ناسا
إن السقوط في ثقبٍ أسود -ببساطة- أسوأ طريقةٍ للموت. الهالوين هو وقتُ الهروبِ من مطاردةِ الأشباحِ والعفاريتِ والغيلان، ولكن حتمًا ليس في الكون شيءٌ أكثر رعبًا من الثقوب السوداء. الثقوب السوداء هي مناطق في الفضاء تكون فيها الجاذبية قويةً جدًا، إذ لا يمكن لأي شيءٍ الإفلاتُ منها، وقد أصبحت أكثرَ المواضيعِ إثارةً في الأخبارِ في الآونةِ الاخيرة. مُنح روجر بنروز (Roger Penrose) نصفَ جائزةِ نوبل في الفيزياء للعام 2020 لعمله الرياضيِّ الذي أظهر أن الثقوبَ السوداءَ نتيجةٌ حتميةٌ لنظريةِ آينشتاين عن الجاذبية، وتقاسم أندريا غيز (Andrea Ghez) وراينهارد جنزيل (Reinhard Genzel) النصف الآخر لإثباتهما وجود ثقبٍ أسودَ هائلٍ في مركز مجرَّتِنا. الثقوبُ السوداء مخيفةٌ لثلاثةِ أسباب: أوَّلًا: إذا سقطْتَ في ثقبٍ أسود ناجمٍ عن موتِ نجمٍ ما، فَسَيُمزِّقك إربًا إربًا! ثانيًا: للثقوبِ السوداء الضخمةِ المتواجدةِ في مراكزِ المجرَّاتِ شهيةُ التهام الأشياء التي لا تنتهي. ثالثًا: الثقوب السوداء هي الأماكن التى تنهار فيها قوانين الفيزياء. درستُ الثقوبَ السوداء لأكثر من 30 عامًا، وركَّزت على الثقوبِ الهائلة التي توجَدُ في مراكزِ المجرات... تكون هذه الثقوب السوداء -في معظم الأوقات- غير نشطة، ولكنَّها عندما تنشطُ وتبتلِعُ النجومَ والغازاتِ من حولها يمكن أن تصبحَ المنطقةُ القريبةُ منها أكثر بريقًا ولمعانًا من المجرَّة المُضِيفةِ لها. تُسمَّى المجراتُ التي تحتوي على ثقبٍ أسود نشطٍ بالكوازارات (quasars). رغم كل ما تعلَّمناه عن الثقوبِ السوداء طوالَ العقودِ القليلةِ الماضيةِ، لدينا العديد من الألغاز التي تَنتظرُ الحلول.
الموت بثقبٍ أسود من المُتوقَّعِ أن الثقوب السوداء تتشكل عندما يموت نجمٌ هائل؛ بعد استنفادِ الوقودِ النوَوِيِّ للنجمِ ينهار لبُّه لِيُصبحَ في أكثف حالةٍ للمادة يمكن تصورها، وهي أكثر كثافةً بمئة مرَّةٍ من نواةِ الذرَّة، إذ تكونُ البروتونات والنيوترونات والإلكترونات جسيماتٍ غير منفصلة! نظرًا لأن الثقوب السوداء مظلمة، يمكن -فقط- العثور عليها عندما تدور حول نجمٍ عاديٍّ. تسمح خصائص هذا النجم الطبيعي لعلماء الفلك باستنتاجِ خصائص رفيقِهِ المظلم (الثقب الأسود). أوَّل ثقبٍ أسود أُكِّدَ وجودِه كان الدجاجةُ إكس-1 (Cygnus X-1)، ألمع مصدر للأشعة السينية في مجرة الدجاجة (Cygnus). منذ ذلك الحين، اكتُشِفَ نحو 50 ثقبًا أسودَ في الأنظمةِ التي يدورُ فيها نجمٌ عاديٌّ حولَ ثقبٍ أسود. إنها أقرب الأمثلة لنحو 10 ملايين ثقبٍ أسود من المتوقع أن تكون منتشرةً في مجرتنا درب التبانة. الثقوب السوداء مقابرُ للمادَّةِ لا شيء يستطيع الهروب منها، حتى الضوء. سَيَقعُ أيُّ شخصٍ يسقط في الثقب الأسود تحتَ تأثيرِ السباغيتي (spaghettification) وهو مصيرٌ مؤلم! تأثير السباغيتي هو فكرة روَّج لها ستيفن هوكينغ في كتابه (تاريخ موجز للزمن). في حالة تأثير السباغيتي، تمدُّ الجاذبيةُ الشديدةُ للثقبِ الأسود جسمَك مثل السباغيتي، وتفصل عظامك وعضلاتك وأوتارك وحتى جزيئاتك، مثلما وصف الشاعرُ دانتي الكلماتِ فوق أبوابِ الجحيمِ في قصيدته الكوميديا الإلهية: يا أيها الداخل هنا، اترك وراءك كلّ أملٍ.
وحش جائع في كل مجرة على مدى الثلاثين عامًا الماضية، أظهرت أرصاد تيليسكوب هابل الفضائيِّ أن جميعَ المجرَّات تحتوي على ثقوب سوداء في مراكزها، والمجرَّات الأكبر تحتوى على ثقوب سوداء أكبر. تعرف الطبيعةُ كيف تصنع ثقوبًا سوداء بكُتَل مختلفة، بدءًا من بقايا النجوم التي تزيدُ كتلتُها عن كتلةِ الشمس بضعَ مرَّاتٍ إلى الوحوشِ التي تبلغ كتلتُها عشراتِ ملياراتِ الأضعاف، إن ذلك يشبه الفرق بين التفاحة وهرم الجيزة الأكبر! في العام الماضي، نشر علماء الفلك أوَّل صورةٍ على الإطلاق لثقب أسود وأفقِ الحدث الخاصِّ به، إنَّه وحشٌ يقع في مركزِ المجرةِ الإهليجيَّة M87، وتبلغ كتلته 7 ملياراتِ كتلةٍ شمسيَّة. إنه أكبر من الثقب الأسود الذي يقع في مركز مجرَّتِنا بألف مرة، والذي حصل مكتشفوه على جائزة نوبل لهذا العام. تكون هذه الثقوب السوداء مظلمةً في معظم الأوقات، ولكن عندما تسحب جاذبيتُها النجومَ والغازاتِ القريبة، فإنها تبعثُ كميةً هائلةً من الإشعاع، إذ تكون في حالة نشاطٍ كبير. الثقوب السوداء الهائلة خطرة من ناحيتين: إذا اقتربت منها أكثر من اللازم، فإن الجاذبية الهائلة ستسحبك إلى الداخل. وإذا كنت في نطاق الكوازار (الثقب الأسود النشط)، فسوف تُنسف بسبب الإشعاع عالي الطاقة.
ما مدى سطوع الكوازار؟ تخيَّل أنَّك تحوم فوق مدينةٍ كبيرةٍ مثل لوس أنجلوس في الليل، سَتُماثلُ الإضاءةُ الناجمةُ عن السيارات والمنازل والشوارع في المدينة التي قد تبلغ 100 مليون نقطةِ ضوءٍ إضاءةَ النجومِ في المجرَّة. بناءً على هذا التشبيه، يكون الثقبُ الأسودُ في حالتِه النشطةِ مصدرًا لضوء يبلغ قطره بوصةً واحدةً وسطَ مدينة لوس أنجلوس، ولكن بريقه يفوق بريق المدينة بآلافِ الأضعاف. لذا، تُعتبَرُ الكوازارات ألمع الأشياء في الكون. الثقوب السوداء الهائلة غريبة! تساوي كتلةُ أكبرِ ثقبٍ أسود مُكتَشَفٍ -حتى الآن- كتلةَ الشمسِ 40 مليار مرَّة، ويساوي حجمه حجمَ النظام الشمسيِّ 20 مرَّة. في حين أن الكواكبَ الخارجيَّة في نظامنا الشمسي تدورُ مرةً واحدةً كل 250 عامًا، يدورُ هذا الجسم الضخم مرَّةً كل ثلاثة أشهر. تتحرك حافته الخارجية بنصف سرعة الضوء. مثل كل الثقوب السوداء، تكون الثقوب الضخمة -عادةً- محجوبةً عن الرؤية بأفق الحدث، ويوجد في مراكزها نقطة تفرد (singularity)، وهي نقطةٌ في الفضاء تكون فيها الكثافة لا نهائية. لا يمكننا فهم الجزء الداخلي من الثقب الأسود لأن قوانين الفيزياء تنعدم فيه. يتجمد الوقت عند أفق الحدث، وتصبح الجاذبية لا نهائية عند نقطة التفرُّد. الخبر السارُّ حولَ الثقوب السوداء الضخمة هو أنه يمكنك البقاء على قيد الحياة عند سقوطك في أحدها. على الرغم من أن جاذبيتها قويَّةٌ، فَقوَّة التمدد فيها أضعف منها في الثقب الأسود الصغير، لذلك لن تقتلك. الخبرُ السيِّئ هو أن أفقَ الحدثِ يُمَثِّلُ حافَّةَ الهاوية، لا يمكن أن يفلت شيءٌ من أفق الحدث، لذلك لن تستطيع الهروبَ أو التحدُّث عن تجربتك. وَفقًا لستيفن هوكينج: تتلاشى الثقوب السوداء ببطء. في المستقبل البعيد للكون، بعد فترةٍ طويلةٍ من موت جميع النجوم واختفاء المجرات عن الأنظار بسبب التوسُّعِ الكونِيِّ المُتسارِعِ، ستكون الثقوب السوداء هي الأجسام الباقية. ستستغرقُ الثقوبُ السوداء الأضخمُ عددًا لا يمكن تخيُّله من السنوات لكي تتلاشى، ويُقدر بنحو 10 مرفوعة للأس 100 (10 يليها 100 صفر)! حسنًا، إن الأشياء الأكثر رعبًا في الكونِ تكادُ تكون أبديَّةً!