سيرة القارئ أو تجربة القراءة حين تصبح كتابة فريد الزاهي 25 يوليه 2023 هنا/الآنسيرة القارئ أو تجربة القراءة حين تصبح كتابة(عمل للبريطاني جايسون نوشين)شارك هذا المقال حجم الخط منذ وقت، كتبت إحدى صديقاتي في موقع "الفيسبوك" منشورًا تعلن فيه أنها إن كان عليها أن تختار، فيمكنها أن تتخلى عن مكتبتها كاملة، على أن تحتفظ منها بكتابات دافيد لوبروطون ومارسيل بروست وكاتب آخر نسيت اسمه... وما دمت أتابع صفحتها، فأنا أعلم، من إيقاع بحثها عن الكتب (فهي تقطع مئات الكيلومترات بحثًا عنها) والتهامها لها، أنها تمتلك مكتبة هائلة... ما لفت انتباهي في الأمر هو أن الكُتاب الثلاثة تقرؤهم مترجمين إلى اللغة العربية، وأن أغلب الكتب التي تتحدث عنها في منشوراتها مترجمة، إلى حد أنها دعت بالكثير من الشوق يوما إلى ترجمة كتاب من الإنكليزية ترغب في قراءته. "موت" الكاتب وولادة القارئ حين قال رولان بارت يومًا إن موت الكاتب يعلن عن ولادة القارئ، فُهم قوله ذاك بأنه إعلان عن موت الذات كما كان ذلك رأي البنيوية وفوكو وغيره. بيد أن قوله ذاك كان يعني بالأساس أن القراءة صارت رديفًا للإبداع من خلال التأمل في نصوص أخرى؛ بل صارت رديفًا لما كان يعرف إلى ذلك الوقت بالنقد. لم يكن بارت سوى صدى من أصداء ما جاءت به الحداثة الفكرية في أواخر أنفاسها، منذ قراءة ماركس ونيتشه للتراجيديا الإغريقية، ومنذ أن صارت فلسفة هايدغر صدى لقصائد هولدرلين، إلى حد أنه جعل من هذه العلاقة تحويلًا لمفهوم الفلسفة والفكر نفسيهما. أليس هو القائل بأن "الفكر ينحو نحو القصيدة"؟ ليس من شك في أن الحداثة الفكرية هي إعلان عن ولادة القارئ، باعتباره صاحب تجربة في استعادة كتابات الآخرين. فقراءة هايدغر لكتابات الفلاسفة الإيليين، أو ما قبل السقراطيين، هي استعادة لفجر الفكر، وتوكيد للزمنية الداخلية للتاريخ باعتباره زمنًا لاتاريخيًا historial، لا زمنًا تتابعيًا هيجيليًا. لهذا يعتبر هايدغر، بفعل القراءة الاستعادية التملكية هذه، أن بارمنيدس أقرب إلينا تاريخيًا ممن جاؤوا بعده، ذلك أن فعل القراءة هذا هو، كما يقول هايدغر، "لا يتأسس إلا بما يضيفه من معنى للنص". إن القراءة بهذا المعنى، هي إضافة (supplément) بالمفهوم الدريدي، أو هي تلك المعاني الإضافية كما يقول القاضي الجرجاني. لم يعد الكاتب أصلًا مطلقًا للنص له ذلك الطابع الميتافيزيقي. لم يعد هو ذلك الإله المبدع المتماهي مع ذاته في قوقعة متعالية. لنتذكّر أن الوحي الإلهي حين نزل على رسول الأمة، كان الفعل الآمر المنبئ بولادة "النص" القرآني هو: "اقرأ". وسمي هذا النص المقدس قرآنًا بسبب قابليته للقراءة والترداد والذكر. وليس من قبيل المصادفة البحتة أن ابن عربي يبني تصوره للألوهة على مبدأ الحب والكشف، انطلاقًا من حديث قدسي (شكك البعض في صحته) يقول: "كنت كنزًا لا أُعرف، فأحببت أن أُعرف فخلقت خلقًا، فعرّفتهم بي، فعرفوني فأحببت أن أعرف". أليس النص هنا هو ذلك الكنز المخفي؟ ثم، أليست القراءة هي عملية معرفة، تحقق النرجسية البديهية والجوهرانية للذات المبدعة (الخالقة) في أن تخلق لها مرآة تتمرأى فيها تكون هي القارئ؟ القارئ بهذا المعنى رسول الخطاب والوسيط الفعال والضروري لوجود النص. والقراءة هي فعل إنجاز performance فعال، لا فقط وسيط سكوني. فلكي يوجد الكاتب في تعدد معانيه لا بد من وجود القارئ في كينونته المتعددة. وإذا كانت الكتابة تجربة توحدية solipsiste، فإن الكشف عنها في تجربة القراءة هو ما يمنح للنص معانيه وتآويله. القراءة تفسير وتأويل. والتأويليات (أو الهرمينوسيا كما اقترحت تسميتها منذ أكثر من عشرين عاما في كتابي: النص والجسد والتأويل)، التي نمت في حضن قراءة النصوص المقدسة كلها، أضحت اليوم "نظرية" ضحلة، لأن "الفكر" الأكاديمي تمكن منها وحولها إلى خطاطات قابلة للتعلم والتدريس والتداول كما كان الأمر في القديم، مع أن التفسير والتأويل يستعصي على الكل لأنه يتطلب الإحاطة بكافة العلوم اللغوية والشرعية. أما في طابعها الحداثي فقد تبلورت في حضن الفلسفة الفينومينولوجية التي انبنت على الاندماج بالعالم وعيش الفكر كتجربة وجودية عميقة. وما يتناساه المنظرون العرب الأكاديميون للتأويليات هو أنها، قبل أن تكون معطى نظريًا نسقيًا، هي تجربة وجودية للذات القارئة يكون فيها الفهم (أي الإدراك العقلي والعاطفي) والتفسير والتأويل عملية واحدة، لا عمليات متتابعة أو متراتبة أو منفصلة عن بعضها البعض. القراءة بهذا المعنى ليست هي الفهم أو التفسير أو التأويل، وإنما هي ذلك المزيج المتناغم والمتوتر والقلق لإنتاج المعاني الجديدة للنص في جسد القارئ وذهنه وحياته في الآن نفسه. وحين ينتج القارئ نصًا عن هذه التجربة لا يكون تابعًا للنص ولا ملحقًا به وإنما نصًا جديدًا يكشف عن التواشج بين معاني النص "الأصل" ومعاني النص الجديد. ذلك ما تعلمنا إياه كتابات جان بول سارتر مثلًا في كتابه: القديس جينيه، الممثل والشهيد، وبودلير، أو كتابات بارت عن بلزاك وراسين وغيرهما، أو كتابات موريس بلانشو كـ العثرة وحصة النار وغيرهما.... علمًا أن بارت كتب نصوصًا حكائية وبلانشو كتب الرواية، وسارتر كتب المسرح... قد نتوقف يومًا عن الكتابة، لأن كل شيء قد قيل، كما أعلن ذلك موريس بلانشو القراءة تجربة وجودية في اللغة موت الكاتب الذي تحدث عنه بارت، هو ما يوضحه بشكل أكثر راديكالية موريس بلانشو في ما يسميه كتابة الكارثة: "ربما تكون ""كتابة الكارثة" هذه بحثًا عن الضرورة الشذرية، غير أنها ليست بحثًا غير مكتمل، وإنما تتجاوز كل اكتمال، بل وتتجاوز كل شيء بعد ذلك؛ أي أنها بحث يزعج كل شيء، ويزعج قبل كل شيء الكتابة. وهذا ما يجعلها متقطعة من دون أن تكون كتابة حكمية aphoristique [على شاكلة نيتشه أو سيوران]، منهكة أحيانًا، بنواقص كثيرة أحيانًا أخرى، غير أنها بلا نهاية ومنذورة دومًا للآخر". أليست هذه الكتابة في الحقيقة هي تجربة القراءة في حريتها وعدم اكتمالها وتشذرها وتقطعها وامتزاجها بفوضى اليومي؟ هل غدت عملية القراءة من القوة بحيث باتت متماهية مع الكتابة التي تشكل مرآة دائمة لها؟ أليس كل قارئ في نهاية المطاف مشروع كاتب؟ وأنا أتابع صديقتي الفيسبوكية في ما تنشره على صفحتها، أجدني أمام تجربة قراءة (بالمعنى الحرفي) تتحول إلى هوس كتابة عن ذاتها في مرايا النصوص التي تلتهمها تباعًا. إنها تخط تجربتها وكأنها تحوّل القارئ إلى كاتب محتمل، إلى ذلك الذي يحكي امتداد النص في بدنه وعواطفه. في ما تكتب الصديقة الكثير من الرغبة في الكشف عن قصور الكتابة من غير ما يمكن أن تثيره في الآخر، القارئ. تقول في إحدى تدويناتها: "أنا بتاريخي ومجموع كتلتي وما أتبناه من فكر، أغبط هذا الكتاب على كينونته ومواده وأفكاره وأبطاله وصوره، أريد في تلك اللحظة أن أكون جمادًا له بعد مادي على أن أكون مادة موصومة بالجماد... إن دمرت بغيرتي هذه الاتجاه الأيمن، أو قطعت تحت نشوة هستيرية كفي الأيمن - حتى ولو كان قطعه مجازيًا - ربما في ذلك الحين سأقرأ كتبي باتجاه الشمال، وأرى من خلال هذا الاتجاه انعكاسات كل حركة وكل ردة فعل وكل لحظة زمنية؛ تاريخية كانت أو أسطورية، سأعرف ما يعرفه المجانين، لكني أعرف أو أكاد أجزم أنني عند تلك النقطة التي يصبح فيها الضلال شيئًا حقيقيًا، لن أستطيع استعادة عقلي". إنها تجربة وجودية وانعكاسية، يكون أثرها بليغًا على صورة الجسد schéma du corps كما يحدّدها المحللون النفسانيون (شندلر) وتغيرّها عنوة ابتغاء بلورة شتات القراءة وانغراسها في المسام. فهذه القارئة تبني نصًا موازيًا لنص الكاتب، يمنحه وجودًا جديدًا في الآخر، ويتحقق بشكل مغاير وهو ينزرع في تجربة قارئة نهمة وكأنه يولد من جديد في صورة أخرى، بعد أن منحته الترجمة إلى العربية جسدًا آخر أقرب إلى متخيل القارئة. القارئة هنا تعيش تجربة وجودية وأنثربولوجية تغير الجسد وتحوله إلى روح... "ليس من شك في أن الحداثة الفكرية هي إعلان عن ولادة القارئ، باعتباره صاحب تجربة في استعادة كتابات الآخرين. فقراءة هايدغر لكتابات الفلاسفة الإيليين، أو ما قبل السقراطيين، هي استعادة لفجر الفكر" القراءة حرية، لا ترتبط ببرنامج دراسي، ولا تستهدف حصيلة معينة. وهي بحريتها تلك تتابع حدس العناوين وتستكشف كتابًا هامشيين قد لا تطاولهم شهرة الجوائز، وتعثر على نصوص دُرر قديمة طاولها النسيان. إنها تتابع الجديد وتستكنه القديم، وكأنهما متجاوران في الزمن. لا تفرق بين المكتوب بلغته الأم ولا بين المترجم بشكل جيد. وقد لاحظت في السنوات الأخيرة كيف أن الترجمات أضحت مكونًا قرائيًا مركزيًا، خاصة حين يكون المترجم متمكنًا من لغته وعارفًا جيدًا باللغة التي منها يترجم، فتقرأ الترجمة وكأنها كتبت أصلًا باللغة التي إليها تُرجمت، لا تفضحها إلا أسماء الأمكنة والشخصيات الأعجمية وبعض العوائد والفضاءات المرجعية. وليس من قبيل الصدفة في هذا المضمار أن هايدغر وجاك دريدا وعبد الكبير الخطيبي يجعلون من المترجم أجود قارئ لنصوصهم وللنصوص عامة، فهو صورة الكاتب وظله في الآن نفسه، ومتابعه في عملية الكتابة، بل لسانه الأجنبي أو الأعجمي الناطق بنصوصه. وصديقتي الفيسبوكية مولعة بالنصوص المترجمة، التي تشكّل لها أسفارًا تمنحها أجنحة ترتاد بها، وهي في بيتها عوالم أخرى لم تطأها قدماها، وحيوات حميمة تتصادى مع عوالمها. فقد كتبت ذلك كثيرًا، وكأن الكتب التي تقرأ تمنحها الجرأة على الكشف عن بواطنها واستذكار صباها وإعادة بناء قصتها الشخصية... وفي تدوينة أخرى تكتب الصديقة القارئة: "يستحيل أن ينصرف الزمن المستغرق في قراءة هذا الكتاب نحو الذوبان ومن ثم التلاشي، فهذه الرواية هي بمثابة طعنة في قلبي على أثر سكين حاد، ولا يمكن معالجة آثارها إلا بدوام تذكرها واستشعارها في كل زمان لاحق... في كل لحظة مرت صاخبة، وملهية عن الاستمرار في عملية القراءة، كنت أصاب بالقلق والعصبية الشديدة، فأعود لأذكر نفسي أنها مجرد كلمات وحروف متآلفة تصنع هذا الوهم الكبير الذي أعيشه بكامل حواسي وكأنه حقيقة ثابتة لا تتأرجح على صفحات الكتاب. وأتذكر جملة قالتها إحدى السيدات في الرواية: ’مصباحك اليدوي يضيء حياتي...’". هكذا تغدو تجربة القراءة، وبالملموس، سيرة ذاتية، وتجربة كتابة جديدة، تتصادى مع الكِتاب، وتمنحه سياقًا جديدًا قابلًا للحكي والحياة... فنحن قد نتوقف يومًا عن الكتابة، لأن كل شيء قد قيل، كما أعلن ذلك موريس بلانشو، أو لأن النصوص المزيفة التي سيكتبها الذكاء الاصطناعي ستحولنا بدورنا إلى روبوهات قارئة... أو لأن نبوءة فرانسوا تروفو في فيلم "فهرنهايت 451" (1966، المقتبس عن رواية الكاتب الأميركي راي برادبوري، 1954) قد تتحقق، فيعمد رجال الإطفاء إلى حرق الكتب، ويصبح الكتاب أندر من الماء... لكننا قد نكتب الشذرات العاشقة عن كتب نقرؤها، تفجر فينا تجارب جديدة، تشكّل تَحْيينًا مستمرًا لما لم يُقل بعد، أو لما تبقى لنا من القول، أو لصمتنا الكارثي المنتظر...