حفصة الرفاعي
في عَالَمٍ مضطربٍ، لا يعبأ الإيقاع السَّريع للحياة بأهمية التيار الرومانسيّ ومدارسه، فكثيرًا ما يُنْظَر إلى الفُنُون والآداب باعتبارهما نوافذ هامشيَّة للترفيه وحسب، لكن تلك النوافذ قد تعكس واقعًا أعمق مما تخبرنا به الإحصائيَّات الجافة، وتعالجه بمهارةٍ تمكننا من استراق النظر إلى عوالم أشد عمقًا وبساطة في آنٍ واحد!.
لهذا يقرِّر المخرج وكاتب السيناريو الإيرانيّ “مجيد مجيدي” إهداء فيلم “خورشيد – 2020” إلى 152 مليون طفلٍ عاملٍ حول العَالَم، وإلى من يعملون على مساعدتهم، ليحوِّل بذلك إحصائيَّات اليونيسف -التي تجاوزت 160 مليون اليوم- إلى نافذةٍ دراميَّةٍ يعالج من خلالها كيف تدهس الطفولة تحت وطأة الفقر/الاستغلال/القسوة/العنصرية/والأحلام الضائعة.
حبكة مثيرة
في “خورشيد” أو “Sun Children “، يجسِّد الأطفال الخمسة بطولة حقيقيَّة للفيلم لا تستند إلى مواهب فطريَّة خارقة، أو العديد من التدريبات بقدر ما تستند إلى حقيقة أنهم يقصون واقعهم اليوميّ وحسب!
فـ “روح الله زماني” الذي يجسِّد دور البطل “علي” وأصدقائه الأربعة ” Shamila / زهرة ” و” Abolfazl / أبو الفضل” و” Mohammad / مماد” و ” Mani / رضا” هم في الواقع من الأطفال الذين قادتهم ظروف أسرهم وغياب آبائهم إلى العمل بالشوارع وتنصيبها معلمهم الأوحد.
يتنقَّل “علي” وأصدقاؤه الصبية بين شوارع “طهران” المعاصرة قبل 2020، في تشكيلٍ عصابيٍّ يكافح للعمل بورشة سيارات صغيرة، قبل أن يعقد “علي” صفقة مثيرة مع “هاشم” العجوز الذي يَعده بالمال وغرفة يعيش بها مع أمه فور تهريبها من مستشفى الأمراض العقلية، مقابل استخراج كنز مُخبَّأ بأنفاق مجاري مدرسة “الشمس” لأطفالِ الشوارع.
مُخْرِج واقعيّ بتمرُّدٍ شاعريٍّ
كما هو الطابع العام للسينما الإيرانيَّة، تتسِّم أفلام “مجيدي” بالواقعيَّة المفرطة، ولأنَّه يختار الانحياز للمهمَّشين تمتزج واقعيَّته بقدرٍ أكبر من التراجيديا، التي سرعان ما تنكسر سوداويَّتها ببعضِ المشاهد التي يسرق فيها أبطاله المثقلين الخِفَّة من فَكّ الزمن. في تلك المشاهد التي تشبه الحلم، تَظهر شاعريَّة “مجيدى” من خلال استخدامه البارع لأدواته السينمائيَّة، كتغيير الإضاءة القاتمة، والتقاط كادرات تصوير بزوايا مميَّزة وبالطبع الاعتماد على موسيقى تصويريَّة ساحرة تتصاعد وتيرتها بالتوازي مع ذروة القصة وانفعالات الأبطال، فنرى الصبية الأربعة الذين يقضون حياتهم بالرَّكض في الطرقات إما هربًا من تهديدٍ ما أو خلف أسباب معيشتهم، يتذكَّرون فجأة طفولتهم المنسية بالتمدُّد على سطح الماء بإحدى النوافير في الشارع، لثوانٍ معدودة يستسلمون للشمس التي تتكفل بإنارة ملامحهم في رمزيَّةٍ تعكس ارتباط النور بالطفولة والخِفَّة، قبل أن يتحوَّل المشهد للحركة والرَّكض المحموم مجددًا باتجاه الظل فرارًا من الشرطة.
وفي مشهد آخر، يغلق مَالِك المدرسة الأبواب في وجه التلاميذ لعدم تمكُّن الناظر من جمع تبرُّعات كافية لدفع الإيجار، لتظهر شاعريَّة “مجيدي” المتمرِّدة مجددًا -عبر تصاعد الموسيقى الخلَّابة مع ذروة الحدث والتصوير الرائع- حين يأمر الناظر تلاميذه المتجمهرين بتسلُّق السور واقتحام المدرسة، فيمتثلوا لأمره بحماسٍ ويتسلَّق كلٌّ منهم السور العالي في غضبٍ وتحدٍ من يدرك بأنَّه إنما يتسلَّق جدار الحياة الموضوعة دائمًا بنهاية طرق أحلامه!
تذكِّرني شاعريَّة “مجيدي” العذبة في “خورشيد” بفيلمه القديم “Children of Heaven”، إذ تصبح عذوبة التمرُّد الطفوليّ هي السلاح المنطقيّ الوحيد لأبطاله في وجه سطوة القدر. ففي “أطفال السماء”، ركض البطل الصغير في سباقٍ ملحميٍّ خلف أحلامه باتجاه نصره الكبير، ليس المركز الأول أو الثاني، فكان يريد المركز الثالث حيث جائزة الحذاء الذي سيعطيه لأخته بدلًا من حذائها الذي أضاعه فتشاركا حذائًا واحدًا للذهاب إلى المدرسة لأسابيع بِسرِّية كَيْلا يثقلا كاهلَ أبٍ مثقل بالفعل، وبينما يصل الطفل أولًا لخطِّ النهاية ويُتَوِّجه الجميع بطلًا تتساقط دموعه بحرقةٍ لخسارته الفادحة التي لا يعرفها سواه، فيجرُّ نفسه إلى البيت حيث تجلس أخته الصغيرة أمام النافورة، وبلحظات لعب طفوليَّة بالماء ننسى كل شيء عن ثقل الهزيمة!
التَّمثيل وفَلْسَفة الشَّخصيَّات
لو أنَّ هناك جائزة إضافية لبراعة “مجيدي” في استخدام أدواته، فالكثير من النقاط بالتأكيد ستذهب لاختيار الممثلين “Casting”. منذ افتتاحية فيلم خورشيد، تعطينا الملامح البائسة لوجوهِ الصبية نبذةً مختصرة عن هول تحمُّل الأعباء حين تصبح أكبر مما ينبغي، وجه “علي” مثلا يبدو أنه قد حدَّد موقفه من الحياة مبكرًا، فهو وجه القائد الذي يضطلع بحماية رفاقه أو توبيخهم وقت اللزوم، واللِّصّ الصغير الذي يكافح هربًا من تهديدات الشارع، والداهية الذي يفاوض ناظر مدرسة “الشمس” ويرفض التحرُّك قبل قبول تسجيله بها ورفاقه، لكنه أيضًا في أوقاتٍ نادرة يستعيد ملامح طفولته كلما تسلَّل لمصحة الأمراض النفسيَّة ليُرَاقِب أمه، وكلما رنا إلى “زهرة” في إعجابٍ فطريٍّ، وكلَّما قام بإطلاق سراح “الحمام” نحو السماء حيث يتوق إلى الطيران هو الآخر.
أبطال هذا العمل هم تجسيد حيٌّ لمذاهبٍ فَلْسَفيَّة، فبينما يخضع “علي” ورفاقه لبراجماتيَّة الواقع التجريبيَّة، إذ تندهس مثاليَّة أفلاطون تحت سطوة الشارع ودروسه القاسية، تطل رواقية أستاذهم المُفضَّل الذي يعمل وكيلًا بمدرسة “الشمس” ويطبق ما يمليه ضميره وحسب أيًّا كانت الظروف.
في أحد المشاهد تتجلَّى تجريبيَّة الشارع حينما يسأل أستاذ الكيمياء “علي” عن عدد حالات المادة في الطبيعة، يُفكِّر عليّ لثانية قبل أن يجيب في ثقة “7: هيروين، حشيش…” لتقاطعه ضحكات الطلاب الساخرة وسبابهم المهين لأمه الذي يخرج غضبه وشراسته فيهاجمهم ويُسقِطهم أرضًا؛ وحين يوبِّخه وكيل المدرسة في مكتبه، يظهر تواضعه وهو يسأل الفتى بفضولٍ عن كيفية إسقاط كل هؤلاء أرضًا بمفرده، فيعلِّمه “علي” الحركة القتاليَّة بكلّ تقنيَّاتها، ليطبِّقها فيما بعد بنجاحٍ على مأمور السجن العنصريّ الذي يتباهى بحلق رأس الطفلة “زهرة”، لا لشيءٍ سوى لأنَّها أفغانيَّة تبيع الأغراض خفية بمترو الأنفاق لتعيل أسرتها!
وهكذا عبر الفيلم، يدرك الأستاذ أنَّ الحقائق أكثر تعقيدًا مما تبدو عليه، وأنَّ التعليم ثنائيّ الاتجاه، وأن كانط كان متشددًا -بشكلٍ لا إنسانيٍّ على الأرجح- حين قرَّر أن ما يمنح للشخص قيمة -فقط- هو كَوْنه ذاتًا عاقلة وأخلاقيَّة.
السينماتوغرافيا
يبرع الإيرانيون في تصوير واقعهم بما ينقل للمُشَاهِد الإحساس الفعليّ للأبطال، فكلّ زاوية بمواقع التصوير مجهَّزة بدقَّةٍ حتى يكاد المُشَاهِد يغرق في التراب أو يشعر بالاختناق كلما حفر “علي” تحت أنفاق المدرسة وخاض في ممرَّات المياه الضيقة!
أما عن تباين الإضاءة وألعاب الظل والنور، فقد أتت متزنة بين طبيعة المواقع الخارجيَّة والداخليَّة للتصوير وحالات الأبطال النَّفسيَّة، وكذلك زوايا التصوير التي لا تتَّسِم بالاستعراضيَّة، غير أنَّها توظيفيَّة إلى حدٍّ كبير بما يلائم انفعالات الممثِّلين والانطباع المرجو من المشهد، لهذا يغلب عليها أسلوب اللقطات بمستوى النظر، ولقطات ما فوق الكتف أكثر من الزوايا المائلة ومنظور عين الطائر، وكانت نقلات المَشَاهِد بشكلٍ عام سَلِسَة ومنطقيَّة.
باتجاه ضوء الشمس
يُعَدُّ فيلم خورشيد المُصَاغ بسيناريو مختصر ومُعبِّر ومكثَّف في الوقت ذاته، صرخة احتجاج بوجه العَالَم الذي يُمَارِس خداعه وقسوته في كل لحظة على الضعفاء، لهذا جاءت مصائر الأبطال قاسية بدورها، لكنها منطقيَّة، تحدث كل يومٍ ببقعةٍ ما من الأرض!
بنهاية الفيلم المفاجئة، يبكي “علي” بحرقة يعرفها كلٌّ من واجه السراب يومًا ما، وتنهدم عليه جدران واقعه وأحلامه، قبل أن تتغلَّب إرادته مجددًا، ويزحف عبر ثغرة من الجدار نحو الأعلى، ويسير باتجاه أبواب المدرسة الخالية حيث تتساقط عليه أشعة الشمس رويدًا رويدًا كلما سار باتجاه النور بعيدًا عن الخدعة.
ربما فشل “علي” في أن يصبح بطلًا ميثولوجيا إغريقيَّة يظفر بكل شيءٍ بنهاية الأسطورة، فهو ابن الواقعيَّة حتى النخاع! لكنه على الأقل نجح بتحقيق ثنائيَّة الهزيمة/النجاة، وجسَّد رؤية “شوبنهاور” حول هُويَّتنا التي تتحدَّد بإرادة الحياة التي تظل ثابتة فينا حتى عندما ننسى ونتغيَّر كليَّةً.