ابراهيم العريس
شغف من الأزمنة الصعبة لتمجيد الحب السامي تأييداً للنضال اليوناني ضد العثمانيين.
لم يترك الشاعر والكاتب الألماني فردريخ هولدرلن (1770 – 1843) بين كتاباته العديدة سوى رواية كبيرة واحدة هي "هيبريون" (1793)، المعروفة أيضاً بعنوان آخر هو "الناسك في بلاد الإغريق".
ومع ذلك عرف بكتاباته الكثيرة واشتغاله على اللغة الألمانية التي كان في زمنه واحداً من كبار مجدديها ناهيك عن كونه أحد أبرز المنتقلين بها إلى فضاءات نوع خاص من الكلاسيكية الرومانطيقية.
إذ كان هولدرلن شاعراً في المقام الأول كما عرف كيف يوظف شعره في كتاباته المسرحية التي عاشت وتعيش طويلاً من بعده، ولعل من أشهرها مسرحيته الشعرية الكبيرة "موت إمبدوقليس" التي كثيراً ما جرى محاكاتها، بل حتى اقتبسها الثنائي جان – ماري شتروب ودانيال هوييه أواخر القرن 20 في فيلم نال نجاحاً نخبوياً في حينه.
ومع ذلك من بين الأعمال الكثيرة التي خلفها هولدرلن تبقى أشعاره شاهدة أساسية على مكانته الكبرى. ولعل في وسعنا أن نقول هنا إن "هيبريون" تنتمي بدورها إلى النوع الشعري لكونها رواية تتسم بأكبر قدر ممكن من الشاعرية وقد نقول أيضاً من الأبعاد الصوفية التي ترتبط بالشعر برباط وثيق.
ولا شك أنها في الوقت نفسه تكاد تكون رواية نضال سياسي بالمعنى الحديث للكلمة. وهي تتسم بهذا الطابع انطلاقاً من موضوعها وحبكتها اللذين يلتقيان مع نضالات كان الشعب اليوناني يخوضها في زمن هولدرلن ضد الاحتلال العثماني لبلاده وتلقى تجاوباً كبيراً في أوروبا كلها في تلك الأزمنة الصعبة.
من الإغريق إلى اليونان
كان ذلك النضال على الموضة في ذلك الحين استقطب أفئدة ودعم النخب الأوروبية التي لم تجد في الحراك اليوناني ما يكتفي بأن يكون مجرد تعبير عن حق شعب ما في تقرير مصيره، بل كذلك نوعاً من الوقوف إلى جانب الإرث الحضاري الإغريقي العتيق في وجه "أهل السهوب" الآتين من الأرض والتاريخ الأجردين الآسيويين "لتدمير ما كان قد أنجزه الإنسان طوال آلاف السنين" بحسب ما يقول هولدرلن نفسه ذات لحظة في تلك الرواية.
غير أن هذا النوع من التأكيدات "الظرفية" لا يرد كثيراً في "هيبريون" بقلم الشاعر الألماني. فهو وبعد كل شيء لم يكن ضليعاً في الشؤون السياسية، ولم يرد أن يكون كذلك. كان ما يهمه على الأرجح، شيء آخر: نزعاته الصوفية والفلسفية وتساؤلاته الوجودية.
ولعل هذا يعني أن القراء حتى ولو أنهم وافقوا (الكاتب ـــ الشاعر) على مواقفه بصورة عامة، لم يكن من السهل عليهم أن يدركوا جوهر ذلك النص، وكيف حول فيه الكاتب قضية كبيرة إلى تأملات تتسم في لحظات كثيرة بميتافيزيقية تدنو من النزعة الصوفية الحلولية. فهو لا سيما في القسم الأخير من الرواية يصور لنا الموت ليبدو التحاماً بالطبيعة، وها هو البطل هيبريون لم يعد مبالياً أكثر من اللازم بمصير النضال الوطني الذي يخوضه الثائر اليوناني آلاباندا رغم صداقته معه. وراح همه ينحصر في حبيبته ديوتيما التي بعدما كانت في القسم الأول من الرواية رمزاً للنضال وحق الشعب في نيل حريته، ها هي تضحى رمزاً للطبيعة وسمو العواطف والحب المستحيل.
الأهم من ذلك أن "القلبة" لا تحدث من منطلق مباغت مبني على تحليل حدثي ما، بل بشكل تلقائي وكأن ذلك من طبيعة الأمور أصلاً.
رواية في رسائل
في هذه الرواية التي كانت واحدة من أبرز وآخر الروايات الألمانية القائمة على رسائل متبادلة بين بطلها هيبريون وصديقه بالارمان، تطالعنا منذ البداية حكاية ذلك الفتى اليوناني الشاب الذي يبدو موزعاً بين المعركة الوطنية التي تخاض بين الثائر آلاباندا الناطق ورفاقه باسم تطلعات الشعب اليوناني، والمحتل العثماني من جهة، وبين حبه الخالص والعميق للحسناء ديوتيما التي تمثل له صورة للتناسق الطبيعي الذي يطبع التراث الفكري والفني الإغريقي العتيق.
إن هم هيبريون في كل لحظة وكما تخبرنا رسائله إلى بالارمان هو التوفيق بين شغفيه الكبيرين. ومن هنا يخوض الحب كما يخوض الحرب. غير أنه سرعان ما يخيب أمله بالحرب وما تسفر عنه في عام 1770 رغم إيمانه المطلق بآلاباندا ومعرفته بأن هذا بدوره يعيش غراماً، يكتمه على أي حال مراعاة لظروف الحرب من ناحية واحتراماً لمشاعر صديقه من ثانية، لديوتيما. خصوصاً أنه يعرف أن هذه، من ناحيتها مولعة بهيبريون وتنتظر خفوت قعقعة السلاح كي يتم الارتباط بينهما. غير أن ذلك لن يحدث وتحديداً لأن الحرب لم ولن تسفر عن نتيجة، ولأن هيبريون نفسه الذي بعدما يمعن أكثر وأكثر في الابتعاد عما بات يعتبره "عبثية الحرب" يتوجه ذات حين إلى ألمانيا بحثاً عن مثل عليا جديدة تحرك حياته وأفكاره من جديد.
ومن الواضح أن ما يبحث عنه هيبريون ولن يتمكن من العثور عليه في ألمانيا المعاصرة، بات يغوص هناك في الماضي البعيد. في بلاد الإغريق التي هي نفسها لم تعد موجودة إلا بوصفها فكرة. ولعل ها هنا تكمن معضلة هيبريون الكبرى: في استحالة الرجوع إلى تلك الأفكار الإنسانية التي لا يراها الآن إلا ملتصقة بالطبيعة.
شغف من الأزمنة الصعبة لتمجيد الحب السامي تأييداً للنضال اليوناني ضد العثمانيين.
لم يترك الشاعر والكاتب الألماني فردريخ هولدرلن (1770 – 1843) بين كتاباته العديدة سوى رواية كبيرة واحدة هي "هيبريون" (1793)، المعروفة أيضاً بعنوان آخر هو "الناسك في بلاد الإغريق".
ومع ذلك عرف بكتاباته الكثيرة واشتغاله على اللغة الألمانية التي كان في زمنه واحداً من كبار مجدديها ناهيك عن كونه أحد أبرز المنتقلين بها إلى فضاءات نوع خاص من الكلاسيكية الرومانطيقية.
إذ كان هولدرلن شاعراً في المقام الأول كما عرف كيف يوظف شعره في كتاباته المسرحية التي عاشت وتعيش طويلاً من بعده، ولعل من أشهرها مسرحيته الشعرية الكبيرة "موت إمبدوقليس" التي كثيراً ما جرى محاكاتها، بل حتى اقتبسها الثنائي جان – ماري شتروب ودانيال هوييه أواخر القرن 20 في فيلم نال نجاحاً نخبوياً في حينه.
ومع ذلك من بين الأعمال الكثيرة التي خلفها هولدرلن تبقى أشعاره شاهدة أساسية على مكانته الكبرى. ولعل في وسعنا أن نقول هنا إن "هيبريون" تنتمي بدورها إلى النوع الشعري لكونها رواية تتسم بأكبر قدر ممكن من الشاعرية وقد نقول أيضاً من الأبعاد الصوفية التي ترتبط بالشعر برباط وثيق.
ولا شك أنها في الوقت نفسه تكاد تكون رواية نضال سياسي بالمعنى الحديث للكلمة. وهي تتسم بهذا الطابع انطلاقاً من موضوعها وحبكتها اللذين يلتقيان مع نضالات كان الشعب اليوناني يخوضها في زمن هولدرلن ضد الاحتلال العثماني لبلاده وتلقى تجاوباً كبيراً في أوروبا كلها في تلك الأزمنة الصعبة.
من الإغريق إلى اليونان
كان ذلك النضال على الموضة في ذلك الحين استقطب أفئدة ودعم النخب الأوروبية التي لم تجد في الحراك اليوناني ما يكتفي بأن يكون مجرد تعبير عن حق شعب ما في تقرير مصيره، بل كذلك نوعاً من الوقوف إلى جانب الإرث الحضاري الإغريقي العتيق في وجه "أهل السهوب" الآتين من الأرض والتاريخ الأجردين الآسيويين "لتدمير ما كان قد أنجزه الإنسان طوال آلاف السنين" بحسب ما يقول هولدرلن نفسه ذات لحظة في تلك الرواية.
غير أن هذا النوع من التأكيدات "الظرفية" لا يرد كثيراً في "هيبريون" بقلم الشاعر الألماني. فهو وبعد كل شيء لم يكن ضليعاً في الشؤون السياسية، ولم يرد أن يكون كذلك. كان ما يهمه على الأرجح، شيء آخر: نزعاته الصوفية والفلسفية وتساؤلاته الوجودية.
ولعل هذا يعني أن القراء حتى ولو أنهم وافقوا (الكاتب ـــ الشاعر) على مواقفه بصورة عامة، لم يكن من السهل عليهم أن يدركوا جوهر ذلك النص، وكيف حول فيه الكاتب قضية كبيرة إلى تأملات تتسم في لحظات كثيرة بميتافيزيقية تدنو من النزعة الصوفية الحلولية. فهو لا سيما في القسم الأخير من الرواية يصور لنا الموت ليبدو التحاماً بالطبيعة، وها هو البطل هيبريون لم يعد مبالياً أكثر من اللازم بمصير النضال الوطني الذي يخوضه الثائر اليوناني آلاباندا رغم صداقته معه. وراح همه ينحصر في حبيبته ديوتيما التي بعدما كانت في القسم الأول من الرواية رمزاً للنضال وحق الشعب في نيل حريته، ها هي تضحى رمزاً للطبيعة وسمو العواطف والحب المستحيل.
الأهم من ذلك أن "القلبة" لا تحدث من منطلق مباغت مبني على تحليل حدثي ما، بل بشكل تلقائي وكأن ذلك من طبيعة الأمور أصلاً.
رواية في رسائل
في هذه الرواية التي كانت واحدة من أبرز وآخر الروايات الألمانية القائمة على رسائل متبادلة بين بطلها هيبريون وصديقه بالارمان، تطالعنا منذ البداية حكاية ذلك الفتى اليوناني الشاب الذي يبدو موزعاً بين المعركة الوطنية التي تخاض بين الثائر آلاباندا الناطق ورفاقه باسم تطلعات الشعب اليوناني، والمحتل العثماني من جهة، وبين حبه الخالص والعميق للحسناء ديوتيما التي تمثل له صورة للتناسق الطبيعي الذي يطبع التراث الفكري والفني الإغريقي العتيق.
إن هم هيبريون في كل لحظة وكما تخبرنا رسائله إلى بالارمان هو التوفيق بين شغفيه الكبيرين. ومن هنا يخوض الحب كما يخوض الحرب. غير أنه سرعان ما يخيب أمله بالحرب وما تسفر عنه في عام 1770 رغم إيمانه المطلق بآلاباندا ومعرفته بأن هذا بدوره يعيش غراماً، يكتمه على أي حال مراعاة لظروف الحرب من ناحية واحتراماً لمشاعر صديقه من ثانية، لديوتيما. خصوصاً أنه يعرف أن هذه، من ناحيتها مولعة بهيبريون وتنتظر خفوت قعقعة السلاح كي يتم الارتباط بينهما. غير أن ذلك لن يحدث وتحديداً لأن الحرب لم ولن تسفر عن نتيجة، ولأن هيبريون نفسه الذي بعدما يمعن أكثر وأكثر في الابتعاد عما بات يعتبره "عبثية الحرب" يتوجه ذات حين إلى ألمانيا بحثاً عن مثل عليا جديدة تحرك حياته وأفكاره من جديد.
ومن الواضح أن ما يبحث عنه هيبريون ولن يتمكن من العثور عليه في ألمانيا المعاصرة، بات يغوص هناك في الماضي البعيد. في بلاد الإغريق التي هي نفسها لم تعد موجودة إلا بوصفها فكرة. ولعل ها هنا تكمن معضلة هيبريون الكبرى: في استحالة الرجوع إلى تلك الأفكار الإنسانية التي لا يراها الآن إلا ملتصقة بالطبيعة.