طريق الشاعر السوري علي سفر إلى متحف الآثام
ديوان "الطريق إلى متحف الآثام" للشاعر والإعلامي السوري علي سفر صدر عن دار المحرر في القاهرة (الجزيرة)20/8/2023
صدر حديثا ديوان "الطريق إلى متحف الآثام" للشاعر والإعلامي السوري علي سفر، ويحتوي مجموعة من النصوص الشعرية التي كتبها صاحبها خلال تجواله خلال السنوات الأخيرة في غير مكان خلال رحلته من بلده سوريا إلى المنفى، حيث يعيش في مدينة ستراسبورغ الفرنسية.
في هذا الكتاب يحاول علي سفر أن يسجل بعضا مما علق في ذاكرته من نبض السوريين المؤلم، حيث يجبر الزمن العقل على نسيانه! وفي سبيل أن تتخفف الحياة اليومية من هذا الوقع الثقيل للمجازر والسجون والاختفاءات لحيوات الآخرين، تصبح الكلمات أشبه بصرر معقودة لحماية التفاصيل مما قد يلحق بها مع مرور الوقت:
"لم أعد أملك كلماتٍ أعبِّر بها عن الحُزن،
كل ما أقوله مكرر مثل لفافة تبغ..
قرأت نصًا عن المنفى أبكتْني سطوره الأولى، ثم أكملته بعين الناقد المتربّص البغيض.. أفهَم كيف يحوّل المنفيّون الآخرين إلى أعداء،
وأفهم أيضًا كيف لكلمة يهمسها منفيّ إلى منفي آخر أن تبكي البشر…
أهربُ من الحديث عن أسباب الحزن القادمة من البلاد، بابتكار حكاية جديدة، لا تختلف عن غيرها سوى في نوع الموت؛
الموت القادم من جهة المنفى، يَقبع في المرتبة الأدنى من سُلم طبقات الفجائع".
سبق للمؤلف أن صنع كتابين في الاتجاه ذاته هما "يوميات ميكانيكية" (2014) و"الفهرس السوري" (2018)، مما يؤشر على إلحاح كبير على علاقة الشاعر مع بلده، الذي صار بعيدا عنه بحكم انهيار الأحلام التي حاولت الثورة تجسيدها منذ العام 2011، وضمن هذا الأفق تصبح أسئلة الكتاب صعبة ومرهقة لصاحبها، لكنها قد لا تكون كذلك للقارئ.
درس علي سفر النقد المسرحي في دمشق، وعمل في المسرح السوري، واشتغل بالكتابة الصحفية منذ نهاية الثمانينيات، حيث كتب في الصحافة السورية والعربية، وخاصة الصحافة المرئية، وأخرج أفلاما وثائقية.
الشاعر والإعلامي السوري علي سفر (الجزيرة)
وكتاب "الطريق إلى متحف الآثام" جزء من تدوين مستمر منذ العام 2011، أي سنة انطلاق الثورة السورية، والمأساة التي أعقبت قيام النظام السوري بحملة إبادة ضد الثائرين في الشوارع المنتفضة.
وعن الشعر والثورة، قال سفر للجزيرة نت "هناك افتتان قاس بالسردية التي عاشها السوريون، لقد عاشوا نصف قرن تحت حكم تسلطي، كمّم الأفواه وأحال الحياة إلى جحيم، ولعل أقل ما تصنعه الحرية بنا أنها تجعلنا نحكي ونسهب فيما نحكيه، ونزخرفه ونزركشه بمنعرجات الألم الروحي، وهنا تزدهر الرواية وينسحب الشعر ربما، لكن السردية بذاتها وبوصفها اكتمالا إبداعيا تساهم فيه كل الفنون تحتاج للرواية كما تحتاج للشعر، ولكن عن أي رواية وأي شعر نتحدث؟ هل يجب أن نستعيد الماضي الفني بشكل إحيائي أم علينا الذهاب إلى أعلى درجات التجريب لاكتشاف الطاقة الجبارة التي تصنعها الثورات في كل شيء نعيشه؟".
وأردف "هذا السؤال حاضر وبقوة أمام السوريين من روائيين وشعراء ومسرحيين وسينمائيين، وسيمر وقت طويل حتى تقف هذه الفنون على أقدامها عند عتبات التحولات الكبرى التي تحدثها الثورات العظيمة".
ضفة الشعر
وعن العودة للنص الشعري وتغليبه على النص الروائي السائد في الأدب السوري المعاصر، قال سفر" لم أستطع على المستوى الشخصي أن أغادر هذه الضفة الشعرية رغم أنني أصدرت سابقا كتابين ضمن المنحى ذاته، "يوميات ميكانيكية" في العام 2014 و"الفهرس السوري" في العام 2018، وأشعر أنني سأبقى على هذا الحال بعد صدور كتاب "الطريق إلى متحف الآثام"، حتى يُخلق وضع جديد أقل وطأة على السوريين الذين صاروا نازحين ومهجرين ومنفيين بعد أن كانوا يحلمون بالحرية.
وأضاف "فكرة التدوين تبدو أشبه بطوق نجاة لأرواح الكثيرين ممن أعرفهم، ففيها يسربون ما لا يستطيعون النطق به على ألسنتهم، فيخرج عبر الكلمات على الورق وقد رُسمت في كل حرف منها صور للحيوات المسلوبة، المرمية على جوانب طرق المنافي البعيدة، ومشاهد للغرقى الذين قضوا وهم يحاولون النجاة ثم طفت أرواحهم على السطح، وبقيت تظهر لسكان الكوكب كعلامة أبدية على تخاذل الجميع في إنقاذ السوريين من الوحوش التي افترستهم".
وأشار سفر إلى أن المنفى يحضر في النص كإطار للزمن، ومرآة يرى فيها البطل المنفي نفسه وهو يبحث عن فردوسه المفقود، ولعله يكتشف في شوارعه وبيوته ونوافذها ما يشعره ببقاء الوطن في داخله.
وتابع "يحدث هذا مع الجميع، أي كل من اضطرته محاولة النجاة لأن يغادر بلاده، ولهذا يبدو التعبير مكررا، لكن المنفي سرعان ما يجد لغة جديدة ومختلفة للحديث عن ما حصل. وهذه هي التحولات التي تصبح آثاما يمكن تسطيرها في قاعات المتحف. وهذا جزء من إمكانيات التفكير باليوميات المعيشة وباللحظات التي لم تأت بعد".
ويقول الشاعر في بعض نصوص الكتاب:
أُرجوحة الموت الدائريَّة
نقفز وسطها،
نَهرب حولها،
لكنها تبقى تَلتف
وتأخذ ما تريد…
2
وسألَني عن الموت، فقُلت: لم أفكّر فيه بما يكفي لأفهمه…
وسألَني: أين سأنتهي، فقُلت: هذه الطريق لا تنتهي…
وسألني عن الشَّاهدة،
قلت: بيضاء مثل قلب،
شاخِصة كطائر لا يُدرك الجهات…
3
يُصبح الناس طيورًا بعد الموت..
الأشرار تأكلهم حيوانات مُفترسة مُستعجلة
يصبح الحكماء بطاريقَّا
يُديرون ظهورهم للمشهد الجديد!
4
لم أَعد أملك كلمات أعبر بها عن الحزن،
كلُّ ما أقوله مكرر مثل لفافة تبغ…
قرأتُ نصًّا عن المنفى أَبكتني سُطوره الأولى، ثم أكْملته بعين الناقد المتربِّص البغِيض… أَفهم كيف يحوّل المنفيّون الآخرين إلى أعداء،
وأفْهم أيضًا كيف لكلمة يهمسُها منفيّ إلى منفي آخر أن تبكي البشر…
أَهرب من الحديث عن أسباب الحزن القادمة من البلاد، بابتكار حكاية جديدة، لا تختلف عن غيرها سوى في نوع الموت؛
الموت القادم من جهة المنفى، يَقبَع في المرتبة الأدنى من سلَّم طَبقات الفجائع.
5
بِانتظار الثَّلج في إِسطنْبول، يَموت طفلٌ في مياه تَعلُو فَوق أنْفاسه وصورة أُمِّه التي سبقتْه حين أهْدتْهَا السَّمَاء بِرْميلًا وركام!
يَبكي المؤْبنون فَوق جُثَث مُرَقّمَة، قَبل أن تُطمر ويُنْسى مَعها اسم قَاتِل الجميع…
تَتَكسَّر أصابع طِفلة تَطرَّق طَبلَة في شَارِع الاستقْلال،
يَطرُد نَادلٌ أُختها وقد كانت تشحذ من بارٍ قريب!
سوَاد اللَّيل لَم يَعُد يَكفِي، ولا اشتهاء العماء!
ربما يَنفع هذا الثَّلج، كيْ يَختَفِي كل شَيء، ليوم أو لساعة، وأقدر على خِداع القلب والنَّوم…
مثل مَيِّت، لا يَخاف الموتى وَهُم يَعبُرون!
6
رَتّبُوا الجُثث بأناقة على بِساط الفولاذ،
ومضَوا بها إلى حيث يحْتفلون بالموتِ،
الغربان تُرفْرِف بخَجل بين راياتهم،
لا شَيء يُغْري الضَّواري
سوى وَليمَة تَجمُّع القتَلة والمقْتولين،
خلْف جدْران القُرى المهدَّمة.
7
هذا الرَّتل الطوِيل مِن اَلموتى، سار فوق الموج..
8
مُتابعَة الحياة بَعْد مجْزَرة
أَنْتَ لَسْت كمَا أَنْت،
لَكنَّك لَم تزل عالقًا في المرْآة،
فلَا تُجرِّب أنَّ تَمسح وجههَا، لِتَبق قليلًا فِي التَّأَمُّل،
أَحدَث هذَا؟ أم أنَّ عَقلَك أَطلَق أشْباحه، ومثلهم تَبّددتْ؟
تُحَاوِل أن تَستيْقِظ في صحْوك، لَكنَّك لَا تَقوَى على إِطفَاء صُوَر المجْزرة، وهِي تَبدَأ ثُمَّ تَنصَرِف إِلى نِهايتهَا، ثُمَّ تَعُود، وَكَأنهَا تَحدَّث مُجَددًا.
أَنْت لست محمُومًا ولَا تَهذِي كالمرْضى؛
أَنْت ذاك الذِي غطَّوْا عيْنيْه، وجرُّوه، وركلوه إِلى الحُفرة فَهوَى طيْرًا جريحًا، ثُمَّ احترَق.
كَيْف تَستطِيع بِعيْنَيْك الدَّاميتيْنِ أن تَتَذكَّر، ثُمَّ تَعُود مِن ظُلمَة الموْتِ لتحكي عَمَّا جرى؟
الدَّم يسيل من عيْنيْك في المرآة، وَحده يَتَحرّك، بيْنمَا أَنْت كُتلَة وَجْه في أَيقُونة شَاحِبة، تَحْتاج لأن يتم تنْظيفهَا مِمَّا عَلَّق بِهَا مِن سُوريَّتها،
لَكِن أحدًا لَا يَستطِيع!
لَقد رأيْتني، أَلبِسُ وُجُوه الضَّحايَا كُلهم،
فَكُنت ذاك الرَّجل ذا الهنْدام الأنِيق،
وَكُنتُ بِثيابي التي لَم أُغَيرهَا،
وَكُنت الارْتجافة الأخيرة فِي وجه الفتى،
وَكُنت من رفع رِجْله لِيتَّقي الرَّصَاص،
وَكُنت المرْأة الغاضبة،
وَكُنت المسْتسْلمة،
وَكُنت وُجُوه أطْفال نَشفَت فِيهم الأرْواح ثم تَبخرَت.
كَيْف أَنجُو مِن صُوَركم جميعًا،
أيقدر مَيِّت حيّ على الخُروج مِن بَوَّابة العدم؟!
لَقد رأيْتني:
ذاك الولِيد، يُؤَذَنُ فِي أُذنيْه،
ثُمَّ يَتَشهَّد،
وَيعُود إلى الرَّمَاد.
9
أنا الولِيد، أنا الطفْل، أنَا الفتى، أنَا الشَّابُّ، الرَّجل، الكهْل،
أنَا الحَيّ، والمَيِّت، والواقفُ بَيْن منْزلتيْن،
أنَا المصْلوب على خَشبَة، أو المسْحوق بِجنْزِير دَبَّابة،
أنَا التُّرَاب المعْجون بِالدَّم البهي،
أنَا مَا بقِي مِن وَجْه أَخذَت نِصْفه القذيفة،
أنَا نِتْفُ جسدٍ سهتْ عَنهَا عُيُون وَأيدِي القبَّعات البيض،
أنَا عَيَّن تَتبُّع سقوط البرْميل،
أنَا شعْر الطِّفْلة تتلمَّسه رمادًا فِي حَرائِق اللَّيْل البهيم،
أنَا رغيف الخُبز، أو مَا بَقِي مِن مَلمَس يد الطِّفْل، قَبْل أن تَأخذَه رُوحُه بعيدًا عن مَذْبَحة الفُرن الجديدة،
أنَا بُكَاء أبُو فُرات، أنَا دُمُوع انسلَّتْ إِثْر صُوَر القتْلى فِي الطرِيق من الغُوطة إِلى الشّمَال،
أنَا مَشافِي حلب،
أنَا نَظرَة جَمدَتْ فِي قَلعَة الحصْن،
أنَا بِنَاء تَهدَّم في نعيمَة درعا،
أنَا صَخْر اللَّجَاة،
أنَا صَرخَة "وين رَاحُوا"،
أنَا صدى الهُتاف فِي سَاحَة العاصي،
أنَا الرسْتن،
أنَا تُرْس طَاوِلة في عَرَاء داريا،
أنَا اصطِدام الحدِيد بِالْحديد فِي فرع الـ215،
أنَا شاهدة غَيْر مَرئِية في مَقابِر نَجهَا والْقطيفة،
أنَا نُعَاس عَبْد القادر صالِح،
أنَا شَيْء مَنسِي فِي كُلِّ مكَان هُنَاك،
أنَا السُّوريُّ، نسيتُ الكثِير اَلكثِير هُنَا،
وأحاول تَذكُّر من أنَا..
ثمَّ أَعُود مِن جديد:
أنَا ثِيَاب العيد على جسد أطفال استشهدوا في الزَّاهرة،
أنَا أزيز الرَّصاص على حاجِز الكبَّاس
أنَا الموتى في تُربَة اليرْموك وقد نَبشَت القذائف قُبورَهم،
أنَا… أنَا…
ديوان "الطريق إلى متحف الآثام" للشاعر والإعلامي السوري علي سفر صدر عن دار المحرر في القاهرة (الجزيرة)20/8/2023
صدر حديثا ديوان "الطريق إلى متحف الآثام" للشاعر والإعلامي السوري علي سفر، ويحتوي مجموعة من النصوص الشعرية التي كتبها صاحبها خلال تجواله خلال السنوات الأخيرة في غير مكان خلال رحلته من بلده سوريا إلى المنفى، حيث يعيش في مدينة ستراسبورغ الفرنسية.
في هذا الكتاب يحاول علي سفر أن يسجل بعضا مما علق في ذاكرته من نبض السوريين المؤلم، حيث يجبر الزمن العقل على نسيانه! وفي سبيل أن تتخفف الحياة اليومية من هذا الوقع الثقيل للمجازر والسجون والاختفاءات لحيوات الآخرين، تصبح الكلمات أشبه بصرر معقودة لحماية التفاصيل مما قد يلحق بها مع مرور الوقت:
"لم أعد أملك كلماتٍ أعبِّر بها عن الحُزن،
كل ما أقوله مكرر مثل لفافة تبغ..
قرأت نصًا عن المنفى أبكتْني سطوره الأولى، ثم أكملته بعين الناقد المتربّص البغيض.. أفهَم كيف يحوّل المنفيّون الآخرين إلى أعداء،
وأفهم أيضًا كيف لكلمة يهمسها منفيّ إلى منفي آخر أن تبكي البشر…
أهربُ من الحديث عن أسباب الحزن القادمة من البلاد، بابتكار حكاية جديدة، لا تختلف عن غيرها سوى في نوع الموت؛
الموت القادم من جهة المنفى، يَقبع في المرتبة الأدنى من سُلم طبقات الفجائع".
سبق للمؤلف أن صنع كتابين في الاتجاه ذاته هما "يوميات ميكانيكية" (2014) و"الفهرس السوري" (2018)، مما يؤشر على إلحاح كبير على علاقة الشاعر مع بلده، الذي صار بعيدا عنه بحكم انهيار الأحلام التي حاولت الثورة تجسيدها منذ العام 2011، وضمن هذا الأفق تصبح أسئلة الكتاب صعبة ومرهقة لصاحبها، لكنها قد لا تكون كذلك للقارئ.
درس علي سفر النقد المسرحي في دمشق، وعمل في المسرح السوري، واشتغل بالكتابة الصحفية منذ نهاية الثمانينيات، حيث كتب في الصحافة السورية والعربية، وخاصة الصحافة المرئية، وأخرج أفلاما وثائقية.
الشاعر والإعلامي السوري علي سفر (الجزيرة)
وكتاب "الطريق إلى متحف الآثام" جزء من تدوين مستمر منذ العام 2011، أي سنة انطلاق الثورة السورية، والمأساة التي أعقبت قيام النظام السوري بحملة إبادة ضد الثائرين في الشوارع المنتفضة.
وعن الشعر والثورة، قال سفر للجزيرة نت "هناك افتتان قاس بالسردية التي عاشها السوريون، لقد عاشوا نصف قرن تحت حكم تسلطي، كمّم الأفواه وأحال الحياة إلى جحيم، ولعل أقل ما تصنعه الحرية بنا أنها تجعلنا نحكي ونسهب فيما نحكيه، ونزخرفه ونزركشه بمنعرجات الألم الروحي، وهنا تزدهر الرواية وينسحب الشعر ربما، لكن السردية بذاتها وبوصفها اكتمالا إبداعيا تساهم فيه كل الفنون تحتاج للرواية كما تحتاج للشعر، ولكن عن أي رواية وأي شعر نتحدث؟ هل يجب أن نستعيد الماضي الفني بشكل إحيائي أم علينا الذهاب إلى أعلى درجات التجريب لاكتشاف الطاقة الجبارة التي تصنعها الثورات في كل شيء نعيشه؟".
وأردف "هذا السؤال حاضر وبقوة أمام السوريين من روائيين وشعراء ومسرحيين وسينمائيين، وسيمر وقت طويل حتى تقف هذه الفنون على أقدامها عند عتبات التحولات الكبرى التي تحدثها الثورات العظيمة".
ضفة الشعر
وعن العودة للنص الشعري وتغليبه على النص الروائي السائد في الأدب السوري المعاصر، قال سفر" لم أستطع على المستوى الشخصي أن أغادر هذه الضفة الشعرية رغم أنني أصدرت سابقا كتابين ضمن المنحى ذاته، "يوميات ميكانيكية" في العام 2014 و"الفهرس السوري" في العام 2018، وأشعر أنني سأبقى على هذا الحال بعد صدور كتاب "الطريق إلى متحف الآثام"، حتى يُخلق وضع جديد أقل وطأة على السوريين الذين صاروا نازحين ومهجرين ومنفيين بعد أن كانوا يحلمون بالحرية.
وأضاف "فكرة التدوين تبدو أشبه بطوق نجاة لأرواح الكثيرين ممن أعرفهم، ففيها يسربون ما لا يستطيعون النطق به على ألسنتهم، فيخرج عبر الكلمات على الورق وقد رُسمت في كل حرف منها صور للحيوات المسلوبة، المرمية على جوانب طرق المنافي البعيدة، ومشاهد للغرقى الذين قضوا وهم يحاولون النجاة ثم طفت أرواحهم على السطح، وبقيت تظهر لسكان الكوكب كعلامة أبدية على تخاذل الجميع في إنقاذ السوريين من الوحوش التي افترستهم".
وأشار سفر إلى أن المنفى يحضر في النص كإطار للزمن، ومرآة يرى فيها البطل المنفي نفسه وهو يبحث عن فردوسه المفقود، ولعله يكتشف في شوارعه وبيوته ونوافذها ما يشعره ببقاء الوطن في داخله.
وتابع "يحدث هذا مع الجميع، أي كل من اضطرته محاولة النجاة لأن يغادر بلاده، ولهذا يبدو التعبير مكررا، لكن المنفي سرعان ما يجد لغة جديدة ومختلفة للحديث عن ما حصل. وهذه هي التحولات التي تصبح آثاما يمكن تسطيرها في قاعات المتحف. وهذا جزء من إمكانيات التفكير باليوميات المعيشة وباللحظات التي لم تأت بعد".
ويقول الشاعر في بعض نصوص الكتاب:
أُرجوحة الموت الدائريَّة
نقفز وسطها،
نَهرب حولها،
لكنها تبقى تَلتف
وتأخذ ما تريد…
2
وسألَني عن الموت، فقُلت: لم أفكّر فيه بما يكفي لأفهمه…
وسألَني: أين سأنتهي، فقُلت: هذه الطريق لا تنتهي…
وسألني عن الشَّاهدة،
قلت: بيضاء مثل قلب،
شاخِصة كطائر لا يُدرك الجهات…
3
يُصبح الناس طيورًا بعد الموت..
الأشرار تأكلهم حيوانات مُفترسة مُستعجلة
يصبح الحكماء بطاريقَّا
يُديرون ظهورهم للمشهد الجديد!
4
لم أَعد أملك كلمات أعبر بها عن الحزن،
كلُّ ما أقوله مكرر مثل لفافة تبغ…
قرأتُ نصًّا عن المنفى أَبكتني سُطوره الأولى، ثم أكْملته بعين الناقد المتربِّص البغِيض… أَفهم كيف يحوّل المنفيّون الآخرين إلى أعداء،
وأفْهم أيضًا كيف لكلمة يهمسُها منفيّ إلى منفي آخر أن تبكي البشر…
أَهرب من الحديث عن أسباب الحزن القادمة من البلاد، بابتكار حكاية جديدة، لا تختلف عن غيرها سوى في نوع الموت؛
الموت القادم من جهة المنفى، يَقبَع في المرتبة الأدنى من سلَّم طَبقات الفجائع.
5
بِانتظار الثَّلج في إِسطنْبول، يَموت طفلٌ في مياه تَعلُو فَوق أنْفاسه وصورة أُمِّه التي سبقتْه حين أهْدتْهَا السَّمَاء بِرْميلًا وركام!
يَبكي المؤْبنون فَوق جُثَث مُرَقّمَة، قَبل أن تُطمر ويُنْسى مَعها اسم قَاتِل الجميع…
تَتَكسَّر أصابع طِفلة تَطرَّق طَبلَة في شَارِع الاستقْلال،
يَطرُد نَادلٌ أُختها وقد كانت تشحذ من بارٍ قريب!
سوَاد اللَّيل لَم يَعُد يَكفِي، ولا اشتهاء العماء!
ربما يَنفع هذا الثَّلج، كيْ يَختَفِي كل شَيء، ليوم أو لساعة، وأقدر على خِداع القلب والنَّوم…
مثل مَيِّت، لا يَخاف الموتى وَهُم يَعبُرون!
6
رَتّبُوا الجُثث بأناقة على بِساط الفولاذ،
ومضَوا بها إلى حيث يحْتفلون بالموتِ،
الغربان تُرفْرِف بخَجل بين راياتهم،
لا شَيء يُغْري الضَّواري
سوى وَليمَة تَجمُّع القتَلة والمقْتولين،
خلْف جدْران القُرى المهدَّمة.
7
هذا الرَّتل الطوِيل مِن اَلموتى، سار فوق الموج..
8
مُتابعَة الحياة بَعْد مجْزَرة
أَنْتَ لَسْت كمَا أَنْت،
لَكنَّك لَم تزل عالقًا في المرْآة،
فلَا تُجرِّب أنَّ تَمسح وجههَا، لِتَبق قليلًا فِي التَّأَمُّل،
أَحدَث هذَا؟ أم أنَّ عَقلَك أَطلَق أشْباحه، ومثلهم تَبّددتْ؟
تُحَاوِل أن تَستيْقِظ في صحْوك، لَكنَّك لَا تَقوَى على إِطفَاء صُوَر المجْزرة، وهِي تَبدَأ ثُمَّ تَنصَرِف إِلى نِهايتهَا، ثُمَّ تَعُود، وَكَأنهَا تَحدَّث مُجَددًا.
أَنْت لست محمُومًا ولَا تَهذِي كالمرْضى؛
أَنْت ذاك الذِي غطَّوْا عيْنيْه، وجرُّوه، وركلوه إِلى الحُفرة فَهوَى طيْرًا جريحًا، ثُمَّ احترَق.
كَيْف تَستطِيع بِعيْنَيْك الدَّاميتيْنِ أن تَتَذكَّر، ثُمَّ تَعُود مِن ظُلمَة الموْتِ لتحكي عَمَّا جرى؟
الدَّم يسيل من عيْنيْك في المرآة، وَحده يَتَحرّك، بيْنمَا أَنْت كُتلَة وَجْه في أَيقُونة شَاحِبة، تَحْتاج لأن يتم تنْظيفهَا مِمَّا عَلَّق بِهَا مِن سُوريَّتها،
لَكِن أحدًا لَا يَستطِيع!
لَقد رأيْتني، أَلبِسُ وُجُوه الضَّحايَا كُلهم،
فَكُنت ذاك الرَّجل ذا الهنْدام الأنِيق،
وَكُنتُ بِثيابي التي لَم أُغَيرهَا،
وَكُنت الارْتجافة الأخيرة فِي وجه الفتى،
وَكُنت من رفع رِجْله لِيتَّقي الرَّصَاص،
وَكُنت المرْأة الغاضبة،
وَكُنت المسْتسْلمة،
وَكُنت وُجُوه أطْفال نَشفَت فِيهم الأرْواح ثم تَبخرَت.
كَيْف أَنجُو مِن صُوَركم جميعًا،
أيقدر مَيِّت حيّ على الخُروج مِن بَوَّابة العدم؟!
لَقد رأيْتني:
ذاك الولِيد، يُؤَذَنُ فِي أُذنيْه،
ثُمَّ يَتَشهَّد،
وَيعُود إلى الرَّمَاد.
9
أنا الولِيد، أنا الطفْل، أنَا الفتى، أنَا الشَّابُّ، الرَّجل، الكهْل،
أنَا الحَيّ، والمَيِّت، والواقفُ بَيْن منْزلتيْن،
أنَا المصْلوب على خَشبَة، أو المسْحوق بِجنْزِير دَبَّابة،
أنَا التُّرَاب المعْجون بِالدَّم البهي،
أنَا مَا بقِي مِن وَجْه أَخذَت نِصْفه القذيفة،
أنَا نِتْفُ جسدٍ سهتْ عَنهَا عُيُون وَأيدِي القبَّعات البيض،
أنَا عَيَّن تَتبُّع سقوط البرْميل،
أنَا شعْر الطِّفْلة تتلمَّسه رمادًا فِي حَرائِق اللَّيْل البهيم،
أنَا رغيف الخُبز، أو مَا بَقِي مِن مَلمَس يد الطِّفْل، قَبْل أن تَأخذَه رُوحُه بعيدًا عن مَذْبَحة الفُرن الجديدة،
أنَا بُكَاء أبُو فُرات، أنَا دُمُوع انسلَّتْ إِثْر صُوَر القتْلى فِي الطرِيق من الغُوطة إِلى الشّمَال،
أنَا مَشافِي حلب،
أنَا نَظرَة جَمدَتْ فِي قَلعَة الحصْن،
أنَا بِنَاء تَهدَّم في نعيمَة درعا،
أنَا صَخْر اللَّجَاة،
أنَا صَرخَة "وين رَاحُوا"،
أنَا صدى الهُتاف فِي سَاحَة العاصي،
أنَا الرسْتن،
أنَا تُرْس طَاوِلة في عَرَاء داريا،
أنَا اصطِدام الحدِيد بِالْحديد فِي فرع الـ215،
أنَا شاهدة غَيْر مَرئِية في مَقابِر نَجهَا والْقطيفة،
أنَا نُعَاس عَبْد القادر صالِح،
أنَا شَيْء مَنسِي فِي كُلِّ مكَان هُنَاك،
أنَا السُّوريُّ، نسيتُ الكثِير اَلكثِير هُنَا،
وأحاول تَذكُّر من أنَا..
ثمَّ أَعُود مِن جديد:
أنَا ثِيَاب العيد على جسد أطفال استشهدوا في الزَّاهرة،
أنَا أزيز الرَّصاص على حاجِز الكبَّاس
أنَا الموتى في تُربَة اليرْموك وقد نَبشَت القذائف قُبورَهم،
أنَا… أنَا…