عن العنف المرح والعنف الرهيب: من الحلم إلى الكابوس

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • عن العنف المرح والعنف الرهيب: من الحلم إلى الكابوس

    عن العنف المرح والعنف الرهيب: من الحلم إلى الكابوس فريد الزاهي 25 يونيو 2023 آراءعن العنف المرح والعنف الرهيب: من الحلم إلى الكابوسفيليب بوتي يعبر بين برجي نيويورك (7/8/1974/فرانس برس)شارك هذا المقال حجم الخط أحيانًا، يقودنا التعب إلى البحث عن شريط سينمائي في مواقع نيتفليكس، أو "موبي"، للترويح عن النفس، ونسيان تعب اليوم. وأنا أبحث، وقع بصري على شريط سينمائي بعنوان "المشي: الحلم عاليًا" (لروبرت زيميكيس). عادة ما أختار الفيلم فقط من جمالية ملصقه، أو من عنوانه. ومنذ أن صدرت ترجمتي "الحياة مشيًا على الأقدام" للكاتب دافيد لوبروتون وأنا منجذب لكل ما يتعلق بالمشي. لكن هذه المرة لن يتعلق الأمر بالمشي على اليابسة، وإنما على الحبل. إنها رياضة سيرك خطيرة ظلت لعبة قاصرة، محفوفة بحالات السقوط التي حكتها كثير من الروايات والأفلام. وأنا أتابع هذا الشريط السينمائي، تذكرت النص المسرحي الرائع لكاتب الهوامش جان جينيه: "البهلوان"، الذي ألفه عام 1957، وأهداه لرفيقه البهلوان الجزائري الأصل عبد الله بنتاغة، الذي يشكل عودة للكتابة بعد مرحلة صمت وأزمات واكتئاب وتوحد دامت سنوات. وكأن عبد الله المشاء على الحبل قد منح لجان جينيه طرف حبل آريان الذي أعانه على استعادة ذاته. يقول جان جينيه في مستهل المسرحية: "رقيقة الذهب عبارة عن قرص معدني صغير جدًا مذهّبة وفيها ثقب. وبما أنها رقيقة وخفيفة، فيمكنها أن تطفو على الماء. في بعض الأحيان، يظل واحد، أو اثنان، منها، عالقتين في حلقات البهلوان. هذا الحب ـ مع أنه يائس تقريبًا، لكنه مليء بالحنان ـ الذي يجب أن تظهره لحبلك، سيكون لديه القوة نفسها التي يظهرها الحبل لكي يحملك. أنا أعرف الأشياء، خبثها وقسوتها، وامتنانها أيضًا. كان الحبل ميتًا ـ أو إذا كنت تحب البكم، كان أعمى ـ ها أنت: إنه سوف يعيش ويتحدث". هكذا احتفى جان جينيه بالبهلوان، حين كان يمارس لعبته (رياضته) الخطيرة في الأماكن المغلقة، قبل أن يحولها فيليب بوتي (من مواليد 1949) إلى لعبة مغامرة في الهواء الطلق. كان البهلوان هذا يحلم بالمشي على الحبل بين برجيْ "التوين سانتر" (مركز التجارة العالمي الشهير) حين اكتمل تشييده في 1974، والذي كان معلمة عمرانية تعد أعلى ناطحة سحاب في العالم بعلو يفوق 400 متر، أي بما يزيد مئة متر أكثر من ارتفاع برج إيفيل الفرنسي. ولتحقيق حلمه هذا، سعى إلى القيام بتجربتين مشابهتين: فقبل محاولة "الانقلاب"، كما وصف لشركائه الإنجاز الذي أراد تحقيقه، أجرى فيليب بوتي بعض التجارب الأولية التي تهدف إلى الاستعداد لليوم الكبير: لقد تمشى على سلك محكم بين "التوأم"، أي برجي كاتدرائية نوتردام باريس في عام 1971، ثم عبر سلكًا يربط بين طرفي باب جسر هاربور في سيدني عام 1973. هكذا لم يبق أمامه سوى أن يسرق مرة أخرى رحلة المشي على السلك بين أعلى ناطحتي سحاب في العالم بأسره. كتب جان جينيه مسرحية "البهلوان" عام 1957 (Getty) الحلم المسروق في 7 أغسطس/ آب 1974، بعد عام واحد فقط من افتتاح مركز التجارة العالمي، أضحى هذا المكان مسرحًا لإنجاز غير مشهود على الإطلاق، وصفه صاحبه البهلوان فيليب بوتي، بأنه "جريمة القرن الفنية". سيقوم فيليب بوتي بقطع المسافة بين البرجين التوأمين من خلال موازنة الأسلاك التي يزيد ارتفاعها عن 400 متر في سماء مانهاتن. لم يطلب البهلوان "المجنون" الإذن من أحد، ولم يخبر أحدًا غير تسعة من شركائه في العملية. كان تصرفه ذاك أرعن وغير قانوني إطلاقَا. وظهوره بهذا الارتفاع، من دون شبكة أمان، أو أي إجراءات أمنية، جعل من الممكن للمغامرة أن تكون مأساة، أو تتحول إلى معجزة. لقد بدا الشاب وكأنه كان يحلق في السماء متحديًا قانون الجاذبية، بحيث إن الموت نفسه بدا وكأنه لا يستطيع أن يمسه. "حين كان فيليب بوتي يمشي في الأعلى على الحبل، ظلت أعين الناس في الأسفل مشدودة إليه افتتانًا وانبهارًا؛ تمامًا مثلما كان الناس يحدقون في البرجين وهما ينهاران" هيأ الشاب "لانقلابه" أيامًا، ودرس الأمر من جميع النواحي، وزار البرجين لمرات عديدة بطرق ملتوية، وباستخدام أوراق مزورة. وفي اليوم المحدد، سيتعين على فرقته المرور عبر نقط المراقبة الأمنية عند مدخل موقف السيارات تحت الأرض في شاحنة محملة بالمعدات التي يجب نقلها إلى الأعلى، وبها تثبيت الأسلاك بدقة باهرة تدعو للأمان. مرت ليلة السادس من صباح يوم 7 أغسطس/ آب أخيرًا، ثم كان الحدث في صبيحة الغد، حيث عاش البهلوان اللحظة التي حلم بها، وتمتع برؤية جمهوره المتزايد يهلل له بالتصفيق والهتاف... حتى ألقت الشرطة القبض عليه بعد أن انتبهت لعمله "الجنوني". وعندما خرج فيليب بوتي من الجزء السفلي من البرج مغلولًا، برفقة ضباط شرطة مبتسمين جاءوا لاعتقاله عندما حقق إنجازه، كان قد تلقى تشجيعات حارة من عمال مركز التجارة العالمي، وحشود المتفرجين على الرصيف. بعد ذلك، نُقل البهلوان "المجنون" إلى مستشفى للأمراض النفسية، حيث أكد الأطباء سلامته من أي مرض عقلي، وحوكم على جرمه بأخف ما يمكن. وقد أجاب القاضي الذي سأله لماذا خاطر بحياته بهذه الطريقة، إجابة بسيطة: "عندما أرى ثلاثة برتقالات، أتلاعب بها. وعندما أرى برجيْن، أريد الانتقال مشيًا على الحبل من برج إلى آخر". من الحلم إلى الكابوس هذه القصة الرائعة المليئة بالمغامرة والتحدي، ونشدان المستحيل، ستغور في النسيان إلى أن أعادتها هجمات 11 سبتمبر/ أيلول إلى الأذهان. فقد أعاد الجمهور اكتشافها بفضل الفيلم الوثائقي الرائع لجيمس مارش: "رجل على الأسلاك" (2008)، الذي أعطى الكلمة لبوتي وشركائه للحديث عن مثل هذه المغامرة المجنونة. كانت القصة من الجدة بحيث أنها كانت مصدر إلهام لفيلم آخر هو "المشي" (The Walk) (2015)، الذي تعرفت فيه على حكاية فيليب بوتي. وإذا كان الفيلم الوثائقي يتسم بالإبداع، بحيث حاز إثر ظهوره على عدد من الجوائز، فإن المبالغة الهزلية والتشويق اللذين طبعا الفيلم الروائي حولاه، على الطريقة الهوليودية، إلى فيلم استعراضي. مهما كان الأمر، فإن الانطباع الذي تركه هذان الشريطان كان إلى حد ما هو نفسه: تقديم تجربة تعويضية للمشاهدين، لتحويل رمز الموت (البرجان المنهاران والفاجعة الكبرى لانهيارهما)، من خلال سحر الفن، إلى رمز للأمل والتحدي وقوة الإنساني. باختصار، كان الأمر يتعلق بإعادة الاتصال بزمن البراءة، للعثور على البرجين التوأمين في طفولتهما المبكرة، حيث كان لا يزال في إمكانهما أن يكونا مسرحًا ممكنًا للألعاب البهلوانية. "قام فيليب بوتي بقطع المسافة بين البرجين التوأمين من خلال موازنة الأسلاك التي يزيد ارتفاعها عن 400 متر في سماء مانهاتن" عند مشاهدتنا للشريطين، لا يمكننا إلا أن نلاحظ المفارقة الغريبة لإنجاز البهلوان، والتي بدت وكأنها أضحت صيغة مرحة ومبهجة وهوائية لهجمات 11 سبتمبر. ثمة عمق مجنون، بل وانتحاري، في كلا العملين، بالرغم من تناقضهما الساطع. لقد كان على فيليب بوتي أيضًا أن يعمل سرًا على بلورة مشروعه، والقيام بعدد لا يحصى من التحضيرات والتدريبات، والاعتماد على مساعدة أشخاص متواطئين معه، وعلى دعم مالي من شبكة خارجية، والتحايل على تدابير الرقابة، واستخدام أوراق مزورة، واقتحام الأبراج لتنفيذ "انقلابه". وقد أخذ منه ذلك الإعداد أكثر أو أقل من الوقت الذي قضاه الإرهابيون للإعداد لهجمتهم الشهيرة، قبل أن تضرب الطائرتان المخطوفتان البرجين الشهيرين سبعة وعشرين عامًا بعد ذلك. وحين كان فيليب بوتي يتمشى في الأعلى على الحبل، ظلت أعين الناس في الأسفل مشدودة إليه افتتانًا وانبهارًا؛ تمامًا مثلما كان الناس يحدقون في البرجين وهما ينهاران، مع أنهم كانوا في حالة دهشة وهول ورعب... وفي كلتا الحالتين، تدخلت الشرطة وأجهزة الطوارئ، لأن الأمر يتعلق بحدث طارئ وغريب. في الأولى، كان ذلك التدخل يتم وسط الضحك والتصفيق والتعبير عن الإعجاب. وفي المرة الثانية، وسط صيحات الاستغاثة، وصور الجثث تنهار من الأعلى، والشعور العام بما يشبه يوم القيامة. هذا ما دفع بأحد الصحافيين إلى القول: "مع تقدم فيليب بوتي فوق الهاوية، على الأسلاك الممتدة بين البرجين، لم يكن أحد يمكن أن يشك في أن "جريمة القرن الفنية" ستعقبها يومًا ما "جريمة القرن الإرهابية"، التي ستحفر تحت أقدام الإنسانية هاوية جديدة مختلفة تمامًا عن تلك التي تمشى فوقها البهلوان على الحبل المشدود". قطع فيليب بوتي المسافة بين برجي التجارة العاللمية التوأمين (7/ 8/ 1974/فرنس برس) كان الإنجاز الباهر لفيليب بوتي قد سهر على ولادة البرجين، مؤكدًا في الآن نفسه أن ثمة جانبين في الإنسان: قدرته على التشييد الباهر، والتعالي في السماء، والتحليق فيه بجميع الآليات المطورة يدويًا أو تكنولوجيًا، وقدرته بجسده ويديه وقدميه فقط على أن يخضع الجاذبية والعالم التكنولوجي لإرادته وقدراته ومهارته وعناده وذكائه الجسماني. أليس هذا ما حدث تقريبًا منذ أسابيع فقط حين تفوق الفيلسوف رافاييل إنثوفن على الذكاء الاصطناعي في اختبار مادة الفلسفة بالباكالوريا؟ إذا كان فيليب بوتي قد قام بتعميد البرجين، ومنحهما طابعًا إنسانيًا أخرجهما من كونهما نصبين جامحين، فإن هجمات 11 سبتمبر قد وضعت حدًا لهما بشكل رهيب وبشع. لقد ربطت الطائرتان المدمرتان بين البرجين في مصير النهاية، فيما كانت قدما فيليب بوتي، الماهرتان والباهرتان، قد ربطتا بينهما بشكل فني، في فرجة مرتجلة جعلت كل من مر أمامهما قبل 11 سبتمبر، وتملى في عظمتهما، أو ارتادهما من الداخل، قبل أن يعرج للتنزه في سنترال بارك، يتذكرهما بمرح. وكأن مُنجز البهلوان منحنا ذاكرة أخرى عن مأساة البرجين، لا نسمع فيها الأنين والصراخ والألم والاحتضار وهول الحطام (كما استعادتهما العديد من الأفلام الوثائقية والروائية)، وإن كانت تلك الذاكرة مليئة بالخوف والتوجس والترقب، إلا أنها تنتهي ببسمة عريضة، وبفرح عارم بانتصار الإنسان على الأعالي.
يعمل...
X