بدأ الأمر عندما عبَّر صديقٌ عن إعجابه المشوب بالتردُّد تجاه عملٍ فنِّي مُستحدث للوحة الموناليزا أو الجيوكاندا، وقد صُنع بأدواتٍ فنيَّة مختلفة عن الألوان الزيتيَّة. أعتقد أنّ إعجابه كان منصبًا بشكلٍ خاصّ على فكرة استخدام موادٍّ خام من الطبيعة يُعاد فيها إنتاج عملٍ فنيٍّ أصيل بأسلوبٍ مختلف، لكن ما دفعه للتساؤل هو: لماذا يكون الجهد المبذول في عملٍ فنِّي محاكاةً واضحةً تُذكِّرنا بعملٍ فنِّيٍ آخر معروف، بدلًا من أن يكون فكرةً أصيلة؟
تساؤله البسيط هذا وتردُّده حول إعجابه بعملٍ منقول أو مُستحدَث هو من أكثر المسائل الجدليَّة والشائكة على المستوى الفنّي والأدبي، والتي تثير لدينا أسئلةً أخرى أكثر حول أعمالٍ فنيَّة أو أدبيَّة بما فيها الشعريَّة قد ندرك فور قراءتها أنَّها أحيانًا نسخٌ رديئة، أو مبتذلة وأحيانا ساذجة عن العمل الأصليّ. مع ذلك يحدث أن نُفاجأ أحيانًا بهذه النسخ -إن جاز التعبير – وقد تفوَّقت على الأصل، واستحقَّت بذلك وصفها بالعمل الابداعيّ. فمتى يُصنَّف العمل الفنيّ أو الأدبيّ أنّه إبداعٌ مع أنّه مستوحى من عمل آخر؟
فوجئتُ وأنا أبحث في هذه المسألة بعبارة مُلفتة تقول “ما الفنّ إلَّا سرقة” وفاجئني أكثر أنَّ قائلها هو بابلو بيكاسو. فكيف يكون الفنّ فنًّا إن كان مسروقًا؟ وهل يُعتبر التقليد سرقة؟ ما السرقة الفنيَّة التي تعتبر إبداعًا، وما السرقة المبتذلة؟
في رواية سرقة أدبيّة للكاتب المكسيكي إيكتور أليغار كامين يعتبر “الكاتب المُنتحِل” نفسه محاكيًا خبيرًا للأدب، ومنتحلًا ماهرًا. يصف فيه فنَّ الانتحال سرقةً بطريقة فريدة غير قابلة للإشارة لغيره.
تشير الرواية إلى جانبٍ أو واقعٍ زمنيٍّ حاليّ، وهو حداثة السّرد وعوالمها الخفيّة، وأنّ الحداثة هي فعلا بؤرة غنيَّة لاجتذاب السرقة، حيث أصبحت فضاءً رحبًا “لكاتبٍ من دون عبقريَّة مُنِحَ موهبة التعرُّف على عبقريَّة الآخرين” مثلما وصف ” المُنتحِل” نفسه.
يشرح “المُنتحِل” أكثر عن عملية الانتحال بشكلٍ مذهل فيقول: “كانت مشاهدي متقطّعة متناوبة ومتناقضة على طريقة (خوان رولفو) أو (فوكنر)، وذلك ما تدرَّب عليه القارئ الحديث وألِفَتْهُ خرافاته؛ بعد أن أُجبِر على القراءة المتقطّعة لروايات زمنه التي يتوجَّب عليه إعادة تنظيمها في ذاكرته بدل الاكتفاء بقراءتها. كان هذا التعقيد المصطنع مناسبًا جدًّا لما أصبو إليه. فالحواجز الزجاجيَّة لحداثة السرديّ تُخفي بقوّة الوضوح الكلاسيكي للحكاية الأصليَّة، والاستعمال الحرفيّ لمشاهدها، واللعب الدراميّ بشخصيَّاتها”.
تقترح الرواية فكرةً جريئة وهي أنَّه ربُّما لا يقدِّم الأدب شيئًا جديدًا، ففي تاريخ كلِّ الآداب، نجد جيشًا من المُكرِّرين مقابل كلِّ عددٍ قليلٍ من المبدعين الحقيقيين، وتاريخ الأدب، في عمقه، ليس سوى تاريخ سلسلةٍ من الكَتَبة الذين يحاولون تقليد ما أحبُّوه في مؤلِّفين آخرين. الاستعارات الأساسيَّة، الحبكات التي لا محيد عنها، العواطف المزدوجة التي اكتشفها وقام بتشفيرها بعض العباقرة، الناطقون الحقيقيُّون بعبقريَّة اللغة، التي هي في الأساس لا تنتمي لأحدٍ بل تعيش وتنتشر من تلقاء نفسها. ويمعن الكاتب المُنتحِل بفكرته بأنَّه “يمكن النظر إلى تاريخ الأدب بأكمله على أنه طِرْسٌ ضخم قال فيه ثُلَّة من المؤلِّفين كلَّ شيء، والبقيَّة مجرد نُسَّاخ، إما بُلْه أو أذكياء، وأنَّه بعد إمعان النظر، نجد أنَّ المؤلفين ليسوا سوى مزيجٍ من المنتحلين الخجولين أو غير الواعين لما قرؤوه وظلَّ عالقًا بأذهانهم، دون أن يدركوا جيِّدًا تلك الآثار.
وفي هذا الصدد لنتذكَّر أنَّ ابن الخشّاب أشاد بمقامات الحريريِّ لأنَّه “خطف أكثرها من مواضع يدلُّ تهدِّيه إليها على فضلٍ بارع”. هكذا فإنَّ السرقة أساس ما اعتُبِر في وقتٍ من الأوقات أعظم كتابٍ في الأدب العربيّ! وليس من المفارقة أن يضيف ابن الخشاب أنّ الحريريَّ كان “مُكِبًّا عليها صارفًا مدَّة مهلِه فيها وهو ينقح فيها اللفظة بعد اللفظة ويستشفُّها في كلِّ لحظة، فهي بنت عمرِه وبِكرُ دهرِه”، أي أنّه كرَّس حياته لإنجاز سرقةٍ تتَّسم بالكمال.
ولعلَّ هذا ما أشار إليه ابن عبد ربّه عندما قال إنّ “اختيار الكلام أصعب من تأليفه”.
لطالما كانت هذه المسألة شائكةً منذ الأزل؛ فلدى النقّاد العرب قاموسٌ كامل من المصطلحات التي تُعبِّر عن فعل السرقة بأشكالها المتفاوتة. بالمقابل، فإنّ البعض أخرج عددًا من المصطلحات من دائرة تهمة السرقة، كالاحتذاء، توارُد الخواطر، أو المعارضة! فهنا تُعتبَر كلُّ فكرةٍ جديدةً في الأصل دمجًا أو تعديلًا أو إضافةً على ما سبقها من أفكار.
هل معنى ذلك أنّه لا يوجد ما يُسمَّى ملكيّةً فكريّة؟
وهذا سيدفعنا لسؤالٍ آخر: أين الحدُّ الفاصل بين الأصل والتقليد؟
وما هي الأصالة؟ هل هي كما يعرِّفها ويليام رالف آنج بأنَّها “سرقةٌ أدبيَّة غير مشكوكٍ في أمرها”؟ هذا يعني أنَّه عملٌ مستوحى من عملٍ آخر لكنَّه مستقلٌّ في هدفه! ربَّما..
لعلَّ هذا ما تسبَّب في تفوُّق بعض المدارس الفنيَّة على الرغم من أنَّها انبثقت عن مدارس أخرى تُعتبَر حجر أساسٍ في مجال الفنّ.
الطريف في الأمر أنّ هناك من يقول بأنّ لا فكرة تأتي من العدم؛ كلُّ شيءٍ مبنيٌّ على ما سبقه، حتّى وإن لم نلحظ ذلك. قد تفيد هذه الفكرة مسألةً معقدة لدى المبتدئين من الكُتَّاب أو الفنَّانين ولمن يعاني من مسألة القَفاة الكتابيَّة؛ وعندها عليهم أن يدركوا دوما عبارة أندريه جيد الكاتب الفرنسيّ بأن “كلُّ ما يجب قوله قد قيل سلفًا، لكن طالما لم ينصت أحد، فيجب قول كلُّ شيءٍ مُجدّدًا.”
فلو تحرَّرنا من عبء رغبتنا بأن نكون أصليّين تمامًا؛ عندها سنكون قادرين على التوقُّف عن محاولة اختراع أشياء من العدم، وأن نبدأ بتقبُّل تأثير الآخرين والأشياء علينا بدل الهروب منها.
لكن مع ذلك هناك دومًا معايير، ولطالما كانت السرقات فنًّا متشعِّبًا أجهد النقَّاد أنفسهم للإحاطة بجوانبه. فداخل جماعة الأدب والشعر تحديدًا، كان هناك معايير تحكم ما يُسمَّى بالقباحة أو الرداءة، وجزءٌ من رداءة الشعر قديمًا أن يكون مسروقًا، ومفهوم السرقة، كثيمة Theme، هو وصفٌ نقديٌّ ناضج ظهَر في القرن الثاني والثالث للهجرة، وقد كان في الممارسة الشعريَّة ما يُسمَّى المعارضات، والمعارضة أو ما يُسمَّى (التقليد) في مظهرها السطحيّ هي إنشاء قصيدةٍ تحاكي قصيدةً سابقة مع مراعاة الوزن ذاته والقافية ذاتها وفي كثيرٍ من الأحيان المعنى ذاته، حيث تقع في منطقةٍ يحاول فيها شاعرٌ محاكاة شعرٍ سُرد على مسمعه.
أمَّا سوق عكاظ وكلُّ أسواق المبارزات الشعريَّة كانت المعارضة جزءًا هامًّا من التحدِّي القائم فيها. تُذكِّر المعارضة بألعاب المصارعة لأنَّها تهدف إلى القضاء على الخصم، أي الشاعر السابق، فهي ظاهريًّا تدين له بالولاء، لكنَّها في الواقع تسعى إلى التفوُّق عليه وتحذوها الرغبة في الاستحواذ على مكانه، لهذا كان الجاحظ، وهو من النقَّاد والمفكِّرين الأساسيّين الذين طرحوا فكرة المعارضات الشعريَّة، ولم يُسمِّها سرقاتٍ أدبيَّة، لأنه كان يرى أنَّ طبيعة التطوُّر الشعريّ؛ تعكس طبيعة تطوُّر الإحساس أو الوعي الذهنيّ لدى الإنسان، وبناءً على ذلك فهي ليست سرقة.
كانت فكرة الجاحظ الأساسيَّة أو الجملة المعروفة لديه هي أنَّ المعاني مطروحةٌ على الطريق، يأخذها العربيّ والأعجميّ فيضعها في قالب، والقالب هو الذي يحكم تفوُّق هذا المعنى أو إخفاقه. هذه العبارة معروفةٌ جدًا في فكر الجاحظ وتطرح أكثر من مذهبٍ في النقد، فهي تطرح الموضوع القائل بأنّ المعنى ليس جديدًا، وبأنّ الإنسان لا ينتج معنى، إنَّما المعنى بالأصل موجودٌ في العالم والإنسان يُعيد ترديده أو اجتراره لكن بأساليب مُبتكرة، وهذا يُحاكي الفكرة اللي حكى عنها كيليطو بأن ليس هناك سرقاتٍ قد تكون مذمومةً إذا كانت قائمةً على الإبداع، لأننا بالأساس لا نخترع فكرةً جديدة، فالحبُّ هو الحبّ لكن تتشعّب الأفكار حوله، الذمُّ هو الذمّ، والمدح هو المدح.
تساؤله البسيط هذا وتردُّده حول إعجابه بعملٍ منقول أو مُستحدَث هو من أكثر المسائل الجدليَّة والشائكة على المستوى الفنّي والأدبي، والتي تثير لدينا أسئلةً أخرى أكثر حول أعمالٍ فنيَّة أو أدبيَّة بما فيها الشعريَّة قد ندرك فور قراءتها أنَّها أحيانًا نسخٌ رديئة، أو مبتذلة وأحيانا ساذجة عن العمل الأصليّ. مع ذلك يحدث أن نُفاجأ أحيانًا بهذه النسخ -إن جاز التعبير – وقد تفوَّقت على الأصل، واستحقَّت بذلك وصفها بالعمل الابداعيّ. فمتى يُصنَّف العمل الفنيّ أو الأدبيّ أنّه إبداعٌ مع أنّه مستوحى من عمل آخر؟
فوجئتُ وأنا أبحث في هذه المسألة بعبارة مُلفتة تقول “ما الفنّ إلَّا سرقة” وفاجئني أكثر أنَّ قائلها هو بابلو بيكاسو. فكيف يكون الفنّ فنًّا إن كان مسروقًا؟ وهل يُعتبر التقليد سرقة؟ ما السرقة الفنيَّة التي تعتبر إبداعًا، وما السرقة المبتذلة؟
في رواية سرقة أدبيّة للكاتب المكسيكي إيكتور أليغار كامين يعتبر “الكاتب المُنتحِل” نفسه محاكيًا خبيرًا للأدب، ومنتحلًا ماهرًا. يصف فيه فنَّ الانتحال سرقةً بطريقة فريدة غير قابلة للإشارة لغيره.
تشير الرواية إلى جانبٍ أو واقعٍ زمنيٍّ حاليّ، وهو حداثة السّرد وعوالمها الخفيّة، وأنّ الحداثة هي فعلا بؤرة غنيَّة لاجتذاب السرقة، حيث أصبحت فضاءً رحبًا “لكاتبٍ من دون عبقريَّة مُنِحَ موهبة التعرُّف على عبقريَّة الآخرين” مثلما وصف ” المُنتحِل” نفسه.
يشرح “المُنتحِل” أكثر عن عملية الانتحال بشكلٍ مذهل فيقول: “كانت مشاهدي متقطّعة متناوبة ومتناقضة على طريقة (خوان رولفو) أو (فوكنر)، وذلك ما تدرَّب عليه القارئ الحديث وألِفَتْهُ خرافاته؛ بعد أن أُجبِر على القراءة المتقطّعة لروايات زمنه التي يتوجَّب عليه إعادة تنظيمها في ذاكرته بدل الاكتفاء بقراءتها. كان هذا التعقيد المصطنع مناسبًا جدًّا لما أصبو إليه. فالحواجز الزجاجيَّة لحداثة السرديّ تُخفي بقوّة الوضوح الكلاسيكي للحكاية الأصليَّة، والاستعمال الحرفيّ لمشاهدها، واللعب الدراميّ بشخصيَّاتها”.
تقترح الرواية فكرةً جريئة وهي أنَّه ربُّما لا يقدِّم الأدب شيئًا جديدًا، ففي تاريخ كلِّ الآداب، نجد جيشًا من المُكرِّرين مقابل كلِّ عددٍ قليلٍ من المبدعين الحقيقيين، وتاريخ الأدب، في عمقه، ليس سوى تاريخ سلسلةٍ من الكَتَبة الذين يحاولون تقليد ما أحبُّوه في مؤلِّفين آخرين. الاستعارات الأساسيَّة، الحبكات التي لا محيد عنها، العواطف المزدوجة التي اكتشفها وقام بتشفيرها بعض العباقرة، الناطقون الحقيقيُّون بعبقريَّة اللغة، التي هي في الأساس لا تنتمي لأحدٍ بل تعيش وتنتشر من تلقاء نفسها. ويمعن الكاتب المُنتحِل بفكرته بأنَّه “يمكن النظر إلى تاريخ الأدب بأكمله على أنه طِرْسٌ ضخم قال فيه ثُلَّة من المؤلِّفين كلَّ شيء، والبقيَّة مجرد نُسَّاخ، إما بُلْه أو أذكياء، وأنَّه بعد إمعان النظر، نجد أنَّ المؤلفين ليسوا سوى مزيجٍ من المنتحلين الخجولين أو غير الواعين لما قرؤوه وظلَّ عالقًا بأذهانهم، دون أن يدركوا جيِّدًا تلك الآثار.
وفي هذا الصدد لنتذكَّر أنَّ ابن الخشّاب أشاد بمقامات الحريريِّ لأنَّه “خطف أكثرها من مواضع يدلُّ تهدِّيه إليها على فضلٍ بارع”. هكذا فإنَّ السرقة أساس ما اعتُبِر في وقتٍ من الأوقات أعظم كتابٍ في الأدب العربيّ! وليس من المفارقة أن يضيف ابن الخشاب أنّ الحريريَّ كان “مُكِبًّا عليها صارفًا مدَّة مهلِه فيها وهو ينقح فيها اللفظة بعد اللفظة ويستشفُّها في كلِّ لحظة، فهي بنت عمرِه وبِكرُ دهرِه”، أي أنّه كرَّس حياته لإنجاز سرقةٍ تتَّسم بالكمال.
ولعلَّ هذا ما أشار إليه ابن عبد ربّه عندما قال إنّ “اختيار الكلام أصعب من تأليفه”.
لطالما كانت هذه المسألة شائكةً منذ الأزل؛ فلدى النقّاد العرب قاموسٌ كامل من المصطلحات التي تُعبِّر عن فعل السرقة بأشكالها المتفاوتة. بالمقابل، فإنّ البعض أخرج عددًا من المصطلحات من دائرة تهمة السرقة، كالاحتذاء، توارُد الخواطر، أو المعارضة! فهنا تُعتبَر كلُّ فكرةٍ جديدةً في الأصل دمجًا أو تعديلًا أو إضافةً على ما سبقها من أفكار.
هل معنى ذلك أنّه لا يوجد ما يُسمَّى ملكيّةً فكريّة؟
وهذا سيدفعنا لسؤالٍ آخر: أين الحدُّ الفاصل بين الأصل والتقليد؟
وما هي الأصالة؟ هل هي كما يعرِّفها ويليام رالف آنج بأنَّها “سرقةٌ أدبيَّة غير مشكوكٍ في أمرها”؟ هذا يعني أنَّه عملٌ مستوحى من عملٍ آخر لكنَّه مستقلٌّ في هدفه! ربَّما..
لعلَّ هذا ما تسبَّب في تفوُّق بعض المدارس الفنيَّة على الرغم من أنَّها انبثقت عن مدارس أخرى تُعتبَر حجر أساسٍ في مجال الفنّ.
الطريف في الأمر أنّ هناك من يقول بأنّ لا فكرة تأتي من العدم؛ كلُّ شيءٍ مبنيٌّ على ما سبقه، حتّى وإن لم نلحظ ذلك. قد تفيد هذه الفكرة مسألةً معقدة لدى المبتدئين من الكُتَّاب أو الفنَّانين ولمن يعاني من مسألة القَفاة الكتابيَّة؛ وعندها عليهم أن يدركوا دوما عبارة أندريه جيد الكاتب الفرنسيّ بأن “كلُّ ما يجب قوله قد قيل سلفًا، لكن طالما لم ينصت أحد، فيجب قول كلُّ شيءٍ مُجدّدًا.”
فلو تحرَّرنا من عبء رغبتنا بأن نكون أصليّين تمامًا؛ عندها سنكون قادرين على التوقُّف عن محاولة اختراع أشياء من العدم، وأن نبدأ بتقبُّل تأثير الآخرين والأشياء علينا بدل الهروب منها.
لكن مع ذلك هناك دومًا معايير، ولطالما كانت السرقات فنًّا متشعِّبًا أجهد النقَّاد أنفسهم للإحاطة بجوانبه. فداخل جماعة الأدب والشعر تحديدًا، كان هناك معايير تحكم ما يُسمَّى بالقباحة أو الرداءة، وجزءٌ من رداءة الشعر قديمًا أن يكون مسروقًا، ومفهوم السرقة، كثيمة Theme، هو وصفٌ نقديٌّ ناضج ظهَر في القرن الثاني والثالث للهجرة، وقد كان في الممارسة الشعريَّة ما يُسمَّى المعارضات، والمعارضة أو ما يُسمَّى (التقليد) في مظهرها السطحيّ هي إنشاء قصيدةٍ تحاكي قصيدةً سابقة مع مراعاة الوزن ذاته والقافية ذاتها وفي كثيرٍ من الأحيان المعنى ذاته، حيث تقع في منطقةٍ يحاول فيها شاعرٌ محاكاة شعرٍ سُرد على مسمعه.
أمَّا سوق عكاظ وكلُّ أسواق المبارزات الشعريَّة كانت المعارضة جزءًا هامًّا من التحدِّي القائم فيها. تُذكِّر المعارضة بألعاب المصارعة لأنَّها تهدف إلى القضاء على الخصم، أي الشاعر السابق، فهي ظاهريًّا تدين له بالولاء، لكنَّها في الواقع تسعى إلى التفوُّق عليه وتحذوها الرغبة في الاستحواذ على مكانه، لهذا كان الجاحظ، وهو من النقَّاد والمفكِّرين الأساسيّين الذين طرحوا فكرة المعارضات الشعريَّة، ولم يُسمِّها سرقاتٍ أدبيَّة، لأنه كان يرى أنَّ طبيعة التطوُّر الشعريّ؛ تعكس طبيعة تطوُّر الإحساس أو الوعي الذهنيّ لدى الإنسان، وبناءً على ذلك فهي ليست سرقة.
كانت فكرة الجاحظ الأساسيَّة أو الجملة المعروفة لديه هي أنَّ المعاني مطروحةٌ على الطريق، يأخذها العربيّ والأعجميّ فيضعها في قالب، والقالب هو الذي يحكم تفوُّق هذا المعنى أو إخفاقه. هذه العبارة معروفةٌ جدًا في فكر الجاحظ وتطرح أكثر من مذهبٍ في النقد، فهي تطرح الموضوع القائل بأنّ المعنى ليس جديدًا، وبأنّ الإنسان لا ينتج معنى، إنَّما المعنى بالأصل موجودٌ في العالم والإنسان يُعيد ترديده أو اجتراره لكن بأساليب مُبتكرة، وهذا يُحاكي الفكرة اللي حكى عنها كيليطو بأن ليس هناك سرقاتٍ قد تكون مذمومةً إذا كانت قائمةً على الإبداع، لأننا بالأساس لا نخترع فكرةً جديدة، فالحبُّ هو الحبّ لكن تتشعّب الأفكار حوله، الذمُّ هو الذمّ، والمدح هو المدح.