الزمن الهارب والزمن المستعاد: أنثربولوجيا هوامش اليومي

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • الزمن الهارب والزمن المستعاد: أنثربولوجيا هوامش اليومي



    الزمن الهارب والزمن المستعاد: أنثربولوجيا هوامش اليومي
    فريد الزاهي 15 يونيو 2023
    إناسة
    (gettyimages)
    شارك هذا المقال
    حجم الخط

    يعيش الإنسان زمنه في انجراف مع المستجدات، التقنية منها والثقافية، ينساق لضجيجها وينصاع إلى إيقاعها المتسارع، كما لو أنه أسلم نفسه لقدر تكنولوجي يغلف حياته بكاملها. ينهض صباحًا ويشغّل التلفزيون، بعد أن كان هذا الجهاز لا يشتغل إلا مساء. وقبل أن يتوجه إلى الحمام لغسل وجهه تمتد يده إلى هاتفه ليشغله وينظر إلى المستجدات التي فاتته بعد نومه. ينزل في المصعد ثم يقصد مقهاه المعتاد لتناول قهوته وفطوره. في المقهى، ثمة جهاز تلفزيون مشغل في كل زاوية منه... عيناه تنظران تارة للجهاز وأخرى للهاتف، فيما فمه يرشف القهوة وكأنه تحت سحر مبين. يخرج من جيبه مفتاحًا إلكترونيًا ويضغط عليه ليفتح باب السيارة... يشغلها قاصدًا مكتبه وسط ضجيج السيارات صباحًا. هناك، يضغط على سر الحاسوب لتبدأ رحلة يتناوب فيها الهاتف النقال مع العمل على الشاشة...

    حين كان الرحالة الغربيون يلجون بلاد المغرب، كانوا يندهشون أمام أناسه وهم يتكئون على الأسوار مقرفصين "كقرود"، يتأملون المارة وكأنهم يعيشون زمنًا آخر لا وقت فيه، ولا توالي للساعات. هم كانوا لا يعرفون الوقت إلا بحركة الظل والشمس. لنقرأ كيف يصف أندري شوفريون دخوله إلى مدينة فاس في عام 1905، بأسلوب يكاد يقارب أسلوب بروست في رواية "الزمن الضائع": " بدأت حياة فاس تتبدّى لنا. عدد كبير من الناس يتكئون على قدم السور في شكل خطوط شاحبة. أناس يتخذون كلهم الوِضْعة نفسَها: الركْبتان عند الدقن، والأعضاء مخفية تحت العباءات الداكنة، والأجسام منكمشة على نفسها في أصغر فضاء ممكن. إنهم يلزمون الصمت، منهكين ومتحجّرين كما لو بفعل سحْر ساحر. ولا يد واحدة تمتد لطلب الصدقة. لكن أحيانًا، طالما نحن نمرّ، يستدير وجه من الوجوه، ليرقُب من تحتُ مرور الروميين (الأوروبيين) على جيادهم، بمقلة ذابلة. أما الآخرون فلا يرفعون أبصارهم، وذلك عنوةً كما قيل لي. وبما أنهم عاجزون عن منع وجودنا المكروه في المدينة المقدسة، فهم يرغبون على الأقل في تجاهله ويواجهوننا باللامبالاة الصارمة. لكنهم هم أنفسهم يبدون كما لو أنهم يتجاهلون بعضهم البعض... وحين أستدير نحو أولئك الذين تركناهم وراءنا، أقف على انعدام التأثر نفسه، والصمت الجماعي الفظّ. هل يحدث لهم أن يحلموا؟ أتخيل أنهم ببساطة كائنون، وموجودون، فقط، ككائنات تخلُد للراحة، وسلوكها جميل ومُتشابه، باعتباره سلوك النوع البشري. وكل واحد منهم أيضًا، وبشكل غامض، يلتذ بسكينة الجبل والسهل، بسكينة الصمت، وعدم الحراك أمام منظر طبيعي خالد، عند قدم أسوار لا عمر لها، بين أشياء تتكلم بصمت عن اللانهائي الرتيب للزمن والأجيالِ التي تتشابه دومًا، وعن الموت الذي يتفكَّك فيه كل شيء بسهولة ويصعدُ للأعالي غبارًا بطيئًا تحت سماء تكون دومًا يافعة، وعن العودة المتكرّرة للربيع وللزهور في المراعي". قرنًا ونيف فقط بعد ذلك، وفي المدخل نفسه للمدينة، إذا أنت لاقيت أناسًا يجلسون في المقاعد قرب السور نفسه، ستجدهم منكفئين "كقردة" على هواتفهم، والسيارات تملأ الساحة بضجيجها، والمارة يتكلمون في هذه الآلات العجيبة الموضوعة على أذنهم. أما إذا كانوا يضعون سماعات دقيقة على آذانهم فإنهم يبدون كحمقى يحادثون أشخاصًا غير مرئيين، ويعبرون الطريق غالبًا، أو يسيرون في الرصيف، وكل واحد منشغل بهذه الآلة العجيبة التي لم تعد تفارق أناملهم وشفاههم وآذانهم وعيونهم...
    العودة للثياب والأكسسوارات "فينتيج"، لا تعبّر فقط عن نظرة استرجاعية للزمن ولفتنة الماضي، إنها تسعى لإيجاد أسلوب جديد للحياة يقوم على القدرة على الانفلات من وفرة التقليعات الجديدة ومقاومة التحولات الجارفة
    مفارقات الزمن والعود الأبدي

    مع ذلك لا يبدو الزمن خطيًا وجارفًا كما نعتقد. إنه يشتغل فينا بما يشبه الرجات والعودات المكرورة. حين كنا صغارًا ثم يافعين، لم تكن المساجد تمتلئ يوم الجمعة كما هي اليوم. كانت مدينة فاس تعبق بهالتها الروحانية في إيقاع اليومي البطيء. ولا ننتبه إلى أن اليوم جمعة إلا بالحوانيت المغلقة في المدينة. فهذا اليوم المقدس كان يوم عطلة تخلو فيه المدينة إلى نفسها وترتكن إلى صمتها التليد. اليوم وأنت تمر أمام المساجد تجد المصلين يتابعون الإمام في الرصيف وقامات المصلين المتناسقة تغلق الطريق المحاذي له. وبعد أن كنا نرى المساجد قبلًا فضاءات يملأها العجائز والشيوخ، ها هي اليوم غدت تمتلئ بالشباب والوجوه الصبوحة...

    ليس من الغريب أن نشهد في العقود الأخيرة عودة لمظاهر المقدس والديني، وانتشارًا كبيرًا لهذه المظاهر في وسائل التواصل الاجتماعي. وما سيادة الحجاب إلا مظهر من هذه المظاهر التي تشي بالرجوع إلى ممارسات لباسية لها جذور تتجاوز الإسلام لتصل إلى الحضارات القديمة. وما دام المقدس بمعتقداته ومظاهره يتجاوز الديني باعتباره إيمانًا وعبادات، فإن التفشي الذي نشهده اليوم للتطير واللجوء للعرافة وممارسة السحر لا تشذ عن هذه القاعدة.

    إن هذه المفارقات لا تتصل فقط بالمجتمعات العربية أو العالم ثالثية، فهي أيضًا تطول المجتمعات الغربية التي صارت تتطور فيها منذ عقود كل أشكال الروحانيات والطوائف السرية التي تعتمد نظامًا من المعتقدات العتيقة، ذات المنابع البدائية أو البوذية وغيرها. وهو ما قد يعني أن الإنسان يعيش هذا النزوع كشكل من أشكال مقاومة الانجراف مع حياة لم يعد له فيها اختيار، تحوله إلى موضوع أو شيء يعيش وفقا لإيقاع حياتي لا يستطيع فيه التحكم لا في وقته ولا في غذائه ولا في عطالته.
    يصف أندري شوفريون دخوله إلى مدينة فاس في عام 1905، بأسلوب يكاد يقارب أسلوب بروست في رواية "الزمن الضائع"
    الذوق المستعاد وفتنة الماضي

    تتفاجأ أحيانًا أن ترى شابًا أو شابة في العشرينات لا تهتم كثيرًا للموسيقات والأغاني التي تلهب حماس الشباب وتستجذب أجسادهم. إنهم زمر من الشباب يعشقون أم كلثوم ونجاة الصغيرة ولا يسمعون إلا موسيقى الجاز وبوب ديلان وغيرهما... وحين تسألهم عن هذا الذوق "الشاذ" يجيبونك بأنهم يتمنون لو كانوا عاشوا الستينيات والسبعينيات. وفي السياق نفسه، صار العديد من المغنين الشباب يستعيدون أغاني قديمة شهيرة ويعيدون توزيعها ويؤدونها بآلات جديدة وإيقاع مغاير، وكأنهم يمنحونها حياة جديدة مناسبة لأذواقهم الراهنة. هذا "الروميك" أو الذوق "الرترو" (الارتجاعي) لا يشمل الموسيقى فقط. فهو يترجم نفسه على شبكات التواصل الاجتماعي بنشر الصور الشخصية بالأبيض والأسود احتفاء بالعصر الذهبي للصورة الفوتوغرافية والبورتريه وبما تحمله من فتنة النور والعتمة.

    هذا الميل قد يغدو اهتمامًا بالأشياء القديمة وبجمعها، كالكارت بوسطال القديم، وجمع أجهزة الهواتف الثابتة القديمة، والطوابع البريدية القديمة، وآلات الخياطة اليدوية، والمذياعات الكبيرة وآلات التسجيل بالكاسيت، والغراموفونات ذات الأسطوانة الغنائية وآلات الرّقانة... كان الناس إلى وقت قريب يبيعون كل هذا المتاع بأبخس الأثمان، يتخلصون منها بعد أن عايشوها سنين طويلة لاستبدالها بآلات جديدة. هكذا عوضت الهواتف ذات الملامس الهواتف ذات الأزرار الدوارة، والشاشات ذات الدقة الرفيعة الشاشات الكاثوديكية، والحواسيب الآلات الراقنة... وصار هذا التجدد من السرعة بحيث لا تكتب الحياة لأي جهاز منزلي لأكثر من بضع سنوات، بحيث أن البيت يغير وجهه باستمرار ويتابع إيقاع الحداثة بوتيرة مدوّخة...

    أما الولع بالسيارات والدراجات النارية القديمة فإنه غدا أسلوبًا في الحياة، وهواية تستغوي الرغبة في التميز والسباحة ضد التيار. فأن تملك سيارة قديمة، يعني أن تعيد لها الحياة، وتبحث لها بأناة وصبر وكدّ عما ينقصها من قطع غيار، وتبعث الحركة في محركها، وتعيد لها بهاءها الماضي فتقودها في الشوارع أو في الطريق وكأنها تعيد للمدينة والطريق وهج الماضي، أو كأنها في واقعها ذاك خارجة من شريط سينمائي قديم.

    العودة للثياب والأكسسوارات "فينتيج"، لا تعبّر فقط عن نظرة استرجاعية للزمن ولفتنة الماضي، إنها تسعى لإيجاد أسلوب جديد للحياة يقوم على القدرة على الانفلات من وفرة التقليعات الجديدة ومقاومة التحولات الجارفة التي تمنح لكل فصل تقليعة أو موضة جديدة بألوان مغايرة "طوندانس". كانت فاطمة المرنيسي تظهر في العادة بأزياء مطروزة يدويًا، عبارة عن لباس تقليدي مغربي ذي مسحة معاصرة. وفي السياق نفسه تطورت بالمغرب في السنين الأخيرة موضة تطوير القفطان المغربي وتحويله إلى لباس عصري مناسب لتطور الأزياء الراهن. إنها مقاومة مرحة توقف الزمن وتحول عاشق القديم إلى أنثربولوجي يمنح الحياة للماضي ويثير الانتباه إلى أن ما مضى يعيش في الذاكرة، ويمكنه أن ينبعث منها ليعيش حياة جديدة... في الجانب الآخر الأكثر سياسية، يعيش الإسلاموي المتعصب حياة الأصل الإسلامي في مظهريته بفخر، لأنه يخال أنه يؤبد أساطيريات الحياة اليومية في أنموذجيتها "الفطرية". يسوق السيارة أو تسوقها المرأة ذات البرقة، ويستخدمان كافة مظاهر الحضارة الحديثة وكأنهما يعيشان زمنين متنافرين في لحظة واحدة...

    قد تبدو هذه الظواهر، في عيشها للمفارقة سلوكيًا، هامشية؛ غير أنها تثير الانتباه إلى عودة المكبوت وقدرة الذاكرة الزمنية على أن تستعيد نفسها، لا في المتحف فقط، وإنما في الحياة اليومية. إنها ممارسات للمفارقة تفصح عن هذا النزوع أو ذاك، بل هي معتقدات تتخذ طابعًا جماليًا، كما تتخذ طابعًا اعتقاديًا (في السحر والتديّن مثلًا). وفي كل الحالات تكون استعادات تعبر عن أسلوب في الحياة والتفكير والسلوك ومجابهة الإيقاع اليومي بإيقاع مغاير وبصور مغايرة للوجود والحياة. إنها وهي تمنح عنفوانًا جديدًا لمكونات الماضي وعناصره وأذواقه، تعبر في جانب كبير منها عن القدرة الفردية على التحرر من سيولة الحياة العادية ومن قوتها الكاسحة، كما من سلطتها التي حوّلت الجموع إلى دمى متشابهة تعيش تحت إمرة الإعلام والتواصل وسلطة الشاشات والإشهار والبطاقات البنكية...


يعمل...
X