مهران كريم ناصري: مَن جعل "اللامكان" مكانه

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • مهران كريم ناصري: مَن جعل "اللامكان" مكانه



    مهران كريم ناصري: مَن جعل "اللامكان" مكانه
    دارا عبدالله 27 يوليه 2023
    هنا/الآن
    (مهران كريم ناصري، Getty)
    شارك هذا المقال
    حجم الخط


    لم يعد الوعد بالطيران حلمًا بشريًّا يجب أن تُسخَّر جميع الجهود لتحقيقه. فرغم أنّ عباس بن فرناس دفع حياته وهو يجرّب الطيران، إلا أنَّه في عالمنا الراهن، وكما تشير الأرقام، وصلت أعداد الرحلات الجوية في أعلى رقمٍ مُسجَّل له إلى 231639 رحلة جويَّة في كلّ أنحاء العالم. ورغم أنَّ الطيران صار شيئًا عاديًا في حياة البشر، لا يزالُ المطار محور عالمنا والمسرح الذي يظهر وجهه السياسي المتوتر.

    في المطارات تظهرُ الفروق الطبقيّة بين أنواع المقاعد، وتشعرك الأسواق الحرّة بضعف طاقتك الشرائيّة، ويُوقَف السود فجأة للتفتيش العشوائي، وتبحث السلطات عن اللاجئين المتسللين. إلى جانب أبنية الاستراحة ومحطات القطار ومراكز التسوق، يبقى المطار أشدّ الأمكنة "لا مكانًا". اللامكان الذي يتوسَّط الانقطاع بين الجو والبر. شاطئ الأفق الذي يسمح بفسحةٍ خاصّة قليلةٍ مع النفس، وكأنّه كرسيّ اعتراف. المكان "مجهول الهوية" الذي لا يسكنه أحد، إذْ يبقى الناس فيه بشكلٍ مؤقّت في انتظار الصعود. التوقُّف الوجيز يصبحُ مدخلًا للعبور إلى الذاكرة والتغول في النفس ولمس المشاعر والإحساس بالرقة، وربّما... بلع بعض الدموع. التجمُّع البشريّ في المطار لا هويّة له، كتلة غير محددة من البشر، وغير صالحةٍ للتحوُّل إلى بنية اجتماعيَّة. جماعةٌ وجدت نفسها بالصدفة في مكانٍ عديم العواطف مثل جدرانه المصنوعة من الترسانة المكشوفة.

    زائر المطار عادة يطفئ أحاسيسه. لا وقت لمتابعة عربات الأطفال والتوتر في نقاط التفتيش. المهم هو لبس قناع اللامبالاة والعبور من الفحص الأمني مرورًا بالسوق الحرّة إلى عتبة البوابة. ولكن للمطار معنى يختلف تمامًا لدى المواطن الإيراني، مهران كريم ناصري (1945- 2022). المطار لناصري ليس استثناءً زمنيًا مؤقتًا للصعود أو فرصة لمساج النفس. المطار، اللامكان، هو حياته اليوميَّة. عاش مهران في الصالة رقم 1 في مطار شارل ديغول الدولي في العاصمة الفرنسية باريس من 8 آب/ أغسطس عام 1988 حتّى آب/ أغسطس عام 2006.

    بقي ناصري في المطار لـ 18 عامًا، وعلق في الخرسانة عديمة المشاعر، إذْ لم ترغب لا إنكلترا ولا بلجيكا منحه حقّ الدخول. الطبيب الذي كان يعمل في المطار، والذي صار رفيق ناصري المقرب، قال عنه: "علق في المطار وأدمن عليه، وصار مكانه الاجتماعي، مثل الرجال الذين لا يريدون مغادرة السجن، لأنّه المكان الوحيد الذي ينالون فيه الاعتراف". ورغم أنّ السلطات سمحت لناصري بمغادرة المطار، إلا أنّه لم يعد صالحًا للعيش في أمكنة محددة الهوية. لم يعد يحتمل ما يسميه بـ "المكان المنحاز"، المطار، قريته، هو أفضل زاوية لمراقبة العالم. صارت الأريكة الحمراء التي يجلس عليها دومًا في الصالة رقم واحد، مكانه الذي يشير إليه.

    على مدى السنين، تأقلم مهران على حياة المطار، فكان يستيقظ في الخامسة صباحًا ليغتسل في دورات المياه حيث كان في غاية النظافة. اعتاد العاملون في المطار على غسل ثيابه، وتبرعوا له بأريكة ليرتاح عليها، اعتاد على سماع المذياع وقراءة الكتب وكتابة مذكراته اليومية بمساعدة الكاتب البريطاني آندرو دونكين.

    في كتاب The Terminal Man، يقول ناصري بأنّ المطارات، كالمساجد، هي المكان الذي يحقق نوعًا من المساواة الاجتماعيَّة. أمام الحزام المطاطي المتحرّك، جميعنا متشابهون ومتساوون. الكلّ يأمل وصول حقيبته بنفس القدر، وينتظر على قدم المساواة مع الآخرين، ويحمل نفس الكمية من الغضب والقلق.

    عاد ناصري إلى المطار رغم سماح السلطات له بالمغادرة والدخول إلى أوروبا. أصيب بالتهاب حاد في اللوزات وأقنعه صديقه الطبيب بضرورة تلقّي العلاج في المستشفى. بعد العلاج، عاد إلى صالته في شارل ديغول ليفارق الحياة على الأريكة الحمراء في 12 نوفمبر/ تشرين الثاني عام 2022. "اللامكان"، قطعة الأرض التي لا يستطيعُ أحد ادّعاء ملكيّتها، صارت إشارة لمّاحة إلى ناصري وتجربته.
يعمل...
X