الجسَد وخضوعه: من بيو سُلطة الإله لبيو سُلطة الاستهلاك

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • الجسَد وخضوعه: من بيو سُلطة الإله لبيو سُلطة الاستهلاك



    الجسَد وخضوعه: من بيو سُلطة الإله لبيو سُلطة الاستهلاك
    أحمد عبد الحليم 26 يوليه 2023
    اجتماع
    سعد بن شفاج، المغرب
    شارك هذا المقال
    حجم الخط



    الجسد وما وراء تَمظهره وحركته من ثقافات تتنوع مرجعياتها الدينية والاجتماعية. والجسد يقف ويركع ويسجد وينكمش، في فضاءات مكانية وزمانية. والجسد يقف ويمشي ويرقص ويتمدد، في أفضية أخرى. ومن هنا أحاول، بإيجاز شديد، طرح اشتباك مع بيو سُلطة [1]، سواء بيو سُلطة (Bio Power) الإله، عبر سؤال: كيف يهندس الله أجسادنا، عبر نصوصه الدينية التي تملي بعض الممارسات التعبدية، والتي طواعيةً، يمارسها الجسد؟ وفي المقابل، كيف صنعت النيوليبرالية، عبر الاستهلاك، إيماءات أُخرى يمارسها الجسد، وبدورها كوّنت بيو سُلطة أُخرى، هي بيو سُلطة الاستهلاك [2].

    كما نحاول رصد أبرز الممارسات، الاشتباك مع التقاطع بين البيو سُلطتين، الإله والاستهلاك، لنرى ما هي أوجه التشابه والتباين، وما هي أوجه التحوّل التي ربما شهدتها بعض الأجساد، من بيو سلطة الإله إلى بيو سلطة الاستهلاك، والاختلاف بين بيو سُلطة تُملي على الجسد إيماءاتها، وتعطيه فرصة الاختيار، وأُخرى تملي ممارساتها، كراهيةً، على الجسد، بل وتعاقبه في حال امتناع تنفيذ ما تُمليه عليها.

    بيو سُلطة الإله

    كل تمظهرات وحركات الجسد نابعة من عادات ثقافية واجتماعية اكتسبها في مراحل عمرية مُختلفة، ومن خلال هذه التمظهرات يعبّر الجسد عن دوره اليومي في العيش وسط هذا العالم. وهذا تتَبعه عالم الاجتماع الفرنسي مارسيل موس فيما سمّاه (تقنيات الجسد)، محاولًا الاشتباك مع هذه المُحددات، الثقافية والاجتماعية التي أصبحت "تقنية"، أدت إلى تكوين تمظهر وممارسة للجسد[3]. الإله عبر نصوصه السماوية، في الديانات الإبراهيمية، الإسلام (القرآن والسنَّة) على سبيل المثال، أملى على من هم مؤمنين به، إتباع بعض التعاليم التعبّدية الخاصة بالجسد، بداية من تَمظهره، ماذا يكشف وماذا يغطى منه، عند الرجل وعند المرأة تحديدًا، وقد اختلف جسد كل منهما في التعليمات الإلهية، فالمرأة يُغطى منها أكثر ما يُغطى من الرجل. على سبيل المثال، شعر المرأة ليس كشعر الرجل، وصدرها ليس كصدر الرجل. وهذه هي دلالة على أن الإله يفرّق بين جسديهما من حيث كيفية التمظهر للآخر، كما اختار الله عبر نصوصه من هو الآخر، الذي يستطيع رؤية ما لا يمكن رؤيته إنسان آخر، سواء للرجل وبالأخص المرأة [4].

    إيماءات الجسد الحركية في فضاءات زمنية ومكانية مُعينة، الصلاة مثلًا، وقوف الأيدي والأرجل في وضع واستقامَة مُحددة، الركوع ثم السجود، ثم تكرار هذه السيميائيات لمراتٍ مُحددة، وبهذا يوصل الإنسان إيمانه بما يعتقده، عبر هذه الممارسات. وقد أملى الله على هؤلاء المؤمنين بعض التعليمات تحت مسمّى "الطهارة" من أجل ممارسة طقوس الاعتقاد، مثل عدم الصوم أو الصلاة أو حتى قراءة القرآن حين يكون الجسد غير مُتطهر، أي عليه نجاسة بأنواعها المُختلفة والتي أيضَا ذكرتها النصوص الدينية، وهذه مسألة فقهية كبيرة، تُعرف بـ "باب الطهارة".

    كذلك الرسم على الجسد، بأنواعه فيما يعرف بالوشم "التاتّو"، وهو مُحرّم شرعيَا حسب فتوى مؤسسة "الأزهر الشريف"، إذ لا يجوز الرسم على الجسد، بما أن هذا الجسد ليس فقط يملي الإله عليه تقنيات وممارسات يعيش ويتعبّد وفقًا لها، بل من الأساس الجسد ملك الإله، الذي بدوره يتحكم فيه وفقًا لسياساتٍ حيوية (Bio Politics) مُختلفة، تفسرها نصوص دينية وشرعية. تُملي عليه كيف يعيش (يمارس الجنس) ويتمَظهر ويتعبّد [5]. ومن خلال هذه النصوص، يقع الجسد تحت بيو سُلطة إلهية، تُمارس عليه، بالطواعية، خضوعًا لها، عكس ما تُمارسه البيو سُلطة العقابية، والتي تتمثل في مؤسسات العقاب والسجن، بالإكراه، خضوعًا لها.

    بيو سُلطة الاستهلاك

    أما بيو سُلطة الاستهلاك فتُملي على الجسد تمظهرات وإيماءات، لكن ليس عبر النصوص الدينية، بل من خلال الأدوات الثقافية، خاصة المرئية التي تروج للسّلع، والجسد فضلًا عن كونه مساحة لعرض هذه السلع، أصبح، في زمننا المُعولم، أيضًا هو سلعة، يجب أن تتشكّل وتَتمظهر بصورة مُعينة تُرضي النيوليبرالية وفضاءاتها ومُستهلكيها. على سبيل المثال، جسدا الرجل والمرأة، لا سيما الجسد المثالي، الذي يظهر في إعلانات الشركات، وفي صناعة الميديا والفن، السينما والدراما والمسرح والرقص والعروض المرئية باختلافها. هنا الجسد المعروض، يجب تشكّله بمواصفات مُعينة، جسد منحوت للإثارة والإغراء، من أجل نيل رضى الجماهير التي تشتري وتشاهد، حتى أصبح، مع الوقت، حسب وصف عالم الاجتماع البولندي زيجمونت باومان "جسدًا استهلاكيًا، ليس ملكا للإنسان نفسه، بل ملكًا للجميع بصورته المثالية الذي يستحيل نقصانها" [6].

    في أماكن السهر الليلية، باختلاف مسمّياتها، يتراقص مُريدوها على الألحان الموسيقية المُكررة، في إشارة هنا إلى أن الجسد أصبح في طقوس طوعيّة لممارسة إيماءات مُعينة، في فضاءات زمنية ومكانية مُحددة ومُكررة. وهنا الجسد، وقع طواعيةً تحت بيو سُلطة الاستهلاك، التي أملتْ عليه مُحددات تَمظهره ووجوده، تمظهر معين، وحركات معينة، حتى إيماءات الجسد نفسها تتماهى وتختلف، تُسرع وتُبطئ، حسب عمران المكان، فضلًا عن الموسيقى ذاتها، فكل لحنٍ موسيقي له إيماءاته الجسدية التي يُشكّلها، وهذا ما أخضع الجسد، طواعيةً، لطقوس يمارسها بشكل دوري وروتيني.
    وفقًا للفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو، فإن السلطة في العصر الحديث تتسم ليس بالتحكم في حوافز وحركات الجسد، بل أيضًا بالتحكم في الحياة والممات والتوالد
    وعلى الرغم من هذا، لا يمكن إطلاق مصطلح "تحوّل أو انتقال" على أجساد بعينها، من خضوعها من بيو سلطة الإله إلى بيو سُلطة الاستهلاك. فهنا التحول من وإلى والعكس، ديناميّ بامتياز، فَعملية التغيير الثقافي التي يتبعها تغيير تمظهر وممارسة الجسد هي عملية مستمرة، بشكل دوري يخضع فيها الإنسان/ الجسد إلى تبني ثقافات متحولة ومتباينة ومتقاطعة، فربما من كانت لديه مرجعية دينية، تديّنية بمعنى أصح، وكان يهندس جسده وفقًا لإملاءات إلهية، أصبح الآن، واقعًا تحت مرجعية مُغايرة، يكون فيها الجسد على التضاد، من الحشمة إلى العري، ومن السكون إلى الرقص، ومن السجود إلى القفز. والعكس صحيح، وربما يجمع الإنسان/ الجسد بين كل هذه الإيماءات والتمظهرات في ذات اليوم، في فضاءات تعبدية يحتشم، يقف ويسجد، وفي فضاءات الاستهلاك، يتمظهر متنازلًا عن الاحتشام، ويَقفز ويرقص... وهكذا.

    هذه الإملاءات الإلهية والاستهلاكية بامتياز هي طوعية، وليست إجبارية، حتى وإن كانت لها وعود مباشرة وغير مباشرة بالعقاب. إذ الإله يعد، عبر نصوصه، بعقاب من لا يُطيع إمَلاءاته الخاصة بالجسد، عبر عذابه في ما بعد الدُنيا. فضاءات الاستهلاك تُعاقب من لا يتّبع الإملاءات الخاصة بالتَمظهر والممارسة، عبر النبذ المُجتمعي (الطبقي)، فضلًا عن عدم السماح له بالوجود داخل فضاءاتها. وهذا على عكس السُلطويات التي تتحكّم مباشرةً في الجسد، مثل مؤسسات العقاب والسجون، التي تضرب وتسجن وتُعيّش الجسد تحت سيميائيات الإذلال والخضوع المُختلفة [7].
    "الإملاءات الإلهية والاستهلاكية بامتياز هي طوعية، وليست إجبارية، حتى وإن كانت لها وعود مباشرة وغير مباشرة بالعقاب. إذ الإله يعد، عبر نصوصه، بعقاب من لا يُطيع إمَلاءاته الخاصة بالجسد، عبر عذابه في ما بعد الدُنيا، وفضاءات الاستهلاك تُعاقب من لا يتّبع الإملاءات الخاصة بالتَمظهر والممارسة، عبر النبذ المُجتمعي"
    تتشابه سيميائيات العقاب مع سيميائيات البيو سُلطتين، الإله والاستهلاك. حيث تتقارب ممارسات بيو سُلطة الإله مع بيو سُلطة السياسة (العقاب والسجن)، والذي يكمن في الوقوف والركوع والقرفصة وعدم ممارسة أي إيحاءات جنسية. كما التشابه في بيو سلطتي الاستهلاك والعقاب، في ممارسات أخرى (منها ما لاحظته بشكلٍ شخصي)، وهى الختم على رسغ اليد، ففي حفلات النيوليبرالية لا تكتفي الجهة المُنظمة بشراء التذاكر، بل تختم على رسغ أيدي جمهورها، بأي ختم يرسم عليه شعار (لوغو) المكان، صورة مُغني، اسم الحفلة، جملة بعينها، إلى آخره. وهذا تماما ما يتشابه مع ختم زيارة السجون، حيث السجناء قبل دخول الزيارة، تختم السُلطة على رسغ أيديهم، ويكون الختم باسم "سجين"، سواء كان محكوما عليه أو ما زال قيد التحقيق، وهذا من أجل مراقبة السجناء وضمان تعليم أجسادهم، كنوع من مقاومة تفكير أي سجين بالهروب من السجن. كما تمظهر الجسد من خلال توحيد لباس جمهور الحفل ونزلاء السجن.

    لكن تختلف البيو سلطة السياسية في مؤسسات العقاب والسجن عن البيو سُلطتي الإله والاستهلاك، فهناك إملاءات في الجميع، لكن إملاءات الأخيرتين طوعيتان، فيهما يستطيع الجسد عدم الخضوع، بل والابتعاد أو التقرب منهما، حيثما شاء في أي وقت من حياته، لكن في الأولى، لا يتمكن الجسد من الاختيار، إذ عليه أن ينفذ هذه الممارسات وإلّا تعرّض للعقاب الشديد من السُلطة، وهذا مفهوم، إذ هي سُلطة بالأساس تمتلك جسد سجينها، وتعامله وفقًا لمنطق الامتلاك، وتعمل على هندسته عبر تفكيكه وإعادة بنائه مرة أُخرى، وفقًا لثقافتها، ثقافة الخضوع والإذلال.

    هوامش

    1- وفقًا للفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو، فإن السلطة في العصر الحديث تتسم ليس بالتحكم في حوافز وحركات الجسد، بل أيضًا بالتحكم في الحياة والممات والتوالد حسب تقنيات معقدة تمتد حتى إلى مراقبة السلوك البيولوجي للسكان population. يجمل فوكو الاستراتيجيات التي تتدخل في تنظيم الحياة العضوية تحت اسم البيو- بوليتيك أو البيو- سياسة، Bio-politique. وهنا، بما أن السياسات الحيوية، منبثقة من سُلطة حيوية، تخص الجسد، سواء إلهية أو استهلاكية أو سياسية عقابية، سنتحدث بالمفهوم المجرد عن السُلطة الحيوية، BIO POWER. حول البيو سُلطة. أنظر: ميشيل فوكو، تاريخ الجنسانية: إرادة العرفان، ترجمة محمد هشام، أفريقيا الشرق، المغرب ط1 2013، ص 116.

    2- الإيمائِـية، ولها أسماء ومُصطلحات عدة، منها (السيميولوجيا/ Semiology، السيميوطيقا/ Semiotics، السيميائيات/ السيميائية/ السيمياء، علم العلامات/ العلاماتية، وعلم الرموز، علم الإشارات/ الإشاراتية، علم الأدلة/ الدلالية). ونقصد بها هنا حركةَ الجسد ونمط اللغة داخل الفضاء السِّجني. وقد عـرَّفها العالمُ اللغوي السويسري فرديناند دي سوسير بأنّها "دراسةُ حياة العلامات داخل الحياة الاجتماعية". للمزيد أنـظر: سعيد بنكراد، السيميائيات: مفاهيمها وتطبيقاتها، دار الحوار للنشر والتوزيع، ط 1 سورية 2012، ص 9.

    3- مارسيل موس- تقنيات الجسد ومقالات إناسية أُخرى، ترجمة محمد الحاج سالم، دار الكتاب الجديد، ط1 بيروت 2019. للمزيد. أنظر. الحسين طَلبوي، حول كتاب "تقنيات الجسد: ومقالات إناسِية أخرى"، منصة معنى الثقافية، نشر في 21 تشرين الأول/ أكتوبر، 2020.

    4- هنا لست في محل مناقشة النصوص الدينية (الإسلامية)، في مدى تفسيرها بخصوص تمظهر جسد الرجل والمرأة، الواجبة فقهيا من عدمها، بل أذكر بشكل مبسط أمثلة مثل الشعر والصدر، واختلاف تعاطي النصوص الدينية معهما، وذكر القرآن والسنّة، بما أنهما مصدران مشرعان للإسلام، كنوع من اهتمام النص بالجسد. وهذا تمامًا لا ينفي تعاطي الجسد بشكل مُختلف، عبر نصوص دينية أُخرى، المسيحية واليهودية مثلا، وإملاءاتهِما حول تشكّل الجسد وتَمظهره وسلوكه.

    5- الأزهر يفتي بحرمة الوشم للرجال والنساء ويعتبره "من كبائر الذنوب"، بي. بي. سي عربي، نشر في 14 آب/ أغسطس 2021

    6- زيجمونت باومان، الحياة السائلة، ترجمة حجاج أبو جبر، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، ط1 بيروت 2019، ص124.

    7- للمزيد حول مرئيات الحياة السجنّية، أنظر: أحمد عبد الحليم، من يمتلك حق الجسد: قراءة في الحياة السجنّية، أمم للتوثيق والأبحاث، ط1 بيروت 2022.
يعمل...
X