العجز المالي هو الرصيد السالب الذي يظهر في موازنة الحكومة حين تنفق أموالًا أكثر مما تجنيه في سنة مالية ما. يُعد هذا الخلل في توازن الحسابات شائع الحصول في الحكومات المعاصرة وفي كثير من دول العالم، ويُسمى أحيانًا العجز في الحسابات الجارية أو عجز الموازنة. مثلًا بدأت نفقات الولايات المتحدة تفوق إيراداتها منذ السبعينيات، باستثناء أربع سنوات فقط، وأظهرت موازنتها عجزًا يفوق التريليون دولار في كل سنة من السنوات الأخيرة.
أثر العجز المالي في الاقتصاد
تختلف مواقف علماء الاقتصاد ومحللي السياسات تجاه أثر العجز المالي في الاقتصاد، يرى البعض مثل بول كروغمان -الحائز على جائزة نوبل- أن الحكومة لا تنفق ما يكفي من الأموال، وأن التعافي البطيء من الكساد الكبير بين عامي 2007 و2009 يُرَد إلى إحجام الكونغرس عن زيادة العجز المالي الذي سيدفع عجلة الطلب الكلي إلى الأمام.
يجادل فريق آخر بأن عجز الموازنة يهدد نشاط الاقتراض في القطاع الخاص ويشوه بنية رأس المال وأسعار الفائدة، ويحجّم صافي الصادرات، ويقود إلى زيادة الضرائب أو التضخم أو كليهما.
حتى بدايات القرن العشرين، فضّل معظم علماء الاقتصاد ومستشاري الحكومات الموازنات المتكافئة أو ذات الفائض، ثم جاءت الثورة الكينزية، وبرز علم الاقتصاد الكلي الموجه بالطلب، ما أعطى إنفاق الحكومات أموالًا أكثر مما يعود عليها من إيرادات قبولًا سياسيًا، وأصبح بإمكان الحكومات أن تستهدف سياسةً ماليةً تتضمن الاقتراض بغرض الإنفاق.
رفض كينز فكرة عودة الاقتصاد التلقائية إلى حالة توازن السوق الطبيعية، وجادل بأن التشاؤم والقلق اللذان يعتريان الأعمال والمستثمرين عند ظهور بوادر انهيار اقتصادي، مهما كانت أسبابه، قد يجران الاقتصاد إلى حلقة مفرغة تنتهي إلى حالة من الكساد والبطالة المزمنة. لمواجهة ذلك، دعم كينز تنفيذ سياسات مالية للتغلب على التقلبات الدورية عند مرور الاقتصاد بمصاعب، تتعهد فيها الحكومة باستخدام الإنفاق الممول بالعجز لتعويض نقص الاستثمار ودفع الإنفاق الاستهلاكي، بهدف إرجاع استقرار الطلب الكلي.
كان من المتوقع وصول عجز موازنة الولايات المتحدة الفيدرالية سنة 2020 إلى 1.103 تريليون دولار، لأن إنفاق الحكومة حاليًا يفوق إيراداتها كثيرًا. وفقًا لوكالة أسوشيتد برس، فقد وقعت موازنة السنة المالية 2019 في عجز قدره 1.09 تريليون دولار. وأظهرت موازنة 2020 تفوّق النفقات التي بلغت 4.529 تريليون على 3.438 تريليون من الإيرادات المتوقعة.
يعزى هذا العجز إلى ثلاثة عوامل، أولها تداعيات أحداث 11 سبتمبر، وما عُرف بالحرب على الإرهاب، ما أضاف 2.02 تريليون من الديون منذ عام 2001، وضاعف الإنفاق العسكري.
سبب آخر لتفاقم العجز هو تخفيض الضرائب، إذ تخسر الحكومة من إيراداتها مقابل كل دولار تخفضه من الضرائب. فمثلًا، خطط الرئيس ترامب لتخفيض 1.5 تريليون دولار من مجموع الضرائب على مدى عشر سنوات، ما كان سيزيد من العجز وينقص الإيرادات. لكن اللجنة المشتركة للضرائب توقعت أن يحفز هذا البرنامج النمو بنسبة 0.7% سنويًا، ليعوض بعضًا من الإيرادات الضائعة.
ثالثًا، تساهم نفقات الضمان الاجتماعي في خلق عجز الموازنة، فقد بلغت نسبة الإنفاق على الرعاية الصحية 15% من إجمالي الإنفاق الفيدرالي عام 2018، ومن المتوقع أن تبلغ 18% بحلول عام 2029.
من المتوقع أن تشهد السنوات القليلة القادمة توسعًا في العجز، نظرًا إلى ما سببته جائحة كورونا من ارتفاع في معدلات البطالة وإغلاق للأعمال، ما أثر سلبًا في إيرادات الحكومة من الضرائب، وفي الوقت ذاته أقرّ الكونغرس حزمة تحفيز بلغت 2.2 تريليون دولار مستهدفًا تخفيف حدة الصدمة التي أصابت الاقتصاد نتيجة الجائحة. عظّمت حزمة التحفيز هذه من فجوة عجز الموازنة، ومن المتوقع أن تستمر آثارها طويلًا.
تأثير العجز في المدى القصير
تعتمد تبعات العجز في المدى القصير على طبيعة هذا العجز، فإذا نجم عن زيادة الإنفاق، مثل الإنفاق على مشاريع البنية التحتية أو المساعدات الممنوحة إلى الشركات، يحدث تحفيز قصير المدى في عمليات تلك القطاعات التي تلقت الإنفاق وأرباحها. لكن العجز الناجم عن نقص إيرادات الحكومة، سواءً بسبب تخفيض الضرائب أم ضعف النشاط الاقتصادي، لا يُحدِث أي أثر مُحفّز. ومع أن حزم الإنفاق التحفيزية تُعد موضعًا للجدل، فلا شك في استفادة قطاعات محددة منها على المدى القصير.
تمويل العجز
لابد لأي عجز من تمويل، يتمثل ببيع الأوراق المالية الحكومية مثل سندات الخزانة التي يشتريها الجمهور من أفراد وشركات، وتشتريها حكومات أخرى أيضًا، وبهذا فإنهم يقرضون الحكومة مقابل وعد بسداد قيمة الدين مستقبلًا.
يضفي ذلك أثرًا أوليًّا واضحًا يتمثل في خفض إجمالي الأموال المتاحة للإقراض أو الاستثمار في أعمال أخرى، إذ لن يتمكن شخص أقرض الحكومة 5000 دولار من استخدام المبلغ ذاته في شراء أسهم أو سندات شركات خاصة، لذا يتمثل أثر العجز في إنقاص مخزون رأس المال المحتمل في الاقتصاد، إلا إن قرر الاحتياطي الفيدرالي إنفاق كامل الأموال المقترضة، عندها يتمثل التهديد في التضخم.
يؤثر بيع الأوراق المالية الحكومية تأثيرًا مباشرًا في أسعار الفائدة، فالسندات الحكومية هي أكثر الاستثمارات أمانًا، لذا تمثل الفائدة المدفوعة مقابل إقراض الحكومة استثمارًا خاليًا من المخاطر ومنافسًا لجميع أدوات الاستثمار الأخرى تقريبًا. إذا كانت الفائدة على السندات الحكومية 2% مثلًا، ينبغي للأصول المالية الأخرى عرض عائد مرتفع كفايةً لجذب المشترين بعيدًا عن تلك السندات.
يستخدم الاحتياطي الفيدرالي هذه الخاصية عندما يتدخل في عمليات السوق المفتوح بهدف تعديل أسعار الفائدة لتتناسب مع محددات السياسة المالية.
ما الحدود المفروضة على العجز؟
رغم عدم الاكتراث الظاهري تجاه نمو العجز الهائل، وبلوغ الالتزامات الفيدرالية أرقامًا فلكية، توجد حدود واقعية وقانونية ونظرية وسياسية مفروضة على المقدار الذي يمكن أن تمتد إليه ديون الحكومة، إلا أن هذه الحدود ليست صغيرةً بالقدر الذي يفضله الكثيرون.
عمليًا، لا تستطيع حكومة الولايات المتحدة تمويل العجز إن لم تجتذب المقترضين. يشتري الأفراد والشركات وحكومات الدول الأخرى سندات وأذون الخزانة الأمريكية مدفوعين بثقتهم في الحكومة الفيدرالية، ويوافقون بذلك على إقراضها المال، فيشتري الاحتياطي الفيدرالي السندات، ويُعد هذا جزءًا من إجراءات السياسة المالية. لذلك يشكل قلة عدد المقرضين محدِّدًا حقيقيًا للعجز، ومن ثم يبرز احتمال التخلف عن السداد.
يمتلك إجمالي الدين الحكومي تبعات سلبيةً على المدى البعيد، تتمثل في عدم القدرة على مواجهة دفعات فائدة الدين عبر مسار إيرادات الحكومة الطبيعي «فرض الضرائب والاقتراض». وهنا تواجه الحكومة 3 خيارات: إما أن تضغط النفقات وتبيع بعض الأصول، وإما أن تطبع مزيدًا من النقود تغطي بها النقص، وإما أن يعلن البلد تخلفه عن سداد التزامات الديون. قد يؤدي التوسع في طباعة النقود، إلى مستويات عالية من التضخم، ما يحد من استخدام هذه الاستراتيجية.
نظرة تاريخية
يحظى مفهوم العجز المالي بدعم عدد كبير من علماء الاقتصاد ومحللي السياسات وموظفي الحكومة والسياسيين والمراقبين، وإن اختلفت ظروف دعمهم ودرجاته. يُعد الإنفاق الممول بالعجز من أهم أدوات الاقتصاد الكينزي، إذ آمن الاقتصادي البريطاني جون مينارد كينز بأن الإنفاق يحفز النشاط الاقتصادي، وأن العجز المالي قد يكون حلًا تستخدمه الحكومات لإنقاذ الاقتصاد في الأزمات.
يُعد ألكسندر هاميلتون أول من رسم خطة عجز حقيقية ونفذها في الولايات المتحدة عام 1789، وكان حينها وزيرًا للخزانة، فقد رأى هاميلتون في العجز وسيلةً لتأكيد نفوذ الحكومة بصورة تُشابه ما فعلته بريطانيا عندما ساعدتها سندات الحرب في التفوق المالي على فرنسا في أثناء الخلافات بينهما في القرن الثامن عشر. سارت الحكومات على هذا النهج، واختارت اقتراض الأموال لتمويل الحروب عندما لم يكن فرض الضرائب كافيًا أو مجديًا.
إيجابيات العجز
يعتمد السياسيون وصناع القرار على العجز لتوسيع برامجهم ذات الشعبية، مثل برامج الإعانة والأشغال العامة، دون الحاجة إلى زيادة الضرائب أو ضغط النفقات في مواضع أخرى في الموازنة. وبهذا يشجع العجز المالي الأنشطة الريعية وتخصيص الموارد بدوافع سياسية، وتجاهر بعض الشركات بدعمها للعجز المالي لو كان ذلك يضمن تلقيها الدعم الحكومي.
لا ينظر الكثيرون إلى توسع الدين الحكومي بسلبية، بل يذهب بعض الخبراء إلى حد القول إن العجز المالي مقبول بافتراض «أننا ندين بهذه الأموال لأنفسنا»، وهو ادعاء خاطئ، لأن أدوات الدين الحكومي يشتريها الدائنون الأجانب بكثرة، إضافةً إلى أن هذا الادعاء يتجاهل كثيرًا من حجج علم الاقتصاد الكلي الموجهة ضد الإنفاق الممول بالعجز.
يحظى العجز المالي الحكومي بدعم نظري واسع في مدارس اقتصادية محددة، وبشبه إجماع على دعمه بين السياسيين المنتخبين، وتميل الإدارات المتعاقبة من المحافظين والليبراليين على حد سواء إلى الاعتماد على العجز المالي بحجة خفض الضرائب وتحفيز الإنفاق والإعانة الاجتماعية والخدمات العامة والبنية التحتية وتمويل الحرب وحماية البيئة. سواءً أفصح الناخبون عن شعورهم أم لم يفصحوا، فإنهم يميلون إلى الاعتقاد بأن العجز المالي فكرةً جيدة، ما يعزى إلى رغبتهم في الحصول على الخدمات الحكومية المكلفة ودفع ضرائب منخفضة في الوقت ذاته.
سلبيات العجز
على الجانب الآخر هاجم الكثير من المفكرين الاقتصاديين، في مختلف المراحل، العجز المالي وانتقدوا دوره في إزاحة الاقتراض الخاص من المنافسة، والتلاعب بأسعار الفائدة، ودعم الشركات غير المنافسة، وتضخيم تأثير العوامل غير المرتبطة بالسوق. ومع ذلك بقي العجز يتمتع بشعبية في أوساط خبراء الاقتصاد الحكوميين منذ أن شرَّع كينز استخدامه في الثلاثينيات.
تشكل «السياسة المالية التوسعية» أساس تقنيات كينز في محاربة الكساد، وتعطي أيضًا مبررًا اقتصاديًا لما يميل إليه ممثلو الشعب المنتخبون بإنفاقهم الأموال مع أقل عواقب ممكنة على المدى القصير.
دعا كينز أساسًا إلى استخدام العجز في أثناء الكساد وتعويض النقص حال تعافي الاقتصاد، لكن هذا قليل الحدوث، فنادرًا ما تحظى إجراءات مثل زيادة الضرائب وضغط البرامج الحكومية بالتأييد الشعبي حتى في أوقات الرخاء، لذا أصبح الاتجاه السائد لدى الحكومات هو الدخول في العجز سنةً بعد أخرى، ومراكمة كمية هائلة من الدين العام.
الخلاصة
عمومًا، يُنظَر إلى العجز المالي نظرةً سلبية. وفي حين يقترح علم الاقتصاد الكلي في المدرسة الكينزية أن العجز ضروري أحيانًا لتحفيز الطلب الكلي بعد ثبوت عدم فعالية السياسة النقدية، يرى اقتصاديون آخرون أن العجز يزاحم الاقتراض في القطاع الخاص ويتلاعب بالأسواق. يرى فريق آخر أن اقتراض المال اليوم يقتضي تراكم الفوائد مستقبلًا، ما يعد عقوبةً ظالمةً تطال الأجيال القادمة من دافعي الضرائب الذين سيدفعون مقابل سد احتياجات مستفيدين حاليين، أو حتى ثمن شراء أصواتهم. حال أصبح العجز المالي غير مجدٍ سياسيًا، فقد تفرض العملية الديمقراطية حدودًا على عجز الحسابات الجارية.
أثر العجز المالي في الاقتصاد
تختلف مواقف علماء الاقتصاد ومحللي السياسات تجاه أثر العجز المالي في الاقتصاد، يرى البعض مثل بول كروغمان -الحائز على جائزة نوبل- أن الحكومة لا تنفق ما يكفي من الأموال، وأن التعافي البطيء من الكساد الكبير بين عامي 2007 و2009 يُرَد إلى إحجام الكونغرس عن زيادة العجز المالي الذي سيدفع عجلة الطلب الكلي إلى الأمام.
يجادل فريق آخر بأن عجز الموازنة يهدد نشاط الاقتراض في القطاع الخاص ويشوه بنية رأس المال وأسعار الفائدة، ويحجّم صافي الصادرات، ويقود إلى زيادة الضرائب أو التضخم أو كليهما.
حتى بدايات القرن العشرين، فضّل معظم علماء الاقتصاد ومستشاري الحكومات الموازنات المتكافئة أو ذات الفائض، ثم جاءت الثورة الكينزية، وبرز علم الاقتصاد الكلي الموجه بالطلب، ما أعطى إنفاق الحكومات أموالًا أكثر مما يعود عليها من إيرادات قبولًا سياسيًا، وأصبح بإمكان الحكومات أن تستهدف سياسةً ماليةً تتضمن الاقتراض بغرض الإنفاق.
رفض كينز فكرة عودة الاقتصاد التلقائية إلى حالة توازن السوق الطبيعية، وجادل بأن التشاؤم والقلق اللذان يعتريان الأعمال والمستثمرين عند ظهور بوادر انهيار اقتصادي، مهما كانت أسبابه، قد يجران الاقتصاد إلى حلقة مفرغة تنتهي إلى حالة من الكساد والبطالة المزمنة. لمواجهة ذلك، دعم كينز تنفيذ سياسات مالية للتغلب على التقلبات الدورية عند مرور الاقتصاد بمصاعب، تتعهد فيها الحكومة باستخدام الإنفاق الممول بالعجز لتعويض نقص الاستثمار ودفع الإنفاق الاستهلاكي، بهدف إرجاع استقرار الطلب الكلي.
- مهم: يختلف العجز المالي عن العجز التجاري، إذ يحدث العجز التجاري حين تفوق واردات الدولة صادراتها.
كان من المتوقع وصول عجز موازنة الولايات المتحدة الفيدرالية سنة 2020 إلى 1.103 تريليون دولار، لأن إنفاق الحكومة حاليًا يفوق إيراداتها كثيرًا. وفقًا لوكالة أسوشيتد برس، فقد وقعت موازنة السنة المالية 2019 في عجز قدره 1.09 تريليون دولار. وأظهرت موازنة 2020 تفوّق النفقات التي بلغت 4.529 تريليون على 3.438 تريليون من الإيرادات المتوقعة.
يعزى هذا العجز إلى ثلاثة عوامل، أولها تداعيات أحداث 11 سبتمبر، وما عُرف بالحرب على الإرهاب، ما أضاف 2.02 تريليون من الديون منذ عام 2001، وضاعف الإنفاق العسكري.
سبب آخر لتفاقم العجز هو تخفيض الضرائب، إذ تخسر الحكومة من إيراداتها مقابل كل دولار تخفضه من الضرائب. فمثلًا، خطط الرئيس ترامب لتخفيض 1.5 تريليون دولار من مجموع الضرائب على مدى عشر سنوات، ما كان سيزيد من العجز وينقص الإيرادات. لكن اللجنة المشتركة للضرائب توقعت أن يحفز هذا البرنامج النمو بنسبة 0.7% سنويًا، ليعوض بعضًا من الإيرادات الضائعة.
ثالثًا، تساهم نفقات الضمان الاجتماعي في خلق عجز الموازنة، فقد بلغت نسبة الإنفاق على الرعاية الصحية 15% من إجمالي الإنفاق الفيدرالي عام 2018، ومن المتوقع أن تبلغ 18% بحلول عام 2029.
من المتوقع أن تشهد السنوات القليلة القادمة توسعًا في العجز، نظرًا إلى ما سببته جائحة كورونا من ارتفاع في معدلات البطالة وإغلاق للأعمال، ما أثر سلبًا في إيرادات الحكومة من الضرائب، وفي الوقت ذاته أقرّ الكونغرس حزمة تحفيز بلغت 2.2 تريليون دولار مستهدفًا تخفيف حدة الصدمة التي أصابت الاقتصاد نتيجة الجائحة. عظّمت حزمة التحفيز هذه من فجوة عجز الموازنة، ومن المتوقع أن تستمر آثارها طويلًا.
تأثير العجز في المدى القصير
تعتمد تبعات العجز في المدى القصير على طبيعة هذا العجز، فإذا نجم عن زيادة الإنفاق، مثل الإنفاق على مشاريع البنية التحتية أو المساعدات الممنوحة إلى الشركات، يحدث تحفيز قصير المدى في عمليات تلك القطاعات التي تلقت الإنفاق وأرباحها. لكن العجز الناجم عن نقص إيرادات الحكومة، سواءً بسبب تخفيض الضرائب أم ضعف النشاط الاقتصادي، لا يُحدِث أي أثر مُحفّز. ومع أن حزم الإنفاق التحفيزية تُعد موضعًا للجدل، فلا شك في استفادة قطاعات محددة منها على المدى القصير.
تمويل العجز
لابد لأي عجز من تمويل، يتمثل ببيع الأوراق المالية الحكومية مثل سندات الخزانة التي يشتريها الجمهور من أفراد وشركات، وتشتريها حكومات أخرى أيضًا، وبهذا فإنهم يقرضون الحكومة مقابل وعد بسداد قيمة الدين مستقبلًا.
يضفي ذلك أثرًا أوليًّا واضحًا يتمثل في خفض إجمالي الأموال المتاحة للإقراض أو الاستثمار في أعمال أخرى، إذ لن يتمكن شخص أقرض الحكومة 5000 دولار من استخدام المبلغ ذاته في شراء أسهم أو سندات شركات خاصة، لذا يتمثل أثر العجز في إنقاص مخزون رأس المال المحتمل في الاقتصاد، إلا إن قرر الاحتياطي الفيدرالي إنفاق كامل الأموال المقترضة، عندها يتمثل التهديد في التضخم.
يؤثر بيع الأوراق المالية الحكومية تأثيرًا مباشرًا في أسعار الفائدة، فالسندات الحكومية هي أكثر الاستثمارات أمانًا، لذا تمثل الفائدة المدفوعة مقابل إقراض الحكومة استثمارًا خاليًا من المخاطر ومنافسًا لجميع أدوات الاستثمار الأخرى تقريبًا. إذا كانت الفائدة على السندات الحكومية 2% مثلًا، ينبغي للأصول المالية الأخرى عرض عائد مرتفع كفايةً لجذب المشترين بعيدًا عن تلك السندات.
يستخدم الاحتياطي الفيدرالي هذه الخاصية عندما يتدخل في عمليات السوق المفتوح بهدف تعديل أسعار الفائدة لتتناسب مع محددات السياسة المالية.
ما الحدود المفروضة على العجز؟
رغم عدم الاكتراث الظاهري تجاه نمو العجز الهائل، وبلوغ الالتزامات الفيدرالية أرقامًا فلكية، توجد حدود واقعية وقانونية ونظرية وسياسية مفروضة على المقدار الذي يمكن أن تمتد إليه ديون الحكومة، إلا أن هذه الحدود ليست صغيرةً بالقدر الذي يفضله الكثيرون.
عمليًا، لا تستطيع حكومة الولايات المتحدة تمويل العجز إن لم تجتذب المقترضين. يشتري الأفراد والشركات وحكومات الدول الأخرى سندات وأذون الخزانة الأمريكية مدفوعين بثقتهم في الحكومة الفيدرالية، ويوافقون بذلك على إقراضها المال، فيشتري الاحتياطي الفيدرالي السندات، ويُعد هذا جزءًا من إجراءات السياسة المالية. لذلك يشكل قلة عدد المقرضين محدِّدًا حقيقيًا للعجز، ومن ثم يبرز احتمال التخلف عن السداد.
يمتلك إجمالي الدين الحكومي تبعات سلبيةً على المدى البعيد، تتمثل في عدم القدرة على مواجهة دفعات فائدة الدين عبر مسار إيرادات الحكومة الطبيعي «فرض الضرائب والاقتراض». وهنا تواجه الحكومة 3 خيارات: إما أن تضغط النفقات وتبيع بعض الأصول، وإما أن تطبع مزيدًا من النقود تغطي بها النقص، وإما أن يعلن البلد تخلفه عن سداد التزامات الديون. قد يؤدي التوسع في طباعة النقود، إلى مستويات عالية من التضخم، ما يحد من استخدام هذه الاستراتيجية.
نظرة تاريخية
يحظى مفهوم العجز المالي بدعم عدد كبير من علماء الاقتصاد ومحللي السياسات وموظفي الحكومة والسياسيين والمراقبين، وإن اختلفت ظروف دعمهم ودرجاته. يُعد الإنفاق الممول بالعجز من أهم أدوات الاقتصاد الكينزي، إذ آمن الاقتصادي البريطاني جون مينارد كينز بأن الإنفاق يحفز النشاط الاقتصادي، وأن العجز المالي قد يكون حلًا تستخدمه الحكومات لإنقاذ الاقتصاد في الأزمات.
يُعد ألكسندر هاميلتون أول من رسم خطة عجز حقيقية ونفذها في الولايات المتحدة عام 1789، وكان حينها وزيرًا للخزانة، فقد رأى هاميلتون في العجز وسيلةً لتأكيد نفوذ الحكومة بصورة تُشابه ما فعلته بريطانيا عندما ساعدتها سندات الحرب في التفوق المالي على فرنسا في أثناء الخلافات بينهما في القرن الثامن عشر. سارت الحكومات على هذا النهج، واختارت اقتراض الأموال لتمويل الحروب عندما لم يكن فرض الضرائب كافيًا أو مجديًا.
إيجابيات العجز
يعتمد السياسيون وصناع القرار على العجز لتوسيع برامجهم ذات الشعبية، مثل برامج الإعانة والأشغال العامة، دون الحاجة إلى زيادة الضرائب أو ضغط النفقات في مواضع أخرى في الموازنة. وبهذا يشجع العجز المالي الأنشطة الريعية وتخصيص الموارد بدوافع سياسية، وتجاهر بعض الشركات بدعمها للعجز المالي لو كان ذلك يضمن تلقيها الدعم الحكومي.
لا ينظر الكثيرون إلى توسع الدين الحكومي بسلبية، بل يذهب بعض الخبراء إلى حد القول إن العجز المالي مقبول بافتراض «أننا ندين بهذه الأموال لأنفسنا»، وهو ادعاء خاطئ، لأن أدوات الدين الحكومي يشتريها الدائنون الأجانب بكثرة، إضافةً إلى أن هذا الادعاء يتجاهل كثيرًا من حجج علم الاقتصاد الكلي الموجهة ضد الإنفاق الممول بالعجز.
يحظى العجز المالي الحكومي بدعم نظري واسع في مدارس اقتصادية محددة، وبشبه إجماع على دعمه بين السياسيين المنتخبين، وتميل الإدارات المتعاقبة من المحافظين والليبراليين على حد سواء إلى الاعتماد على العجز المالي بحجة خفض الضرائب وتحفيز الإنفاق والإعانة الاجتماعية والخدمات العامة والبنية التحتية وتمويل الحرب وحماية البيئة. سواءً أفصح الناخبون عن شعورهم أم لم يفصحوا، فإنهم يميلون إلى الاعتقاد بأن العجز المالي فكرةً جيدة، ما يعزى إلى رغبتهم في الحصول على الخدمات الحكومية المكلفة ودفع ضرائب منخفضة في الوقت ذاته.
سلبيات العجز
على الجانب الآخر هاجم الكثير من المفكرين الاقتصاديين، في مختلف المراحل، العجز المالي وانتقدوا دوره في إزاحة الاقتراض الخاص من المنافسة، والتلاعب بأسعار الفائدة، ودعم الشركات غير المنافسة، وتضخيم تأثير العوامل غير المرتبطة بالسوق. ومع ذلك بقي العجز يتمتع بشعبية في أوساط خبراء الاقتصاد الحكوميين منذ أن شرَّع كينز استخدامه في الثلاثينيات.
تشكل «السياسة المالية التوسعية» أساس تقنيات كينز في محاربة الكساد، وتعطي أيضًا مبررًا اقتصاديًا لما يميل إليه ممثلو الشعب المنتخبون بإنفاقهم الأموال مع أقل عواقب ممكنة على المدى القصير.
دعا كينز أساسًا إلى استخدام العجز في أثناء الكساد وتعويض النقص حال تعافي الاقتصاد، لكن هذا قليل الحدوث، فنادرًا ما تحظى إجراءات مثل زيادة الضرائب وضغط البرامج الحكومية بالتأييد الشعبي حتى في أوقات الرخاء، لذا أصبح الاتجاه السائد لدى الحكومات هو الدخول في العجز سنةً بعد أخرى، ومراكمة كمية هائلة من الدين العام.
الخلاصة
عمومًا، يُنظَر إلى العجز المالي نظرةً سلبية. وفي حين يقترح علم الاقتصاد الكلي في المدرسة الكينزية أن العجز ضروري أحيانًا لتحفيز الطلب الكلي بعد ثبوت عدم فعالية السياسة النقدية، يرى اقتصاديون آخرون أن العجز يزاحم الاقتراض في القطاع الخاص ويتلاعب بالأسواق. يرى فريق آخر أن اقتراض المال اليوم يقتضي تراكم الفوائد مستقبلًا، ما يعد عقوبةً ظالمةً تطال الأجيال القادمة من دافعي الضرائب الذين سيدفعون مقابل سد احتياجات مستفيدين حاليين، أو حتى ثمن شراء أصواتهم. حال أصبح العجز المالي غير مجدٍ سياسيًا، فقد تفرض العملية الديمقراطية حدودًا على عجز الحسابات الجارية.