امير علي
في عصر الـ"ريلز" والـ"تيك توك"، ظهر نوع سينمائي جديد لا يستدعي انتباه المشاهد أو يدفعه إلى تأمل كل مشهد من مشاهد الفيلم الذي ينتمي إليه. بل، وعلى العكس، يدفعه إلى تجاوز السؤال عن غاية شخصياته وأسباب أفعالها ودوافعها.
في مقدمة فيلم "حياة الآخرين" (2006) للمخرج الألماني فلوريان هنكل فون دونرسمارك، نقرأ أن حياة الآخرين هي أجمل سينما على الإطلاق. قد تُعتبر هذه الجملة مجرد مديح للفيلم، لكنها في الواقع أداة قياس حقيقية للعمل السينمائي أو البصري، فلكل إنسان مشهد في حياته الخاصة لن يظهر على الشاشة أبدًا.
تفتقر أفلام السينما الكسولة إلى الجدية المقنعة لكونها تُراهن فقط على التشويق وجرعات الدوبامين التي توفّرها مشاهد العنف والتحطيم والانفجارات
وفي كتابه "القول والقول الذي لا يقول شيئًا"، يسأل جاك بوفرس: هل يمكننا التفكير تفكيرًا لا منطقيًا؟ وهو سؤال يكشف لنا لماذا ظهرت السينما التي تعني، في أحد جوانبها، أن يفكّر المخرج تفكيرًا لا منطقيًا لكن بضوابط وأسُس تجعل مما هو غير ممكن ممكنًا. فمعرفة ما يستطيع البطل فعله وما لا يستطيع فعله هو أهم ما يدفع المشاهد لمواصلة المشاهدة. كل هذا من أجل ألا يظهر الفيلم كمحتوى فج لا شكل له، وهذا ما تظهر عليه بعض الأعمال الرائجة اليوم، مثل الجزء الثاني من فيلم "Extraction" للمخرج الأمريكي سام هارغريف.
يبدأ الجزء الثاني من فيلم الأكشن والإثارة الأمريكي من حيث انتهى الجزء الأول، أي من إصابة بطله تايلر وسقوطه من الجسر. وتركز الكاميرا في البداية على استعراض كيفية نجاة تايلر وخضوعه لإعادة التأهيل، ثم تقاعده وانتقاله إلى كوخ في منطقة نائية. لكن تايلر لا يمكنه أن يعيش حياة هادئة إلى الأبد، إذ سرعات ما يأتيه شخص لا يعرفه، يجسّد دوره النجم إدريس إلبا، ليُخبره بأن طليقته أرسلته لكي يساعدها في إخراج شقيقتها وطفليها من أحد السجون. وهنا تبدأ وتيرة الفيلم بالتصاعد، ويعود تايلر إلى تمارينه الرياضية بهدف العودة إلى سابق عهده. وبمجرد أن يبدأ بتنفيذ المهمة، يتحول الشريط إلى فيلم أكشن جنوني.
يقدّم الجزء الثاني من الفيلم جرعة أكشن مضاعفة مقارنةً بالجزء الأول. وعلى الرغم من أنه يُعاني من قصة ضعيفة وشخصيات سطحية إلى حد ما، إلا أنه يستغل قدرات كريس هيمسوورث البدنية لتقديم تصاميم قتالية مميزة مع مشاهد متفجرة بأسلوب اللقطة الواحدة المستمرة التي تميّزه عن أفلام الأكشن الأخرى التي صدرت خلال هذا العام.
أمام هذا النوع من الأفلام، عليك أن تتذكّر أنه لا وقت للتعافي ولا للسؤال عن أي شيء داخل الفيلم. فصناعة أفلام الحركة اليوم أصبحت تقتصر على كاميرا مجنونة ومشاهد الدماء المنتشرة في كل مكان دون الحاجة إلى معرفة دماء مَنْ هذه؟ وبينما تموّل السينما التجارية أفلامها من إيرادات القاعات، فإن سينما المؤلف تحتقر الفرجة الكسولة التي تفتقر إلى الجدية المقنعة في صناعة الفيلم لصالح الرهان على التشويق وجرعات الدوبامين التي توفّرها مشاهد الانفجارات والتكسير والتحطيم والعنف.
"جون ويك" فيلم أُنتج عام 2014 وتدور أحداثه حول قاتل محترف كان ينتمي سابقًا لإحدى العصابات الإجرامية، لكنه قرر ترك عالم الجريمة بعد وقوعه في غرام امرأة وزواجه منها. وبعد عدة سنوات، تموت الزوجة وتترك له كلبًا لتتأكد من أن لن يكون وحيدًا بعد موتها. وبعد سلسلة من الأحداث، يقتحم عدد من المجرمين منزله لسرقة سياراته، ويقومون بضربه وقتل كلبه، فيقرر حينها البحث عنهم والانتقام منهم، وعرف أن قائدهم هو ابن رئيسه السابق، فصمم على قتله، الأمر الذي ألّب عليه كل قوى الشر.
يقول منسق الحركات القتالية جيريمي ماريناس عن مشهد السلّم الشهير في الجزء الرابع من سلسلة "جون ويك" (2023)، إن السينما تقدّم ما تريدونه: "تريدون 100 رجل يسقطون من على الدرج، وتريدون مني أن أجعل كل رد فعل مختلفًا، وكل سقوط حقيقي، بالطبع تريدون ذلك، كان الأمر كما لو أنه مجرد يوم آخر من العمل اليومي المكرر". وعلى الرغم من نجاح الفيلم في جعل كل مشهد مختلف عن الآخر، وكل سقوط حقيقي، إلا أن تلك المشاهد هي "المتعة السهلة" التي لا تستدعي التأمل أو التفكير، ما يعني أنه ينتمي بدوره إلى السينما الكسولة.
تقتصر صناعة أفلام الحركة اليوم على كاميرا مجنونة والكثير من الدماء المنتشرة في كل مكان
والأفلام التي تتهاوى عادةً ما تكون جيدة في مرحلة معينة، إما في البداية أو المنتصف أو في النهاية. ولكن، في لحظة ما، في مشهد واحد تجد أن كل شيء قد انهار فجأة. وهذا ما يحدث في فيلم "لا أحد"، وهو أيضًا من تأليف ديريك كولستاد، الذي تدور أحداثه حول عائلة تعاني من متاعب كثيرة بدأت بعد دخول لص إلى منزلهم ورفض الأب مواجهته والدفاع عن نفسه وعن أسرته لكونه لا يحبذ العنف، الأمر الذي يخلق لدى ابنه الكبير وزوجته خيبة أمل كبيرة تقود إلى مشاكل يتعرض فيها الأب إلى الكثير من الإهانات التي تجعل منه شخصًا آخر، إذ يُخرج تحت تأثير الضغط والإهانات التي تعرّض لها كل أنواع العنف الدفينة والوحشية في داخله.
ورغم الدماء التي سالت على الشاشة، إلا أن الفيلم خسر جديته ودخل في طابور السينما الكسولة. ما يعني أن لحظة واحدة قادرة على سحق كل تلك المشاعر وتحويلها إلى مشاهد مزعجة رغم صدقها وجديتها. وهنا نستعيد الجملة الشهيرة المرتجلة للممثل روتغر هاور في فيلم "Blade runner": "كل هذه اللحظات ستضيع مع الزمن، مثل الدموع تحت المطر".