البحث عن الفردوس المسروق: قصة أشهر لص بتاريخ الفن
سناء عبد العزيز 30 يوليه 2023
هنا/الآن
مايكل فينكل وكتابه "سارق الفن..."
شارك هذا المقال
حجم الخط
في أحد أيام شهر نوفمبر/ تشرين الثاني 2001، ومن بقعة هادئة مخصصة للعشاق في بلدة آيرشتاين الفرنسية، لمح زوجان تقدم بهما السن شيئًا يلمع في إحدى القنوات المتفرعة من نهر الراين، وما إن استبانت حقيقته حتى عم الذهول الشاطئ. لقد كان وعاءً فضيًا نفيسًا يستخدم في القداسات الدينية قبل 500 عام، فما الذي جاء به إلى هنا؟ وأي يد عبثت به؟ وفي ظرف يومين، قامت الضفادع البشرية بتمشيط القناة، وتمكنوا من انتشال 100 قطعة أثرية. وبعد أسبوعين، عثروا على سبع قطع أخرى، منها نشاب من القرن السابع عشر، وسوط من الجلد غير المدبوغ. هذه القطع الثمينة وضعها الميجور هاتش في قسم الشرطة ريثما يصل خبير التحف جاك باستيان من ستراسبورغ. وحين وقع نظر باستيان عليها وهي ملقاة بتلك الطريقة في المركز، فقد اتزانه وانفجر صائحًا: ميجور هاتش أنت مجنون! هذه فضيحة!
الين واليانغ
يروي الكاتب الصحافي مايكل فينكل في كتابه "سارق الفن: قصة حقيقية عن الحب والجريمة والوسواس الخطير"، الصادر حديثًا عن دار كنوبف للنشر، سر الكنوز التي جرفتها المياه إلى تلك البقعة الحدودية من نهر الراين، حيث يعيش شاب فرنسي وسيم تبدو على وجهه أمارات الذكاء يدعى ستيفان بريتوايزر في قرية اشنتزويلر القريبة من موقع الحدث، مع صديقته آن كاثرين ووالدته ميريل ستنجل، وكلتاهما تعملان في التمريض، بينما ستيفان يعمل نادلًا ومساعدًا بارزًا في المطبخ، وفي أوقات فراغه يزور المتاحف والمعارض والمزادات.
ذات يوم استوقفته لوحة صغيرة لكريستيان فيلهلم ديتريش، وعن ذلك يقول: "لقد انبهرت بجمالها، بصفات المرأة في الصورة ونظرة عينيها. اعتقدت أنها تقليد لرامبرانت"، وفجأة أحس برغبة لا تقاوم في تملكها، فشرع في فك البراغي بسرعة، بينما تكفلت صديقته بمراقبة المكان. لم يمض وقت طويل حتى أخفاها تحت سترته.
على مدار ستة أعوام كاملة، تمكن ستيفان من سرقة 239 عملًا فنيًا من 172 متحفًا وكاتدرائية، ومن قلاع في جميع أنحاء أوروبا، تبلغ قيمتها 2 مليار دولار، مغافلًا الحراس في وضح النهار، وهو ما تفاخر فيه عقب إلقاء القبض عليه، فلم يقتحم مكانًا، ولم يتسلل في جنح الليل. يحدد فينكل طريقة عمل الثنائي بكثير من التفاصيل المثيرة، ستيفان يستقصي الغرف، ويرسم تصاميم الأرضيات وطرق الهروب في ذهنه؛ ويستغل فترات البدء وتغيير النوبات، مستخدمًا مديته من أيام الجيش لفك البراغي بهدوء وسرعة وثقة. على بعد مناسب، تقف آن كاثرين تشمل المكان كله بنظرتها الثاقبة من فوق قامتها الطويلة. لدى أي استشعار بالخطر تسعل بصوت خفيض، فيرفع ستيفان مبضعه عن الفن، ثم يعاود العمل لاحقًا، حاشرًا غنائمه في سرواله، أو تحت معطفه، أو حتى في حقيبة صديقته، وهو ما حدث تقريبًا مرة واحدة. يصف فينكل علاقة الثنائي العاشق بأنها نوع من "الين واليانغ"؛ رمز الديانة الطاوية المكون من دائرة خارجية تمثل "كل شيء"، بينما الشكلان الأبيض والأسود داخل الدائرة يمثلان التداخل بين طاقتين متضادتين، بوسعهما إنجاز أي شيء في الحياة.
"على مدار ستة أعوام كاملة، تمكن ستيفان بريتوايزر من سرقة 239 عملًا فنيًا من 172 متحفًا وكاتدرائية، ومن قلاع في جميع أنحاء أوروبا، تبلغ قيمتها 2 مليار دولار" |
ستيفان ماهر في اكتشاف الثغرات الأمنية والكاميرات المزيفة محدودة النطاق، بينما آن كاثرين، العين الحارسة، لديها القدرة على الاستجابة السريعة لأقل بادرة يمكن أن تكشف مخططهما، حاسمة اندفاع صديقها وطيشه بأقل الكلمات الممكنة.
جامع الفراشات وأشياء أخرى
لأجل تأليف كتاب عن سارق الفن، احتاج فينكل إلى الغوص عميقًا في حياة ستيفان التي تبدأ من انفصال والديه، ومحاولة ميريل سد الفراغ الناجم عن انسحاب الأب بطرق غير سليمة، كتوفير كل شيء لوحيدها، وتحمل مزاجه السيء، وعدم تأنيبه، أو تقريعه، عن نزواته الصغيرة، إذ يكفيه فقدان الأب. لكن السؤال كيف تجرأ على تخزين سرقاته في غرفتين من منزلها من دون أن ينتابها ولو قليل من الشك. كان ستيفان يعيش مع آن كاثرين في بيت والدته، ويتجول على راحته ووقتما شاء في متحفه، بما يحويه من لوحات نادرة، ومنحوتات، وأسلحة عتيقة، وأطباق، وحاويات متقنة الصنع، حتى يمتلئ بالسعادة.
تدعي ميريل أنها لم تكن تظن يومًا أنها أصلية، كان معتادًا على شراء أشياء مقلدة من المزادات، ثم أنه من المفترض أن اللصوص يسرقون لتحقيق مكاسب من تلك اللوحات، أو طلب فدية، لكن ستيفان كان يسرق من أجل متعته الشخصية، يصف ستيفان نفسه بأنه "خبير في الفن"، وما قام به من سرقة كان من أجل بناء فردوس من الجمال، مؤلف من أعمال أساتذة القرنين السادس عشر والسابع عشر تحديدًا. في أثناء محاكمته، أخبر القاضي: "أنا أستمتع بالفن. أحب مثل هذه الأعمال الفنية. جمعتها واحتفظت بها في المنزل". وبرغم أن حصيلته من تلك الكنوز بلغت حوالي 300 قطعة، كان يتدخل بين الحين والآخر لتصحيح معلومة عن قطعة، أو سجادة، أو لوحة جميلة.
ستيفان عاشق سرقه الفن، وصفته صحيفة "الغارديان" بأنه "سارق الفن الأكثر ثباتًا في العالم". فما يزال يسرق حتى وقتنا هذا، وأُطلق عليه لقب "واحد من أكثر لصوص الفن غزارة ونجاحًا على الإطلاق"، و"أحد أعظم لصوص الفن في كل العصور". وكان الفن يستدعيه إليه لتنفيذ سرقة بمعدل كل 15 يومًا، عدا ذلك يتملكه نوع من الفراغ الهائل كلما توقف عن هواية الجمع. تكشف رواية جون فاولز (جامع الفراشات) مدى خطورة الجمال على بطلها فريدريك كليج الذي انسحر برقة الفراشات، فأراد أن يديم لحظة اللقاء أيًا كانت النتيجة. في المقابل، يحكي ستيفان عن الرعدة التي تتملكه أمام الجمال، وكيف لا يصل إلى عتبات الراحة ويسترد أنفاسه المبهورة إلا حين يصبح الشيء في معيته يتحسسه بأصابعه.
فص بحجم حبة البازلاء
سُميت متلازمة ستاندال بهذا الاسم نسبة إلى ماري هنري بيل، الكاتب الفرنسي الذي عاش في القرن التاسع عشر، والمعروف باسم "ستاندال"، فهو أول من قدم لنا وصفًا تفصيليًا لعدم معقولية الانبهار في أثناء زيارته لمدينة فلورنسا الإيطالية عام 1817، في كتابه "نابولي وفلورنسا: رحلة من ميلانو إلى ريجيو". إنه نوع من الاضطراب النفسي يأخذ بزمام الروح، ويفضي إلى تسارع ضربات القلب والدوار، وقد يبلغ حد الهلوسة والإغماء أمام سطوة جمال عمل فني، والوقوع في أسره. في عام 2011، استخدم اختصاصي البيولوجيا العصبية في كلية لندن الجامعية، الدكتور سمير زكي، أجهزة التصوير بالرنين المغناطيسي لتتبع النشاط العصبي في الدماغ، وتمكن من فك شفرة قوة الجاذبية. وأعلن أنه اكتشف المكان الدقيق الذي تتدفق منه جميع ردود الفعل الجمالية ـ فص بحجم حبة البازلاء يقع خلف العينين.
"ستيفان عاشق سرقه الفن، وصفته صحيفة "الغارديان" بأنه "سارق الفن الأكثر ثباتًا في العالم". وأُطلق عليه لقب "واحد من أكثر لصوص الفن غزارة ونجاحًا على الإطلاق"." |
قام فينكل ببحث مكثف ودقيق، واطلع على نظريات علم النفس، وتحقيقات الشرطة، ومذكرات المحكمة. كما أجرى حوارات مع عدد من المتورطين، بما في ذلك ستيفان نفسه، يقول في تعليق له: "لقد منحني سارق الفن، ستيفان بريتويزر، عشرات الساعات من المقابلات الحصرية، بل وزار معي متحفين. كانت تجربة غريبة، على أقل تقدير، القيام بجولة في متحف فني مع أحد أعظم لصوص الفن في العالم". بيد أن فينكل فشل في محاولاته لمقابلة الأم، أو إقناعها بأي تصريح، وكذلك آن كاثرين شريكته في الجريمة، وهو ما اضطره إلى الاعتماد على أقوالهما في الجلسات، وعلى كلام ستيفان عنهما، لصنع صورة تقريبية لا على وجه اليقين.
يتضمن الربع الأخير من الكتاب ما دار في قاعات المحكمة، حيث يستكشف "سارق الفن" الحصون والقلاع التي حفظنا فيها ماضينا بثقة وطرق أرشفته وتأمينه، بتحقيق المعادلة الصعبة بين إتاحته للعرض الحر، وإحباط أي محاولة للسرقة. تبلغ قيمة الأعمال الفنية المسروقة نحو 8 مليارات دولار سنويًا على المستوى الدولي، وهي رابع أكثر الجرائم انتشارًا، بعد الاتجار بالمخدرات، والأسلحة، وغسيل الأموال. وبرغم هذا، فإن معظم المتاحف والأماكن الأثرية تفضل اقتناء قطعة جديدة بدلًا من إنفاق الأموال على مجرد إجراء أمني. لهذا وغيره من القضايا التي أثيرت بشأن تلك الأماكن، وكيف يتم التعامل معها بطرق غير جميلة، يرى ستيفان نفسه محررًا للفن من قبضة الإهمال، فهو الأجدر بحماية تلك الكنوز من حفنة من البيروقراطيين، لكن منزل والدته لم يوفر لكنوزه أيضًا المكان الآمن، بعد أن تعرض كثير منها للتلف والدمار، والأفظع من ذلك كله أن ميريل حين علمت بالقبض على ابنها، قامت بإلقاء القطع التي لا تقدر بثمن في نهر الراين، حيث لمحها الزوجان قرب مغيب الشمس، وكثير منها أحرقته من دون وازع من ضمير، في ظلمات الغابة.