عن مفهوم الكذب في تاريخ الإنسان وحاضره
باسم سليمان 19 يوليه 2023
اجتماع
(gettyimages)
شارك هذا المقال
حجم الخط
تساءل جاك دريدا (1) ذات مرة عن إمكانية كتابة تاريخ حول مفهوم الكذب، ما دام التاريخ الإنساني يعتوره الكذب؟ فالتاريخ الإنساني قد كُتب بشكل سياسي، والسياسة تعتبر أرض الكذب الخصبة، وفق ما شرحت حنة أرندت في كتابها: السياسة والحقيقة. لكن مع أحقية تساؤل دريدا، ولأنّ المفاهيم تستند في تعريفها إلى أضدادها، فتدرك الحقيقة بمقابلتها بالوهم، والواقع بالخيال، والكذب بالصدق، تبدو المهمة مستحيلة، لكن كما قال فرانسوا نودلمان (2) بأنّ إدانة الكذب أخلاقيًا منعت علينا اكتشاف طابعه المعقّد والغني. هذه الإدانة الأخلاقية للكذب بموضعته في مقابل الصدق، حوّلت الكذب إلى مجرد نفي للصدق، لكن وجوده يدور مع مدار الصدق، ممّا يعيدنا إلى استفسار دريدا عن كيفية كتابة تاريخ صادق عن مفهوم كاذب من دون أن نقع في شرك الخداع! لكنّ التخفيف من حدّة الحكم الأخلاقي يفتح لنا مفهوم الكذب على مصراعيه في تاريخ الإنسان وحاضره.
يقول الفيلسوف مونتين (3) بأنّه: "لو لم يكن للكذب - وللحقيقة بالمثل- سوى وجه واحد، فنحن إذًا بألف خير. لأنّنا حينها، سوف نحسب الحق ذلك النقيض لما يتفوّه به الكاذب، لكن الوجه الآخر، هو أنّ للحقيقة ألف وجه ومدى لا ينتهي". وهذا يعني بأنّ للكذب ألف صيغة وصيغة، وليس أوّلها، بأنّه مضاد للصدق! لنأخذ على سبيل المثال، لتبيان مقولة مونتين؛ الخدعة العظيمة المسماة: حصان طروادة، للقائد أوديسيوس عند هوميروس والتي بسببها هُزمت طروادة على أيدي الإغريق. لقد اختار أوديسيوس الحصان شكلًا لخدعته، لأنّ أهل طروادة كانوا من مربي الخيول، وسيلقى التمثال الضخم للحصان هوى في نفوسهم، بحيث يذهلهم عن الخداع الذي يكتنفه، وسيُسكت أيّة أصوات معارضة متيقّظة لِما يمكن للهدية أن تحمله من مكر. يذكر لنا التاريخ بأنّ الشطرنج كان من الوسائل التي استخدمها الجنود الإغريق لقضاء الوقت في حصار طروادة الذي استمر لسنوات. ومن هذه اللعبة جاءت خدعة الحصان لأوديسيوس. والمعروف بأنّ حركة الحصان على رقعة الشطرنج تشبه حرف اللام (L)، فهو ينطلق مستقيمًا ثم ينحرف بزاوية قائمة. إذًا حركة الحصان بذاتها، هي شكل الخدعة التي كثيرًا ما ذكرت في آداب الحروب من أيام القائد الصيني سون تزو صاحب كتاب فنّ الحرب.
هذا الشكل لحركة الحصان أو حرف (L) كان يشبه قمرة القبطان في رواية جوزيف كونراد الشريك الخفي، والتي استخدمها كونراد للتعبير عن خفايا النفس البشرية. وبالعودة إلى أوديسيوس، فهل حقًا قام بخداع الطرواديين، أم قدّم لهم حقائق يعرفونها جيدًا، فلماذا خدعوا ولم يتبيّنوا؟ مع أنهّم أهل الأحصنة ويلعبون الشطرنج، ويعرفون حركة الحصان المخاتلة الممثّلة بهدية أوديسيوس؟ يذكر لنا التاريخ، بأنّ الإله هرمس بعد ولادته بيوم واحد، قام بسرقة قطعان الإله أبولو. وعندما اتهمه أبولو وهو ممثلٌ للعقل في الثقافة الإغريقية، ردّ عليه مجمع الآلهة بما معناه، كيف له أن يفعل ذلك وهو مجرد وليد صغير. هكذا حار ردًّا إله العقل أمام التبرير العقلي الذي قُدم له! إنّ التعداد اللامنتهي للحقائق، هو ما يسمح للكذب، بأن يكون فعّالًا لهذه الدرجة، وموجودًا بفعالية عبر تاريخ الإنسان.
تقدّم لنا الديانات السماوية تنبيهات بألّا نكذب، وأن عاقبة الكذب كبيرة، وأن آدم لو لم يقع ضحية لكذب الشيطان ما كان هبط من الجنة. لن ندخل في مماحكة، بأنّ الشيطان قال حقًّا، لكنّه أراد به باطلًا، بل سنقدم مثالًا من أبرز فيلسوف في تاريخ البشرية، والذي ما زالت مقولاته نافذة، أي أفلاطون. فعندما أراد أفلاطون أن يبني مدينته الفاضلة لجأ إلى (الكذبة) نضعها بين قوسين، لأنّه كما أوضح نولدمان نقلًا عن مونتين، بأنّ (الكذبة) تتلخّص بقول خاطئ دون قصد الإضرار، فيما ذمّ (الكذب) المطلق، لأنّه يتجلّى باختلاق خديعة عن وعي وإرادة، مع قصد الإضرار. لقد قسّم أفلاطون أهل المدينة الفاضلة وفق تدرّج المعادن، الذهب، ومن ثم الفضة، أخيرًا النحاس، وادعى أنّ هذا التقسيم من صنع الآلهة، ولا إمكانية لنقضه. وبالطبع أهل الذهب هم حكام المدينة، وأهل الفضة هم حراسها، وأهل النحاس هم العوام الذين لا شأن لهم. لنا الحق أن نتساءل كيف تُبنى مدينة فاضلة على خداع أهلها، حتى لو كانت الكذبة منزّهة عن الإضرار وفق ما اِرتأى صانعها!
يذهب خوان رنخيل (4) إلى أن التجمع البشري لم يكن ليتم لولا ملح الكذب! وإذا نظرنا إلى الطبيعة وخاصة حيواناتها بأنّها جميعًا تمارس الخداع للبقاء على قيد الحياة، فالخطوط التي تلّون جلد حمار الوحش تساعده في التماهي مع الطبيعة من حوله. كذلك ذات الخطوط تسمح للنمر أن يتخفّى جيدًا عن طريدته. وبناءً عليه، أليس الإنسان مخلوق الطبيعة الأعز، هو أكثر المخلوقات استخدامًا للكذب لضرورته الحاسمة!
"اختار أوديسيوس الحصان شكلًا لخدعته، لأنّ أهل طروادة كانوا من مربي الخيول، وسيلقى التمثال الضخم للحصان هوى في نفوسهم" |
تقدّم لنا مصر الفراعنة أوائل القصص عن الكذب (5) بأنّه قد كان الأخ الأصغر للصدق. وحدث أن استعار الصدق مدية أخيه، لكنّه أضاعها، وعندما عرض عليه مدية أخرى تشبهها رفض الكذب قبول ذلك، واشتكى إلى مجمع الآلهة، وشرع بوصف مديته بطريقة مجازية بحيث لا يمكن لأية مدية في العالم أن تضاهيها. هكذا ذهبت محاولة الصدق بتعويض أخيه هباءً، وحكمت المحكمة عليه بسمل عينيه والجلوس بوابًا على باب بيت الكذب. وتدور الأيام وتعجب امرأة غنية بالصدق الأعمى، فيضطجع معها وينجبها ولدًا. وتدور رحى الأيام، ويكبر الولد، ويعيّر بأنّه مجهول النسب، فيذهب لأمّه، فتخبره بأنّ الصدق هو والده، فيكرمه ويقرّر أن ينتقم من الكذب. يبتكر الولد خطّة محكمة، وذلك بأن يضع لدى راعي قطعان الكذب ثورًا جميلًا ويخبر الراعي إن حفظه له لمدّة معينة، فسيعطيه هدايا كثيرة ما إن يعود ليستلم منه الأمانة. يغيب ابن الصدق، ثم يعود بعد زمن، ليجد أنّ الكذب قد أعجب بالثور وذبحه، فيشتكيه لمجلس الآلهة، ويصف ثوره بأوصاف هائلة، بحيث لا يمكن لأي ثور أن يماثله. وفي الوقت نفسه يرفض عروض الكذب بأن يهبه أي ثور يختاره من قطيعه. ترفض الآلهة طلب ابن الصدق، فهذا الثور الذي يصفه لا يمكن أن يوجد! وهنا يتدخّل ابن الصدق ويذكّرهم بقضية أبيه، وكيف صدّقوا الأوصاف الخيالية التي أوردها الكذب عن مديته، ولم يصدّقوا ذات الأوصاف التي أوردها هو عن ثوره. وهنا سقط في يد الآلهة، وحكموا على الكذب بالعماء وأن يجلس بوابًا على بيت الصدق.
هذه القصة خطيرة الدلالة، وتقوّض التعارض بين الصدق والكذب، فابن الصدق لم يكن لينتصر في دعواه لولا الكذب. والأكثر دلالة بأنّ بواب الصدق هو الكذب، وبواب الكذب هو الصدق! قال القديس أوغسطين بأنّه يمكن للإنسان أن يقول أشياء صادقة ويكون كاذبًا ويقول أشياء خاطئة ويكون صادقًا، لكن من يستطيع أن يعرف النوايا؟
نعود إلى مقولة مونتين بأنّ تعددية أوجه الحقيقة هي ما تسمح للكذب بهذا المدى الخلّاب لفعاليته في وجود الإنسان، بل وضرورته. أراد الفيلسوف الأخلاقي كانط بأن يجعل من رفض الكذب عامًا، بحيث لا يمكن الكذب تحت أية مصلحة وضرورة. وعدّ الكذب شرَا مطلقًا، وضرب مثلًا، بأنّه لو التجأ شخص إلى دار شخص آخر خوفًا من قتلة يطاردونه، لا بدّ أن يخبرهم الحقيقة، حتى لو قتلوا هذا الشخص البريء المختفي بالداخل! هذا التطرّف الأخلاقي دفع ببعض المفكّرين للهزء من أخلاقية كانط الأكثر شرًا من الكذب ذاته. هذه الشفافية أو الصدق المطلق الذي يدعو إليه كانط يذكرنا بالسجن الذي ابتكره جيرمي بنتام وأسماه بانوبتيكون (والذي يعني: الذي يُرى منه كل شيء) وتحوّل إلى إحدى سمات المدن الديستوبية وما يمثله من إرهاب الأخ الأكبر الذي يريد أن يعرف كل شيء. إن صدقًا من هذا النوع مع التنوعات الكبيرة لطبائع البشر سيؤدي إلى انهيار المجتمع البشري، ولهذا كان القدماء واعين جدًا لأهمية الكذب مع إدانته، فأفلاطون سمح بالكذب للطبيب لفائدة المريض، والقادة لمصلحة المجتمع، حتى أنّ أحد المفكرين الكريتيين نسبة لجزيرة كريت ويدعى إيبيمنديس، وذلك قبل الفلاسفة العظام – سقراط ، أفلاطون ، أرسطو- الذين صبغوا البشرية بأفكارهم، سخر من هذه القسمة الحدّية بين الكذب والصدق قائلًا: (كلُ أهل كريت كاذبون). هذا الكريتي، هل كان يقول الحقيقة/ الكذب، عندما قال جملته! هذه المناقضة؛ كما يسميها أهل الفكر، حاول الرياضي والفيلسوف برتراند راسل أن يحلّها عبر رفضها، لأنّها تصادر القدرة على الحكم. فيما ذهب إلياس كانيتي إلى إعطاء سامع هذه المقولة الحقّ في منحها الصدق أو الكذب. مهما يكن، فهذه المناقضة تكشف عن قدرة الإنسان على قول شيء يكتنفه بعض التناقض، لكنّه – أيضًا- مدعوم بالحجة العقلية ويكون في الوقت نفسه كاذبًا.
في القصة الأساس يُشنق بينوكيو بسبب كذبه، لكن بسبب نجاح القصة التي نُشرت مسلسلة بإحدى الجرائد طلب رئيس التحرير من كولودي أن يعدّل النهاية كما نعرفها الآن |
"رفض جاك دريدا الكذب على النفس، مع أن حنة أرندت أقرّتها في معرض الكذب السياسي وخاصة في الأنظمة الشمولية" |
وبعد أن بيّنّا غنى كلمة الكذب، سنيمّم شطر مقالنا نحو أجمل وأبدع ما سطره الفلاسفة من أفكار، كان الكذب اليد الخفية التي تحرك الماريونيت الإبداعية لهم. رويدًا رويدًا، بدأت تظهر لنا الطبيعة المعقّدة للكذب والأهم غناه الذي ينقذ الحقيقة من عريها المنفّر، والصدق من بلاهته.
أنف بينوكيو المبدِع
كتب كارلو كولودي قصّته بينوكيو، بإيحاءٍ من كتاب جان جاك روسو إميل أو التربية 1762 فعدّ من أهم الكتب التي تنظّر للتربية الحديثة، وبسببه أصاب روسو الكثير من المشاكل، فقد أحرق كتابه من قبل الشرطة بعد أن أدانته جامعة السوربون، وندّد به رجال اللاهوت في أوروبا. وفي القصة الأساس يُشنق بينوكيو بسبب كذبه، لكن بسبب نجاح القصة التي نُشرت مسلسلة بإحدى الجرائد طلب رئيس التحرير من كولودي أن يعدّل النهاية كما نعرفها الآن. لكن ما الرابط بين بينوكيو والفيلسوف والمفكر التنويري روسو. للحقيقة قام روسو بإيداع أطفاله الذين أنجبهم من خادمته تيريز في الميتم، وأنكر هذا التصرف، وكتب كتاب إميل، ليغطي فعلته تلك وحتى كتابه الاعترافات الذي جأر فيه بمجموعة من الأكاذيب، لأنّه عابد للحقيقة، لم يتطرّق فيه لفعلته الشائنة. لقد جعل روسو نفسه في الاعترافات شهيد الحقيقة وفي كتابه روسو ضد جان جاك، انقسم على نفسه، وجعل من جان جاك المدعي العام عليه، لينتهي بأن أصبح جان جاك يستشهد بمقولات روسو من أجل تبرئته. لقد عدّ روسو نفسه ضحية مؤامرة كبيرة، فقط لأنّه عاشق للحقيقة. لكن الحقيقة أن روسو مرّر فعلته الشنعاء تحت ستار من نظريات وأقاويل الحقيقة والصواب والتي أصبحت طروحاتها من أعمدة الفكر الإنساني. هل كان روسو يكذب على نفسه، وهل من الممكن الكذب على النفس؟ بشكل أو آخر لقد نجا روسو من أفعاله الشنعاء كبينوكيو وأصبح فيلسوف الحقيقة! رفض جاك دريدا هذه الإمكانية؛ أي الكذب على النفس، مع أن حنة أرندت أقرّتها في معرض الكذب السياسي وخاصة في الأنظمة الشمولية، لكنّ روسو اعتبر جملة سقراط المشهورة: "اعرف نفسك بنفسك" جملة ذات دلالة مخاتلة، وكأنّه يقرّ بإمكانية الكذب على النفس! هل فعل ذلك، لكي يبرّر إبداعاته التي سترت فعلته النكراء، وبأنّها لم تكن ستارًا يخفي تحته فعلته الشنعاء التي لم يعترف بها أبدًا؟
لسنا في معرض الإدانة هنا، فقد استطاع ميشيل فوكو بأن يفتح للفلسفة بابًا رائعًا ومذهلًا على الحياة العملية، عندما ناقش حيوات الفلاسفة القدماء. هكذا أصبحت فكرة المطابقة بين الفكر والممارسة منظرًا لها مع فوكو، بحث اكتشفنا معه الكثير من التناقضات التي اعتورت حياة الفلاسفة. في المحاضرات الأخيرة لفوكو وكانت بعنوان: شجاعة الحقيقة! يا للعجب كان فوكو يخبئ إصابته بمرض السيدا، طاعون المثليين، عن تلامذته ومجتمعه، وفي الوقت نفسه خطب عن ضرورة أن تكون الحقيقة شجاعة. هل كذب فوكو؟ ليست الإجابة سهلة، فسيمون دي بوفوار بينما كانت تكتب كتابها الجنس الآخر، الذي يعدّ مانفيستو الحركة النسوية، كانت تعيش قصة حبّ عاصفة مع الأديب الأميركي نيلسون ألغرين، حيث تمنّت فقط أن تكون خادمة بين يديه! لم تعمل بوفوار على تخبئة الرسائل المليئة بأفكار وممارسات تتعارض بالمطلق مع مبادئ الحركة النسوية، بل تركتها لتفتح وتنشر بعد موتها. ما الذي قصدته بوفوار بذلك؟ لربما كانت تريد القول، بأنّ النفس الإنسانية أعقد بكثير من الأفكار التي تطرحها حتى لو كانت لفيلسوف أو مفكّر.
يعتبر سارتر من أبرز مفكّري عصرنا، وينتسب إليه مفهوم الالتزام، حتى أن الكلمة ارتبطت به، ومع ذلك كان الصامت الأكبر إبّان الاحتلال النازي لفرنسا وقيام حكومة متواطئة مع الاحتلال. لم يخرج صوته للعلن إلّا بعد أن وضعت الحرب أوزارها. إنّ محاكمة صاحب فلسفة الوجودية ورفض أفكاره بسبب صمته إبّان الاحتلال الألماني، سيفوت علينا فلسفة كان لها شأن كبير في صياغة توجّهات القرن العشرين. لا يختلف الفيلسوف سورين كيركغارد عن من ذكرناهم، فقد كان هو الآخر يعيش حيوات متناقضة، قدّمها من خلال كتبه، التي مهرها بأسماء مختلفة، فتارة يكون قديسًا وتارة زنديقًا، وكثيرًا ما مدح كيركغارد حياة الصدق والحقيقة وأن تطبيقها ممكن وخاصة بين الزوج والزوجة، لكنّه لم يتزوج وترك خطيبته!
يعتبر جيل دولوز فيلسوف الترحال والبداوة، فقد كان يرفض الاستقرار ويكره الحدود، وهو الذي لم يسافر إلّا مرة واحدة نتيجة مرضه الرئوي، لكنّه قدّم لنا فلسفة واسعة الأمداء عن فكرة أن يكون الإنسان حرّا كالبدوي يتصيّد مواطن سقوط المطر، لا تحدّه حدود ولا يقعده عن تجواله شيء!
تتكلّم حنة أرندت ـ التي كانت تعيش علاقة حب عاصفة مع الفيلسوف مارتن هيدغر المتزوج- عن العصر الحالي بأنّ الكذب فيه أصبح ينشئ حقائق واقعية مثله مثل الصدق! وأنّ هذا العصر عصر الكذب الأكبر سياسيًا، لكن بعيدًا عن الاشتباك الأخلاقي مع السياسة التي هي فنّ الممكن بامتياز.
فهل لنا أن نشكر الكذب على الإبداعات الرائعة التي قدّمها هؤلاء الفلاسفة الكَذَبَة، بالتأكيد نعم! لأن فلسفة الحقائق بدءًا بالدينية وانتهاء بالسياسية كان لها الباع الأكبر بارتكاب أكبر الفظائع عبر التاريخ. إنّ ما يدعونا إليه كتاب فرانسوا نودلمان، ليس البحث عن الكذب بأفكار الفلاسفة وتناقضها مع حياتهم الواقعية ومن ثم إدانتهم، بل التنبّه إلى قدرة الكذب في الكشف عن حقائق هذا الوجود، مثله مثل الحقيقة، سواء بسواء، بل أكثر.
وعود على بدء، نقول بأنّ كتابة تاريخ الكذب في التاريخ الإنساني لا تكون إلّا بتفكيك مقولات الحقيقة والصدق، لأنّه كما قالت القصة الفرعونية: بوّاب الصدق هو الكذب، وبوّاب الكذب هو الصدق.
المصادر والهوامش:
1- تاريخ الكذب، جاك دريدا، ترجمة رشيد بازي. صادر عن المركز الثقافي العربي 2016.
2- عبقرية الكذب أو هل كذب كبار الفلاسفة، فرنسوا نودلمان، ترجمة إياد عيسى. صادر عن دار سبعة، السعودية 2022.
3- ميشيل دي مونتين، فيلسوف فرنسي – القرن السادس عشر، يعتبر رائد فن المقالة وجمعت كتاباته في مجلدين تحت عنوان: محاولات.
4- تاريخ الكذب، خوان خاثينتو مونيوث زنخيل، ترجمة طه زيادة. صادر عن دار الخان- الكويت 2022.
5- مجلة "الهلال"، عدد تموز/ يوليو 1992.
6- جماليات الكذب، مقال لعبد الله الغذامي في مجلة "فصول"، المجلد الحادي عشر، العدد 1 لعام 1992.