عن أصل اللغة: بين نظرية الوقواق وطقطقة القرود
وارد بدر السالم 3 أغسطس 2023
اجتماع
(بيدرو سورا)
شارك هذا المقال
حجم الخط
لا يوجد دليل أخير على أصل اللغة. ولم يتسنَّ لعلمائها ومتخصصيها وباحثيها حتى اليوم أن يقدموا صورة أخيرة عن نشأة وكيفية تطور اللغة ومراحل نموها الجنيني بين الأسلاف. بل تعددت وتقاطعت واتفقت بعض الفرضيات والنظريات في هذا الموضوع. حتى المكتشفات الأثرية من الأحافير والكتابات التي تعود إلى العالم القديم لا تعطي انطباعًا نهائيًا عن كيفية نشأتها ولم توفّر الحجة المناسبة لكينونتها. وما نقرأه ونتعرف عليه هو فرضيات علمية ومعرفيات تاريخية غير متكاملة، لا تكون نهائية في تحديد أصل اللغة. وبالتالي ظل هذا الجزء اللساني غامضًا وغائبًا عن حقيقته.
كانت اللغة وما تزال شكلًا اجتماعيًا أكثر من كونها شكلًا تاريخيًا، فإشكالياتها تاريخية، وإن لم تُحسم تاريخيتها في النشأة والبدايات، فإن الحاضنة الاجتماعية على مر التاريخ منحتها هذه الصفة الجوهرية في شكل الأداء، كونها تنمو بنمو المجتمعات البشرية ومتطلباتها الطبيعية المتتالية، وتتطور- كوسيلة اتصال - بتطور ما وصلت إليه حياتهم العامة. ومن الثابت أيضًا أن اللغة هوية المجتمعات مهما صغرت أو كبرت. فبوجودها وُجدت الحضارات الإنسانية في كل مكان. ومضى التاريخ القديم إلى حيث يمضي. وبقيت اللغة تُنشئ ذاتها وتنحو إلى سياقات أكثر ثباتًا في الوصف الشخصي لها. لتؤكد صلتها بالمجتمعات، وتكون هويتها الشخصية على مر التاريخ الإنساني.
ومع اتفاق الباحثين وعلماء اللغات على الشكل الاجتماعي لها، إلا أنهم اختلفوا أيضًا في تفسير الصوت اللغوي الذي عُدّ لغة تواصل، مثلما اختلفوا على ماهيتها وتركيباتها المتنوعة، الإشارية والصوتية والعقلية والفسيولوجية، فنعوم تشومسكي يؤكد على بيولوجية اللغة، لأنها تنمو كبقية أعضاء الجسد و"تنطوي على نظام معرفي يخزن المعلومات الخاصة بالصوت والمعنى والتنظيم البنائي" بما يعني أن فيها أبعادًا سيكولوجية ترتبط بوعي الأعضاء المشابهة لها في الجسد البشري. وأن لها أخلاقياتها الضرورية لكونها تنمو مع الوقت والزمن.
هذه المغايرة مع علماء اللغة قد لا تتفق حتى مع النظريات الافتراضية العالمية التي لم تتوصل إلى أصل نشوء اللغة وتطورها. لكن بقيت الاحتمالات والتوقعات قائمة مع النظريات الكثيرة التي قدمت فرضيات ممكنة وغير ممكنة في طبيعة اللغة ونشأتها، كونها "معقدة لم تنشأ من لا شيء". كما قدمت ذلك "نظرية الاستمرارية" باعتبار أن أنظمة "غير لغوية" سبقت نظام اللغة تاريخيًا، وأدت بالنتيجة إلى (لغة) ربما جاءت من الأصوات والإشارات التي سادت عند الأسلاف البدائيين لغرض التواصل بمقدماته الاجتماعية. وبالتالي فإن وجود اللغة يرتبط بتشكّل المجتمعات الأولى، فـ (لا لغة بدون مجتمع ولا مجتمع بدون لغة) على اعتبار أن الفرد "كائن لغوي" في أساسه، وقد انتقد ميشيل فوكو فكرة نظرية الاستمرارية التاريخية من وجهة نظر بنائية ويرى أنها "ليست سوى نتاج عمل المؤرخ عندما يعمل على تكوين الصلات والعلاقات"، ومهما يكن السلف الماضي قد مارس الإشارات والأصوات، فإنه يبتكر لغة للاتصال الفردي والجماعي، لإنشاء مقدماتٍ مهمة في تشكيل صوتيات اللغة وإشاراتها الأولية، وهي المقدمات التي يبحث فيها علماء اللغة وباحثوها منذ القرن السابع عشر حتى اليوم، للوصول إلى النشأة والأصل اللغوي للجماعات السكانية المتفرقة في العالم القديم. وحتى اعتراض فوكو على البناء النظري لنظرية الاستمرارية، لم يؤخذ على أنه اعتراض جوهري، فمهمة التاريخي هي أصلًا محاولة عقد صلات بين المعطيات التي تتوفر له في المجرى التاريخي الطويل. لكنها من جملة الاعتراضات التي تشير إلى عدم الوصل إلى نظرية متكاملة حول اللغة وتكوين جوهرها الذي نتعامل به اليوم.
طقطقة القرود... لغة بعض القبائل الأثيوبية
نجد اليوم في بعض القبائل الأفريقية في أثيوبيا وغيرها من القبائل التي لم تعقد صلتها بحداثات الحاضر وجوهره، لغاتٍ غير معتادة في عصر ما بعد الحداثة النووية، كلغة "الطقطقة" التي يتكلمها قبليون أثيوبيون وأفارقة، ليست لهم علاقة بالحاضر وحداثته الحياتية الشاملة، مقلدين فيها أصوات القرود إلى حد ما. أو لنقل إن أصوات القرود دخلت إلى صوتيات البشر في تلك المناطق المعزولة عن حداثة الحياة وتحضرها في المخيال الاجتماعي السكاني، لتتشكل لهجة بدائية بمنزلة "لغة" يمكن التخاطب الموضعي بها، ويوميًا تطالعنا في وسائل التواصل الاجتماعي فيديوهات حيّة لسائحين ومكتشفين وباحثين تحفّزهم اللغة الفطرية في بدائيتها المطلقة، وتلك الطقطقة القِرَدية المبتكرة من الطبيعة، هي "لهجة" قابلة لأن تكون "لغة" إذا ما استمدت عناصر بقائها ونموها من السكان الأصليين، ومن الطبيعي أن نصل إلى أنّ نشأة اللغة ربما كانت من حاجة يعززها خيال اجتماعي، بدا فرديًا، ثم اجتمع في (لغة) للتواصل والتفاهم الشعبي عن طريق تقليد الخطاب الصوتي الحيواني، لتكوين وسيلة للتخاطب بدلًا من الإشارات والإيماءات. أو ما يمكن أن نسميه بـ"ما دون اللهجة" في محليتها التي يتفاهم بها قبليون بدائيون حتى اليوم. وهذه الـ ما دون هي حصيلة طبيعية لأفراد وجماعات منعزلين عن العالم في الغابات العميقة.
ولكن قد تكون " الطقطقة" لهجة محلية فرضتها حاجة اتصالية في بعض المجتمعات الأفريقية للتعبير والتفاهم والإشارة المباشرة. وهي ليست لغة بالمفهوم التقليدي لها، كونها بلا روابط قواعدية متكاملة، بل وسيلة مبتكرة بين الأفراد والجماعات، بتقليد جزئي من أصوات وطقطقة القرود المحيطة بهذه المجتمعات.
مثل هذا السلوك التقليدي وُجد قبل عشرات آلاف السنوات في المجتمعات البدائية، التي تتبع تصويت الطيور والحيوانات وتقلّدها، لكن تتوجه إلى معنى مقطعي محدد للتنبيه أو طلب الحاجة. لتتطور لاحقًا إلى مقاطع طولية، جامعة المعاني والإشارات البشرية تحت هذا التقليد. وهو تحول بطيء حاول أن يجمع الشتات المتفرق في الغابات والجبال، كما تجمعهم النار لأغراض الطبخ والتدفئة، فـ (بنية العالم القديم بنية مشتتة) اجتماعيًا واقتصاديًا وسلوكيًا. لذلك كان الاضطرار إلى اللغة- اللهجة مفتاحًا أوليًا لفتح قنوات اتصال صوتية وكلامية وإن ليست بلاغية ونحوية، ليتفرد بها الإنسان من دون سائر المخلوقات على الأرض، حتى لو كانت فطرية ووراثية عقلية، لتكون علاماتها المستقبلية إنتاجية. وبالتالي تكوين هويته الاجتماعية بدلالات اللهجة التي قد تتطور إلى لغة، لتأصيل هويتها الشخصية؛ بما يجعل المحيط الثقافي الذي تنشأ فيه محيطًا واعيًا بنظام معرفي أولي له خطوط أولية "مشفّرة" ووراثية بيولوجيًا. لغة في الدماغ البشري
سنرى أن النظرية الانقطاعية في البيولوجيا التي دعمها نعوم تشومسكي للكائن الحي، والمتغيرة عشوائيًا فيه، ثم يكتسبها الدماغ البشري مع تمدد التكاثر على مديات زمنية طويلة، باعتبار أن اللغة (تنطوي على نظام معرفي) كما شرح تشومسكي ذلك في إطار "تحقيقات صغرى" فاللغة (تعطي المعلومات إلى الأنظمة الأدائية)، بينما يعارضه ستيفن بينكر برؤيته إلى اللغة على أنها تطورت تدريجيًا لاجتماعيتها وضرورتها في التفاهم الأولي في الأداء اليومي، ولا علاقة لها بما يُقال عن تطور الإشاريات والصوتيات عند القردة وبعض الحيوانات، وهي تعبيرية اقتضتها الحاجة للاحتكاك الاجتماعي في الأحوال كلها. بمعنى أن ظهور اللغة (حدث في ما قبل التاريخ الإنساني) برمزيتها وتعبيريتها البسيطة (ولم تكن بدائية) كما يقرر العلماء اللغويون ذلك في معظم النظريات. فالبدائية عشوائية ليس لها نظام لغوي واضح وليست نحوية بالضرورة، والتبسيطية هي التحدث بمفردات غير معقدة حتى وإن لم يكن لها نظام لغوي، لكنها محاولات صوتية لتنبيه الآخر على وجود ما يقتضي وجوده.
تعرفنا المصادر العلمية على فرضيات أصل اللغة المحكية، وأهمها مصدرية عالم اللغة ماكس مولر الذي نشر فرضياته بعد منتصف القرن الثامن عشر، ومنها نظرية الوقواق، التي افترض فيها بأن "الكلام هو تقليد لأصوات الحيوانات والطيور" ثم نظريته (فو- فو) التي قال فيها "إن الكلام يمثل التراكمات العاطفية والصوت يعبر عنها وذلك نتيجة ألم أو سرور أو مفاجأة"، أما نظريته دينغ- دونغ فترى أن الكلام الإنسان القديم هو ترديد لصدى أصوات بريّة قديمة. وقد يكون محقًا في هذا الاستنتاج، فإنسان السلف القديم لم تكن تحيطه إلا الطبيعة وحيواناتها وطيورها وظواهر الطبيعة بشتى أصواتها المبهمة، كما يحدث في لهجة- لغة الطقطقة عند القبائل الأثيوبية غير المكتشفة كليًا. ثم يطور مولر نظريته إلى فرضية أن نشأة اللغة نتيجة لعمل ايقاعات متداخلة يقوم الإنسان بها وهذه هي نظرية (يو- هي- هو) ولم تكن محاولاته النظرية المتعددة لتذهب إلى النسيان، غير أنها تشير إلى احتمالات علمية دؤوبة من قبله لرصد التاريخ البشري وسبل تطور عبر اللغة أولًا وأخيرًا.
لغة الأمهات... النظرية المحتملة
نظرية "لغة الأمهات" التي نادى بها فيتش Fitch تقترب من المعقول الاجتماعي الأسري، عندما رأى أن "جميع اللغات كانت في الأساس لغة أمهات" فالأم وريثة الفطرة، ومانحة اللغة الصوتية في البداية، كعامل أول في توريث الطفل لغة خاصة به، هي مناغاتها الصوتية أساسًا. والأم حتى اليوم هي العتبة المباشرة للطفل والصوت الأول له، بمعزل عن التأثيرات الاجتماعية المحيطة. لكن نبّاشي التاريخ القديم يعيدون اللغة إلى ولادتها من الأسطورة، ولما كانت الأسطورة ذات طابع ديني فإنها تكتسب لغة سماوية و"إلهية سبقت البشر" وفي حسابات ولادة الأسطورة التي أنتجت الملاحم فيما بعد، نجد التاريخ الأسطوري حديثًا قياسًا إلى عمر اللغة البدائية، ويقينًا فإن الأسطورة كُتبت ودُوّنت، والكتابة شكل مباشر من أشكال التحضر الأولي، والمعنى في هذه الخلاصة أن إعادة أصل اللغة إلى الأسطورة فرضية ضعيفة. فالأسطورة الدينية شكل من أشكال المظاهر المدنية الكتابية المتحضرة.
علاقة المخ باللغة
يرى الباحث العراقي، د. نوري جعفر في كتابه المهم "اللغة والفكر" أن اللغة ظاهرة اجتماعية كما قال الذين من قبله، وأنها لم تصل إلى ما وصلت إليه من تكامل في التجريد والتعميم إلا بفضل العلاقات الفسيولوجية التي تربط الحواس وأعضائها والمراكز المخية ووظائفها من جهة والبيئة الطبيعية والاجتماعية من جهة أخرى. وهو أمر نادى به تشومسكي وعلماء لغات آخرون وجدوا علاقة مخية وعقلية بين اللغة والإنسان، والتجارب والملاحظات على الحيوانات القريبة من تشكيل الإنسان كالقرود لا تمتلك (وعي اللغة) وبالتالي ليست لها هوية لغوية ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن تنشّط ذاكرتها وخيالها إزاء ما يحيط بها من موجودات في الطبيعة، لذلك تفتقر إلى الأحاسيس والمشاعر والاستجابات العاطفية إلا بشكل غريزي وفطري. لذلك يجد علماء لغويون بأن اللغة مع ملايين السنين أنتجت نظامها الشخصي ومن ثم نظامها النحوي والقواعدي على مر الزمن، كونها كائنًا حيًا له بيولوجيا تشبه البيولوجيا البشرية وهي (شبيهة بنمو الأعضاء البشرية).
مصادر وهوامش:
وارد بدر السالم 3 أغسطس 2023
اجتماع
(بيدرو سورا)
شارك هذا المقال
حجم الخط
لا يوجد دليل أخير على أصل اللغة. ولم يتسنَّ لعلمائها ومتخصصيها وباحثيها حتى اليوم أن يقدموا صورة أخيرة عن نشأة وكيفية تطور اللغة ومراحل نموها الجنيني بين الأسلاف. بل تعددت وتقاطعت واتفقت بعض الفرضيات والنظريات في هذا الموضوع. حتى المكتشفات الأثرية من الأحافير والكتابات التي تعود إلى العالم القديم لا تعطي انطباعًا نهائيًا عن كيفية نشأتها ولم توفّر الحجة المناسبة لكينونتها. وما نقرأه ونتعرف عليه هو فرضيات علمية ومعرفيات تاريخية غير متكاملة، لا تكون نهائية في تحديد أصل اللغة. وبالتالي ظل هذا الجزء اللساني غامضًا وغائبًا عن حقيقته.
كانت اللغة وما تزال شكلًا اجتماعيًا أكثر من كونها شكلًا تاريخيًا، فإشكالياتها تاريخية، وإن لم تُحسم تاريخيتها في النشأة والبدايات، فإن الحاضنة الاجتماعية على مر التاريخ منحتها هذه الصفة الجوهرية في شكل الأداء، كونها تنمو بنمو المجتمعات البشرية ومتطلباتها الطبيعية المتتالية، وتتطور- كوسيلة اتصال - بتطور ما وصلت إليه حياتهم العامة. ومن الثابت أيضًا أن اللغة هوية المجتمعات مهما صغرت أو كبرت. فبوجودها وُجدت الحضارات الإنسانية في كل مكان. ومضى التاريخ القديم إلى حيث يمضي. وبقيت اللغة تُنشئ ذاتها وتنحو إلى سياقات أكثر ثباتًا في الوصف الشخصي لها. لتؤكد صلتها بالمجتمعات، وتكون هويتها الشخصية على مر التاريخ الإنساني.
ومع اتفاق الباحثين وعلماء اللغات على الشكل الاجتماعي لها، إلا أنهم اختلفوا أيضًا في تفسير الصوت اللغوي الذي عُدّ لغة تواصل، مثلما اختلفوا على ماهيتها وتركيباتها المتنوعة، الإشارية والصوتية والعقلية والفسيولوجية، فنعوم تشومسكي يؤكد على بيولوجية اللغة، لأنها تنمو كبقية أعضاء الجسد و"تنطوي على نظام معرفي يخزن المعلومات الخاصة بالصوت والمعنى والتنظيم البنائي" بما يعني أن فيها أبعادًا سيكولوجية ترتبط بوعي الأعضاء المشابهة لها في الجسد البشري. وأن لها أخلاقياتها الضرورية لكونها تنمو مع الوقت والزمن.
هذه المغايرة مع علماء اللغة قد لا تتفق حتى مع النظريات الافتراضية العالمية التي لم تتوصل إلى أصل نشوء اللغة وتطورها. لكن بقيت الاحتمالات والتوقعات قائمة مع النظريات الكثيرة التي قدمت فرضيات ممكنة وغير ممكنة في طبيعة اللغة ونشأتها، كونها "معقدة لم تنشأ من لا شيء". كما قدمت ذلك "نظرية الاستمرارية" باعتبار أن أنظمة "غير لغوية" سبقت نظام اللغة تاريخيًا، وأدت بالنتيجة إلى (لغة) ربما جاءت من الأصوات والإشارات التي سادت عند الأسلاف البدائيين لغرض التواصل بمقدماته الاجتماعية. وبالتالي فإن وجود اللغة يرتبط بتشكّل المجتمعات الأولى، فـ (لا لغة بدون مجتمع ولا مجتمع بدون لغة) على اعتبار أن الفرد "كائن لغوي" في أساسه، وقد انتقد ميشيل فوكو فكرة نظرية الاستمرارية التاريخية من وجهة نظر بنائية ويرى أنها "ليست سوى نتاج عمل المؤرخ عندما يعمل على تكوين الصلات والعلاقات"، ومهما يكن السلف الماضي قد مارس الإشارات والأصوات، فإنه يبتكر لغة للاتصال الفردي والجماعي، لإنشاء مقدماتٍ مهمة في تشكيل صوتيات اللغة وإشاراتها الأولية، وهي المقدمات التي يبحث فيها علماء اللغة وباحثوها منذ القرن السابع عشر حتى اليوم، للوصول إلى النشأة والأصل اللغوي للجماعات السكانية المتفرقة في العالم القديم. وحتى اعتراض فوكو على البناء النظري لنظرية الاستمرارية، لم يؤخذ على أنه اعتراض جوهري، فمهمة التاريخي هي أصلًا محاولة عقد صلات بين المعطيات التي تتوفر له في المجرى التاريخي الطويل. لكنها من جملة الاعتراضات التي تشير إلى عدم الوصل إلى نظرية متكاملة حول اللغة وتكوين جوهرها الذي نتعامل به اليوم.
طقطقة القرود... لغة بعض القبائل الأثيوبية
نجد اليوم في بعض القبائل الأفريقية في أثيوبيا وغيرها من القبائل التي لم تعقد صلتها بحداثات الحاضر وجوهره، لغاتٍ غير معتادة في عصر ما بعد الحداثة النووية، كلغة "الطقطقة" التي يتكلمها قبليون أثيوبيون وأفارقة، ليست لهم علاقة بالحاضر وحداثته الحياتية الشاملة، مقلدين فيها أصوات القرود إلى حد ما. أو لنقل إن أصوات القرود دخلت إلى صوتيات البشر في تلك المناطق المعزولة عن حداثة الحياة وتحضرها في المخيال الاجتماعي السكاني، لتتشكل لهجة بدائية بمنزلة "لغة" يمكن التخاطب الموضعي بها، ويوميًا تطالعنا في وسائل التواصل الاجتماعي فيديوهات حيّة لسائحين ومكتشفين وباحثين تحفّزهم اللغة الفطرية في بدائيتها المطلقة، وتلك الطقطقة القِرَدية المبتكرة من الطبيعة، هي "لهجة" قابلة لأن تكون "لغة" إذا ما استمدت عناصر بقائها ونموها من السكان الأصليين، ومن الطبيعي أن نصل إلى أنّ نشأة اللغة ربما كانت من حاجة يعززها خيال اجتماعي، بدا فرديًا، ثم اجتمع في (لغة) للتواصل والتفاهم الشعبي عن طريق تقليد الخطاب الصوتي الحيواني، لتكوين وسيلة للتخاطب بدلًا من الإشارات والإيماءات. أو ما يمكن أن نسميه بـ"ما دون اللهجة" في محليتها التي يتفاهم بها قبليون بدائيون حتى اليوم. وهذه الـ ما دون هي حصيلة طبيعية لأفراد وجماعات منعزلين عن العالم في الغابات العميقة.
"ظهور اللغة حدث في ما قبل التاريخ الإنساني برمزيتها وتعبيريتها البسيطة ولم تكن بدائية كما يقرر العلماء اللغويون ذلك في معظم النظريات" |
مثل هذا السلوك التقليدي وُجد قبل عشرات آلاف السنوات في المجتمعات البدائية، التي تتبع تصويت الطيور والحيوانات وتقلّدها، لكن تتوجه إلى معنى مقطعي محدد للتنبيه أو طلب الحاجة. لتتطور لاحقًا إلى مقاطع طولية، جامعة المعاني والإشارات البشرية تحت هذا التقليد. وهو تحول بطيء حاول أن يجمع الشتات المتفرق في الغابات والجبال، كما تجمعهم النار لأغراض الطبخ والتدفئة، فـ (بنية العالم القديم بنية مشتتة) اجتماعيًا واقتصاديًا وسلوكيًا. لذلك كان الاضطرار إلى اللغة- اللهجة مفتاحًا أوليًا لفتح قنوات اتصال صوتية وكلامية وإن ليست بلاغية ونحوية، ليتفرد بها الإنسان من دون سائر المخلوقات على الأرض، حتى لو كانت فطرية ووراثية عقلية، لتكون علاماتها المستقبلية إنتاجية. وبالتالي تكوين هويته الاجتماعية بدلالات اللهجة التي قد تتطور إلى لغة، لتأصيل هويتها الشخصية؛ بما يجعل المحيط الثقافي الذي تنشأ فيه محيطًا واعيًا بنظام معرفي أولي له خطوط أولية "مشفّرة" ووراثية بيولوجيًا. لغة في الدماغ البشري
سنرى أن النظرية الانقطاعية في البيولوجيا التي دعمها نعوم تشومسكي للكائن الحي، والمتغيرة عشوائيًا فيه، ثم يكتسبها الدماغ البشري مع تمدد التكاثر على مديات زمنية طويلة، باعتبار أن اللغة (تنطوي على نظام معرفي) كما شرح تشومسكي ذلك في إطار "تحقيقات صغرى" فاللغة (تعطي المعلومات إلى الأنظمة الأدائية)، بينما يعارضه ستيفن بينكر برؤيته إلى اللغة على أنها تطورت تدريجيًا لاجتماعيتها وضرورتها في التفاهم الأولي في الأداء اليومي، ولا علاقة لها بما يُقال عن تطور الإشاريات والصوتيات عند القردة وبعض الحيوانات، وهي تعبيرية اقتضتها الحاجة للاحتكاك الاجتماعي في الأحوال كلها. بمعنى أن ظهور اللغة (حدث في ما قبل التاريخ الإنساني) برمزيتها وتعبيريتها البسيطة (ولم تكن بدائية) كما يقرر العلماء اللغويون ذلك في معظم النظريات. فالبدائية عشوائية ليس لها نظام لغوي واضح وليست نحوية بالضرورة، والتبسيطية هي التحدث بمفردات غير معقدة حتى وإن لم يكن لها نظام لغوي، لكنها محاولات صوتية لتنبيه الآخر على وجود ما يقتضي وجوده.
تعرفنا المصادر العلمية على فرضيات أصل اللغة المحكية، وأهمها مصدرية عالم اللغة ماكس مولر الذي نشر فرضياته بعد منتصف القرن الثامن عشر، ومنها نظرية الوقواق، التي افترض فيها بأن "الكلام هو تقليد لأصوات الحيوانات والطيور" ثم نظريته (فو- فو) التي قال فيها "إن الكلام يمثل التراكمات العاطفية والصوت يعبر عنها وذلك نتيجة ألم أو سرور أو مفاجأة"، أما نظريته دينغ- دونغ فترى أن الكلام الإنسان القديم هو ترديد لصدى أصوات بريّة قديمة. وقد يكون محقًا في هذا الاستنتاج، فإنسان السلف القديم لم تكن تحيطه إلا الطبيعة وحيواناتها وطيورها وظواهر الطبيعة بشتى أصواتها المبهمة، كما يحدث في لهجة- لغة الطقطقة عند القبائل الأثيوبية غير المكتشفة كليًا. ثم يطور مولر نظريته إلى فرضية أن نشأة اللغة نتيجة لعمل ايقاعات متداخلة يقوم الإنسان بها وهذه هي نظرية (يو- هي- هو) ولم تكن محاولاته النظرية المتعددة لتذهب إلى النسيان، غير أنها تشير إلى احتمالات علمية دؤوبة من قبله لرصد التاريخ البشري وسبل تطور عبر اللغة أولًا وأخيرًا.
لغة الأمهات... النظرية المحتملة
نظرية "لغة الأمهات" التي نادى بها فيتش Fitch تقترب من المعقول الاجتماعي الأسري، عندما رأى أن "جميع اللغات كانت في الأساس لغة أمهات" فالأم وريثة الفطرة، ومانحة اللغة الصوتية في البداية، كعامل أول في توريث الطفل لغة خاصة به، هي مناغاتها الصوتية أساسًا. والأم حتى اليوم هي العتبة المباشرة للطفل والصوت الأول له، بمعزل عن التأثيرات الاجتماعية المحيطة. لكن نبّاشي التاريخ القديم يعيدون اللغة إلى ولادتها من الأسطورة، ولما كانت الأسطورة ذات طابع ديني فإنها تكتسب لغة سماوية و"إلهية سبقت البشر" وفي حسابات ولادة الأسطورة التي أنتجت الملاحم فيما بعد، نجد التاريخ الأسطوري حديثًا قياسًا إلى عمر اللغة البدائية، ويقينًا فإن الأسطورة كُتبت ودُوّنت، والكتابة شكل مباشر من أشكال التحضر الأولي، والمعنى في هذه الخلاصة أن إعادة أصل اللغة إلى الأسطورة فرضية ضعيفة. فالأسطورة الدينية شكل من أشكال المظاهر المدنية الكتابية المتحضرة.
علاقة المخ باللغة
يرى الباحث العراقي، د. نوري جعفر في كتابه المهم "اللغة والفكر" أن اللغة ظاهرة اجتماعية كما قال الذين من قبله، وأنها لم تصل إلى ما وصلت إليه من تكامل في التجريد والتعميم إلا بفضل العلاقات الفسيولوجية التي تربط الحواس وأعضائها والمراكز المخية ووظائفها من جهة والبيئة الطبيعية والاجتماعية من جهة أخرى. وهو أمر نادى به تشومسكي وعلماء لغات آخرون وجدوا علاقة مخية وعقلية بين اللغة والإنسان، والتجارب والملاحظات على الحيوانات القريبة من تشكيل الإنسان كالقرود لا تمتلك (وعي اللغة) وبالتالي ليست لها هوية لغوية ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن تنشّط ذاكرتها وخيالها إزاء ما يحيط بها من موجودات في الطبيعة، لذلك تفتقر إلى الأحاسيس والمشاعر والاستجابات العاطفية إلا بشكل غريزي وفطري. لذلك يجد علماء لغويون بأن اللغة مع ملايين السنين أنتجت نظامها الشخصي ومن ثم نظامها النحوي والقواعدي على مر الزمن، كونها كائنًا حيًا له بيولوجيا تشبه البيولوجيا البشرية وهي (شبيهة بنمو الأعضاء البشرية).
مصادر وهوامش:
- الميتا لسانيات. ممكنات اللسانيات المعرفية- محمد يونس- ط1 - دار نشر أمل الجديدة - دمشق 2022
- اللغة والهوية (قومية - إثنية- عرقية)- جون جوزيف- ت: د.عبد النور خراقي - عالم المعرفة - الكويت 2007
- تحقيقات صغرى: الإطار - نعوم تشومسكي - ت: رمضان مهلهل سدخان- دار المأمون- بغداد- 2010
- اللغة والفكر. د. نوري جعفر- مكتبة التومي- الرباط – 1971
- نعوم تشومسكي: أستاذ لسانيات ومؤرخ وناقد وناشط سياسي. يوصف بأنه "أبو علم اللسانيات الحديث". كتب عن الحروب والسياسة ووسائل الإعلام وهو مؤلِّف لأكثر من 100 كتاب منها: "العالَم إلى أين" و"الدولة المارقة" و"أوهام الشرق الأوسط" و"ثقافة الارهاب"
- ستيفن بينكر: عالم لغويات، متخصص بعلم النفس اللغوي. يؤكد في مؤلفاته أن قدرة الإنسان على دراسة اللغة أمر غريزي وسلوك فطري تشكَّلَ عن طريق الانتقاء الطبيعي وعن طريق التكيّف مع حاجة التواصل لدينا. له مؤلفات منها: الكلمات والقواعد- 2000، وماهيّة التفكير - 2007، وأفضل الملائكة في جوهر الطبيعة البشرية - 2011
- د. نوري جعفر: عالم نفس وخبير تعليم عراقي. وكان من تلامذة جون ديوي. قتله في طرابلس سائق تاكسي ليبي وهو في طريقه إلى مطار طرابلس الدولي قاصدًا لندن. ألّف أكثر من 30 كتابًا في علم التربية وعلم النفس والتاريخ والفلسفة والفكر والأدب.
- ويكيبيديا (الإنكليزية والعربية).