رحيل هيلين كارير دي انكوس: تنبأت بسقوط الاتحاد السوفياتي
بوعلام رمضاني 16 أغسطس 2023
هنا/الآن
شارك هذا المقال
حجم الخط
السياسة أفسدت العلاقة بين الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والفرنسي إيمانويل ماكرون، وأبعدتهما عن بعضهما البعض حتى قبل اندلاع الحرب في أوكرانيا، ولكنهما اقتربا قليلًا، ولو بحسابات دقيقة، بفضل الخصوصية المهنية والثقافية لشخصية ثقافية عاشت موزعة بين روسيا وفرنسا. إنها إيلين كارير دي انكوس المؤرخة التي توفيت يوم السبت الخامس من آب/ أغسطس في باريس عن عمر يناهز الرابعة والتسعين. هذه السيدة التي فرضت الاحترام على اليمين الذي تنتمي إليه، وعلى اليسار والتيارات السياسية المختلفة، تألقت تحت سماء تخصصها في روسيا لنصف قرن، وعاشت شامخة بشخصيتها المتميزة التي أدخلتها الأكاديمية الفرنسية عام 1990 بعد مارغريت يورسنار عام 1980 وجاكلين دي روميلي عام 1988، وأصبحت بعد تسعة أعوام سكرتيرة دائمة لها حتى تاريخ وفاتها. رغم عدم توفيقها في كل أطروحاتها، استطاعت أن تضفي على حضورها الأكاديمي اللافت صبغة نادرة، وخاصة بعد أن تنبأت بسقوط الإتحاد السوفياتي في كتابها الشهير "الأمبراطورية المنفجرة" الذي بيع كالخبز خلال الثمانينيات. سيذكر التاريخ أنها أجبرت العدوين اللدودين بوتين وماكرون على الاجتماع حول شخصيتها التي خدمتهما، وتكريمهما لها فور الإعلان عن وفاتها في حالة خاصة وغير مسبوقة بسجل التكريمات التي تحظى بها الشخصيات العلمية المرموقة. سيدة تاريخ روسيا التي أغمضت عينيها للأبد في سكينة كاملة حسب المقربين لها، أم للكاتب المعروف إيمانويل كارير، ولمارينا الطبيبة والصحافية الشهيرة التي تقدم برنامجًا تلفزيونيًا ناجحًا منذ عام 2000، ولنتالي المحامية. عملت أستاذة في جامعة السوربون، وتحديدًا في جامعة باريس بونتيون عام 1984، وفي كلية أوروبا للدراسات السياسية التابعة لأكاديمية العلوم الروسية بباريس. الراحلة متعددة الهوية العلمية والمهنية أيضًا، وعملت عضوًا في مفوضية الجنسية (1987 ـ 1988)، وحصلت على عدة جوائز من أشهرها "أميرة أستورياس" في العلوم الاجتماعية هذه السنة، وقائد الفنون والآداب (1996)، وجائزة السفراء (1997)، ودكتوراه فخرية من جامعة لافال بفرنسا (2005)، وميدالية لومونوسوف (2008)، ووسام الشرف القائد مع نجمة وسام الإستحقاق من جمهورية بولندا (2011)، ودكتوراه فخرية من جامعة القديس يوسف في بيروت (2016)، ودكتوراه أخرى فخرية من جامعة مونتريال ووسام الاستحقاق من جامعة لوفان الكاثوليكية.
وكما كان منتظرًا، اتخذ رحيل المؤرخة والسياسية والأكاديمية الشهيرة طابعًا غير مسبوق في تاريخ رحيل الفرنسيين الكبار والمتميزين. لأول مرة، يدخل قائد قوة أجنبية حلبة المعزين والمحتفين براحلة فرنسية عاشت وماتت على إيقاع ماضيها وحاضرها ومستقبلها. نعني بذلك، علاقة الراحلة بروسيا مسقط رأسها، ومجال تخصصها الذي جعل منها مرجعية فكرية لا يمكن تجاوزها عند الحديث عن بلد بوتين. بوتين التي حظي بتأييد وإعجاب الراحلة حتى تاريخ غزوه أوكرانيا، نافس الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون خصمه في نوعية التكريم الذي كان يجب أن تحظى به سيدة جمعتهما ميتة رغم أنفهما. الرئيس الفرنسي كان مثل غريمه بوتين من أوائل الشخصيات التي خصصت وقتًا ثمينًا لنعي سيدة تمثل فخرًا وطنيًا وتاريخيًا عند الاثنين رغم مرور عقود من بعدها عن روسيا وطنها الأصلي. وجاء في بيان الرئاسة الفرنسية فور الإعلان عن وفاتها: "تفقد فرنسا سيدة صاحبة مصير استثنائي، وحب خارق لوطننا وللغته وثقافته. السيدة التي عاشت وكبرت في وطننا الذي منحها الجنسية الفرنسية حينما كان سنها 21 عامًا، مؤرخة لامعة ومقتدرة استطاعت أن تصبح المرأة الأولى التي تقلدت منصب سكرتيرة دائمة للأكاديمية الفرنسية. امرأة في حجمها، تبقى حتمًا خالدة". الرئيس الفرنسي أعلن شخصيًا عن خبر تنظيم تكريم وطني للراحلة في نهاية الصيف بساحة الأنفاليد الشهيرة دون تحديد تاريخ معين. على غرار الرئيس الفرنسي، حاول من جهته الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ربط الراحلة بوطنه مؤكدا على مسقط ولادتها وتشبثها بروحه رغم "تحولها" إلى فرنسية. اللافت للنظر في تكريمهما للراحلة الكبيرة، الطابع المدروس للكلمات التي اختيرت للتعبير عن تنافس الرئيسين المتخاصمين أيضًا حول درجة ونوعية ورمزية علاقتها بوطني موليير وتولستوي وجدانيًا وسياسيًا وعلميًا وعائليًا. الرئيس الروسي بوتين الذي استقبل الراحلة عدة مرات، وحظي بتفهمها السابق لشخصيته ولتوجهه، عبّر في تكريمه عن حزنه لرحيل ابنة وطنه بقوله في تعزية أرسلها لأبناء الراحلة: "كانت الراحلة صديقة كبيرة لبلدنا، وعاشت وفية لجذوره التاريخية". إنني أتذكر بتأثر النقاشات التي جمعتني بهذه السيدة الفرنسية الكبيرة، وأنا متأكد أن إرثها الفكري والروحي سيلعب دورًا في التفاهم المتبادل بين شعوبنا". يجدر الذكر أن الإعلام الفرنسي لم يفوت الفرصة للتعليق على التضمين السيميولوجي الذي نطقت به كلمات تكريم الرئيسين المتخاصمين، وكما كان منتظرًا، لم يعجبه تكريم الرئيس الروسي الذي ناور مجددًا في تقديره مستغلًا وفاة سيدة اشتهرت فرنسية أولًا وأخيرًا.
تنبأت هيلين كارير دي انكوس بسقوط الإتحاد السوفياتي في كتابها الشهير "الأمبراطورية المنفجرة" الذي بيع كالخبز خلال الثمانينيات |
السيدة الوقورة حافظت على أناقتها البرجوازية، وعلى صحتها ومظهرها الجذاب رغم تقدمها في السن، ولم تنفرد بتخصصها العلمي المذكور فحسب، بل أيضًا بأرثوذكسيتها الفكرية المدافعة عن الصفاء اللغوي (إن جاز التعبير)، ولم تكن من فصيل الداعين إلى التثوير اللغوي باسم المساواة بين الرجل والمرأة في كل الحالات الاجتماعية والسيكولوجية والثقافية. رغم تحفظ كثر من المثقفين النخبويين وغير النخبويين على توجهها، دخلت نادي السيدات المثقفات اللاتي ينزعن التقدير من الخصوم الأيديولوجيين، وارتدت البذلة الخضراء الساحرة مثلها مثل يوسا ماريو فارغاس الذي لم يكتب كلمة واحدة باللغة الفرنسية وعمل على الترويج لها فقط، الأمر الذي أكد خلفيات الانتساب البعيد عن معنى دخول الأكاديمية الفرنسية العتيقة والرمزية. إنها نتاج محيط عائلي وثقافي مزدوج بحكم ولادتها عديمة الجنسية (1929 ـ 1950) في باريس يوم السادس من تموز/ يوليو عام 1929 باسم والدها زورا بيشفيلي الجورجي الأصل (نسبة إلى جورجيا التابعة سابقًا للاتحاد السوفياتي) ووالدتها الروسية الألمانية. هاجرت عائلتها إلى فرنسا كالكثيرين الذين هربوا من مخلفات ثورة البلاشفة عام 1917 على حد تعبير محرر مجلة "تيليراما" الثقافية اليسارية. عاشت الراحلة التي أصبحت فرنسية في سن الواحدة والعشرين طفولة فقر حرمتها من حياة مادية مريحة، وهي الطفولة التي كانت غنية فكريًا وتربويًا بحكم ترعرعها في كنف عائلة احتلت فيها القراءة مكانة مصيرية بعدة لغات. إيمانويل ابنها كشف عن هذه الحقيقة عام 2007 في روايته "رواية روسية" متحدثًا عن جده الذي عمل مترجمًا للألمان خلال الحرب قبل أن يختفي بعد تعرضه للاغتيال قبل التحرير بقليل، وحينما كان سن ابنته الراحلة لا يتجاوز الخامسة عشرة. والمؤرخة الذائعة الصيت عملت عضوًا في الهيئة الإستشارية الرابعة للبرلمان الأوروبي ممثلة لحزب التجمع من أجل الجمهورية اليميني "أر بي أر" بين أعوام 1994 و1999.
"أجبرت العدوين اللدودين بوتين وماكرون على الاجتماع حول شخصيتها التي خدمتهما، وتكريمهما لها فور الإعلان عن وفاتها في حالة خاصة وغير مسبوقة بسجل التكريمات التي تحظى بها الشخصيات العلمية المرموقة" |
لم يمنعها التأزم العائلي من شق طريقها نحو النجاح التعليمي، واستطاعت أن تبرز في باريس كطالبة في العلوم السياسية، وأن تحصل على شهادة الدكتوراه والجنسية الفرنسية بسرعة لافتة. جعلت من نفسها مرجعية علمية جادة وجديدة في وقت قياسي بتخصصها في بلد محيطها الأصلي، وذلك بشروعها في التركيز على تاريخ روسيا وما يحاذيها من بلدان. بعد زواجها، انطلقت بكتبها اللافتة وتحليلاتها السياسية التي دارت حول الإمبراطورية القيصرية السابقة أو منطقة النفوذ الروسي. كما أسلفنا الذكر، أصدرت دار "فلاماريون" عام 1978 كتابها المدوي والمنتظر "الإمبراطورية المنفجرة" الذي أكد مهارتها الأكاديمية، وصحة تكهنها بانهيار الاتحاد السوفياتي. ابنة الفيلسوف والإقتصادي الجورجي زورا بيشفيلي ونتالي فون بيلكن، الألمانية الروسية وشقيقة نيكولاس، أظهرت موهبة مبكرة في وسط عائلي متعدد اللغات، فتعلمت اللغة الروسية أولًا، ثم اللغة الفرنسية في الرابعة والنصف من عمرها رفقة أصدقاء والديها في بريتاني شمال فرنسا. استقرت لأول مرة في بوردو، وغادرت المدينة إلى باريس مع والدتها بعد اغتيال والدها عام 1944. في باريس أخذت دروسًا في الأدب الروسي، ودخلت ثانوية موليير. عملت أستاذة زائرة في العديد من المؤسسات الأميركية الشمالية واليابانية، ورئيسة مجلس إدارة إذاعة السوربون من 1984 إلى 1985، وكانت عضوًا في لجنة دعم ترشيح الراحل ريمون بار عام 1988. أصبحت عام 1992 رئيسة اللجنة الوطنية "لنعم" في ماستريخت، وهي اللجنة التي أنشأها جاك لانغ غير اليميني سياسيًا مثلها، وقالت يومها عن معاهدة ماستريخت: "إنها البوابة التي يجب علينا عبورها للمضي قدمًا". خلال العام نفسه، أنشأت مع كوفي يامنان وكلود سيريون مؤسسة التكامل الجمهوري، واشتغلت مستشارة لجاك أتالي، رئيس البنك الأوروبي للإنشاء والتعمير، من منطلق حث ومساعدة الدول الشيوعية على التحول الإقتصادي. قبلت عام 1994 بطلب من الرئيس الراحل جاك شيراك أن تكون مرشحة في الانتخابات الأوروبية، واحتلت المرتبة الثانية بعد الراحل دومينيك بوديس في قائمة حزب "الاتحاد الديمقراطي الفرنسي" (أو دي أف). ولقد خاضت تجربة سياسية لافتة كما هو واضح، وإضافة إلى كل ما قيل عن تجاربها السياسية، عملت نائبة لرئيس لجنة الشؤون الخارجية والأمن والسياسة الدفاعية خلال فترة ولايتها كعضو في البرلمان الأوروبي، ورئيسة لجنة المحفوظات الديبلوماسية عام 1993، ورئيسة العلوم الإنسانية في المركز الوطني للكتاب وأحدثت ضجة إعلامية في نوفمبر عام 2005 في عز انتفاضة الضواحي معبرة عن موقف منسجم مع توجهها، ويومها قالت ما قاله يساريون كثر أيضًا: "لماذا يتواجد أبناء الأفارقة في الشوارع بدل المدارس، ولماذا يتزوج الرجال بعدة نساء في شقة واحدة وينجبون الكثير من الأطفال؟".
تركت الراحلة عددًا هامًا من الكتب المرجعية والمقولات التي تؤكد تجذرها في تاريخ وطنين تنازعاها ووظفاها سياسيًا حية وميتة. من أهم كتبها "الصراع الكوري 1950 ـ 1952" (1959)، "الإصلاح والثورة بين المسلمين في الإمبراطورية الروسية" (1966) مع مكسيم رودنسون، "آسيا الوسطى: قرن من الحكم الروسي" (1967)، "اتحاد الجمهوريات الإشتراكية السوفياتية والصين قبل الثورات في المجتمعات ما قبل الصناعية" (1970)، "الاتحاد السوفياتي: من لينين إلى ستالين" (1972)، "ألفا عام من المسيحية" مع رينيه ريموند وجان لويس مونيرون (1975)، "السياسة السوفياتية في الشرق الأوسط" (1976)، "لينين: الثورة والسلطة" (1979)، "ستالين: النظام من خلال الإرهاب" (1979)، "السلطة المصادرة: الحكام والمحكومون في الاتحاد السوفياتي" (1980)، "لا سلام ولا حرب: الإمبراطورية السوفياتية الجديدة أم الاستخدام الجيد للإنفراج" (1986)، "روسيا: التحول الفاشل" (2005)، "قرون من الخلود: الأكاديمية الفرنسية" (2011)، "الجنرال ديغول وروسيا" (2017)، "روسيا وفرنسا: من بطرس الأكبر إلى لينين" (2019).