ليلى نصير: رسمت صور الغرباء في وطننا ورحلت
أنور محمد 19 أغسطس 2023
هنا/الآن
ليلى نصير (1941 ـ 2023)
شارك هذا المقال
حجم الخط
رسومات الفنانة التشكيلية السورية ليلى نصير (1941 ـ 2023) مُذْ خَطَّتْ أوَّل خطٍّ أمام أستاذها حسين بيكار، الذي قال لها في فحص القبول: "أنتِ لا تعرفين كيف ترسمين، ولكنَّك موهوبةٌ"، والتي أُوفِدت للدراسة في مصر بمنحة من الحكومة السورية عام 1959، وتخرَّجت في كلية الفنون الجميلة في القاهرة عام 1963 بتخصُّص فن التصوير، هي رسوماتٌ تلملمُ الحزنَ من على وجوه شخصياتها، فالحزنُ في لحظةٍ ما قد ينفجر. ليلى نصير وقد انفجرت أحزان الناس من شدَّة القهر السياسي والاقتصادي، وفي مراحلها من التجريد إلى الواقعية فالسريالية فالتعبيرية؛ إنَّما كانت تكشف عن الصدع والشقوق والثغرات التي أصابت البشر، وقد تحولوا بفعل المالك الحصري لهم (الدولة الاستبدادية) إلى قطعان هائمة.
ليلى نصير، وحتى لا تخون ضميرها، لمَّا رسمت الوجوه، رسمتها بتعبيرية ناعمة، لتكشف الانحطاط الواقعي في سلوك قوَّة لا شرعة لها ولا شريعة. وهي الفنانة التي تفاعلت مع الثورة الفلسطينية، وذهبت إلى لبنان في الثمانينيات في أثناء الحرب، وصوَّرت فجائعها على الناس، وما تركته من مآسٍ، كما عاشت مع الأطفال المشردين وآوتهم وأطعمتهم في بيتها في اللاذقية، حتى تذمَّر جيرانها من سلوكها الإنساني. لنقرأ تفاصيل الوجوه، ونقرأ التعابير عليها، وجوه بتعبيرات حزينة، وجوه مزمومة، وعيون مفتوحة وأخرى مغلقة، وجوه بتعبيرات سلبية، متهكِّمة وبانفعالات تدل على مدى الألم والعذاب، وجوه عابسة، وجوه متأفِّفة. نصير تحاول أن تكشف أعماق النفس الإنسانية وقد أصابها التحريف والتشويه والقلق والخوف، وتحاول أن تلتقط وتصوِّر الشجاعة. في لوحة "نساء"، وهي لنساء متراصات في نسق تراتبي، سنرى وجوهًا كل عظام وعضلات الجسد فيها قد تمَّ ضغطها، وكأنَّ ما صَوَّرته هو عصير الغضب ـ غضبهنَّ. وجوهٌ تمَّ اضطهادها، وهي الوجوه التي تشكِّل مصدر قوَّة للحياة؛ وأيُّ حياة!... ليلى تصوِّر الخراب والدمار الذي لحق بالإنسان، تصوِّر تلك الرغبات المحرَّمة، والصراع بين الأنا والآخر من أجل الارتواء من العدالة.
دفقات هائلة من الحياة تجتمع في ألوانها كما اللهب الثاقب، وكأنَّ ليلى نصير في حمَّى فكرية، حمَّى؛ فترسم بطريقة انفجارية وهي ترمينا بالحصى والحصباء السياسية حين راحت كما ذكرنا مع الفدائيين الفلسطينيين ترسم وتصوِّر ما جرى لهم من مذابح بأيدي الذبَّاحين، في لونٍ من ألوان الحوار الدرامي العاري، مندفعة بحسِّها الإنساني، اندفاع خيبة أمل وخسارات جرَّنا إليها السادة المتحكِّمون بمصائرنا.
الفنانة ليلى نصير ابنة القائمقام موسى نصير، شقيقة جوزيف اليساري، التي قضت جزءًا من طفولتها مع الأكراد في ناحية (راجو) شمال حلب في منطقة عفرين حين كان والدها مديرًا لها، وتتذكَّر طفولتها، وطفولة الأكراد، ووضعهم المأساوي وقد عضَّهم الجوع والفقر، كما ذكرت في حوار مع الشاعر والرسام منذر مصري، هي ترسمُ بكل ناريتها وسعيرها اللاهب، ترسم صورنا نحن الغرباء في وطننا، بمزج ألوان الإكريليك والمائي، والباستيل مع أقلام التلوين الخشبية، ومن ثمَّ بالألوان الزيتية. ترسمُ ملحمتها بتأثيراتٍ الرسامين أميديو موديلياني (1884 ـ 1920) ومايكل أنجلو (1475 ـ 1564) وفنسنت ويليام فان غوخ (1853 ـ 1890)، فنرى خطوطها وألوانها، خطوطًا قاسية كما لو إنَّها تنحت وليس ترسم؛ ترسم بقوَّة مُحرِّكة خارج مركز الجاذبية، فتكشف عن رِقَّتها، عن أنوثتها رغم قسوة ريشتها. ريشتها التي تنقَّلت ما بين الواقعية والسريالية والتعبيرية، وهي ترسم للإنسان أجنحة، أو تضع رأس إنسان على جسد حيوان، كما تحيط اللوحة أحيًانا بقطع صغيرة مرسوم عليها عناصر حيوانية وإنسانية متأثِّرة بموتيفات الفنون القديمة في مصر وسورية.
نصير ترسم، أو هي رسمت أفكارها، ومن ثمَّ أحاسيسها بعين نسرٍ لا بعين ذبابة، كما أستاذها محمود مختار الذي أعطاها قوَّة روحية، فصوَّرت لوحاتٍ هي صورٌ لمشاعر وأفكار في لحظةٍ حَرِجة تهيئ لذروة. وجوه، جذوع وسيقان وأيادٍ تتفرَّسُ فينا، سنرى فيها اختلاج شفاه، بريق بصر. هذه الوجوه التي ترسمها ليلى نصير بماذا تشعر وتحس، بماذا تفكِّر. وأعتقد أنَّ أهمية أعمالها تجيء من هنا، من الوجوه التي تفكِّر، الوجوه التي تحس وتستشعر شيئًا ما، لكنَّها بالتأكيد لا تفكِّر تفكيرًا إجراميًا، أو ملغَّزًا، كانت وجوهها من مرحلة التجريد، أو الواقعية، أو التعبيرية، فنحن مع وجوهٍ صبوية متوهجة بـ(الحلم) رغم قسوة شرطها العاطفي والسياسي والاقتصادي. قد نلتقط شيئًا من برودةٍ في بعض وجوهها التي رسمتها، لكنَّها لا تصل إلى درجة التجمُّد، لأنَّها وجوه في حالة ذهولٍ أو فزع ـ خوف. هي لا تذهب في تصويرها إلى رسم الوجه الضبابي أو الثلجي، بالعكس سنرى وجوهًا في حالة ألق ـ متألِّقة، يشعُّ منها النور، نورٌ يقيم صراعًا مع العتمة/ الظلام، وهذا ما يميِّز مدرستها التعبيرية.
وجوه ليلى نصير كائناتٌ من أعصابٍ وأرواح، كائنات تشعر وتتكلَّم، لأنَّ ليلى رسمتها بحبر الروح، وهم في حالة يقظة؛ يفكِّرون ولا ينامون، وفي ذروة وجودهم وهم يتمتَّعون بالحدس والرؤيا، فلا يظلُّون طرائد لجلادي المال والحريَّة الذين ما ينفكُّون يسملون عيوننا كي لا نرى ولا نُبصر.
أنور محمد 19 أغسطس 2023
هنا/الآن
ليلى نصير (1941 ـ 2023)
شارك هذا المقال
حجم الخط
رسومات الفنانة التشكيلية السورية ليلى نصير (1941 ـ 2023) مُذْ خَطَّتْ أوَّل خطٍّ أمام أستاذها حسين بيكار، الذي قال لها في فحص القبول: "أنتِ لا تعرفين كيف ترسمين، ولكنَّك موهوبةٌ"، والتي أُوفِدت للدراسة في مصر بمنحة من الحكومة السورية عام 1959، وتخرَّجت في كلية الفنون الجميلة في القاهرة عام 1963 بتخصُّص فن التصوير، هي رسوماتٌ تلملمُ الحزنَ من على وجوه شخصياتها، فالحزنُ في لحظةٍ ما قد ينفجر. ليلى نصير وقد انفجرت أحزان الناس من شدَّة القهر السياسي والاقتصادي، وفي مراحلها من التجريد إلى الواقعية فالسريالية فالتعبيرية؛ إنَّما كانت تكشف عن الصدع والشقوق والثغرات التي أصابت البشر، وقد تحولوا بفعل المالك الحصري لهم (الدولة الاستبدادية) إلى قطعان هائمة.
ليلى نصير، وحتى لا تخون ضميرها، لمَّا رسمت الوجوه، رسمتها بتعبيرية ناعمة، لتكشف الانحطاط الواقعي في سلوك قوَّة لا شرعة لها ولا شريعة. وهي الفنانة التي تفاعلت مع الثورة الفلسطينية، وذهبت إلى لبنان في الثمانينيات في أثناء الحرب، وصوَّرت فجائعها على الناس، وما تركته من مآسٍ، كما عاشت مع الأطفال المشردين وآوتهم وأطعمتهم في بيتها في اللاذقية، حتى تذمَّر جيرانها من سلوكها الإنساني. لنقرأ تفاصيل الوجوه، ونقرأ التعابير عليها، وجوه بتعبيرات حزينة، وجوه مزمومة، وعيون مفتوحة وأخرى مغلقة، وجوه بتعبيرات سلبية، متهكِّمة وبانفعالات تدل على مدى الألم والعذاب، وجوه عابسة، وجوه متأفِّفة. نصير تحاول أن تكشف أعماق النفس الإنسانية وقد أصابها التحريف والتشويه والقلق والخوف، وتحاول أن تلتقط وتصوِّر الشجاعة. في لوحة "نساء"، وهي لنساء متراصات في نسق تراتبي، سنرى وجوهًا كل عظام وعضلات الجسد فيها قد تمَّ ضغطها، وكأنَّ ما صَوَّرته هو عصير الغضب ـ غضبهنَّ. وجوهٌ تمَّ اضطهادها، وهي الوجوه التي تشكِّل مصدر قوَّة للحياة؛ وأيُّ حياة!... ليلى تصوِّر الخراب والدمار الذي لحق بالإنسان، تصوِّر تلك الرغبات المحرَّمة، والصراع بين الأنا والآخر من أجل الارتواء من العدالة.
دفقات هائلة من الحياة تجتمع في ألوانها كما اللهب الثاقب، وكأنَّ ليلى نصير في حمَّى فكرية، حمَّى؛ فترسم بطريقة انفجارية وهي ترمينا بالحصى والحصباء السياسية حين راحت كما ذكرنا مع الفدائيين الفلسطينيين ترسم وتصوِّر ما جرى لهم من مذابح بأيدي الذبَّاحين، في لونٍ من ألوان الحوار الدرامي العاري، مندفعة بحسِّها الإنساني، اندفاع خيبة أمل وخسارات جرَّنا إليها السادة المتحكِّمون بمصائرنا.
"وجوه ليلى نصير كائناتٌ من أعصابٍ وأرواح، كائنات تشعر وتتكلَّم، لأنَّ ليلى رسمتها بحبر الروح" |
الفنانة ليلى نصير ابنة القائمقام موسى نصير، شقيقة جوزيف اليساري، التي قضت جزءًا من طفولتها مع الأكراد في ناحية (راجو) شمال حلب في منطقة عفرين حين كان والدها مديرًا لها، وتتذكَّر طفولتها، وطفولة الأكراد، ووضعهم المأساوي وقد عضَّهم الجوع والفقر، كما ذكرت في حوار مع الشاعر والرسام منذر مصري، هي ترسمُ بكل ناريتها وسعيرها اللاهب، ترسم صورنا نحن الغرباء في وطننا، بمزج ألوان الإكريليك والمائي، والباستيل مع أقلام التلوين الخشبية، ومن ثمَّ بالألوان الزيتية. ترسمُ ملحمتها بتأثيراتٍ الرسامين أميديو موديلياني (1884 ـ 1920) ومايكل أنجلو (1475 ـ 1564) وفنسنت ويليام فان غوخ (1853 ـ 1890)، فنرى خطوطها وألوانها، خطوطًا قاسية كما لو إنَّها تنحت وليس ترسم؛ ترسم بقوَّة مُحرِّكة خارج مركز الجاذبية، فتكشف عن رِقَّتها، عن أنوثتها رغم قسوة ريشتها. ريشتها التي تنقَّلت ما بين الواقعية والسريالية والتعبيرية، وهي ترسم للإنسان أجنحة، أو تضع رأس إنسان على جسد حيوان، كما تحيط اللوحة أحيًانا بقطع صغيرة مرسوم عليها عناصر حيوانية وإنسانية متأثِّرة بموتيفات الفنون القديمة في مصر وسورية.
نصير ترسم، أو هي رسمت أفكارها، ومن ثمَّ أحاسيسها بعين نسرٍ لا بعين ذبابة، كما أستاذها محمود مختار الذي أعطاها قوَّة روحية، فصوَّرت لوحاتٍ هي صورٌ لمشاعر وأفكار في لحظةٍ حَرِجة تهيئ لذروة. وجوه، جذوع وسيقان وأيادٍ تتفرَّسُ فينا، سنرى فيها اختلاج شفاه، بريق بصر. هذه الوجوه التي ترسمها ليلى نصير بماذا تشعر وتحس، بماذا تفكِّر. وأعتقد أنَّ أهمية أعمالها تجيء من هنا، من الوجوه التي تفكِّر، الوجوه التي تحس وتستشعر شيئًا ما، لكنَّها بالتأكيد لا تفكِّر تفكيرًا إجراميًا، أو ملغَّزًا، كانت وجوهها من مرحلة التجريد، أو الواقعية، أو التعبيرية، فنحن مع وجوهٍ صبوية متوهجة بـ(الحلم) رغم قسوة شرطها العاطفي والسياسي والاقتصادي. قد نلتقط شيئًا من برودةٍ في بعض وجوهها التي رسمتها، لكنَّها لا تصل إلى درجة التجمُّد، لأنَّها وجوه في حالة ذهولٍ أو فزع ـ خوف. هي لا تذهب في تصويرها إلى رسم الوجه الضبابي أو الثلجي، بالعكس سنرى وجوهًا في حالة ألق ـ متألِّقة، يشعُّ منها النور، نورٌ يقيم صراعًا مع العتمة/ الظلام، وهذا ما يميِّز مدرستها التعبيرية.
وجوه ليلى نصير كائناتٌ من أعصابٍ وأرواح، كائنات تشعر وتتكلَّم، لأنَّ ليلى رسمتها بحبر الروح، وهم في حالة يقظة؛ يفكِّرون ولا ينامون، وفي ذروة وجودهم وهم يتمتَّعون بالحدس والرؤيا، فلا يظلُّون طرائد لجلادي المال والحريَّة الذين ما ينفكُّون يسملون عيوننا كي لا نرى ولا نُبصر.