ابراهيم العريس
الحيرة الرقابية ومعارك الرومنطيقيين أنقذت مسرح صاحب "البؤساء"
يجمع الفرنسيون عادة في مختلف استطلاعات الرأي، أو في غالبيتها على الأقل، على أن فكتور هوغو هو كاتبهم المفضل، ولا شك في أن هذا المبدع كان ولا يزال يستحق هذه المكانة، وبالتحديد بفضل كتبه العديدة ورواياته الشامخة، بل كذلك بفضل نضالاته السياسية التي أرسلته إلى المنفى وجعلته يعتبر على الدوام واحداً من الذين أدخلوا السياسة الفرنسية إلى رحابة العصور الحديثة، مطعمة بديمقراطية أكيدة كما بنزعات إنسانية لا تلين.
كان كاتباً ولكنه كان رساماً أيضاً وصاحب سجالات اجتماعية وضليعاً في الموسيقى، ولو كانت السينما موجودة في زمنه لكان خاض غمارها، تماماً كما خاض طوال سنوات حياته شتى أنواع السجالات. لكنه في مكان ما من عالمه الإبداعي لم يكن موفقاً، بمعنى أنه على الرغم من كتابته عدداً لا بأس به من مسرحيات، لم يكن في الإمكان اعتباره كاتباً مسرحياً كبيراً، وهنا قد يستعيد القارئ في ذهنه، كدليل على عدم صحة من نقول، أسماء عدد من مسرحيات لهوغو لا تزال حتى اليوم على كل شفاة ولسان، ويكاد بعضها يضاهي في شهرته روايات هوغو الكبرى من "كرومويل" إلى "لوكريشيا بورجيا" وصولاً إلى "ماريون ديلورم"، بخاصة "هرناني" تلك المسرحية التي أثارت حين عرضت للمرة الأولى من قبل فرقة "المسرح الفرنسي" أوائل عام 1832 واحدة من أكبر المعارك الفنية في تاريخ المسرح الفرنسي حينذاك.
وهذا صحيح، ويخبرنا به على أي حال بالتفصيل زميل هوغو الكاتب ثيوفيل غوتييه في كتابه المعروف "تاريخ الرومانسية" وهو ما سوف نعود إليه بعد قليل.
حين يتدخل الحظ
ولكن قبل ذلك سنواصل ما قلناه عند بداية هذا الكلام، لنعترض قائلين إن من خدم هوغو في هذا المجال كان الحظ الحسن نفسه الذي نعرف كم أنه عانده طوال حياته العائلية بنشر الموت والجنون والتعاسة بين أفراد عائلته، ولكأن الحظ أحب أن يعوض عليه كل ذلك، فأنقذ مسرحه من بعض ضعف ليوازن ما هو متوسط الجودة فيه بما دار حوله من اعتبارات وضجيج أفاده أيما إفادة، وجعل له قيمة كبيرة ولكن من خارجه.
ولعلنا لا نعدو الحقيقة إن قلنا هنا إن مسرحية "هرناني" بالتحديد استفادت من ذلك المناخ لتعيش بفضله وتحوز على بقايا منه أفادت مسرحيات هوغو الأخرى التي بالكاد تصل في قوتها إلى رواياته أو أشعاره أو حتى إلى رسومه، وبالتالي تكون لها شعبية فاجأت المبدع نفسه، وربما أثرت تأثيراً سلبياً في قوة كتابته للخشبة طوال مساره، إذ اعتبر الضجيج كافياً للتحليق ككاتب مسرحي.
الرقابة الحائرة
الذي حدث هنا هو أن مسرحية "هرناني" ما كان لها أن توجد أصلاً ولم يكن موضوعها قد خطر لهوغو في بال عند أواخر ثلاثينيات القرن الـ 19 حين كانت فرقة "المسرح الفرنسي" العريقة تزمع تقديم مسرحية للكاتب كان كتبها خلال أقل من شهر لتلحق الموسم عنوانها "ماريون ديلورم".
غير أن الرقابة منعتها لمشاكستها ضد بلاط شارل الـ 10 الذي كان معروفاً عداء هوغو له.
جن جنون هوغو وقابل رئيس لجنة الرقابة ثم وصل آل شارل الـ 10 نفسه وحاول إقناعه، لكن الأخير لم يلن، وهكذا أسقط في يد كاتبنا وقرر أن يكتب خلال أقل قليلاً من 30 يوماً مسرحية بديلة، استقى موضوعها من حكاية تدور في إسبانيا.
صحيح أنها حكاية غرامية لكنها تؤدي في النهاية إلى الغوص في وصول شارلكان إلى سدة العرش، مما جعل موضوعها غير بعيد من موضوع "ماريون ديلورم"، لكنها تنصب فخاً للرقابة، فإن حاولت هذه منع المسرحية الجديدة، وهي "هرناني" طبعاً، ستكون قد منعت مسرحيتين متتاليتين لكاتب واحد مناوئ للعهد، مما يحوله بطلاً، ثم ستبدو فرنسا وكأنها تخضع لإملاءات الجارة الإسبانية، مما يسيء إلى سمعة السلطات الباريسية التي كانت تسعى خلال ذلك العهد الضعيف إلى تحسين سمعتها في العالم.
وهكذا قُدمت "هرناني" ببعض التعديلات الطفيفة، بيد أن حكايتها لم تنته هنا، فهذه المرة أصر الطالع الحسن أن يواصل مسيرته في إنقاذ هوغو.
معركة مسرحية صاخبة
وهنا نعود إلى تيوفيل غوتييه الذي يروي في كتابه الذي أشرنا إليه أعلاه كثيراً من الأمور التي واكبت، منذ بداية الربع الثاني من القرن الـ 19، نشوء الحركة الرومانسية في فرنسا، وهو يروي بخاصة لقاءه مع فيكتور هوغو وحضوره العرض الافتتاحي الأول لمسرحية "هرناني" التي "قدمت في باريس أواخر فبراير (شباط) 1830، فأثارت زوبعة عنيفة من الصدامات والاحتجاجات بين نوعين من الرومنطيقيين، القدامى الذين كانوا يضعون لتلك الحركة قواعد وضوابط قاسية تحولها إلى "سجن فكري"، والجدد الذين كانوا يرون أنها صنو للحرية وبالتالي لا يمكن تقييدها".
وغوتييه، الشاب آنذاك وصديق فيكتور هوغو الصدوق، كان من النمط الثاني، ومن هنا يروي لنا كيف خاض "المعركة" بعنف، بل كيف أنه من أجل ذلك العرض الأول ارتدى قفازاً أحمر سرعان ما صار رمزاً للحركة كلها.
أما مسرحية "هرناني" التي أشعلت كل ذلك السجال وكل تلك الحماسة، فستصبح بفضل "جرأتها" الرقابية، ولكن أيضاً بفضل تلك المعركة الضارية، واحدة من أشهر أعمال هوغو من دون أن تكون أقواها، مع العلم أن رقابات عدة منعتها بعد ذلك، لا سيما في إيطاليا، حين عمد بلليني إلى تلحين أوبرا انطلاقاً منها، سائراً في ذلك على خطى فردي فمنعتها الرقابة مما جعله يستخدم الألحان التي وضعها لها في أوبرا أخرى له هي "السائرة نائمة"، لكن هذه حكاية أخرى.
بداية الرومنطيقية
كانت "هرناني" إذاً عملاً كتبه فيكتور هوغو على عجل، لكن هذا العمل عاش طويلاً وعرف طريقه إلى الشهرة ليس بفضل قوة الكتابة أو رسم الشخصيات وسيكولوجيتها، إذ في هذا الإطار يبدو العمل ضعيفاً، ومن الواضح أن فيكتور هوغو الذي جعل من مسرحيته هذه فاتحة لاندلاع حركة رومانسية حقيقية في المسرح الفرنسي في ذلك الزمن، كانت في ذهنه وهو يكتب "هرناني" أعمال مسرحية كبيرة مثل "ألسيد" لكورناي و"قطاع الطرق" لشيلر، بل إن في "هرناني" لحظات تجمع أجواء هاتين المسرحيتين بالذات، ومن هنا كان الإقبال الجماهيري الكبير على ذلك العمل في مقابل مهاجمة النخبة له منذ ليلة العرض الأولى.
وهوغو كان، على أي حال، موضع مسرحيته ضمن إطار تحرك سياسي واضح، إذ صرح عشية عرضها بأن "على الدراما أن تلهم الناس والمتفرجين أساليب تفهمهم لمعاني الحرية السياسية"، ومن هنا لم يفت هوغو أن يقول عن "هرناني" كما عن "ماريون ديلورم" إنهما عملان "سياسيان جزئياً، كما أنهما أدبيان جزئياً".
وعلى هذا النحو تعمد هوغو أن يزيد حدة السجال حول مسرحيته "هرناني" إلى درجة أنه صار ثمة في تاريخ الحياة السياسية - الثقافية الفرنسية قضية تسمى "قضية هرناني"، هيمنت تفاصيلها وأخبارها على تلك الحياة طوال عقود من السنين، إلى درجة أنه حين تحدث عنها غوتييه في كتابه المذكور والصادر عام 1874، أي بعد حوالى نصف قرن، بدا للقراء أنها معركة جرت أمس فقط!
الظروف تستدعي الكاتب
حتى اليوم، وعلى الرغم من ضعفها الفني الذي أشرنا إليه، لا تزال "هرناني" كما ألمحنا، تعتبر من أشهر مسرحيات فيكتور هوغو (1802-1885) إلى جانب أعمال مثل "روي بلاس" و "لوكريشيا بورجيا" و "الملك يلهو"، وحتى إذا كان فيكتور هوغو لم يشتهر ككاتب مسرحي كبير بقدر شهرته كروائي مميز لـ "البؤساء" أو لـ"أحدب نوتردام دي باري"، التي استعيدت كثيرا قبل حين حين التهم ذلك الحريق المؤسف كاتدرائية باريس العظيمة التي تدور أحداث الرواية فيها، ومن المؤكد ستستعاد في أيامنا هذه لمناسبة عرض الفيلم الروائي الضخم الذي حققه جان جاك آنو حول هذا الحريق، فإنه عرف كيف يكتب عدداً كبيراً من المسرحيات التي تضعه بين أكثر كتّاب عصره خصوبة، بل إنه وقع مسرحيات عدة اختفت ولم تقدم خلال حياته، ليعاد اكتشافها خلال النصف الأول من القرن الـ 20 وتقدم للمرة الأولى على كثير من الخشبات الفرنسية، ومن هذه المسرحيات "التدخل" و"عند تخوم الغابة" و"أسكا"، إضافة إلى مسرحيات أخرى اكتشفت وبعضها لم يمثل أبداً حتى الآن، مما يعني أن فيكتور هوغو ينبغي اعتباره كاتباً مسرحياً في حاجة إلى أن يكتشف وإلى أن يعاد اكتشافه من جديد في كل عصر تبعاً لمزاجية كل زمن.