امويون في اندلس Omayyad - Omeyyades

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • امويون في اندلس Omayyad - Omeyyades

    امويون في اندلس

    Omayyad - Omeyyades / Umayyades

    الأمويون في الأندلس
    (138 - 422هـ /756 - 1031م)

    ظلت الأندلس بعد فتحها سنة 92هـ نحو أربعين عاماً إحدى الولايات التابعة للخلافة الأموية في دمشق. وبعد سقوط الدولة الأموية وقيام الدولة العباسية استطاع عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك (الداخل) الفرار إلى إفريقية ثم قدم إلى الأندلس وأسس فيها دولة مستقلة عن الخلافة العباسية في المشرق استمرت ما يقارب ثلاثة قرون ومرّت بمراحل مختلفة.
    قيام الإمارة الأموية في الأندلس
    حينما وصل عبد الرحمن إلى ضفاف المضيق شمال المغرب الأقصى كانت الأندلس في ذروة التمزق الاجتماعي والسياسي الذي تجلى في صراع بين الفاتحين من مشارقة ومغاربة، وانجلى آخر الأمر عن تحكم أقلية قيسية بأكثرية يمانية ومغربية، ثم تعمق الصراع أكثر من جراء تنافس وجوه القبائل القيسية على الزعامة التي تقلّدها يوسف الفهري والياً رسمياً والصَّميل بن حاتم الكلابي زعيماً قبلياً، في هذه الأوضاع دعا عبد الرحمن بالحكم لنفسه ونهض بدعوته مولاه بدر، فلما أيقن عبد الرحمن من دعم اليمانية وموالي الأُمويين له نزل في ربيع الأول عام 138هـ/آب 755م في ميناء المنكب Almuneca وهو ميناء صغير بين ألمَرِيَّة في الشرق وملقة في الغرب وهزَم القيسية في معركة المصَّارة (10 ذي الحجة 138هـ/15 أيار 756م) قرب قرطبة حيث تلقى البيعة أميراً للأندلس لا خليفة مراعاةً لوحدة الخلافة، واستطاع عبد الرحمن الداخل مدة حكمه (138 - 172هـ/ 756 - 788م) تغيير طبيعة الحكم في الأندلس من حكم قَبَلي يتقاسم النفوذ فيه زعماء القبائل إلى حكم دولة يسودها شخصه، وقد تحقق له ذلك بعد إطاحته زعماء العصبيات، بدءاً بالقيسية ثم اليمانية وانتهاءً بزعماء عصبيته من الأمويين، سواء أكانوا صليبة أم ولاءً، وفيهم مولاه بدر، لكنه استخدم في وظائف إدارته كلها أعواناً ينتمون إلى هذه الفئات ويرتبطون بشخصه برابطة الخضوع والطاعة، وشمل تدبيره الجيش فحلَّ من أجناده الأربعة جند باجَة المشكوك في ولائه، وسجل البربر الخاضعين في ديوان الجند معبراً بذلك عن اتباع سياسة تسوية إسلامية. أما الإسبان الذين بقوا على دينهم فأبقى إدارتهم بيد رؤسائهم الذين يتبعون رئيساً لهم يُدعى القومَس، ويقيم بجوار الأمير في قرطبة، أما أولئك الإسبان الذين أقاموا لهم في الشمال الغربي الوعر من شبه الجزيرة الإيبرية دولة باسم أشتوريش[ر]. فقد أعلنوا تبعيتهم له وعبَّروا عنها بدفع الجزية، لكن الأندلس لم تنجُ من أطماع الكارولنجيين سادة غالية (فرنسة)، فعبر ملكهم شارلمان جبال البيرينيه (البرانس) آملاً غزو سرقسطة بعد الاتفاق مع بعض العصاة المحليين، وقد قاومته المدينة وأحبطت مسعاه فعاد إلى موطنه مجتازاً البيرينيه حيث أجهز البُشْكنس على النبيل «رولان» الذي خلَّدته الملحمة المعروفة باسمه.
    عُرف عبد الرحمن بلقب الداخل الذي يُطلق على كل مشرقي يدخل الأندلس وتقوم له أسرة تستمر في الحياة على أرضها، وقد عدَّ الخليفة العبَّاسي المنصور عمله فذَّاً يجعله أجدر قُرَشي بحمل لقب صقر قريش.
    عهد عبد الرحمن الداخل بولاية عهده لابنه هشام التالي لبكره (172 - 180هـ/788 - 796م) الذي لقبه الفقهاء من تلامذة مالك ابن أنس بالرضي لتقريبه لهم، فكانت الخطوة الواسعة الأولى نحو سيطرة مذهبهم على الأندلس ليبقى فيها المذهب الأوحد. وقد واجه هشام تمرُّداً من أخويه لنيله العرش من دونهما، ولم تُحسم الفتنة إلا في عهد ابنه وتاليه في الإمارة الحَكَم الأول (180 - 206هـ/ 796 - 822م) الذي اشتهر بلقب الرَّبَضيّ، نسبة إلى رَبَض قرطبة أو ضاحيتها، فقد ثار عليه جماعة من الفقهاء الذين فقدوا نفوذهم في البلاط وأهل الأسواق الذين زادت عليهم الضرائب، فأخمد الحَكَم حركتهم ونكَّل بهم وهدم الرَّبض فتشرد من بقي حياً من سكانه وحلَّ بعضهم في فاس في حين وصل بعضهم الآخر إلى الاسكندرية أولاً ثم إلى إقريطش (كريت)، ومن ناحية أخرى تبلورت في عهد الحَكَم بوضوح المشكلتان اللتان استمرتا طوال عصر الإمارة. أولاهما الثورات المتكررة للثغور الثلاثة: الأعلى وحاضرته سرقسطة، والأوسط حيث الحاضرة طُليطُلة، والأدنى الذي كانت حاضرته مارِدَة ثم انتقلت إلى بَطَلْيَوس. وقد تَزَعَّم هذه الثورات المُسالِمة أو المُولَّدون، أي الإسبان الذين دخلوا في الإسلام، وتحالفوا مع سكانها ذوي الأغلبية المعادية للعرب من البربر، أو الباقين على مسيحيتهم من الإسبان الذين سماهم العرب معاهدين، وأطلق عليهم الإسبان اسم «المستعربين». وقد ساعد العصاة على الثورة حصانة حواضر الثغور الطبيعية والصنعية وبُعدها عن قرطبة عاصمة الدولة وقربها من القوى المعادية في شمالي إسبانية وما وراءَه. وكانت أكثر حواضر الثغور إمعاناً في العصيان طُليطُلة، عاصمة القوط السابقة وقد أوقع الحَكَم بسبعمئة من أشرافها في وليمة دعاهم إليها، أما المشكلة الثانية فكانت توطد سلطان دولة أشتوريش في شمال غربي شبه الجزيرة الإيبرية، بخلع طاعة قرطبة وتوسعها خارج الجبال حيث اتخذت أوبييدو عاصمة لها في الساحل الشمالي، وكذلك تقدُّم الكارولنجيين من غالية لاحتلال برشلونة سنة 185هـ/801م التي ستبقى خاضعة لهم حتى نهاية الدولة الأموية باسم الثغر الإسباني.
    الإمارة الأموية في القرن الثالث للهجرة/التاسع الميلادي
    مَرَّت الإمارة الأموية في هذا القرن بمرحلتين متمايزتين، إذ كان النصف الأول منه مرحلة غنى مادي وازدهار حضاري، في حين اشتعلت الحرب الأهلية في النصف الثاني لِتَجُر على البلاد خراباً مادياً وجموداً حضارياً.
    شَغل عرش الإمارة في المرحلة الأولى الأمير عبد الرحمن الثاني (206 - 238هـ/822 - 852م) ذو الثقافة العالية، وتلاه ابنه محمد (238 - 273هـ/852 - 886م) الذي أضاف إلى علو الثقافة معرفة واسعة بالحساب ومهارة ودقة في الإشراف على الإدارة، وقد شُغل الأميران بالمشكلتين العامتين في عصر الإمارة، إذ تصديا لفتن الثغور وأهمها تمرُّد بني قِسيّ المولَّدين في الثغر الأعلى، وعصيان هاشم الضَّراب المُولَّد في طُليطُلة بالثغر الأوسط، وكذلك تمرُّد الثغر الأدنى بزعامة البربري محمد ابن عبد الجبَّار والمُولَّد سليمان بن مارتين، كما كان على الأميرين توجيه الكثير من الحملات للحد من تهديدات أشتوريش للحدود وللانتقام من دعمها للثائرين في الثغور.
    ومع كل هذه المشكلات شهدت الأندلس في هذه المرحلة نشاطاً في الفعاليات الاقتصادية من زراعة وصناعة وتجارة تمثلت بشبكة واسعة من العلاقات مع المشرق الذي زودته ببضائعها ولاسيما من العبيد الصقالبة، ومع المغرب حيث كَثُرت الجاليات الأندلسية فأسهمت في بناء مدينة أصيلة، وانفرد بعضها ببناء مدينة تَنَس الحديثة عام 262هـ/821ـ822م، ووهران عام 290هـ/903م، في المغرب الأوسط، وظهر أثر التقدم الاقتصادي في رفاهية المجتمع الأندلسي الذي أصبح في مستوى ملائم لتبني عادات مجتمع بغداد الراقي في المأكل والملبس والزينة الشخصية. وقد اشتهر من ناقلي عادات بغداد زرياب المُغني.
    كان لهذا التقدم الحضاري أثره الكبير في المعاهدين أو المستعربين فقد بهرتهم الحضارة الإسلامية، فاصطبغوا بصبغتها في سائر نواحي حياتهم، وقام المتعصبون وعلى رأسهم إيولوخيو الراهب والنبيل إلبارو بقيادة الحركة التي نعتوها بالاستشهاد ودعاها المسلمون «الاستخفاف» والتي قادت أتباعها إلى إعلان استهزائهم بالعقيدة الإسلامية ومقدَّساتها، فجرَّ ذلك عليهم القتل، الأمر الذي أدى إلى صراع دموي بين الفئتين وحال دون ذوبان الثقافة الإسبانية اللاتينية في بوتقة الحضارة الإسلامية، ولكن سعي هذه الحركة أخفق وانتهى بإخمادها. من ناحية أخرى علت مكانة الأندلس الدولية، فالتمست دول قريبة وأخرى بعيدة إقامة علاقات معها، ففي المغرب سعت عدة دويلات هي بُرغواطة (حول موقع الدار البيضاء) والدولة الصالحية (شمالي المغرب الأقصى) والدولتان الخارجيتان، الرستمية في المغرب الأوسط والمِدرارية في سِجِلْماسَة جنوبي المغرب الأقصى، إلى إقامة تعاون في مجالات شتى مع إمارة الأندلس الأموية. وحلَّت بقرطبة سفارة لبيزنطة، وعرضت على الأمير عبد الرحمن الثاني الصداقة والتحالف على العباسيين والرَّبضيين سادة إقريطش لكونهما أعداء الطرفين، فرد الأمير بقبول الصداقة والتملص من التحالف على أبناء دينه.
    في المرحلة الثانية من القرن الثالث توالى على عرش الإمارة بعد الأمير محمد ولداه: المنذر (273 - 275هـ/ 886 - 888م) وعبدالله (275 - 300هـ/888 - 912م) وقد تزايد الاضطراب الداخلي الذي بدأ في النصف الثاني من إمارة الأب وفي عهد ولديه حتى عمَّ الأندلس كلها وجميع عناصرها السكانية الذين نشبت بينهم حرب أهلية. وقد بدأت بالتمرُّد الذي قام به مروان الجِلِّيقي في الثغر الأدنى، ثم تحرُّك مولَّدي الكُوَر المُجنَّدَة التي كانت هادئة حتى ذلك الوقت، في ثورة عمر بن حفصون سنة 267هـ/880م. وقد استمرت قرابة نصف قرن، وانطلقت من جبال كورة ريُّة (مالقة) وانتشرت بسرعة في جبال الكُوَر المجاورة، رُندة وإلبيرة (غرناطة)، ثم توسعت غرباً لتصل إلى كور غربي الأندلس ولاسيما إشبيلية، وشمالاً لتهدد الأمراء الأمويين في عاصمتهم قرطبة. وفي الوقت نفسه أخذت الثورة طابعاً إسبانياً عاماً لانضمام المعاهدين في هذه الكور إلى المولَّدين، وتوجه الجميع لمحاربة العرب سادة وشعباً، ودافع العرب عن أنفسهم وأملاكهم. ولما تحقق لهم ذلك استقلَّ زعماؤهم عن الحكم الأموي في إلبيرة وعلى نحو أوضح في إشبيلية، حيث أقاموا إمارة مستقلة على رأسها آل حجَّاج وخلدون، وقد بلغ تمزق الدولة هذا ذروته في عهد الأمير عبدالله الذي سعى إلى إنقاذ ما يمكن إنقاذه، فقبل باستقلال المناطق عن سلطانه المباشر مقابل مقدار من المال يقاطع كل منطقة عليها، واستعان بما يحصله لبناء قوة عسكرية ملائمة يَصُدُّ بها خطرَ أشد الثائرين بأساً وهو ابن حفصون ويحد من توسعه، وأتبع ذلك باستقطاع المناطق الخاضعة له تدريجياً حتى توصَّل إلى حَصر ابن حفصون ضمن موقع ثورته الأول، ولكنه توفي قبل الإجهاز عليه.
    عصر الخلافة
    خلف الأمير عبدالله حفيدهُ عبد الرحمن الثالث الذي حكم مدة خمسين عاماً (300 - 350هـ/912 - 961م) تغيَّرت فيها أوضاع الأندلس تغيراً جذرياً. ففي الثلث الأول منها أجهز عبد الرحمن على العصيان الداخلي وحطَّم الكيانات المستقلة، وقد تمَّ ذلك بالقضاء على ثورة ابن حفصون بعد وفاته سنة 305هـ/917م واضمحلال حركته بالخلاف بين أبنائه الأربعة والنزاع بين عنصريها من المعاهدين والموَلّدين، وكانت النهاية عند سقوط حصن بُبَشْتَر معقل الحركة الرئيسي سنة 315هـ/928م. كذلك أنهى عبد الرحمن حكم السلالات المستقلة في نواحي الأندلس الأخرى فأخضع بني حجاج في إشبيلية سنة 301هـ/914م بناحية الغرب وعدداً من الثائرين في الشرق كبني الشيخ في قيلوشة ولَقَنْت Alicanté، وفي الثغور قضى على دولة بني الجلّيقي في بَطَليوس قاعدة الثغر الأدنى سنة 316هـ/928م، وسقطت طُليطُلة حاضرة الثغر الأوسط بيد قوات قرطبة سنة 320هـ/931م، أما في الثغر الأعلى حيث حلَّت أسرتا بني تُجيب وبني الطويل محل بني قِسيّ فقد اكتفى عبد الرحمن بإخضاعهما سنة 322هـ/934م، مع إبقائهما في مواضعهما حكاماً تابعين له.
    وفي الشمال واجه عبد الرحمن القوى الإسبانية التي تعزَّزت ونمت مستفيدة من ضعف الدولة الأموية في مدة الحرب الأهلية وقد تعددت كيانات القوى الإسبانية فبرزت إلى جوار الثغر الإسباني في برشلونة دول للبُشْكنس في سفوح البيرينيه، واتخذت بنبلونة عاصمة لها، وتوسعت دولة أشتوريش نحو الشرق مما مكَّن ثغرها الشرقي من إقامة كيان مستقل باسم قشتالة كما توسعت نحو الجنوب وأعمرت مدينة ليون لتصبح عاصمة واسماً للدولة، وقد أفلح عبد الرحمن في وقف امتداد هذه القوى، ثم في إجبارها بالغارات على الولاء له. برز خطر جديد يهدد الدولة من جهة الجنوب بقيام الدولة الفاطمية في المغرب الأدنى سنة 296هـ/909م، وتمكنها من بسط سلطانها على المغربين الأوسط والأقصى فيما بعد معتمدة على قِوى تجمُّع صِنهاجة القَبَلي، وسعيها لحكم العالم الإسلامي كله، لأنها كانت تعد إِمامها الخليفة الشرعي الوحيد، وقد باشر الفاطميون أول تدخل لهم في الأندلس بتقديم المعونة لابن حفصون. وكان رد عبد الرحمن على الفاطميين يتصاعد بمقدار توطد سلطانه داخل الأندلس، فاكتفى أول الأمر باستقبال الأمراء الفاقدين لعروشهم في المغرب، وبعد إجهازه على العصيان الداخلي استولى على مليلة (في جوار المضيق سنة 314هـ/927م وسبتة عام 319هـ/931م) ومنع بذلك أعداءه من استخدامها قواعد للانطلاق نحو الأندلس، ثم تعدَّى منطقة المضيق ليتدخل تدخلاً مباشراً في نواحي المغرب الأخرى، فأغرى موسى بن أبي العافية، تابع الفاطميين في المغرب الأقصى، بتحويل ولائه إليه، وحالف تجمع زِناتة القَبَلي المنافس لتجمُّع صِنهاجة عماد قوة الفاطميين، وخوارج المغرب الأدنى بزعامة أبي يزيد مَخْلَد بن كيداد الذين هددوا المهديَّة عاصمة الفاطميين.
    كذلك جابه عبد الرحمن الفاطميين على الصعيد الديني بإعلائه شأن منصبه وإعلانه نفسه الخليفة الحق للمسلمين، ومع أنه امتنع عن إشهار النظرية التي صاغها موالي الأمويين في المشرق والقائلة إن إمامة الأمويين منصوص على صحتها في الأصول الدينية وإن النبوءات دالة على أنهم سيسودون ديار الإسلام، فإنه أشاع بين قبائل المغرب، رغبة في كسبها، أنه سيسيطر على العالم الإسلامي، وأن رجالها سيكونون عدته وجنده. ومع كل ذلك أصيبت مساعي عبد الرحمن في التدخل غير المباشر في المغرب بنكسة. إذ قُضِي على ثورة أبي يزيد، كما حوَّلت قبائل زناتة في المغرب الأوسط ولاءها إلى الفاطميين، إما طوعاً كمغراوة أو قسراً كَيَفْرِن، وأجهز الفاطميون بالتحالف مع الأدارسة[ر] على سلطان بني العافية في المغرب الأقصى.
    من ناحية أخرى نشطت علاقات الأندلس الدبلوماسية في ظل عبد الرحمن وأصبح من المألوف في بلاط قرطبة بدءاً من أيامه كثرة الوفود الأجنبية، منها القادم من بلاد قريبة كوفود الدويلات الإسبانية لإعلان ولائها أو تأكيده أو طلب عون عسكري، ومثلها كان وضع وفود أمراء المغرب وقبائله، لكن بعض السفارات كانت تأتي من بلاد بعيدة، فقد حلَّت بقرطبة سفارتان لامبراطور بيزنطة في عامي 337هـ/948م و 338هـ/949م، ويبدو أن مسعاهما كان إقامة حلف على العدو المشترك الفاطمي الذي يهدد الأملاك البيزنطية في جنوبي إيطالية انطلاقاً من صقلية، ووردت سفارة أخرى من أوتون امبراطور الامبراطورية الجرمانية المقدسة برئاسة جون راهب غورز وردَّ عليها عبد الرحمن بسفارة سنة 339هـ/ 950م، ويبدو أن الغاية من اتصال الامبراطور بعبد الرحمن، التماس عون الخليفة الأندلسي في إخراج البحريين الأندلسيين من قواعدهم التي تهدد أملاك الامبراطور وأتباعه، وكان هؤلاء قد أقاموا منذ أواخر القرن الثالث الهجري/ التاسع الميلادي في البروفانس قاعدة لهم في فراكسينتوم في موقع غارد فرينيه الحالية La Garde Freinet ثم تخطوها ليشملوا بغاراتهم كل الأراضي الواقعة بين نهري «البو» شرقاً و«الرون» غرباً كذلك توسعوا شمالاً حتى سيطروا على ممرسان برنار المشهور في جبال الألب. لكن الاتصال لم يسفر عن نتائج سياسية واضحة لافتقار الخليفة إلى السلطة على البحريين الذين أُخرجوا حرباً بعد ذلك وسقط معقلهم الرئيسي عام 363هـ/973م.
    الحكم المستنصر بالله (350 - 366هـ/961 - 976م)
    تولى الحكم الثالث الخلافة بعد وفاة أبيه بعهد منه وطار صيته بنشاطه العلمي مشاركة وتوجيهاً وتشجيعاً ضمن إطار من التسامح تجاه كل العلوم. أما فعالياته السياسية فبقيت كما كانت في عهد والده، مواجهة الإسبان شمالاً والفاطميين جنوباً. ففي الميدان الأول أعاد القوى الإسبانية إلى حظيرة الولاء إثر محاولاتها استغلال موت الخليفة القوي الذي أخضعها، وذلك بتجريد الحملات عليها، وبالعمل الدبلوماسي المتمثل باستغلال المنازعات بين الدويلات، أو بين القوى ضمن كل دويلة، وأبقى على سفارة متنقلة في بلاطاتهم تحيطه علماً على الدوام بما يجري فيها، كذلك جدَّ في الميدان الثاني وهو المغرب ما جعل الأمور أكثر مواتاة له، إذ تمكَّن الفاطميون من دخول مصر سنة 358هـ/969م، ونقلوا مركز حكمهم إليها، وتركوا المغرب لنوابهم من صِنهاجة. فثار عليهم منافسوهم الزناتيون واشتبك الطرفان في حروب كان ميدانها المغرب الأوسط، وأدَّى كل ذلك إلى انحسار القوى الفاطمية عن المغرب الأقصى، باستثناء عودة الأدارسة لبسط سلطانهم على شماليه تحت الراية الفاطمية، فجرَّد الحكم عليهم جيشَ الثغر، أقوى قوة برية لديه، مع الأسطول، وجمع من دعاته أو جواسيسه جماعة استطاعوا بالمال شراء ولاء القبائل في المنطقة وإقناعها بالتخلي عن الأدارسة فسقطت معاقلهم على منعتها، واستسلم الحسن بن كنون آخرهم بمعقل حجر النسر سنة 363هـ/974م.
    هشام المؤيد والعامريون (366 - 399هـ/976 - 1008م)
    أفلح فريق الأحرار في بلاط الحكم المكوَّن من زوجة الحكَم صُبح وحاجبه جعفر المصحفي وقائد حشمه محمد بن أبي عامر المقرَّب من نساء القصر، في تحقيق رغبته ومبايعة ابنه هشام خليفة وهو في الثانية عشرة ولقّب بالمؤيد بالله، وذلك بعد قيام ابن أبي عامر بقتل المغيرة أخي الحكم مرشح العبيد الصقالبة، وبعد ما يزيد قليلاً على عام من ممارسة فريق الأحرار السلطة باسم الخليفة الصبي، تمكن ابن أبي عامر من أن يقفز إلى المقام الأول فيه بسجن المصحفي، وتقلّد منصب الحجابة مكانه في 13 شعبان سنة 367هـ/ 29 آذار 977م.
    استبد العامري إثر ذلك بالسلطة بعدما هيأ الركائز المناسبة لها، إذ عدَّل بنية الجيش بإدخال عناصر مغربية وافرة العدد مرتبطة بشخصه، وفي الوقت نفسه أضعف القوى العسكرية الأندلسية، واستجلب عواطف العامة عن طريق تقريب الفقهاء الموجهين لها والظهور بمظهر التقي، وإحراق كتب العلوم القديمة (الفلسفة والمنطق) مع التزام القيام بفريضة الجهاد بالغزو السنوي الذي يخرج إليه بمظاهر احتفالية في أيام الأعياد والعودة منه بمظهر مثير من صفوف الأسرى ورؤوس القتلى. لكنه من ناحية ثانية شدد الرقابة على الناس بما يلائم كل فئة منهم، فقد منع صبح والدة الخليفة من التأثير في أي متنفذ في الجيش والإدارة بحبس المال عنها، وحيل بين هشام والأمويين عموماً وبين الاتصال بأحد من الناس إلا عن ضرورة، كما بثّ العيون في دواوين الإدارة وأماكن تجمع الناس في الأسواق، ولم يتسامح مع منتقد أو متآمر مهما علا شأنه، فقد حبس زعيم الفقهاء المتآمرين، عبد الملك بن منذر بن سعيد البلوطي وقتله عام 378هـ/988م، ومثله كان مصير أحد أبناء المنصور لمشاركته في مؤامرة أخرى سنة 380هـ/990م.
    كان لهذا الاستبداد وجهه الرسمي أيضاً، ومع أن ابن أبي عامر بقي برتبة الحجابة ولم يتجاوزها إلى رتبة الخلافة، فقد أحاط نفسه بأبهة الملك وهيبة السلطان إذ خوطب بالملك الكريم وأخذ الوزراء يقبلون يده، ثم لحق التقدير نفسه أبناءه، كما اتخذ لقباً خاصاً بالخلفاء وهو المنصور.
    خلف المنصور في الحجابة بعهد منه ابنه عبد الملك (390 - 399هـ/999 - 1008م) فجرى على سُنَّة أبيه في الاستبداد بأمور الدولة وإن تجاوزه في نيل لقبين خلافيين، المظفَّر وسيف الدولة، ومنح بدوره ابنه لقب ذي الوزارتين وكنّاه بأبي عامر.
    انتقلت الحجابة بعده إلى أخيه عبد الرحمن بن المنصور من زوجة المنصور ابنة ملك بنبلونة شانجُه، لذلك لقبه الناس شنجول أي شانجُه الصغير، وقد حاول أن يحصل من الخليفة رسمياً على ما لم يحصل عليه أبوه وأخوه مع تفوقهما عليه في المؤهلات، فنال أولاً لقبين خلافيين هما المأمون وناصر الدولة، ثم أكره الخليفة على تعيينه ولياً لعهده، فكانت الشرارة التي أشعلت الثورة عليه وقادها حفيد لأحد أبناء الخليفة الناصر يدعى محمد بن هشام بن عبد الجبَّار الذي لُقِّب بعد بيعته بالمهدي سنة399هـ.
    الفتنة وسقوط الخلافة
    بعد القضاء على شنجول وزوال الدولة العامرية تولى الخلافة محمد بن هشام بن عبد الجبَّار المهدي سنة 399هـ، وبايعه البربر والصقالبة، ولكن في عهده كانت الهيمنة للأمويين وعامة أهل قرطبة ولم يحظ البربر والصقالبة بالمكانة التي كانوا يتوخونها، فمكَّن الصقالبة لأنفسهم في شرقي الأندلس مركز تجمعهم إضافة إلى سيطرتهم على الثغور، أما البربر فقد بقوا في قرطبة، وثارت الفتنة بينهم وبين عامة أهلها، وكان كل فريق يولي خليفة من أحفاد الناصر ليتقووا به ويحاربوا باسمه، فبايع البربر هشام بن سليمان بن عبد الرحمن الناصر الذي لُقِّب بالرشيد سنة 399هـ، ونشبت الحرب بين الفريقين وانتهت بهزيمة البربر ومقتل الرشيد سنة 399هـ، ولكن البربر أبوا مبايعة المهدي وبايعوا سليمان بن الحكم بن سليمان الذي لقب بالمستعين بالله واستطاع هذا الاستيلاء على قرطبة سنة 400هـ، فغادرها المهدي إلى طليطلة ولكن الخليفة الشرعي المؤيد الذي عاصر الدولة العامرية خرج على المستعين واستولى على قرطبة، ولكن الأمر لم يصف له فقد عاد المهدي إلى قرطبة واستولى عليها وسجن المؤيد، ولم يرض الأمر جماعة من أهلها فأسروه وأخرجوا المؤيد من سجنه وجددوا له البيعة سنة 400هـ وقتل المهدي واستمر المؤيد في الحكم حتى 403هـ، وقد قامت بينه وبين المستعين حروب انتهت باستيلاء المستعين على قرطبة وتجديد البيعة سنة 403هـ واستمر حكم المستعين حتى سنة 407هـ حين خرج عليه علي بن حمود وقتله سنة 407هـ. لم يتوقف الصراع بين سكان قرطبة بعد تركهم وشأنهم فتنازعت طبقاتهم النفوذ وتقاتل أبناء الأسرة الأموية على منصب الخلافة مع ما آل إليه من ضعف، وأخيراً قامت الطبقة النبيلة وظيفياً ممثلة بأبي الحزم جَهْوَر بخلع هشام بن محمد بن عبد الملك بن عبد الرحمن الناصر الملقب بالمعتد بالله يوم 12 ذي الحجة 422هـ/29 تشرين الثاني 1031م، وألغيت الخلافة ونودي في الأسواق بألا يبقى أحد من الأمويين بقرطبة وألا يكنفهم أحد.
    تعددت الآراء حول العوامل التي أدَّت إلى سقوط الدولة الأموية في الأندلس، ولعل أهمها انهيار الركائز التي قامت عليها، فقد كانت أولاها العصبية الأموية التي ضعفت وضاق نطاقها لتقتصر على الأسرة الصغيرة الحاكمة. ثم ازداد التناحر داخلها حتى قتل الأخ أخاه والأب ابنه، وكانت ثانيتها عصبية موالي الأمويين الذين كانوا الوزراء والقواد حتى جاء عصر الخلافة واستعاض الخلفاء عنهم بأناس من العامة أو من العبيد، أما ثالثة الركائز فهي العرب أولاً ثم الأندلسيون. لكنهم أُبعدوا عن الجيش ولاسيما زمن الخلافة وهناك عامل مهم آخر يذهب إلى أن الخلفاء لم يراعوا بيئة الأندلس الجغرافية والتاريخية، فالعاصمة متطرفة نحو الجنوب، والأندلس مملوءة بالحواجز الطبيعية مما فسح في المجال لنمو القوى المحلية، وقد ساير الأمراء الوضع بمنحها استقلالاً تتوسع حدوده وتنكمش تبعاً للأحوال، لكن الخلفاء فرضوا بالقوة سيادة مركزية شديدة، وأدَّى ذلك إلى محاولة هذه القوى تحطيم السيادة أما السبب الأخير فيراه بعضهم في التمزق الاجتماعي من عرقي وطبقي في قرطبة نفسها، حيث تزايدت فخامة البلاط ورفاهيته وتضخمت طبقة الأرستقراطية بانضمام نبالة الوظيفة إلى نبالة النسب، وأُضيف إلى هؤلاء، المرفهون من الجند المرتزقة والعبيد ممن أغدق عليهم الخلفاء العطاء، وفي مقابل الأرستقراطية كانت تنمو طبقة من العامة تتضخم أعدادها بالمقدار الذي يتزايد فيه غنى الطبقة الأولى ورفاهيتها، وربما أدَّى الفارق الكبير بين موارد الطبقتين إلى إثارة النقمة لدى العامة، وولَّد تضخم أعدادها إلى الشعور بقوتها، ولم تنفع محاولات الخلفاء استرضاءها بتخفيف الضرائب أو إلغائها في بعض الأحيان، أو توزيع الأغذية والصدقات عليها في سني القحط، وقد كانت صفوف العامة موئلاً للتشنيع على هشام بن الحكم المستنصر وأرملة الحكم صبح والحاجب ابن أبي عامر لذلك كان للعامري عيون في صفوفها، كما أن الدعوات التي حاولت إطاحة العامريين كان اعتمادها على العامة، وقد أخفقت دعوة من هذا النوع في زمن عبد الملك المظفر ولكنها نجحت في عهد أخيه شنجول.
    السلطة والإدارة
    أبقى عبد الرحمن بن معاوية الداخل قرطبة عاصمة لدولته وبقي وفياً لإرث أسلافه باتخاذ البياض شعاراً، ولم يتعد الأمير في ألقابه، وكان يخاطب بابن الخلائف، وبقي في حياته قريباً من بساطة أسلافه، لكن الأمر اختلف منذ زمن عبد الرحمن الثاني الذي قلَّد الخلفاء العباسيين فوضع لبلاطه نظام مراسم دقيقاً شمل جميع مظاهر الحياة فيه، في الجلوس والمواكب والاستقبال وترتيب طبقات الناس في المثول بين يديه، وفي زمن عبد الرحمن الثالث أُعلنت الخلافة، وأصبح الأمير أميراً للمؤمنين يحمل لقباً يصله بالله، وقد حمل عبد الرحمن لقبين هما الناصر لدين الله والقائم وللزيادة في التفخيم صار يخاطب بصيغة الغائب. وربط أتباعه أنفسهم رسمياً به برابطة العبودية، وصاروا يكتبون على عنواناتهم عبيد أمير المؤمنين، وعلى خط مواز سار الحكام الأمويون تدريجياً على سياسة الإغراق في الاحتجاب عن الرعية في القصر أولاً ثم في المقصورة بالمسجد.
    ومن ناحية ثانية سار أمويو الأندلس على سنة أسلافهم المشارقة في توريث الحكم، وبقي هذا الأمر لديهم أيضاً خاضعاً لرغبة العاهل من دون قاعدة ثابتة، فقد يعهد بالحكم إلى أحد أبنائه وقد لا يكون أكبرهم أو إلى أحد إخوته أو حتى إلى أحد أحفاده.
    التف حول الحاكم في القصر من يُعدُّون أعضاء الإدارة المركزية، وعلى رأسهم الحاجب الذي يحجب الأمير كما هو الحال في المشرق، لكنه أصبح في تنظيمات عبد الرحمن الثاني رئيساً للوزراء، وعند ضعف العاهل يمارس الحاجب سلطان الخليفة كما هو حال العامريين، أما الوزارة فقد تكون مجرد رتبة وقد تكون خِطَّة بمعنى ممارسة الوزير لمهام إدارية معينة بالإشراف على مجموعة من الدواوين يعمل بها الكتاب، وأعلاهم مقاماً كاتب الرسائل الذي يكتب للأمير ووزرائه. ويتبع هذه الإدارة المركزية إدارة أرض الأندلس كلها التي كانت عسكرية في الثغور في حين قُسِّم ما عداها إلى أقسام إدارية يدعى كل منها كورة، لها حاضرة وحولها حَوز أو عَمل مقسَّم إلى أقاليم، والإقليم هو كل قرية كبيرة جامعة.
    اعتمد الأمويون على الجيش لتوطيد سلطانهم في الداخل ومجابهة أعداء الخارج، وتألّف أول الأمر من فئة الجند في الكور المجنَّدة، وممن يستنفر من أهل الكور ويسمَّى الحشد. وأضاف الأمويون إليه بدءاً من أيام الحكم الربضي عبيداً صقالبة كان عددهم يتزايد مع الزمن وسمُّوا بالحَشَم. ثم أضاف الخلفاء والحجاب مرتزقة مغاربة. وأهم أعمال هذا الجيش المشهودة قيامه بالصوائف أو الغزوات التي تخرج في شهر حزيران لحرب الإسبان وتُعلَّق راياتها على جدار مسجد قرطبة بعد عودتها، كذلك نما الأسطول لأغراض التجارة وغزو الشواطئ الفرنجية ولدفع غارات المجوس أو النورمنديين ومجابهة الفاطميين. وأقيمت في عهد الناصر وبأمر منه دور في صناعة الخضراء وملقة ولَقَنْت ودانية وأخيراً طرطوشة. وطُوِّر هذا الأسطول زمن الخلافة وقُسِّم إلى أسطولين، أحدهما لبحر الروم (البحر المتوسط) وقاعدته ألمريّة بعد بناء حصون لها بأمر الناصر، والثاني أسطول بحر الظلمات (المحيط الأطلسي) وقاعدته إشبيلية، وضُمَّت إليه سفن ملائمة للإبحار فيه أمر بصناعتها الحكم المستنصر على هيئة سفن المجوس ودُعيت بالقراقير. وقد قُدِّر عدد السفن بـ200 زمن الناصر و300 زمن المستنصر.
    أما الإدارة المالية فكان لها «خِطَّة» تُدعى بالخزانة التي تشرف على جمع واردات الدولة وأهمها الجزية التي ترد للأمراء أو الخلفاء من دول الشمال الإسبانية في مراحل القوة، والخراج من أراضي العنوة في الأندلس، والعشور التي تجمع من المسلمين على القطعان والمزروعات والبضائع، وقد مال بعض الأمراء وموظفوهم إلى أن يعدُّوها وظيفة ثابتة على المالكين لاعشراً متغيراً بتغير الإنتاج، ووجد إلى جانب الخزانة بيت المال الخاص بالسلطان، تجمع فيه منتجات الضياع والأملاك والمصادرات، وأنشأ الأمويون داراً للسكة قرب المسجد الجامع تولّت ضرب الدراهم الفضية في إمارة عبد الرحمن الثاني، ثم ضربت الدنانير الذهبية مع إعلان خلافة الناصر لدين الله، ثم نُقِلت دار الضرب إلى الزهراء سنة 336هـ/947م.
    وفي المجال القضائي عرفت الأندلس منذ الفتح قاضي الجند المقيم بجوار الوالي بقرطبة، وأصبح يُدعى زمن عبد الرحمن الداخل قاضي الجماعة، ويقوم إضافة إلى القضاء في العاصمة بالكشف عن أحوال قضاة الكور عند الشكوى منهم، أما تعيينهم وعزلهم فمردهما إلى الأمير أو الخليفة، ووجدت في الأندلس وظيفة صاحب الرد الذي يرد القضاة إليه ما أُشكل عليهم من الأحكام، أما النظر في تظلم الناس من أحكام وقرارات لأصحاب السلطة، فقد مارسه في ظل الأمويين أمراء أو أصحاب مراتب عالية، إلى أن أفردها الناصر لدين الله «بخطة» مستقلة لها رزق محدد. ودخلت في الأندلس وظيفة الحسبة المشرقية ضمن - خطة» ولاية السوق زمن هشام الرضى وشملت مهمات صاحبها في السوق جمع العشور، والإشراف على الموازين والمكاييل والأسعار وحفظ النظام ومراقبة تحركات العامة فيه. ثم أنشأ عبد الرحمن خطة الشرطة، التي أخذ صاحبها من صاحب السوق المهمة المتعلقة بحفظ النظام إضافة إلى مهمته المعروفة وهي إنفاذ أحكام القضاء وكانت خطة الشرطة في الأندلس على مرتبتين عليا وصغرى، ثم ثلَّثها عبد الرحمن الناصر بوضع الشرطة الوسطى وجَعْلِه رزقها وسطاً كذلك. ومع التعدد في هذه الخطة فقد شاركها في الإشراف على أمن العاصمة موظف آخر هو صاحب المدينة. أما جمع المعلومات سرياً عن أحوال الناس فكانت مهمة موظف خاص في كل كورة يدعى مُخَلَّف.
    المنجزات العمرانية
    تعددت مجالات العمارة في الأندلس فكان منها ما دخل في المجال الديني، وأهم ما فيه بناء المساجد التي بناها الرجال الصالحون أو أفراد الحاشية من رجال ونساء أو أمراء وخلفاء، وقد تمثل إنجازهم الأكبر بالمسجد الجامع في قرطبة، وكان البناء الأول فيه على أنقاض كنيسة سانت بيجنت Sant Vicente بأمر من عبد الرحمن الداخل. وكان مربعاً طول ضلعه 75م وداخله إحدى عشرة بلاطة تفصل بينها صفوف من الأعمدة تعلوها أقواس مزدوجة، ثم وسعه عبد الرحمن الثاني بإبعاد جدار قبلته مسافة 26.6م ووسعه الحكم المستنصر في الاتجاه نفسه حتى وصل جداره القبلي إلى سور المدينة وسقفت الزيادة بست قباب تظلل ستة أبهاء تعتمد على أقواس متشابكة وتشتهر بغنى زخارفها، وفي عهد المنصور بن أبي عامر تكررت الحاجة لتوسيع المسجد، ولم يكن من المستساغ نظراً للروعة التي تتجلى في قبلة المسجد أن يزيد المنصور في هذا الجزء منه، فآثر أن يوسعه من ناحية الشرق بإبعاد جداره الشرقي مسافة 45.8م.
    أما أعمال عبد الرحمن الناصر، فلا تكاد تذكر داخل المُصلَّى، وانصرف همه إلى العمل العمراني في الصحن فزوده بمئذنة ذات شكل مربع تُعد أجمل المآذن في المغرب الإسلامي وظلت طوال قرون ثلاثة النموذج المقلد في الأندلس والمغرب.
    ولعلَّ أشهر ما يمثل العمران المدني قصور الخلفاء، وأولها قصر قرطبة الذي كان بلاطاً للذريق حاكم إسبانية قبل الفتح، جدده عبد الرحمن الداخل وتابع خلفاؤه إقامة مبان ومجالس خاصة بكل منهم داخل محيطه البالغ 1100 ذراع (=525 - 550م) وأشهر هذه المجالس منذ عهد عبد الرحمن الناصر مجلسا الزاهر والروضة والمجلس الشرقي المتصل بالسطح الممرَّد المشرف على النهر الكبير والرصيف متنزه أهل قرطبة، الذي جدد بناءه عبد الرحمن الثاني، ودشَّن عبد الرحمن الداخل ببنائه منية الرصافة بناء المنى والجنَّات في الأندلس وهي قصور صغيرة وسط أراضٍ واسعة، وتعد أول قصور ريفية على الأرض الأوربية، وضمن هذا الإطار بنى الخليفة عبد الرحمن الناصر المدينة الملكية المعروفة بالزهراء على بعد خمسة كيلومترات إلى الشمال الشرقي من قرطبة في سفح جبل عروس La Sierra de Cordoba وفي موقع متدرج مستطيل بطول 1518م وعرض 745م وجرى البناء على ثلاثة مستويات، قصور الخليفة وقاعاتها في الأعلى، والحدائق في الأوسط، والمسجد ومنازل الأتباع في الأدنى، وعلى غرارها بنى المنصور العامري في موقع قريب مدينة الزاهرة.
    وفي مجال البناء الحربي أعطت إنجازات الأمويين أرض شبه جزيرة إيبرية واحداً من ملامح منظرها العام المميز، وهو كثرة الحصون الاستراتيجية المبثوثة في كل مكان مهم، وكانت غايتها في الداخل ضمان الأمن، وعلى الحدود الدفاع في وجه الأعداء، ومن أشهرها ما قام في الوسط على نهر دويرة كحصن غرماج San Estaban de Gormaz، وقد انقلب بعض الحصون الكبيرة منها إلى مدن مثل طلمنكة Talamanka، ومجريط (مدريد) وهما من بناء الأمير محمد.
    أثر الأمويين في حياة الأندلس الفكرية
    كان للأمويين أثر كبير في هذا المجال عن طريق المشاركة في النشاط العلمي لكثير منهم وعن طريق التشجيع ودعوة العلماء من أصقاع ديار الإسلام، كما هو الحال في استقبال أبي علي القالي وصاعد اللغوي البغدادي في عصر الخلافة، وقد أدَّى تشجيعهم لتلاميذ مالك بن أنس الأندلسيين منذ أيام الأمير هشام الرضى إلى بلوغ المذهب مرتبة المذهب الفقهي الأوحد في الأندلس، ولاحقوا أصحاب المذاهب الأخرى كمذهب ابن مسَرَّة المتضمن مبادئ معتزلية وأخرى صوفية، وبدا الأمويون أكثر انفتاحاً تجاه العلم والعلماء من محيطهم الفكري والاجتماعي، إذ حمى الأمير محمد، بَقيَّ بن مَخلد (201 - 276هـ) أحد حاملي علم الحديث إلى الأندلس من نقمة الفقهاء الأندلسيين المعاصرين، وعاشت في كنفهم أُسرة الرازي التي تعد بانية علم التاريخ والجغرافية في الأندلس منذ زمن الإمارة حتى الخلافة وعلى مدى ثلاثة أجيال منهم محمد بن موسى الجد صاحب كتاب «الرايات» (ت 273هـ)، ثم ابنه أحمد (ت 344هـ)، وحفيده عيسى. ولقد فاقت شهرة عيسى شهرة أبيه أحمد بمؤلفيه عن تاريخ «حجاب الخلفاء في الأندلس» و«تاريخ الأندلس» الذي عُدّ مصدراً اقتبس منه المؤرخون المتأخرون فقرات طويلة عن تاريخ الأندلس في عصري الإمارة والخلافة، كما نضج في الأندلس فن آخر من فنون التاريخ يتمثل في كتاب محمد بن يوسف الأزدي (351 - 403هـ) المعروف بابن الفرَضي عن «تاريخ العلماء ورواة العلم بالأندلس» وقد عرض فيه لمشاهير رجال الفكر في الأندلس في شتى المجالات ورتبهم على الأساس، وأحرز علم الجغرافية ما أحرزه التاريخ فظهرت في الأندلس مؤلفات عن جغرافية البلدان. كما كان للنشاط التجاري أثر في تنشيط البحث في كتب الرحلات التي برز فيها إبراهيم بن يعقوب الطرطوشي الذي رحل إلى عدة بلدان في أوربة وعاد إلى الأندلس عام 357هـ ليكتب عن مشاهداته في وصف مدن ساحلية أوربية من فرنسة وهولندة وألمانية وعن إمارات الصقالبة في بلغارية وبولندة ومما شاهده أيضاً من عمليات تجارية في جنوب بحر الخزر.
    وفي الجانب العلمي التطبيقي، ظهر في الطب أبو القاسم خلف بن عباس الزهراوي (ت427هـ)، صاحب كتاب «التصريف لمن عجز عن التأليف» في ثلاثين جزءاً، ويتحدث الزهراوي في الجزء الأخير عن الجراحة بمستوى جعل الدارسين يعدونه أكبر جرَّاح عربي في العصور الوسطى، إذ يتحدث فيه عن بعض العمليات التي قام بها ويقدم إيضاحات مهمة عن الأدوات التي استعملها. إلى جانب الازدهار في مجال الطب لقي علم الفلك ازدهاراً مشابهاً تمثل في عمل مسلمة المجريطي (ت 398هـ) الذي أخذ عن المشرق علوم العدد والفلك التي استقاها من المدرسة الهندية - الإيرانية وبعدها المدرسة اليونانية التي يمثلها الخوارزمي، ونشرها المجريطي في بلده مع ملاءمتها لبيئة الأندلس، ومن الأندلس انتقلت دراساته إلى أوربة.
    وكان للمستنصر مكتبة حوت مؤلفات من مختلف العلوم حتى الفلسفية منها المستنكرة من قبل الفقهاء، وقد بدأ التعصب في محاربة العلم على نحو واضح بدافع المصلحة السياسية عند اغتصاب سلطان الأمويين، إذ قام الحاجب المنصور العامري بإحراق كتب العلوم القديمة في المكتبة لنيل رضى الفقهاء والعامة وشجع الفروع العلمية التي تجل سلطانه، فأصبح للشعراء في بلاطه ديوان يرزقون منه على مراتبهم.
    أحمد بدر

يعمل...
X