حكايات الرجل العجوز - الحلاقة في أمريكا
يرويها لكم : محمود الجمل
قبل حوالي40 عاماً تقريباً، شددت الرّحال الى بلاد الفرنجة "أمريكا" طالباً العلم، ولا انسى أنه في بداية دراستي في الجامعة، طُلب مني في أول حصة للغة الإنجليزية، أن أكتب أول موضوع إنشاء يجيب على سؤال بسيط .. وهو لماذا اخترت أمريكا للدراسة؟
بدأتُ الكتابة وحاولت أن أكتب ما قد يدور في رأس معظم الناس من وصف للديمقراطية الأمريكية، وما يتمتع به الناس من حرية هناك، لكنني لم أُكمل، وشعرت بأنني منافق فيما أكتب، فقمتُ بتمزيق الورقة ووضعها في سلة المهملات، وقررت ألا اكتب شيئاً، لكن أصر الأستاذ أن هذا الواجب سيكون الفاصل بين الالتحاق بالجامعة رأساً، أو إرسالي إلى معهد لتعلم اللغة لمدة سنة، وحيث أنني متاخرٌ أصلا ثماني سنوات عن إكمال دراستي الجامعية استعنت بالله وبدأت بكاتبة ما يلي:
"إنني اولاً كفلسطسني، لا أملك حق الاختيار في شيء، فمنذ ولادتي وأنا ارى بأن كل الناس حولي ينفذون ما يُأمرون به، فقد أُمرو أن يتركوا بلادهم، وأُمروا أن يكون كل قسم منهم تحت وصاية دولة ما، ليس له أي خيار في إدارة حياته سوى أن يكون محكوماً طائعاً، وإلا سوف يتهم بأنه هو السبب في كل الكوارث الطبيعية او الصناعية. نظرت إلى كل تلك الحكومات العربية ووجدت أنها تحت وصاية الولايات المتحدة وأن بدا بعضهم متمرداً عليها، والتاريخ يشهد على ذلك، بهذه الحالة قررت أن أكون عملياً لأول مرة في حياتي، وقلت لماذا لا ألعب نفس اللعبة؟ وماذا يضيرني إذا تخرجت من بلاد الأم الناهية لجميع هؤلاء الأعراب؟ وبذلك أضمن كل حقوقى في هذا العالم المهزوم والمؤزوم، لذلك قررت أن أذهب إلى هذه البلد (أمريكا) ليس حبا للديمقراطية والحرية، وكيف لي أن أدعي بأنني أستمتع بهما إذا لم أعتدهما يوماً، هل تظن بأن من تعود أكل الفلافل يستمتنع بالبيتزا؟"
سلمتُ الورقة إلى الأستاذ، ولم يمضِ وقتٌ طويل قبل أن ينادي علي، وعلى وجهه تعلو ابتسامة مخلوطة بالدهشة قائلا: "أنت خطير، ولكنك صادق في مشاعرك، أهلا بك في أمريكا، لقد نجحت في الاختبار".
مر أول شهر وبدأ شعر رأسي يطول، ثم مضى شهرٌ آخر وأصبح رأسي يبدو كنتشة مجعدة (لمن لا يعرف النتش؛ هو نبات بري به كثيرٌ من الأشواك المجعدة)، والسبب أنني لم أجد حلاقاً بالمواصفات والمقاييس التي تعودت عليها، فكلما عثرت على محل حلاقة اكتشف أن الحلاق امرأة، وأن الزبائن خليط من النساء والرجال، وبذلك لم أجد الشجاعة حتى للتجربة.
كان رفيق دربي في غربتي الذي كنت أعيش معه في نفس الشقة، خريج أحد مخيمات اللاجئين، وكان يحمل نفس العادات والمعتقدات التي كان تترافقنا في حلنا وترحالنا، أقنعني بأنه كان يعمل حلاقاً في المخيم، وفي المقابل أقنعته بأنني كنت أمارس هواية الحلاقة بعض المرات في رؤوس أصحابي ومن كان حظه سيء، وبذلك قررنا أن نشتري عدة حلاقة، وقد كانت رخيصة الثمن، ومن ثم يقوم كلا منا بالحلاقة للاخر.
كان نصيبي بأن أكون المحلوق له أولاً، جلست على كرسي صغير تحت شجره بلوط كبيرة كانت تغطي ساحة البيت، ثم بدأ في استعمال كل أنواع الأسلحة الموجودة في صندوق الحلاقة، وكنت أشعر بين الفينة والأخرى بلسعة من ماكينة الحلاقة، أو نخزة مقص، ولكني لم أُصرح بذللك لأنني عقدت العزم على الاحتفاظ بحق الرد.
أخيرا أعلن انتهاء المهمة قائلا لي : "نعيما" ، ثم ناولني المرآة، ويا ليته لم يفعل،.يا لهول ما رأيت! كان رأسي عبارة عن شوارع بلا أرصفة، وكانت الدماء تسيل من معظم أجزاء رأسي، وسألني : "ما رأيك بهذه الحلاقة؟"، أجبته دون أن أترك أي وقت للتفكير بأنه حلاق ماهر.
وحتى لا نضيع الوقت نهضت عن الكرسي وجلس مكاني، لأتحول من محلوق له إلى حلاق، طبعاً لم أكن قاصداً أن أنتقم من رأسه لما فعله في رأسي، ولكن قلة خبرتي وعدم معرفتي لممارسة المهنة كانت كافية برد الجميل، أكملتُ ما أدعي بأنها حلاقة، لكنها كانت تشبه عملية قص البرسيم بمنشار مثلم، وحينما انتهيت كان رأسهُ أشبه بحديقة برسيم غزيت بقطيع من الغنم الجائعة!
حينما رأى نفسه في المرآة غضب وزمجر وقال لي: "ما هذا الذي فعلته في رأسي؟" كان أولى بك إخباري أنك لا تتقن الحلاقة"، كان أحد أصدقائنا موجوداً معنا وأشكر الله على وجوده في تلك المناسبة، أنفلت ضاحكاً وقال مخاطباً صديقي : "لماذا أنت غاضب؟ ألم تفعل برأسه أسوء مما فعل بك؟ الأولى أن تهدأ وتعتذر له"، قام عن الكرسي وصافحني معتذراً، ومن حسن حظنا أن صديقنا هذا قام بتأهيل رؤوسنا مرة ثانية، مستعملا ماكينة الحلاقه فقط، وبذللك أصبح منظر رؤوسنا مقبولا نوعاً ما.
نما الشعر بعد ذلك، وتعرفنا على صالون حلاقة يديره جندي أمريكي متقاعد، كان يمارس مهنة الحلاقه في الجيش، وكان يعرف كيف يقص الشعر كما تعودنا عليه في بلادنا.