صبرا وشاتيلا (مجزرة ـ)
قامت القوات الإسرائيلية باعتداء صارخ على الأراضي اللبنانية، في السادس من حزيران عام 1982، تحت عنوان: «حماية الجليل»، وشارك في العدوان مجموعات كبيرة من القوات البرية والبحرية والجوية. وبعد معارك ضارية مع قوات المقاومة الفلسطينية وقوات الردع العربية ، تمكنت القوات الإسرائيلية من الوصول إلى مشارف العاصمة اللبنانية بيروت، وفرضت عليها حصاراً برياً وجوياً، ولم تتمكن تلك القوات، بما تملكه من تفوق، من اقتحام المدينة. وبعد جولاتٍ طويلة من المحادثات التي كان يديرها مندوب الولايات المتحدة الأمريكية، فيليب حبيب، مع عددٍ من رجالات السياسة اللبنانية والفلسطينية والسورية، تمَّ التوصل إلى اتفاق بين الأطراف، تغادر بموجبه القوات الفلسطينية الأراضي اللبنانية، تحت حماية قوات دولية من الولايات المتحدة وفرنسا وإيطاليا، وتقوم هذه القوات بحماية الفلسطينيين المقيمين في المخيمات داخل الأراضي اللبنانية. وتنفيذاً لبنود الاتفاق، بدأت أفواج المقاتلين الفلسطينيين بمغادرة ميناء بيروت بدءاً من الحادي والعشرين من آب ، مودَّعين من أهالي لبنان، ومعتقدين في الوقت نفسه أن عائلاتهم الموجودة داخل بعض المخيمات في منطقة بيروت ستكون في حماية القوات الدولية التي تعهدت بتأمين ذلك بموجب الاتفاق المشار إليه. وشهدت بيروت في الفترة ذاتها عملية انتخاب بشير الجميل، قائد القوات اللبنانية، رئيساً للجمهورية اللبنانية، يوم الثالث والعشرين من آب.
انتهت عمليات انسحاب قوات الردع العربية والفلسطينية من بيروت، ومع ذلك استمر الحصار على العاصمة اللبنانية، وبقيت بيروت تعاني انقطاع الماء والكهرباء، وظن الكثيرون من أهالي بيروت الغربية عامة، وأهالي المخيمات الفلسطينية خاصة، أن السلام قد غدا قاب قوسين أو أدنى لاسيما وأن منظمة التحرير الفلسطينية التزمت تنفيذ بنود الاتفاق تنفيذاً تاماً، بما في ذلك تسليم الأسلحة الثقيلة التي كانت بحوزة مقاتليها للقوات الرسمية اللبنانية، ولم يصطحب المقاتلون الفلسطينيون معهم سوى الأسلحة الفردية فقط، وهكذا أخذ الكثيرون ممن نزحوا عن منازلهم، جراء القصف الإسرائيلي، بالعودة إلى تلك المنازل التي دمر القصف أكثرها. كانت الأحداث تتوالى بسرعة وعلى نحوٍ غير متوقع، ففي الساعة الرابعة والنصف من بعد ظهر يوم الثلاثاء الموافق للرابع عشر من شهر أيلول 1982 اغتيل الرئيس المنتخب بشير الجميل، إثر انفجارٍ في مقر قيادة القوات اللبنانية، واتخذ الجيش الإسرائيلي من حادثة الاغتيال ذريعةً لتقدمه نحو بيروت من عدة محاور، وكانت المهمة الأولى لتلك القوات إحكام الحصار على مخيمات صبرا وشاتيلا، وتمكنت من اختراق شوارع العاصمة، بعد أن عجزت عن ذلك على مدى أكثر من ثلاثة أشهر، عندما كانت قوات الردع العربية والفلسطينية تتمركز بداخلها، وكانت الحجة التي تذرع بها الصهاينة منع حمام الدم المتوقع حدوثه بين المسلمين والمسيحيين جراء اغتيال الرئيس اللبناني، إلا أن تلك الذريعة كانت مجرد ادعاء كاذب، للتمويه على ماجرى تنفيذه لاحقاً بعد الاتفاق بين قيادة القوات الصهيونية، والممثلة بأرئيل شارون وزير الدفاع، ورئيس أركانه رفائيل إيتان، وقيادة القوات اللبنانية، والذي من أهدافه تنفيذ هجوم مشترك تشنه القوات اللبنانية، التي تضم في صفوفها مجموعات من الكتائب والنمور، على المخيمات الفلسطينية في بيروت الغربية، ومن ثمَّ تنفيذ مجزرة دموية ضد سكانها. وقد أشارت صحيفة دافار الإسرائيلية الصادرة يوم 17/9/1982 إلى أن الجيش الإسرائيلي استكمل خطته في تطويق مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في أحياء صبرا وشاتيلا والفاكهاني. دخلت القوات اللبنانية منطقة المجزرة من عدة محاور، كما نُقلت مجموعات من قوات «سعد حداد» العميلة بالطائرات الإسرائيلية إلى منطقة المطار، ومنه إلى المناطق المحددة لها، وعلى امتداد ثلاثٍ وأربعين ساعة متواصلة، ما بين غروب يوم الخميس وظهر يوم السبت، بين السادس عشر والثامن عشر من شهر أيلول، نُفِّذت واحدة من أبشع المجازر التي عرفتها البشرية في القرن العشرين، وأشدها قسوةً وفظاعةً، في كلا المخيمين اللذين كانت تسكنهما عائلات فلسطينية وسورية ولبنانية. والذي يؤكد ضلوع القوات الإسرائيلية في هذه المجزرة الأسلوب الذي تمت به عمليات القتل، كالتمثيل بالجثث وبقر البطون وذبح الأطفال والشيوخ وتدمير المنازل، وهو الأسلوب نفسه الذي اتبعته العصابات الصهيونية قبلاً في دير ياسين و قبية ونحالين وبحر البقر، ثم في غزة وخان يونس وقانا ومخيمي جنين ورفح فيما بعد. ومن أجل إخفاء معالم هذه الجريمة النكراء، اسُتعمل عدد كبير من البلدوزرات الصهيونية، طيلة الأيام الثلاثة الأولى لدفن الضحايا تحت الركام.
تباينت الأقوال حول أعداد الضحايا الذين قتلوا في هذه المجزرة ، التي شملت جنسياتٍ مختلفة، إلا أن الغالبية العظمى كانت من الفلسطينيين. فالأرقام تشير إلى أن عدد الشهداء يراوح بين ألف وثلاثة آلاف، وصولاً إلى اثني عشر ألف شهيد من الرجال والنساء والأطفال.
أثارت هذه المجزرة الرأي العام العربي والعالمي، وخاصة بعدما تمكنت عناصر الصليب الأحمر والإغاثة من الدخول لمناطق المجزرة، وأخذت عدسات التلفزة والصحافة العالمية تنشر تلك الصور المروعة للقتلى، والمنازل التي جرى هدمها على ساكنيها، والقبور الجماعية التي حفرتها القوات التي نفذت المجزرة داخل المخيمات وخارجها، ولم تكتف تلك القوات بقتل من صادفتهم في المخيمات، بل قامت باختطاف أعداد كبيرة من الشباب، الذين لم يعدف مصيرهم حتى اليوم. وإزاء هذه الموجة من الاستنكار العالمي والعربي، شُكلت لجان تحقيق في لبنان والكيان الصهيوني، كانت الأولى برئاسة العميد أسعد جرمانوس، والتي حاولت إلصاق التهمة بالقوات الإسرائيلية دون القوات اللبنانية، واستمرت مصادر القوات اللبنانية تنفي نفياً قاطعاً أي مسؤولية عن المجزرة. وكان الشيخ بيار الجميل قد قرر ألا تعترف القوات اللبنانية بمشاركتها تحت أي ظرف، خوفاً من أن تهتز مكانة ابنه أمين، رئيس الجمهورية، من جهة، ومن جهة أخرى كان الشيخ بيار حريصاً على علاقاته بالزعماء المسلمين، وكان يعترف في جلساته الخاصة معهم أنه كان هناك القليل من شباب القوات في المجزرة، وقد وصفهم بأنهم كانوا عملاء لإسرائيل ولم يكونوا يتبعون أوامره، في حين أشار تقرير مائير كاهان الصهيوني إلى مسؤولية القوات اللبنانية عن ارتكابها. وقد أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة قراراً في 24 أيلول عام 1982، يدين تلك المذبحة الإجرامية التي تعرّض لها الفلسطينيون وغيرهم من المدنيين في بيروت، وحثّ القرار مجلس الأمن على ضرورة إجراء تحقيق للكشف عن ظروف هذه الجريمة النكراء وملابساتها وتحديد الجهات التي قامت بها، لكن اجراءات التحقيق تعثرت، بسبب موقف لبنان الرسمي من خلال بعثته الدبلوماسية في الأمم المتحدة، والتي اكتفت بنتائج التحقيقات التي قامت بها حكومتها. وعندما تقدمت مجموعة دول عدم الانحياز بمشروع قرار تضمن إدانة المذابح التي ارتُكبت بحق الفلسطينيين واللبنانيين، تدخلت البعثة اللبنانية أيضاً بتأثير واضح من حكومة أمين الجميل، مطالبة بحذف كلمة اللبنانيين، واستبدال كلمتي مدنيين آخرين بها.
تعتبر مجزرة صبرا وشاتيلا جريمة ضد الإنسانية، وما غياب التحقيق الرسمي من قبل الأمم المتحدة إلا دليل على عجزها أمام المأساة التي لم تكن صبرا وشاتيلا آخر فصولها، وما أكثر ما شهد العالم من هذه المجازر على أيدي القوات الصهيونية ومؤيديها في كثير من البلدان.
عبد الله محمود حسين
قامت القوات الإسرائيلية باعتداء صارخ على الأراضي اللبنانية، في السادس من حزيران عام 1982، تحت عنوان: «حماية الجليل»، وشارك في العدوان مجموعات كبيرة من القوات البرية والبحرية والجوية. وبعد معارك ضارية مع قوات المقاومة الفلسطينية وقوات الردع العربية ، تمكنت القوات الإسرائيلية من الوصول إلى مشارف العاصمة اللبنانية بيروت، وفرضت عليها حصاراً برياً وجوياً، ولم تتمكن تلك القوات، بما تملكه من تفوق، من اقتحام المدينة. وبعد جولاتٍ طويلة من المحادثات التي كان يديرها مندوب الولايات المتحدة الأمريكية، فيليب حبيب، مع عددٍ من رجالات السياسة اللبنانية والفلسطينية والسورية، تمَّ التوصل إلى اتفاق بين الأطراف، تغادر بموجبه القوات الفلسطينية الأراضي اللبنانية، تحت حماية قوات دولية من الولايات المتحدة وفرنسا وإيطاليا، وتقوم هذه القوات بحماية الفلسطينيين المقيمين في المخيمات داخل الأراضي اللبنانية. وتنفيذاً لبنود الاتفاق، بدأت أفواج المقاتلين الفلسطينيين بمغادرة ميناء بيروت بدءاً من الحادي والعشرين من آب ، مودَّعين من أهالي لبنان، ومعتقدين في الوقت نفسه أن عائلاتهم الموجودة داخل بعض المخيمات في منطقة بيروت ستكون في حماية القوات الدولية التي تعهدت بتأمين ذلك بموجب الاتفاق المشار إليه. وشهدت بيروت في الفترة ذاتها عملية انتخاب بشير الجميل، قائد القوات اللبنانية، رئيساً للجمهورية اللبنانية، يوم الثالث والعشرين من آب.
آثار القصف الإسرائيلي على المخيم |
تباينت الأقوال حول أعداد الضحايا الذين قتلوا في هذه المجزرة ، التي شملت جنسياتٍ مختلفة، إلا أن الغالبية العظمى كانت من الفلسطينيين. فالأرقام تشير إلى أن عدد الشهداء يراوح بين ألف وثلاثة آلاف، وصولاً إلى اثني عشر ألف شهيد من الرجال والنساء والأطفال.
أثارت هذه المجزرة الرأي العام العربي والعالمي، وخاصة بعدما تمكنت عناصر الصليب الأحمر والإغاثة من الدخول لمناطق المجزرة، وأخذت عدسات التلفزة والصحافة العالمية تنشر تلك الصور المروعة للقتلى، والمنازل التي جرى هدمها على ساكنيها، والقبور الجماعية التي حفرتها القوات التي نفذت المجزرة داخل المخيمات وخارجها، ولم تكتف تلك القوات بقتل من صادفتهم في المخيمات، بل قامت باختطاف أعداد كبيرة من الشباب، الذين لم يعدف مصيرهم حتى اليوم. وإزاء هذه الموجة من الاستنكار العالمي والعربي، شُكلت لجان تحقيق في لبنان والكيان الصهيوني، كانت الأولى برئاسة العميد أسعد جرمانوس، والتي حاولت إلصاق التهمة بالقوات الإسرائيلية دون القوات اللبنانية، واستمرت مصادر القوات اللبنانية تنفي نفياً قاطعاً أي مسؤولية عن المجزرة. وكان الشيخ بيار الجميل قد قرر ألا تعترف القوات اللبنانية بمشاركتها تحت أي ظرف، خوفاً من أن تهتز مكانة ابنه أمين، رئيس الجمهورية، من جهة، ومن جهة أخرى كان الشيخ بيار حريصاً على علاقاته بالزعماء المسلمين، وكان يعترف في جلساته الخاصة معهم أنه كان هناك القليل من شباب القوات في المجزرة، وقد وصفهم بأنهم كانوا عملاء لإسرائيل ولم يكونوا يتبعون أوامره، في حين أشار تقرير مائير كاهان الصهيوني إلى مسؤولية القوات اللبنانية عن ارتكابها. وقد أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة قراراً في 24 أيلول عام 1982، يدين تلك المذبحة الإجرامية التي تعرّض لها الفلسطينيون وغيرهم من المدنيين في بيروت، وحثّ القرار مجلس الأمن على ضرورة إجراء تحقيق للكشف عن ظروف هذه الجريمة النكراء وملابساتها وتحديد الجهات التي قامت بها، لكن اجراءات التحقيق تعثرت، بسبب موقف لبنان الرسمي من خلال بعثته الدبلوماسية في الأمم المتحدة، والتي اكتفت بنتائج التحقيقات التي قامت بها حكومتها. وعندما تقدمت مجموعة دول عدم الانحياز بمشروع قرار تضمن إدانة المذابح التي ارتُكبت بحق الفلسطينيين واللبنانيين، تدخلت البعثة اللبنانية أيضاً بتأثير واضح من حكومة أمين الجميل، مطالبة بحذف كلمة اللبنانيين، واستبدال كلمتي مدنيين آخرين بها.
تعتبر مجزرة صبرا وشاتيلا جريمة ضد الإنسانية، وما غياب التحقيق الرسمي من قبل الأمم المتحدة إلا دليل على عجزها أمام المأساة التي لم تكن صبرا وشاتيلا آخر فصولها، وما أكثر ما شهد العالم من هذه المجازر على أيدي القوات الصهيونية ومؤيديها في كثير من البلدان.
عبد الله محمود حسين