ماجدة عثمان
الرسائل الضمنية اللاشعورية وأساليب تحفيز الناس لممارسة سلوكيات معينة قد تحملنا على الاعتقاد بأننا يمكن التأثير على قرارتنا دون أن ندري. لكن إلى أي مدى يمكن لعقلنا الباطن أن يؤثر على قراراتنا؟
يتساءل بول، البالغ من العمر 43 عاما ويعيش في العاصمة البريطانية لندن، قائلا: "أحيانا عندما أسأل نفسي لماذا اتخذت هذا القرار، أكتشف أنني لا أعرف السبب. فإلى أي مدى تتحكم دوافع لاشعورية في قرارتنا؟"
لماذا اشتريت سيارتك؟ ولماذا وقعت في غرام شريكة حياتك؟ عندما نبحث في الأسباب التي حملتنا على اتخاذ قرارات معينة في حياتنا، سواء كانت مهمة أو بسيطة، قد نكتشف أننا لا نعرف شيئا عنها. وقد نتساءل حتى عما إذا كنا نعرف حقا أدمغتنا وما يدور فيها خارج دائرة الوعي والإدراك.
ولحسن الحظ، كشف لنا علم النفس عن معلومات مهمة وربما مفاجئة في هذا الصدد، لعل أبرزها نتائج الدراسات التي أجرها عالم النفس بنجامين ليبيت في الثمانينيات من القرن الماضي. فقد أجرى ليبيت تجربة كانت بسيطة إلى حد لا يصدق، لكنها أثارت جدلا واسعا منذ ذلك الحين.
إذ طُلب من المشاركين أن يجلسوا في حالة استرخاء أمام ساعة مسلط عليها مصدر ضوء يدور حولها، وأن يثنوا أصابعهم كلما شعروا بالرغبة في ذلك، على أن يتذكروا موضع الضوء على الساعة عندما شعروا بالرغبة في ثني أصابعهم. وكان يسجل مستويات النشاط الكهربائي في أدمغة المشاركين باستخدام جهاز التخطيط الكهربائي للدماغ.
وكشفت تجربة ليبيت عن دور العقل الباطن في تصرفاتنا. إذ أثبت أن النشاط الكهربائي في الدماغ يتزايد قبل فترة من إدراك الناس للرغبة في ثني أصابعهم وبعدها باشروا بثنيها.
وبعبارة أخرى، فإن الآليات اللاشعورية هي التي تهيئنا لاتخاذ أي قرار، من خلال تنشيط الخلايا العصبية. لكن هذا النشاط في الدماغ يحدث قبل أن تتكون لدينا الرغبة الواعية في القيام بالفعل أو اتخاذ أي قرار. إذ يبدو أن العقل الباطن يتحكم في جميع التصرفات والقرارات التي نتخذها.
لكن في ظل التقدم العلمي، أصبح بإمكاننا مراجعة وتحسين نتائج التجارب السابقة. فقد أدركنا أن ثمة مشكلات جوهرية في هذه التجارب تدل على أن المزاعم بأن العقل الباطن يتحكم في سلوكياتنا مبالغ فيها. فقد خلصت دراسة إلى أنه في حالة استبعاد التحيزات عند تقييم توقيت إدراك الرغبة في القيام بالفعل، تقل الفجوة بين الرغبة الواعية وبين نشاط الدماغ.
وثمة طريقة أخرى للتعرف على مدى قدرة العقل الباطن على التحكم في سلوكياتنا وقراراتنا، تتمثل في البحث عن المواقف التي قد نتوقع فيها أن نتأثر بحيل لاشعورية. وقد أجريت بحثا سألت فيه المشاركين عن أمثلة لهذه الحيل.
وكان المثال الأكثر شيوعا هو التسويق والإعلان. فكثيرا ما نسمع مصطلحات مثل "الإعلان اللاشعوري"، الذي يعني أننا نُساق نحو اتخاذ قرارات استهلاكية بطرق خارجة عن إرادتنا.
وقد كان أول من روّج لهذه الفكرة جيمس فيكاري، عالم النفس وخبير التسويق في الخمسينيات. إذ أقنع فيكاري دار سينما باستخدام الجهاز الذي ابتكره لعرض رسائل وامضة أثناء عرض الفيلم، مثل "اشرب كوكا كولا"، التي تومض لمدة لا تتجاوز ثلاثة آلاف جزء من الثانية. وزعم أن مبيعات المشروب ارتفعت بعد نهاية الفيلم. لكن بعد أن أثير جدل حول الإشكاليات الأخلاقية لهذه النتائج، أقر فيكاري بأنه أختلق هذه البيانات، وأن الأمر كله كان خدعة.
فمن المعروف أنه من الصعب في التجارب المعملية إثبات أن الكلمات التي تومض للحظات تحت عتبة الوعي قد تدفعنا لضغط زر على لوحة المفاتيح يرتبط بهذه المثيرات، ناهيك عن تغيير اختياراتنا في الواقع.
والغريب أن الدراسات الأخيرة أثبتت أن الناس لا يزالون يعتقدون أن هذه الطرق، مثل الإعلان اللاشعوري، شائعة الاستخدام، على الرغم من أن هناك تشريع يحمي المستهلك من هذه الأساليب.
لكن هل من الممكن أن نتخذ قرارات دون تفكير واع؟ للإجابة على هذا السؤال، ركز باحثون على ثلاثة محاور، أولا مدى اعتماد خياراتنا على عمليات لاشعورية، وثانيا مدى تحيّز هذه العمليات اللاشعورية (سواء كان تحيزا على أساس العرق أو النوع الاجتماعي، على سبيل المثال)، وما هي الخطوات التي يمكن أن نتخذها لتحسين عملية صنع القرار اللاشعورية المتحيزة.
وأُجريت دراسة حول دور التفكير اللاشعوري في توجيه خيارات المستهلكين. وخلصت النتائج إلى أن قرارات المستهلكين التي اتخذت دون تفكير مسبق على الإطلاق كانت أصوب من غيرها.
وذلك لأن العمليات اللاشعورية تعد أكثر تحررا من العمليات الواعية، التي تضع عبئا كبيرا على وظائفنا المعرفية. فالعمليات اللاشعورية، مثل الحدس، تعمل على توليد طائفة من المعلومات المعقدة تلقائيا وسريعا، وهذا يميزها عن التفكير المتعمد والمدروس.
وأثارت هذه الدراسة اهتماما كبيرا، لكن محاولات تكرار نتائجها المثيرة باءت بالفشل، ليس في مجال قرارات المستهلكين فحسب، بل أيضا في المجالات التي نعتمد فيها على التفكير اللاشعوري، كما في عمليات كشف الكذب اللاشعوري واتخاذ القرارات الطبية والقرارات الخطيرة المدفوعة بالعواطف.
وهناك بالطبع بعض الأمور التي قد تؤثر على قراراتنا وتوجه تفكيرنا لكننا لا ننتبه لها في المعتاد، مثل المشاعر والحالة المزاجية والتعب والجوع والضغط النفسي والمعتقدات المسبقة. لكن هذا لا يعني أن العقل الباطن يتحكم في قرارتنا، بل من الممكن أن نكون على وعي بهذه العوامل، وقد نقاومها بوضع الأنظمة الصحيحة أو إدراك أنها تؤثر على سلوكياتنا.
لكن ماذا عن التحيزات في عملية صنع القرار؟ أثبتت دراسة اعتمدت على اختبار الترابط الضمني، أن الناس يحملون أفكارا وآراء متحيزة ولاشعورية تجاه الآخرين (مثل التمييز على أساس العرق أو النوع الاجتماعي)، وأن هذه الأفكار قد تؤدي إلى اتخاذ قرارات متحيزة في التوظيف وفي المجال القضائي والطبي وغيرها من القرارات المهمة التي تؤثر على حياة الناس.
لكن أبحاثا أشارت إلى عيوب في اختبارات الترابط الضمني، أولا أن النتائج التي يحرزها المشاركون في المرة الواحدة تختلف عن النتائج التي يحرزونها في المرة الثانية، في حال طُلب منهم إعادة الاختبار. وأثبتت دراسات أن نتائج اختبارات الترابط الضمني، تعد مؤشرا ضعيفا على سلوكيات اتخاذ القرارات.
وأجرى باحثون دراسات لتحسين الطرق التي نتخذ بها قراراتنا في حياتنا اليومية، مثل الأكل الصحي أو الادخار للتقاعد، لتفادي العمليات اللاشعورية المتحيزة التي قد تحد من قدرتنا على اتخاذ القرارات الصائبة.
وقد كانت أبحاث ريتشارد ثالر الحائز على جائزة نوبل، وكاس سانستاين، ثورية في هذا الصدد، إذ رأى الباحثان أنه من الممكن تحسين الطريقة التي نتخذ بها قراراتنا من خلال إعادة توجيه العمليات المتحيزة اللاشعورية نحو القرار الأفضل. وقد يتحقق ذلك من خلال تحفيز الناس بهدوء للكشف تلقائيا عن الخيار الأفضل. فمن الممكن على سبيل المثال وضع الفاكهة في متجر المواد الغذائية في مكان أقرب ويسهل الوصول إليه مقارنة بالحلوى. وطبقت الكثير من المؤسسات الخاصة والعامة نتائج هذا البحث.
لكن الدراسات التي أجراها فريقي مؤخرا أثبتت أن أساليب تحفيز الناس لممارسة سلوكيات محددة كثيرا ما تفشل فشلا ذريعا، وأحيانا تأتي بنتائج عكسية. وقد يعزى ذلك لأسباب عديدة، منها إمكانية تحفيز الناس بطريقة خاطئة أو إساءة فهم السياق.
ورغم ذلك، فإن واضعي نظريات التحفيز غير المباشر، يحملوننا على الاعتقاد أنه من السهل التأثير على سلوكيات البشر. وهذا يتناقض مع الاعتقاد بأن الإنسان يملك إرادة حرة، وأنه قادر على التأثير واتخاذ القرارات، سواء في المسائل الشخصية (مثل تكوين أسرة) أو غير الشخصية (مثل تغير المناخ الناتج عن أنشطة بشرية).
لكن في المجمل، قد نسلم بأننا نملك إرادة حرة في جميع المجالات، حتى عندما نرى أنها مهددة بالحيل اللاشعورية. غير أننا قد نعتقد أننا أقل قدرة على السيطرة والتحكم في قراراتنا في مجالات معينة بناء على أهميتها. فقد نزعم أننا أكثر قدرة على التحكم في قرارتنا الواعية عند اختيار المرشح السياسي مقارنة بالقرارات المتعلقة باختيار حبوب الإفطار التي نشتريها.
فقد نزعم أن خياراتنا السيئة في الإفطار سببها الإعلانات اللاشعورية، في حين أننا لا نعترف بأن مواقع التواصل الاجتماعي أثرت على قراراتنا ودفعتنا للتصويت لمرشح بعينه.
وقد تؤدي نتائج الدراسات في علم النفس التي تتصدر عناوين الصحف إلى نتائج عكسية، لأنها تعزز فكرة أن العقل الباطن يتحكم في قراراتنا، رغم أن الأدلة العلمية الراسخة تؤكد أن تفكيرنا الواعي يؤدي دورا أكبر من التفكير اللاشعوري في التحكم في قرارتنا واختياراتنا. وربما نشعر أننا نجهل الأسباب التي دفعتنا لاتخاذ قرارات معينة، لأننا لا ننتبه دائما لأفكارنا الداخلية ودوافعنا.
وثمة فوائد للاعتقاد بأننا لدينا القدرة على التحكم الواعي في قراراتنا. وذلك لأنه إذا أدت قراراتنا إلى نتائج سلبية، سيتوقف اعتقادنا بأننا قادرون على التعلم وتغيير الأوضاع إلى الأفضل على تقبل وجود قدر من حرية الإرادة والمسؤولية.
أما إذا أدت قراراتنا إلى نتائج إيجابية، فإن الاعتقاد بأننا بإمكاننا تكرار هذه النجاحات أو تحسينها سيتوقف على اعتقادنا بأننا أدينا دورا في هذه النتائج. وقد يكون البديل هو الاستسلام لفكرة وجود قوى عشوائية أو لاشعورية تملي علينا كل أفعالنا، وهذا الاعتقاد قد يحطمنا نفسيا على المدى الطويل.
وإذا تساءلت لماذا وقعت في غرام شريك حياتك؟ فربما لأنه جعلك تشعر بالأمان أو بأنك قوي أو تحداك بطريقة ما أو ربما بسبب رائحة عطره الزكية. وكشأن جميع الأشياء المهمة في حياتنا، لن تجد إجابة واحدة محددة لهذا السؤال. ولا أعتقد أبدا أن عقلك الواعي لم يسهم بأي دور في هذا القرار.
الرسائل الضمنية اللاشعورية وأساليب تحفيز الناس لممارسة سلوكيات معينة قد تحملنا على الاعتقاد بأننا يمكن التأثير على قرارتنا دون أن ندري. لكن إلى أي مدى يمكن لعقلنا الباطن أن يؤثر على قراراتنا؟
يتساءل بول، البالغ من العمر 43 عاما ويعيش في العاصمة البريطانية لندن، قائلا: "أحيانا عندما أسأل نفسي لماذا اتخذت هذا القرار، أكتشف أنني لا أعرف السبب. فإلى أي مدى تتحكم دوافع لاشعورية في قرارتنا؟"
لماذا اشتريت سيارتك؟ ولماذا وقعت في غرام شريكة حياتك؟ عندما نبحث في الأسباب التي حملتنا على اتخاذ قرارات معينة في حياتنا، سواء كانت مهمة أو بسيطة، قد نكتشف أننا لا نعرف شيئا عنها. وقد نتساءل حتى عما إذا كنا نعرف حقا أدمغتنا وما يدور فيها خارج دائرة الوعي والإدراك.
ولحسن الحظ، كشف لنا علم النفس عن معلومات مهمة وربما مفاجئة في هذا الصدد، لعل أبرزها نتائج الدراسات التي أجرها عالم النفس بنجامين ليبيت في الثمانينيات من القرن الماضي. فقد أجرى ليبيت تجربة كانت بسيطة إلى حد لا يصدق، لكنها أثارت جدلا واسعا منذ ذلك الحين.
إذ طُلب من المشاركين أن يجلسوا في حالة استرخاء أمام ساعة مسلط عليها مصدر ضوء يدور حولها، وأن يثنوا أصابعهم كلما شعروا بالرغبة في ذلك، على أن يتذكروا موضع الضوء على الساعة عندما شعروا بالرغبة في ثني أصابعهم. وكان يسجل مستويات النشاط الكهربائي في أدمغة المشاركين باستخدام جهاز التخطيط الكهربائي للدماغ.
وكشفت تجربة ليبيت عن دور العقل الباطن في تصرفاتنا. إذ أثبت أن النشاط الكهربائي في الدماغ يتزايد قبل فترة من إدراك الناس للرغبة في ثني أصابعهم وبعدها باشروا بثنيها.
وبعبارة أخرى، فإن الآليات اللاشعورية هي التي تهيئنا لاتخاذ أي قرار، من خلال تنشيط الخلايا العصبية. لكن هذا النشاط في الدماغ يحدث قبل أن تتكون لدينا الرغبة الواعية في القيام بالفعل أو اتخاذ أي قرار. إذ يبدو أن العقل الباطن يتحكم في جميع التصرفات والقرارات التي نتخذها.
لكن في ظل التقدم العلمي، أصبح بإمكاننا مراجعة وتحسين نتائج التجارب السابقة. فقد أدركنا أن ثمة مشكلات جوهرية في هذه التجارب تدل على أن المزاعم بأن العقل الباطن يتحكم في سلوكياتنا مبالغ فيها. فقد خلصت دراسة إلى أنه في حالة استبعاد التحيزات عند تقييم توقيت إدراك الرغبة في القيام بالفعل، تقل الفجوة بين الرغبة الواعية وبين نشاط الدماغ.
وثمة طريقة أخرى للتعرف على مدى قدرة العقل الباطن على التحكم في سلوكياتنا وقراراتنا، تتمثل في البحث عن المواقف التي قد نتوقع فيها أن نتأثر بحيل لاشعورية. وقد أجريت بحثا سألت فيه المشاركين عن أمثلة لهذه الحيل.
وكان المثال الأكثر شيوعا هو التسويق والإعلان. فكثيرا ما نسمع مصطلحات مثل "الإعلان اللاشعوري"، الذي يعني أننا نُساق نحو اتخاذ قرارات استهلاكية بطرق خارجة عن إرادتنا.
وقد كان أول من روّج لهذه الفكرة جيمس فيكاري، عالم النفس وخبير التسويق في الخمسينيات. إذ أقنع فيكاري دار سينما باستخدام الجهاز الذي ابتكره لعرض رسائل وامضة أثناء عرض الفيلم، مثل "اشرب كوكا كولا"، التي تومض لمدة لا تتجاوز ثلاثة آلاف جزء من الثانية. وزعم أن مبيعات المشروب ارتفعت بعد نهاية الفيلم. لكن بعد أن أثير جدل حول الإشكاليات الأخلاقية لهذه النتائج، أقر فيكاري بأنه أختلق هذه البيانات، وأن الأمر كله كان خدعة.
فمن المعروف أنه من الصعب في التجارب المعملية إثبات أن الكلمات التي تومض للحظات تحت عتبة الوعي قد تدفعنا لضغط زر على لوحة المفاتيح يرتبط بهذه المثيرات، ناهيك عن تغيير اختياراتنا في الواقع.
والغريب أن الدراسات الأخيرة أثبتت أن الناس لا يزالون يعتقدون أن هذه الطرق، مثل الإعلان اللاشعوري، شائعة الاستخدام، على الرغم من أن هناك تشريع يحمي المستهلك من هذه الأساليب.
لكن هل من الممكن أن نتخذ قرارات دون تفكير واع؟ للإجابة على هذا السؤال، ركز باحثون على ثلاثة محاور، أولا مدى اعتماد خياراتنا على عمليات لاشعورية، وثانيا مدى تحيّز هذه العمليات اللاشعورية (سواء كان تحيزا على أساس العرق أو النوع الاجتماعي، على سبيل المثال)، وما هي الخطوات التي يمكن أن نتخذها لتحسين عملية صنع القرار اللاشعورية المتحيزة.
وأُجريت دراسة حول دور التفكير اللاشعوري في توجيه خيارات المستهلكين. وخلصت النتائج إلى أن قرارات المستهلكين التي اتخذت دون تفكير مسبق على الإطلاق كانت أصوب من غيرها.
وذلك لأن العمليات اللاشعورية تعد أكثر تحررا من العمليات الواعية، التي تضع عبئا كبيرا على وظائفنا المعرفية. فالعمليات اللاشعورية، مثل الحدس، تعمل على توليد طائفة من المعلومات المعقدة تلقائيا وسريعا، وهذا يميزها عن التفكير المتعمد والمدروس.
وأثارت هذه الدراسة اهتماما كبيرا، لكن محاولات تكرار نتائجها المثيرة باءت بالفشل، ليس في مجال قرارات المستهلكين فحسب، بل أيضا في المجالات التي نعتمد فيها على التفكير اللاشعوري، كما في عمليات كشف الكذب اللاشعوري واتخاذ القرارات الطبية والقرارات الخطيرة المدفوعة بالعواطف.
وهناك بالطبع بعض الأمور التي قد تؤثر على قراراتنا وتوجه تفكيرنا لكننا لا ننتبه لها في المعتاد، مثل المشاعر والحالة المزاجية والتعب والجوع والضغط النفسي والمعتقدات المسبقة. لكن هذا لا يعني أن العقل الباطن يتحكم في قرارتنا، بل من الممكن أن نكون على وعي بهذه العوامل، وقد نقاومها بوضع الأنظمة الصحيحة أو إدراك أنها تؤثر على سلوكياتنا.
لكن ماذا عن التحيزات في عملية صنع القرار؟ أثبتت دراسة اعتمدت على اختبار الترابط الضمني، أن الناس يحملون أفكارا وآراء متحيزة ولاشعورية تجاه الآخرين (مثل التمييز على أساس العرق أو النوع الاجتماعي)، وأن هذه الأفكار قد تؤدي إلى اتخاذ قرارات متحيزة في التوظيف وفي المجال القضائي والطبي وغيرها من القرارات المهمة التي تؤثر على حياة الناس.
لكن أبحاثا أشارت إلى عيوب في اختبارات الترابط الضمني، أولا أن النتائج التي يحرزها المشاركون في المرة الواحدة تختلف عن النتائج التي يحرزونها في المرة الثانية، في حال طُلب منهم إعادة الاختبار. وأثبتت دراسات أن نتائج اختبارات الترابط الضمني، تعد مؤشرا ضعيفا على سلوكيات اتخاذ القرارات.
وأجرى باحثون دراسات لتحسين الطرق التي نتخذ بها قراراتنا في حياتنا اليومية، مثل الأكل الصحي أو الادخار للتقاعد، لتفادي العمليات اللاشعورية المتحيزة التي قد تحد من قدرتنا على اتخاذ القرارات الصائبة.
وقد كانت أبحاث ريتشارد ثالر الحائز على جائزة نوبل، وكاس سانستاين، ثورية في هذا الصدد، إذ رأى الباحثان أنه من الممكن تحسين الطريقة التي نتخذ بها قراراتنا من خلال إعادة توجيه العمليات المتحيزة اللاشعورية نحو القرار الأفضل. وقد يتحقق ذلك من خلال تحفيز الناس بهدوء للكشف تلقائيا عن الخيار الأفضل. فمن الممكن على سبيل المثال وضع الفاكهة في متجر المواد الغذائية في مكان أقرب ويسهل الوصول إليه مقارنة بالحلوى. وطبقت الكثير من المؤسسات الخاصة والعامة نتائج هذا البحث.
لكن الدراسات التي أجراها فريقي مؤخرا أثبتت أن أساليب تحفيز الناس لممارسة سلوكيات محددة كثيرا ما تفشل فشلا ذريعا، وأحيانا تأتي بنتائج عكسية. وقد يعزى ذلك لأسباب عديدة، منها إمكانية تحفيز الناس بطريقة خاطئة أو إساءة فهم السياق.
ورغم ذلك، فإن واضعي نظريات التحفيز غير المباشر، يحملوننا على الاعتقاد أنه من السهل التأثير على سلوكيات البشر. وهذا يتناقض مع الاعتقاد بأن الإنسان يملك إرادة حرة، وأنه قادر على التأثير واتخاذ القرارات، سواء في المسائل الشخصية (مثل تكوين أسرة) أو غير الشخصية (مثل تغير المناخ الناتج عن أنشطة بشرية).
لكن في المجمل، قد نسلم بأننا نملك إرادة حرة في جميع المجالات، حتى عندما نرى أنها مهددة بالحيل اللاشعورية. غير أننا قد نعتقد أننا أقل قدرة على السيطرة والتحكم في قراراتنا في مجالات معينة بناء على أهميتها. فقد نزعم أننا أكثر قدرة على التحكم في قرارتنا الواعية عند اختيار المرشح السياسي مقارنة بالقرارات المتعلقة باختيار حبوب الإفطار التي نشتريها.
فقد نزعم أن خياراتنا السيئة في الإفطار سببها الإعلانات اللاشعورية، في حين أننا لا نعترف بأن مواقع التواصل الاجتماعي أثرت على قراراتنا ودفعتنا للتصويت لمرشح بعينه.
وقد تؤدي نتائج الدراسات في علم النفس التي تتصدر عناوين الصحف إلى نتائج عكسية، لأنها تعزز فكرة أن العقل الباطن يتحكم في قراراتنا، رغم أن الأدلة العلمية الراسخة تؤكد أن تفكيرنا الواعي يؤدي دورا أكبر من التفكير اللاشعوري في التحكم في قرارتنا واختياراتنا. وربما نشعر أننا نجهل الأسباب التي دفعتنا لاتخاذ قرارات معينة، لأننا لا ننتبه دائما لأفكارنا الداخلية ودوافعنا.
وثمة فوائد للاعتقاد بأننا لدينا القدرة على التحكم الواعي في قراراتنا. وذلك لأنه إذا أدت قراراتنا إلى نتائج سلبية، سيتوقف اعتقادنا بأننا قادرون على التعلم وتغيير الأوضاع إلى الأفضل على تقبل وجود قدر من حرية الإرادة والمسؤولية.
أما إذا أدت قراراتنا إلى نتائج إيجابية، فإن الاعتقاد بأننا بإمكاننا تكرار هذه النجاحات أو تحسينها سيتوقف على اعتقادنا بأننا أدينا دورا في هذه النتائج. وقد يكون البديل هو الاستسلام لفكرة وجود قوى عشوائية أو لاشعورية تملي علينا كل أفعالنا، وهذا الاعتقاد قد يحطمنا نفسيا على المدى الطويل.
وإذا تساءلت لماذا وقعت في غرام شريك حياتك؟ فربما لأنه جعلك تشعر بالأمان أو بأنك قوي أو تحداك بطريقة ما أو ربما بسبب رائحة عطره الزكية. وكشأن جميع الأشياء المهمة في حياتنا، لن تجد إجابة واحدة محددة لهذا السؤال. ولا أعتقد أبدا أن عقلك الواعي لم يسهم بأي دور في هذا القرار.