح الإسلام أداة نضال سياسية لمحاربة الاستعمار البرتغالي والتوغل الاستعماري الهولندي في جزر الأرخبيل. فقد دعمت الطرق الصوفية الثورة التي كانت تندلع من حين لآخر معارضةً للحكم الاستعماري. وكان الإسلام عنصراً رئيسياً من عناصر انبثاق الوعي بالذات الإندونيسية. والعامل الأول في توحيد الأمة والدولة الإندونيسية وله أثر مهم في ظهور المنظمات والأحزاب السياسية الإسلامية المناهضة للنظام الاستعماري الهولندي.
الاستعمار الهولندي: بدأ التدخل الأوربي في جزر الأرخبيل الإندونيسي مع احتلال البرتغال لملقة (1511) للسيطرة على تجارة التوابل. ثم دخل أوربيون جدد حلبة المنافسة، فبلغ الإنكليز ترناتة (1579)، والهولنديون بانتن (1596). لكن استقرار الأوربيين في الموانئ والمناطق الساحلية واقتصار نشاطهم عليها أكثر من قرنين لم يكن له تأثير مهم في بنية المجتمعات في الأرخبيل ولم يؤدِ إلى تغيير الوضع الاقتصادي فيه. فأوربة التي اتجهت إلى الميركنتيلية لم يكن لديها ما تبيعه لسكانه. وما كان يبحث عنه الأوربيون هو التوابل والسيطرة على طرق تجارتها بفضل عدد محدود من القواعد الاستراتيجية. مما جعل البرتغال عاجزة عن بناء امبراطورية آسيوية بثلاث قواعد استراتيجية هي غوا وملقة ومكاو، لهذا لم يكن القرن السادس عشر «قرن البرتغال» في آسيا كما لم يكن القرن السابع عشر «قرن الهولنديين».
وقد تمثل العنصر الجديد الوحيد في آسيا بالحرب الشعواء التي قادها البرتغاليون والإسبان على الإسلام.
سعت شركة الهند الشرقية الهولندية بعد تأسيسها (1602) إلى القضاء على منافسيها من الأوربيين في الأرخبيل قضاءً عنيفاً. وعلى الرغم من احتلال الشركة لجاكرتة وتأسيس بتافية (1619)، وإخراج البرتغال، آخر منافسيها باحتلال ملقة (1641)، لم تصبح الشركة القوة الإقليمية أو الاقتصادية الأولى في المنطقة، لأنها لم تكن تسيطر إلا على بعض القواعد الصغيرة في جاوة وسومطرة والمُلُوك وأرخبيل الملايو. كما كانت حصتها في تجارة الأرخبيل الإندونيسي قليلة، إلا أن الشركة استطاعت فيما بين 1641 - 1799م أن تفرض احتكارها للتجارة الخارجية على ممالك الأرخبيل وإماراته، وتعاظمت قوتها من إضعاف هذه الممالك وتفرقها على الرغم من المقاومة البطولية لسكانها. ومع ذلك فقد كانت الشركة تمر في نهاية القرن الثامن عشر، بأزمة مالية عصيبة بسبب النفقات العسكرية البيروقراطية الباهظة والرشوة مما أجبرها على تسليم ممتلكاتها مع ديونها إلى الحكومة الهولندية سنة 1800م.
على أثر حروب نابليون في أوربة، وضم هولندة للامبراطورية، انتقلت الممتلكات الهولندية في الأرخبيل إلى فرنسة (1810). وفي آب 1811، احتل الإنكليز بتافية في جاكرتة، وطردوا الهولنديين من جاوة. وتميز الحكم الإنكليزي (1811 - 1816) بالعودة إلى حرية الزراعة والتجارة. وبموجب معاهدة فيينة، عادت جاوة إلى هولندة (1816). ولم تتمكن هولندة من فرض سلطانها على جزر الأرخبيل كافة إلا في بداية القرن العشرين.
واجه التوغل الاستعماري الكثير من الثورات والانتفاضات وحركات المقاومة الوطنية العنيفة للسكان المحليين، وخاصة في الممالك الإسلامية، مما أقلق بشدة السلطات الاستعمارية. فبين 1810 و1830 مثلاً، قامت عدة ثورات في باليمبانغ (1812و1819و1821) وثورة بدري Padri في مننغكابو (1815 - 1824) في جزيرة سومطرة، وثورة جزر المُلُوك (1817)، وانتفاضة جاكرتة بقيادة أميرها ديبونيغورDiponegoro (1825- 1830). وبعد عزم الإدارة الهولندية فرض الحكم المباشر على الممالك والإمارات المتمتعة بالحكم الذاتي، شهدت المدة فيما بين 1870-1903 حروباً وثورات متعددة جديدة.
ولم تتمكن هولندة من إخضاع مملكة آتشه إلا بعد حرب دامت ثلاثين عاماً (1873 - 1908)؛ كما لم تستطع فرض سلطانها على سلطنة جامبي إلا في 1906؛ وفرضت سلطتها على ملك الباتاك سينغا منغراجا Singa mangaradja في 1907 في سومطرة. كما لم يتم إخضاع جزيرة بالي وفلوريس في جزر الصوند الصغرى إلا في 1908.
بعد السياسة الاقتصادية الاحتكارية لشركة الهند الشرقية الهولندية التي استمرت حتى نهاية القرن الثامن عشر تبنت الحكومة الاستعمارية الهولندية سياسة احتكار الدولة لـ «نظام الزراعات» الإجبارية (1830-1870) ثم ألغي هذا النظام تدريجياً بين 1870 و1918 لمصلحة نظام المزارع الرأسمالية الخاصة، وابتداء من 1902، تبنت الإدارة الاستعمارية «السياسة الخلقية» la voie morale أو la voie ethique، ومؤداها أن تساعد الحكومة على تنمية ثروات إندونيسية بوساطة شركات رأسمالية يشارك فيها الإندونيسيون، وأن تقوم الإدارة الاستعمارية بحمايتهم من الاستغلال، إلا أن هذه السياسات لم تفلح في تحسين مستوى معيشة الإندونيسيين، بل أدت أيضاً إلى التدهور المستمر في وضعهم الاقتصادي وانخفاض مستواهم المعاشي. هذا عدا الاضطهاد السياسي والثقافي والاجتماعي وتخلف إندونيسية على كل الصعد.
منذ بداية القرن العشرين، بدأت طبقات اجتماعية إندونيسية جديدة من برجوازية عقارية أو تجارية تظهر، ونخبة المثقفين والموظفين، وطبقة عاملة تتكون من عمال المزارع والمناجم. وسرعان ما وعت هذه الطبقات، ولاسيما النخبة المثقفة، تناقضات النظام الاستعماري، كما أن إخفاق الثورات والمقاومة الوطنية في الوقوف في وجه السيطرة الاستعمارية والاستغلال الاقتصادي جعل هذه النخبة تدرك أن القضاء على النظام الاستعماري يقتضي تعرّف سر تفوق الغرب ومحاربته بطرقه ووسائله وأسلحته نفسها. كما أن الإسلام السمح والمنفتح على الأفكار العصرية السائدة في إندونيسية، وبقاء الأوساط الإسلامية على اتصال مستمر مع العالم الخارجي (التجارة والحج)، وعدّها الإسلام ديناً ونوعاً من الهوية القومية كل أولئك جعل هذه الأوساط تفعل فعلها في توعية الإندونيسيين بهويتهم الثقافية والقومية، وفي ظهور الوعي القومي في إندونيسية.
الحركة الوطنية:
1ـ بدايات الحركة الوطنية: شهدت بداية القرن العشرين ظهور بعض الحركات الثقافية الحديثة (البودي أو تومو 1908) والاقتصادية (ساريكات إسلام 1911) والدينية (المحمدية 1912) وألّفت هذه التجمعات نواة للأحزاب السياسية التي تأسست بعد الحرب العالمية الأولى، وتولت قيادة الحركة الوطنية في إندونيسية. فبعد الحرب، تحولت «ساريكات إسلام» إلى حزب سياسي، ضم 2.5 مليون عضو في 1919، سرعان ما أخذ يطالب بالاستقلال. وتأسس الحزب الشيوعي الإندونيسي (1920)، الذي سرعان ما نظم الثورة (1926) لتأسيس الجمهورية الإندونيسية السوفييتية. إلا أن عمليات القمع التي نظمتها الإدارة الاستعمارية والقضاء على الكثير من أعضائه أو تشتيتهم ألجأه إلى العمل السري (1927). وبمبادرة من أعضاء رابطة الطلاب الإندونيسيين في هولندة، تأسس الحزب الوطني الإندونيسي بزعامة أحمد سوكارنو (1927) للنضال من أجل استقلال إندونيسية السياسي والاقتصادي، إلا أن الإدارة الاستعمارية شعرت بسرعة بخطر الحركة الوطنية. فنفت سوكارنو وبعض قادة الحركة الوطنية إلى فلوريس (1927) مما ألجأ رفاقه إلى العمل السري.
أسهمت بعض الإجراءات التي اتخذها المحتل الياباني (1942ـ1945) مثل حظر اللغة الهولندية، وعودة الزعماء الوطنيين وعلى رأسهم سوكارنو، والسماح بنوع من النشاط السياسي، في تزايد قوة الشعور المعادي لهولندة لدى الجماهير وفي تصعيد الحركة الوطنية. فرفعوا لأول مرة العلم الإندونيسي ورددوا النشيد الوطني، ونُظمت حركات المقاومة السرية، واستخدم القادة الوطنيون منظمة «مركز السلطة الشعبية» (وهي تنظيم أسسه اليابانيون لتجنيد الموارد الإندونيسية والإندونيسيين في الحرب) لإعادة الصلة بين قادة الحركة الوطنية والجماهير والتعريف بأنفسهم، وكذلك عززوا الروح الوطنية بين أفراد جيش المدافعين المتطوعين، وناهضوا به الهولنديين والامبريالية.
2ـ إعلان استقلال إندونيسية في نيسان 1945: وافق اليابانيون على تأليف «لجنة تحقيق لإعداد الاستقلال». درست هذه اللجنة المبادئ التي ستقوم عليها الدولة الإندونيسية المستقلة. وأسس سوكارنو (1901-1970) «اللجنة الإندونيسية» لإعداد الاستقلال. وفي 17 آب 1945، (أي بعد ثلاثة أيام من استسلام اليابانيين)، أعلن سوكارنو استقلال إندونيسية، وقام بتنظيم الجمهورية على الرغم من معارضة اليابانيين، وحررت القوات الوطنية جاكرتة، وألفت حكومة وطنية برئاسة محمد حتا وكان سوكارنو نائباً له، يساعدهما حكومة من سبعة أعضاء.
3ـ عودة الهولنديين وقيام الثورة (1945 - 1949): بعد نزول قوات الحلفاء (أيلول 1945)، واحتلالها للمدن الإندونيسية، عاد الجيش الهولندي إلى إندونيسية. فنظمت حكومة الجمهورية المقاومة المسلحة في أرياف جاكرتة. فقامت السلطات الهولندية بتنظيم حملتين في تموز 1947، وكانون الأول 1948، وقصفت جاكرتة واحتلتها ونفت سوكارنو ورفاقه. وفي عام 1949، أقامت الحكومة الهولندية اتحاداً يتألف من ست دول وتسعة أقاليم خاصة، تتمتع فيه بالسلطة الفعلية. لكن المعارضة السلمية للسكان والمعارضة المسلحة للقوات العسكرية الجمهورية، وضغط الأمم المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية، اضطرت هولندة للاعتراف باستقلال «الولايات المتحدة الإندونيسية» برئاسة سوكارنو في 12آب 1950، و تم إعلان دستور «الجمهورية الإندونيسية المتحدة».
4ـ من التجربة الديمقراطية على النمط الأوربي إلى نظام «الديمقراطية الموجهة»: احتفظت إندونيسية بعلاقات اقتصادية وثيقة مع هولندة في نطاق «الاتحاد الهولندي – الإندونيسي». واستمرت في الاحتفاظ بهذه العلاقات بعد إلغائه (1954)، وعاشت إندونيسية تجربة برلمانية ديمقراطية على النمط الغربي (1950 - 1957). واجهت الحكومة إبانها قيام حركات انفصالية بقيادة بعض الزعماء المسلمين المتشدّدين (كارتوز وفيرجو Kartosuwirjo) في غربي جاوة؛ وقهار مُذّكر في سولاويسي؛ وداود بورويه Beureeh في أتجه، وكانت تلك الحركات تهدف إلى تنظيم المجتمع بحسب الشريعة الإسلامية. في حين أدى تمسك هولندة بإيريان الغربية إلى تدهور العلاقات الإندونيسية - الهولندية. وتبنى سوكارنو سياسة مناهضة للامبريالية، وانضم ببلاده إلى حركة عدم الانحياز عام 1955.
ولكن الحركة العسكرية في سومطرة، ثم في سولاويسي، التي نظمها بعض الضباط المؤيدين للدول الغربية للاحتجاج على سياسة سوكارنو اليسارية، وتقديم الوزراء المحافظين ونائب الرئيس استقالاتهم، كل أولئك دفع سوكارنو إلى إلغاء النظام البرلماني وتبني ما أسماه نظام «الديمقراطية الموجهة» (Démocratie dirigée (1963- 1957. وهو نظام جمهوري رئاسي يحتكر الرئيس فيه جميع السلطات.
ولمّا رفضت الأمم المتحدة تبني قرار بإعادة إيريان الغربية إلى إندونيسية (1957)، قرر سوكارنو مصادرة الممتلكات الهولندية في إندونيسية وطرد الرعايا الهولنديين منها. من جهة أخرى، أشرك سوكارنو الشيوعيين في الحكومة، وشددت إندونيسية من موقفها المعادي للغرب، ونظمت حملة عنيفة لاستعادة إيريان مما اضطر هولندة للانسحاب منها وإعادتها لإندونيسية (1963).
ورأى سوكارنو في إعلان بريطانية إقامة دولة ماليزية عملاً عدائياً تجاه إندونيسية ونوعاً من الاستعمار الجديد، فتبنى سياسة المواجهة وأعلن انسحاب إندونيسية من الأمم المتحدة (1965).
5ـ العودة إلى النظام الليبرالي (1965): على أثر التدهور الشديد للأوضاع الاقتصادية والمالية قام الجيش بقيادة المقدم أوتونغ Utung بانقلاب عسكري في ليل الأول من تشرين الأول 1965 وأعلن تأليف مجلس ثوري وطني. وفي اليوم التالي استولى المقدم محمد سوهارتو على السلطة، وشهدت البلاد في بداية عهده مذبحة للشيوعيين. وفرض الإقامة الجبرية على سوكارنو (1967) حتى وفاته (1970)، وفي عام 1966 أعلن الجنرال سوهارتو قيام «نظام جديد» برئاسته. وبدءاً من 27 آذار 1968 أصبح رئيساً للجمهورية. وسوهارتو من أنصار النظام الرأسمالي ومن ألد أعداء الشيوعيين الصينيين (وهم أكثر من ثلاثة ملايين في إندونيسية). ومنذ بداية عهده أخذ يعمل على إعادة بناء نظام اقتصادي رأسمالي وأنهى «سياسة المواجهة» مع ماليزية. وقرر عودة إندونيسية إلى الأمم المتحدة. كما نهج سياسة الوفاق والتعاون مع أسترالية والدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية. وكان لإندونيسية دور مهم في تأسيس منظمة جنوب شرقي آسيا ASEAN للتعاون الاقتصادي، التي اتخذت من جاكرتة مقراً لها.
وفي عام 1998 عمت إندونيسية اضطرابات عنيفة طالبت بإصلاحات سياسية واقتصادية وبمزيد من الحرية والديمقراطية، كما طالبت بإنهاء الحكم الدكتاتوري وتنحي سوهارتو عن الحكم متهمة إياه بالفساد والاستبداد. وقد أسهم في اندلاع هذه الاضطرابات انهيار أسواق المال الآسيوية ومنها السوق الإندونيسية والتدهور الاقتصادي الذي لحق البلاد بسببها، وكذلك الحرائق المدمرة التي أصابت الغابات. وفي 21 أيار عام 1998 اضطر سوهارتو للاستقالة تاركاً السلطة لنائبه يوسف حبيبي. وجرت انتخابات حرة فاز فيها حزب النضال الثوري بزعامة ميغاواتي ابنة الرئيس السابق سوكارنو. وفي 20 تشرين الأول 1999 انتخب عبد الرحمن وحيد رئيساً لإندونيسية وميغاواتي نائبة له. وبدأت سلسلة من الإصلاحات السياسية والاقتصادية وحملة لمكافحة الفساد ومحاسبة أنصار النظام السابق وعلى رأسهم سوهارتو وأفراد أسرته.
وفي خضم هذه الاضطرابات نشطت بعض الحركات الانفصالية بدعم خارجي تطالب بالاستقلال، وجرت حوادث دامية في إقليم تيمور الشرقية أدت إلى تدخل عسكري دولي وإجراء استفتاء تحت إشراف الأمم المتحدة نجم عنه استقلال الإقليم عن إندونيسية 4/9/1999. تبعها محاولات انفصالية واضطرابات في أقاليم مختلفة في سومطرة وغيرها عام 2000 – 2001.
صباح كعدان