الذكاء الاصطناعى..وخلط الأنساب !
-----------------------------------------------------
كما تهب الأعاصير وموجات الحرارة اللاهبة نتيجة التقلبات الجنونية للطبيعة، كذلك تهب أعاصير من نوع آخر صنعها الإنسان بذكائه الطبيعى كحلقة من حلقات الإبداع الأرقى، فإذا بها تهدد إبداعه وتعطل ذكاءه وتسلب منه زمام القيادة لمصيره، فهى تحل محل عقله وخياله ، وتساوى بين العبقرى الموهوب وبين العاطل من العبقرية والموهبة ، عن طريق الآلة التى صنعتها عبقرية العلماء وهى كفيلة بجعله سيد الكون ، فانتهت إلى أن تجعل منه عبدا مطيعا ومستسلما لإرادتها وخياراتها ، ولِما تختاره له من أفكار وتصورات لحياته ومستقبله ، بل لفنه وإبداعه.
هذه الآلة هى تطبيق لبرنامج ألكترونى اشتهر باسم "الذكاء الاصطناعى" ، مع انه قمة الذكاء الطبيعى للإنسان حتى الآن ، وجدير بأن يستخدمه لتحقيق المزيد من التقدم والكشف عن المجهول فى الكون ، فإذا بهذا البرنامج يصبح كيانا أسطوريا يقوده إلى المجهول فى المستقبل، مع أنه (أى الإنسان) هو من يعطيه الأوامر ويغذيه بالمعلومات ، حتى يستجيب له ببدائل متعددة لما يطلبه منه تبعا لهذه المعلومات والأوامر.
وقد لا يمثل ذلك خطرا فيما يتعلق بالاختراعات العلمية أو بالحلول العملية لمشكلات واقعية أو مادية، بل يعتبر الذكاء الاصطناعى فى هذا الجانب عونا للعالِم الذى يقوم بالتخطيط والتصميم لأعمال تؤدى إلى التطور، وتلك كانت رسالة العلم ومهمة البحث والتجريب على مر التاريخ، وهى ما نقلت البشرية إلى ما بلغته من تقدم حتى الآن ، لكن المشكلة تكمن فيما يتعلق بالإبداع الفنى بكافة أشكاله ، من فنون تشكيلية كالرسم والنحت والعمارة والحفر، ومن فنون مسرحية وسينمائية وموسيقية وغنائية...الخ ، لان الفن قرين الحلم والخيال ، ووليد المشاعر والأحاسيس، وصاحب الفرادة والرؤية الخاصة بالفنان كالبصمة التى لا يشترك معه فيها أحد ، فلو فقدها فَقَدَ هويته ومبرر وجوده كفنان ، مهما امتلك من تقنيات ومهارات أسلوبية ، أما الذكاء الاصطناعى فلا يملك شيئا من ذلك كله ، فهو قائم على المحاكاة وتخزين المعلومات لما لا يحصى من الخبرات والأساليب الفنية والتلاعب بها طبقا لما يغذٌَى به ولما يتلقاه من طلبات من أى مستخدم للتطبيق وليس بالضرورة أن يكون فنانا ، فيكفى أن يطلب منه هذا المستخدم عملا فنيا فى موضوع معين بأسلوب الفنان محمود سعيد على سبيل المثال، فيقدم له التطبيق بعد ثوان مجموعة لوحات مختلفة لم يرسمها محمود سعيد لكنها تحمل أسلوبه الفنى، ليختار منها واحدة، فإذا أعاد الطلب انطلاقا منها راغبا فى أن تكون جامعة بين أسلوب محمود سعيد وحسين بيكار مثلا ، يسرع التطبيق بتقديم مجموعة لوحات أخرى بنكهة هذه اللوحة ليختار المستخدم منها ما يشاء ، ولو شاءأن يضيف إليها نكهة الجزار أو ندا أو أى فنان آخر فما عليه إلا أن يكتب للتطبيق هذه الرغبة فيعطيه ما يشاء.. وهكذا حتى يستقر على نتيجة يرضى عنها لكنها تحمل نكهات الفنانين جميعا، عبر مزيج من التقنيات اللونية وإيقاعات الخطوط وطرق التظليل وأساليب اللمسات التى يتميزون بها، بل وبنفس التحريفات الفنية والإيماءات التعبيرية، وينطبق ذلك أيضا على المدارس والاتجاهات العالمية، بل وعلى الحضارات التاريخية. ويمكن للمستخدم أن يطلب تحويل لوحةواقعية معينة إلى لوحة سريالية او تأثيرية أو حتى تجريدية، فيأتيه بها التطبيق فى عدة بدائل وفى لمح البصر، أو أن يطلب منه المستخدم تكوينا لبعض الراقصات او الجالسات فى استرخاء أو فى نزهة نهرية عدة مرات، مرة بأسلوب فرعونى ومرة بأسلوب هندى ومرة بأسلوب يونانى ومرة بأسلوب شعبى، وقد يعيد الطلب فى كل مرة بحيث تكون اللوحة بأسلوب واقعى أو تأثيرى أو تكعيبى أو بأى مدرسة حداثية، مع تغيير الخلفيات التى تظهر وراءهن من مناظر طبيعية أو عناصر مختلفة، فتصبح لديه فى الحال عشرات الخيارات بعشرات الأساليب والمذاقات والحالات التعبيرية والخيالية ، فيختار من بينها ما يشاء ثم يطبعه على الورق أو القماش كعمل فنى جديد خاص به، ويضع عليه توقيعه الحى ويعرضه للبيع فى معرض خاص، دون أن يشير إلى المصادر الفنية التى أخذ منها لو كان يعرفها، فتختلط فى المعرض الأنساب والجينات وتضطرب الهوية والبصمة الذاتية للفنان حتى وإن بدا المعرض مليئا بالحيوية والمهارات الفنية المغرية بالاقتناء او المثيرة للإعجاب بالنسبة للمشاهد غير المتخصص او غير الدارس الذى يبحث عن عمل لمجرد الزينة او المتعة الفنية العابرة، دون ثقافة تشكيلية للتمييز بين الأساليب الفردية للفنانين أو بين المدارس الفنية المختلفة.
هذا ما ترسب عندى من انطباعات وأنا فى زيارة معرض الفنانة الكبيرة د. علية عبد الهادى بقاعة بيكاسو بالزمالك، وهى أستاذة أكاديمية محترمة تخرجت على يديها أجيال وأجيال بقسم العمارة الداخلية بكلية الفنون الجميلة بالقاهرة، انطباعاتى قامت على مشاهد ملموسة رأيتها فى المعرض مستمدة من حضارات مختلفة وموضوعات متنوعة، ومن أساليب متعددة لأكثر من مدرسة ومن فنان . وعندما سألتها عن مصادرها الفنية قالت إنها لا تعرفها تحديدا لأنها طلبت من تطبيق البرنامج أعمالا بالصفات التى ظهرت فى اللوحات، وهذا هو مضمون ما صاغته فى كلمتها بكتالوج المعرض قائلة عن هذا التطبيق: " إنه كمولٌِد لأعمال فنية سواء لتصميمات أو لوحات تشكيلية، باستخدام يحول الكلمات إلى تصميمات فنية فى عشر،ثوان"..وأضافت:"كان شاغلى الرئيسى هو أن اللوحات يجب أن يكون لها هوية يمكن أن تمثل أعمالى الخاصة الأصلية عند رسمها"..وعندما أوضحتُ لها اختلاط الهويات والأنساب والمصادر فى أعمال المعرض قالت إنها مجرد تجارب معملية ودراسات بحثية فى التقنيات للاستفادة من نتائجها فى أعمال فنية أصلية.
والحقيقة أن التجارب المعملية والدراسات البحثية ليس مكانها قاعات العرض الجماهيرية التى تزورها مختلف المستويات فى التذوق والثقافة الفنية(خاصة وأن أعمال فنانتنا متاحة للبيع)، بل مكانها مراسم الفنانين وورش التجريب الأكاديمى ، حتى لا تؤدى هذه التجارب غير المكتملة او غير اليقينية فى نتائجها إلى إعجاب البعض من ذوى الثقافة السطحية الباحثين عن اقتناء أعمال لمجرد الزينة ، فقد يظنونها لوحات أصلية من إبداع الفنانة فيقبلون على شرائها، وقد يؤدى ذلك إلى بلبلة المشاهد واضطراب رؤيته الفنية، فإذا وضع صانع هذا النوع من الأعمال توقيعه عليها فإنه يلامس الخيط الرفيع بين الإبداع والتزوير، حيث ينسب إلى نفسه مقتطعات فنية ليست من إبداعه على أنها عمله الخاص، وبتركنا هذا الحبل على الغارب فكأننا نقنن أو نشَرٌِع للأجيال الجديدة والمشتغلين بالفن - بل وربما للمتطفلين عليه - ممارسة هذا الأسلوب والتربح من ورائه باسم البحث والتجريب، حتى يصبح السطو على أساليب الفنانين منهجا مشروعا ومعترفا به. وإذا كان فى مقدور أى مستخدم للتطبيق يملك بعض الدراية بالأساليب الفنية (حتى ولو لم يكن فنانا او كان متواضع الموهبة) الحصول على النتائج التى يريدها، فأى قيمة ستبقى للفنان الحقيقى وأى أهمية لوجوده؟..بل وأى قيمة ستكون للفن الذى نتوقع أن تسفر عنه مثل هذه التجارب فى المستقبل؟!