قصيدة النّثر بين التّأصيل والطّرح الإشكالي من خلال كتابي “الإيقاع في قصيدة النّثر” د خيرة مباركي / تونس
مسلك ميمون
د خسرة مياركي
قصيدة النثر بين التأصيل والطرح الإشكاليمن خلال كتابي “الإيقاع في قصيدة النثر” د خيرة مباركي / تونس
قامت العديد من الدّراسات النقديّة بمواجهةِ قصيدة النثر. فاعتبرت ذلك الجنس دخيلاً على الشعر العربي لافتقاده أهمَّ مقوماتِ الشّعر، وهذا ما جعل أغلبَ الدراساتِ المهتمةِ بها تنحو منحى الدفاع عنها دون التعمق في مقوماتها الفنيّة وخصوصيّاتها المائزة فيكون الجدل بين المهاجمين لها والمدافعين عنها ممّا جعل أغلب الدراسات لا تتعدّى هذه الحدود في الهجوم والدّفاع، ولعلّه سبب في تباطؤ ومحدوديّة الاهتمام بهذا الشكل الشّعري، فانتماء هذا الجنس للنثر الذي يعادل اللاوزنَ، يجعل من مسألةِ انتمائِها إلى النظم أمرا عسيرا يحتاج إلى الكثير من الإفحام والإقناع. بهذا فنحن أمام مبحث إشكاليٍّ لأنه يتفجّر من عديد الإشكاليات المتعلّقة بالشعر الحديث وما يشهده من تطور في مستوى الشكل والمضامين. أو لعلّه صورة للشّعريّة الحديثة التي تتنصّل من كلِّ المواثيقِ وتسعى إلى معانقة المطلق في إطار الإبداع والتجريبِ الفنيِّ، قد يكون ذلك وليد رغبة الشاعرِ-الإنسانِ أو الإنسانِ-الشاعرِ، الذي يرنو دوما إلى مطلق الوجود في الفن والإبداع، يعانق الكمال ويروم التميّز. وقصيدة النثر مثّلت ذلك الشكلَ الجديدَ للتجاوز لإنكارها قواعد العروضِ وقوانينِه زغم اعتبارها (القواعد العروضيّة) أساس شعريّة القصيدة الكلاسيكيّة عند بعض النقّادِ. ولكنها عند أنصارها مستوى متقدمٌ من مستوياتِ التجريبِ اقتضتها مرحلةٌ تاريخيّةٌ تعاضمت فيها مشكلاتُ الإنسانِ المعاصرِ وتعقّدت قضاياهُ فلم تعد اللغةُ المتداولَةُ قادرةً على الإفصاح عن عن كوامن الذات بما فيها من هواجس ورغبة في استيعابِ أفكارِه. لذا كان لزاما عليه أن يستحدث وسائلَ أكثر قدرةً على التعبير واكتناه عالمِ المطلق. قد يكون هذا الشكل دخيلا على الشّعر القديم، وقد يكون متجذّرا في عمق الأدب والتراث الفني العربي. ولكن الأهم بالنسبة إلينا هو علاقته بالإيقاع ومظاهرُ حضوره فيه. هي إشكاليات لامسناها في هذا المبحث فبدت عصيّة على التمثّل والتقبّل مراوغة كفوضاها ، لكنّها لذيذة لذةَ البحث.
واخترنا مدوّنةِ شعريّة غير مستهلكة وجديدة يمكن أن نشعر معها بلذّة البحث والاكتشاف، فنكون حينئذ محاورين للعمل الفني بذهن خالٍ وانفعالٍ بكرٍ.
وقد أثار منهج البحث صعوبات عديدة ونحن أمام قطبين معرفيين متناقضين في الظاهر ومفهومين زئبقيين قد لا ندرك للوهلة الأولى أيهما الأهم ويمكن أن يكون منطلقا للدرس، رغم أن الإشكالَ واضحٌ وهو البحث عن مظاهر الإيقاع في قصيدة النثر. هل ننطلق بدراسة الإيقاع أم بدراسة قصيدة النثر أم نتناول الموضوع مباشرة؟ منطلق كليهما يمكن أن يجعلنا نواجه صعوبة في المسار المنهجي. فإذا انطلقنا من دراسة الإيقاع فهو جزءٌ من كلٍّ، وعليه قد يضطرُّنا الأمرُ إلى البحث عن الخيط الرابط بينه وبين الشكلِ الأدبيِّ النثريِّ. وإذا انطلقنا من قصيدة النثر فلن يشفع لنا ذلك في إمكانية إيجاد علاقة واضحة بين مفهومين بنيا على تناقض وهو ما أحدث هوّة سحيقة بينهما.
أمّا أن ننطلق مباشرة من الحديث عن الموضوع في كليّته فهذا بدوره يوقعنا في أزمة مفاهيم. ولكنّنا بعد كل ذلك التيه ارتأينا أن ننطلق بدراسة الإيقاع لاعتقادنا بأنّه البوابة التي يمكن أن نلج منها إلى شعريّة قصيدة النثر ومن ثمّ نحاول أن نرصُد مظاهر حضوره فيها. بهذا نربط تطور النظرة إلى الإيقاع بمسألة تطور الشكل الأدبي وعلاقته بظهور مثل هذا الجنس الدخيل فهو يمثّل – من ناحية – علامة من علامات الحداثة في الشعرية المعاصرة ومن ناحية ثانية يبحث لذاته عن كيان يؤسّس عبره لأسس وقواعد يؤصّله ضمن حقل الشعر.
وعلى هذا الأساس طُرح سؤال كبير ما الإيقاع؟ حتى نجيب عن سؤال ماهية قصيدة النثر لنتمكّن من سؤال أهم: مظاهر حضور الإيقاع فيها. وهذا ما حدا بنا إلى تخيّر خطة في العمل تقوم على مستوى نظري في الفصل الأول ثم آخر تطبيقي في الفصل الثاني.
قسم نظري ينطلق من تحديد لغوي لهذا المفهوم من خلال جملة من المعاجم اللغويّة والبلاغيّة، ومنها تكون محاولة رصد مفهومه الاصطلاحي من خلال رؤى شرّاح الفلسفة اليونانية وما أثمرته من تطوير في مفهوم الإيقاع. دُرس في علاقته بالموسيقى وبالمحاكاة والجمال. ثم من خلال رؤية البلاغيين والعروضيين القدامى الذين أعطوا مفهوما لم يبتعدوا فيه عن ذلك المفهوم الذي يربط بين الإيقاع الموسيقي والإيقاع العروضي. وفي أفق هذا التطور الحثيث تتوسّع دائرة الإيقاع ليرتبط بمستويات التخييل. ولعلّها مرحلة تنبئ ببداية الوعي والتجاوز لمفهوم الإيقاع في أفق النقد البلاغي والعروضي القديمين. وهذا ما هيّأ لتجاوز المفهوم السائد بالتأكيد على شمولية الإيقاع أمام الوزن، ثم من خلال ما ظهر من أشكالٍ جديدة (الكان وكان، القوما، البند، الزجل، الموشحات…) وهذا دليل التحرّر والانفتاح على شعريّةٍ بديلةٍ من شأنها أن تعطي مجالا لغير قصيدة العمود حتى تتوسّع آفاقُها. وهو ما وقفنا عنده في الدرس النقدي الحديث، من خلال الوقوف على تطور الرؤية للإيقاع من خلال نموذج قد يكون هاما في تطور الشعريّة الحديثة أو منطلقا لها، يكسّر جملة القيود التي أحاطت بالشعر العربي القديم، وهو ما عرضته نازك الملائكة من رؤية حاولت أن تتجاوز بها القناعات الشعرية القديمة وتؤكّد على معنى التحول والديناميّة في ربطها بين الشعر والحياة. ومن ثم تكون منطلقا لإعادة النظر في مسألة الإيقاع العروضي والتفعيلة.
ومنه ننفذ إلى ما وصلت إليه بعض الدراسات من نتائج حول مسألة الإيقاع، كان لها صدى ملفتٌ. ومنها دراسة محمد مندور الذي ربط الإيقاع بالكم والنبر. وإبراهيم أنيس الذي يذهب مذهبا آخر فيؤكد على قيمة النغمة الموسيقيّة مقابل عدم أهمية النبر، ثم شكري عياد وما وصل إليه بحثه من نتائج هامة حول النبر والكم غدت منطلقا لغيره وخاصة كمال أبو ديب . قد يكون هؤلاء وصلوا إلى نتائج إلاّ أنّها ظلّت متعثرة في نظر العديد من الدارسين الجدد. وهو ما قد يتضح مع الدرس الغربي الحديث. وقد ركزنا في ذلك على بعض الرؤى ومنها رؤية إيميل بنفنيست وهنري مشونيك وجيرار ديسون وهي رؤى يتأسس عليها مفهوم جديد للإيقاع ارتبط بنظرية الدليل وأولويّة اللسان ليكون الإيقاع هو الدال الأكبر وهو ما وصل إليه ميشونيك، وكل نظريّة ليست ممكنة إلا في علاقتها بالممارسة أو في علاقة بين الإيقاع والمعنى. أما ما تعلّق بقصيدة النثر، فانطلقنا تعريفها في المستويين اللغوي والاصطلاحي، فالنّظر في المهاد الحاضن لظهورها في أروبا. ومنه تحولنا إلى درس قصيدة النثر العربية بين التأسيس والتداعيات، وما أثاره المصطلح من جدل مقابل رغبة أنصارها في تأصيلها نموذجا لتطور الشعريّة العربيّة، بما أوتيت من خصائص فنيّة تركزت عليها، ومن أبرزها تجاوزُها للإيقاع الخارجي، بهذا تطرح إشكاليّة هامة تتصل بشعرية قصيدة النثر بين التملص من قيود البلاغة والعروض القديمين وبين رؤية جديدة للإيقاع تختلف عن المفاهيم القديمة، وهو مدار العمل في القسم التطبيقي ومن خلاله نحاول أن نبحث في مظاهر حضوره في نموذج من نماذج قصيدة النثر. وهو ديوان “غرانيق الأمس” للشاعر العراقي فائز الحداد. وما يمكن أن يسدّ فراغ غياب الإيقاع الخارجي فيه. وقد قفنا إزاء العديد من المظاهر التي تتراوح بين مستويات مختلفة منها الصّوتي والتركيبي ومنها البصري والدلالي. وانتهجنا في ذلك سبيل الانتقاء لنرصد جملة الظواهر الإيقاعيّة الغالبة في الدّيوان عبر منهج تحليلي يراعي تتبع الظاهرة الإيقاعية من داخل النموذج وآثرنا أن نتعمّق فيها على أن يكون العمل مجرد استعراض للظواهر.
ومن مظاهر الإيقاع:
إيقاع التكرار الصّوتي واهتممنا في هذا المجال أولا بتعريف التكرار لما له من أهميّة وقفنا عندها في تناول الدارسين والنقاد لها، وفيها ارتأينا أن نركّز على مستويين وهما تكرار الحرف، واللفظ. أمّا إيقاع التركيب فدرسنا فيه تركيب الجر، إيقاع المركب الفعلي، ثم إيقاع الحذف في الأعمال اللغويّة وتناولنا منها جملة النداء وجملة الاستفهام باعتبارهما من الظواهر الغالبة في المدونة. هذا فضلا عن إيقاع التشكيل البصري وما يمكن أن تحدثه لعبة البياض والسواد في إطار التحاور بين اللغة والصّمت عبر رصد بعض المظاهر الإيقاعيّة على المستويين العمودي والأفقي. ثم الإيقاع الدلالي ويكون الاهتمام باللغة الشعريّة وما يبدعه شاعر قصيدة النثر من خلق سياقات جديدة داخل أنساقها. وطرائق تشكيل الصورة الفنيّة التي يمكن أن تدعم هذا الإيقاع الدلالي. وأمام كثافة المادة الإيقاعيّة انتقينا ما رأيناه غالبا في قصائد الغرانيق مثل الإيقاع المتولّد من الرمز ومنه ذلك التوافق بين الرمز الأنثوي والرمز التاريخي والديني. وكذلك إيقاع التقابل الذي يمثّل الأساس في قصيدة النثر الحداديّة. وتنبثق منه صور إيقاعية أخرى مثل إيقاع الحياة والموت/ الحلم والواقع/ الحضور والغياب… بكل ذلك نخلص إلى القول إنّ الإيقاع ظاهرة عصيّة على التمثّل، زئبقيّة لا يمكن حصر مفهومه أو الإمساك بتلابيبه، ويمكن اعتباره من المفاهيم التي تمثّل متصوراتٍ ذهنيّةً لا تحمل في ذاتها من الصفات ما يجعل لها حدودا. هو مصطلح لا يخضع لمفهوم ثابت بل هو متطور. وجد في الكون كظاهرة تلقائيّة. ارتبط بالحركة والسقوط في المعاجم القديمة ثم بمصطلحات العلوم المجاورة له: البلاغة والعروض والفلسفة واللسانيات. ومن المهم الإشارة إلى التماثل في تصور القدامى من بلاغيين وعروضيين للإيقاع في الربط بين الشعر والإيقاع من جهة وبين الإيقاع والوزن من جهة ثانية حتى غدا عندهم المعادل الموضوعي للوزن والقافية وهو ما يفتح السبل أمام شعريّة قصيدة النثر. بذلك فقصيدة النثر مظهر من مظاهر الحداثة الشعريّة. وبما أنّ الإيقاع عُدّ من أهم أسس الشعريّة، فمجاله ممكن، وهذا ما يجعل قصيدة النثر صورة جديدة للشعريّة المحدثة ولئن خالفت أوزان الخليل وجاءت مغايرة لقواعد العمود فذلك لأنها تعول على لغة خاصة تتجاوز أنساق المعهود في عرف اللغة وعلاقاتها السياقيّة. وهذا ما جعل لكل نص نثري لغةً خاصّةً يتفرّد بها صاحبُها لحظة التلفّظ. لذلك فهي تستعيض عن إيقاع الشكل المحصور في ما نسميه الإيقاع الخارجي، بإيقاعات رديفة لا تنفصل عن الشكل وذلك في ما يظهر من ظواهر صوتية يتصل بعضها بمقومات البلاغة في أصولها الأولى من مجانسةٍ صوتيةٍ وتقابلٍ وتكرارٍ، وتتجاوزُ كلَّ ذلك إلى الإيقاعِ المعنوي والدلالي اللذين يتشكلان من تلك الظواهر. إذن فالإيقاع لا ينشأ قبلا بل هو ظاهرة آنيّة تولد مع الخطاب ويمكن أن تخلُقَ قصيدةُ النثر شعريّتَها فتُظهر قدرة الشاعرِ على صناعته، هو ظاهرة تتصل بالذات المتلفظة والمتلقية على السواء كلاهما يتمثّل الإيقاع بطريقته وحسب حالته الشعورية. وقد يتجاوز الاحساس والتصور الذهني له إلى بعد حدسي فنتمثّله ونحسّ بوجوده. إذن قضية الإيقاع في قصيدة النثر هي أساسا قضيّة مصطلحات.