كتبت الأديبة: لينا هويان الحسن ..أنطاكية وملوك الخفاء..عن صفحة: د. أسماء غريب

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • كتبت الأديبة: لينا هويان الحسن ..أنطاكية وملوك الخفاء..عن صفحة: د. أسماء غريب

    اضغط على الصورة لعرض أكبر. 

الإسم:	FB_IMG_1692598685217.jpg 
مشاهدات:	8 
الحجم:	172.4 كيلوبايت 
الهوية:	149109
    عن صفحة د. أسماء غريب
    ?
    الهدهد يبني ويهدم:
    ميتاسرديّات الخاتم السّليمانيّ في رواية (أنطاكية وملوك الخفاء) للأديبة لينا هويان الحسن.
    د. أسماء غريب
    *
    في مملكة سليمانة الهويانيّة، أقف وأنحني بإجلال واحترام أمام هذا القصر الرّوائيّ العظيم الّذي بناه هُدْهُدُها الخلّاق، وأتأمّله بشكر وامتنان عميقيْن لكلّ ضربة مطرقة وهزّة معول من يديه الكريمتيْن، ثم أخطو خطوة واحدة لا غير فوق لجّة الصّرح وأطبع قبلة فوق جبين هذا الطّائر العجيب الّذي ما إن رآني حتّى بدأ في الإشارة إلى أشكاله الهندسيّة الكامنة في البناء كلّه طابوقةً طابوقةً، وظلّ هكذا إلى أن ظهر لي الزّمان الّذي اختاره كحاضن تتحرّكُ فيه الأحداث والشّخصيّات: الثلاثينيات من القرن العشرين(1). إنّها ولا شكّ، فترة حرجة من تاريخ الإنسانيّة، فيها كانت سنوات الكساد الاقتصاديّ الكبير، وظهرت الأنظمة الاستبدادية في عدة دول أوروبية، وفيها أيضا اندلعت الحرب العالمية الثانية (أيلول 1939)، ودخلت القوات التركية بتواطؤٍ مع الاحتلال الفرنسيّ إلى أنطاكية فتمّ سلخها عن التراب السّوري وتغيير اسمها إلى هاتاي. وأنطاكية هي المكان الّذي اختاره الهدهد كقطعة شطرنجيّة يحرّكُ فوقها شخصيّاته وما يتراكم منها من أحداث ووقائع. ولأنّه عارف جنّيّ، فإنّه يعرفُ جيّداً كيف يُحكمُ قبضته على أدقّ التفاصيل في عوالم مملكة سُليْمَانته الهويانيّة، وكيف يستخدم كلّ طاقاته الكامنة ليستدعيَ جنّيات الخيال وربّاته ويرقم وينقش بالحرف روايته ويوقّعها بسجلّ أو خاتم سليمان، كإشارة منه إلى أنّه أقام حكومة العدل في هذا العمل الفكريّ، وأعطى لكلّ ذي حقٍّ حقّه، وأنصف دادا وفجر، وعاقب عوني وبدرية وكلّ من ارتكب حماقة أو جريمة ما في حقّ بطل من أبطال هذه الرّواية. وأقول أبطال بصيغة الجمع، لأنّ الهدهد أعطى لكلّ شخص دور البطولة، بحيثُ لا يمكن تحريك دور أيّ أحدٍ فوق رقعة الكتابة، إلّا ويحدث تغيير شامل تهتزُّ له كلّ أركان أرياف أنطاكية.
    والشّخصيات في عالم الهدهد الخفيّ كثيرة، منها من هو مِن عالم الجنّ، ومنها من هُو من عالم الإنس، والسيّد الهدهد لا يفصلُ بينهما بتاتاً، فهُوَ يرى الأوّل في الثّاني، والعكس صحيح. وهذا ما يُفسّرُ كيفَ أنّه أوحى للينا بأن تختار مريم الهدهديّة كقيّمة على محكمة أو مجلس الهدهد في روايتها، وذلك ليُثبتَ وجوده، وليُظهر كلّ شخصيّة بسماتها الحقّة المرسومة بدقّة شديدة، ووفقاً لتأثيرات طبيعيّة معيّنة بما فيها النّجوم والأفلاك وملوك الجنّ الجوّانيّ. ولأنّه اختار حقبة تاريخيّة حرجة من حياة أهل ريف أنطاكية، فإنّه نزل إلى عوالمهم الأرضية وعجن كلّ طينة منهم تبعاً لخلطة كيميائيّة اجتمع فيها السّحريُّ بالغرائبيّ والعجائبيّ، والواقعيّ بالماديّ، فأعطانا تشكيلة من النّماذج المحكومة بالماء كفهريّة التي سقطت في نهر العاصي لأكثر من مرّة، ونماذج أخرى بالخمرة من خلال الجنيّ باخوس كسيزار وغلوريا سونينو، وثالثة بالنّار كالربّة عشيرة من حيث أنّها تشعل نيران الشّهوة والرّغبة في الشخصيات التي يقع عليها الاختيار، وبدرية التي أكلتها نيران الغلّ والحسد، ورابعة محكومة بالرّيح كعوني الّذي جاب الأرض بالطول والعرض، ثمّ عاد من حيث أتى لينفّذ جريمته التي حاول أن يُخفيها في كتاب يوري الأحداث والحقائق أكثر ممّا يرويها.
    ولعلّ أكثر ما يثير الانتباه في تحرّكات الهدهد فوق رقعة السّرد الشطرنجيّة، هي طريقة المستطيلات المتداخل بعضها في بعض، أو ما أفضّل تسميته بخاتم سليمانة الّذي ظهر بشكل أدقّ في ثيمة الميتاسرديات أو السّرد والقصّ المتواشج والمتلاحم، فعندنا أوّلاً وكقاعدة تحتيّة؛ السّرد الأسطوريّ، وهو قائم على تحديد الآلهة التي أثّرت بشكل أو بآخر في تكوين شخصيات الرواية برمّتها وهي على التّوالي:
    - الملكة تيخا: وتقدّمها لينا الحسن كربّة تتحكّم في المياه، وهي عذراء قاسية صارمة بوجهين، أحدهما جميل والآخر قبيح، يتناوبان على النّوم والاستيقاظ. ملكة طاغية وغاشمة ذات غضب مريع، وهي على ما يبدو قريبة جدّاً من الإلهة الإغريقيّة ليسّا، وكذا من الربّة أرْتِميدِه، اللّتان عُرفتا كإلهتين للغضب والعنف والحرب والانتقام. وإذا ما بحثنا في القواميس الأنتروبولوجية عن هذا النّوع من الآلهة وتأثيرها في الحياة اليومية لعامّة النّاس، فسنجدها أقرب إلى ما يُسمّى اليوم بـ "أمّ الصّبيان"، باعتبار أن تيخا التي ظهرت في سرديات لينا، كانت تسعى إلى قتل كلّ الأطفال التّوائم الّذين ولدوا بين أحضان أسرة آل منجوك.
    - الملك باخوس: ومن لا يعرفه؟ إنّه ديونيسوس المُزهر والمُثمر وحامي الطّبيعة والأشجار، علّم الإنسان زراعة الكروم، ليمنحهم كما تقول لينا نعمة "النسيان" المؤقّت، لأنّ هدوء البال سرّ السّعادة كما يرى هذا الملك المطمئن، الّذي سخّر مواهبه لابتداع النسيان.
    - الملكة عشيرة: أو أشيرة، أو أثيرة، وهي أهمُّ إلهة في الرّواية، قرينة إيل، وتعدُّ بمثابة الإلهة الأمّ في البانثيون الكنعانيّ، وقد وصفتها لينا في روايتها بربّة الشّهوة والحبّ، وهي مرادفة أنتروبولوجيّا في وقتنا الرّاهن وخاصة في المغرب للربّة ميرة أو لالّة ميرة(2)، أو جنّيّة البهجة والعشق والغرام والزّواج والخصوبة المعروفة بألبستها الملكيّة ذات اللّون الأصفر المشرق المبهج، وهو اللّون الّذي أدهشني الهدهد بإبرازه لنا وإرشادنا إليه في رواية لينا وخاصّة في الجزء الّذي وصف فيه دادا بالسيّدة الّتي تعشق اللّون الأصفر (3)، كما هو واضح بشكل أقوى في هذا المقطع: ((من أين أتيت؟ يا من تعشقين اللّون الأصفر...هذا اللّون المعادي للاطمئنان. قلق النّرجس وغطرسته. نقيض الثبات والأمان، إنّه فتنة اللامبالاة، إنّه لون الشكوك والظنون والشبهات، هو البلبلة بحدّ ذاتها. إنه لون نرجس "الأنا". أنت ابتسامة ساخرة، واندفاع مكابر، حرّ ليبيرالي. أنت كائن استبدادي، لا يرحم، جنّية بزعانف وحشية. كل من عرفتهم يحبّون هذا اللون هم من صنف "المغادرين" دائما. جريئون بالإبحار وحرق كلّ المراكب خلفهم، من يرتدي الأصفر لون الطّرقات، التي نشقّها بأنفسنا، نمشي ونذرّ الغبار في عيني الماضي. أن ترتدي الأصفر يعني أنّك تبحرين في وجه الكلّ، إذا أنت نفسك: بشرتك وفيضك ولعبك وفوضاك ونزواتك)) (4).
    - ثمّ الملك شام: وهو في الحقيقة وكما تتحدّثُ عنه كتب التّاريخ الإله إيل، الّذي تصفه لينا بالغامض، الخفيّ، المنفرد، المارد، الحاضر في غيابه. لكلّ شيء عنده إيقاع. الكون موسيقى، الأفلاك والكواكب نوتات تعزف وتبثّ الجمال. لا يعرف الاستقرار، يختفي ويعود، إنّه جنّيّ التّغيير، والتدفّق المباعت. تتبدّلُ هيئته، وتتقلّب ليكون في كلّ مرّة أكثر جمالاً وبهاء. هو ملك الجاذبية. يعتبر الجمال والتّناغم ينقيان الرّوح. متحرّر لا تقيّده أزمنة ولا أمكنة. ناريّ، شهوانيّ، عاشق، محارب. يطيل الغياب، لكنه عندما يحضر يبدّلُ المسارات. (5)
    بعد هذه القاعدة السّرديّة الأسطوريّة التي هي أساس البناء الرّوائيّ الّذي رصّته مريم الهدهديّة، نجد عوني بيك الّذي يضع لنا بناء ثانياً من السرد المتواري وفيه يحكي نسخته الصّادرة عام 1960 في باريس تحت عنوان (صيّاد أنطاكية)، وهذا يمكنك أن تعتبره المستطيل الميتاسردي الثّانيّ، ثمّ لدينا المستطيل الثّالث وهو خاصّ بفجر ابنة الأبلهين يبرق وأسطفان، وأخيراً المستطيل الرّابع وهو الجامع لكلّ مستطيلات الرّقعة السّرديّة، وخاصّ بالرّوائية لينا الحسن نفسها، لأنّها هي من أعادت تركيب كلّ حكايات هذا البازل الرّوائيّ بشكل جعلنا نتساءل إلى أيّ حدٍّ أو مدى أبدعت لينا في نسيجها الرّوائي لدرجة أنّ هناك من قد سيعتقد أنّ كلّ هذه الشخصيات بمن فيها عوني هي من بنات خيال سليمانة الهويانيّة وهدهدها العجيب، ولمَ لا، فلربّما لا يوجد شيء اسمه رواية (صيّاد أنطاكية)! أيّا كان الأمر فهذا التّداخل السردي عجيب حقّاً لأنّه كان المحرّك الأساس الّذي أشعل فتيلة تشويق القارئ وشدّه إلى آخر سطر في الرّواية، لا سيما وأنه وجد نفسه ومنذ أوّل صفحة أمام "سبت ساحراتٍ" حقيقيّ بسبب كلّ تلك الاغتيالات السياسية وجرائم الشّرف، وقتل التوّائم، والصّراع الطّاحن بين تيخا وعشيرة، حتّى لكأنّي بكلتا الرّبّتين أصبحتا تجليّاً وتجسّداً عجيباً من تجسّدات ملكة جنّية أخرى خارج وقائع الرّواية وأعني بها ليسّا، ربّة الغضب والطّيش والانتقام.

    هل هذا التّناسل الميتاسرديّ، يخصُّ فقط الحكايات المروية على ألسنة شخصيّات رواية لينا؟ طبعاً لا، ففي الرّواية لا تتناسل الأسماء والحكايات فقط، وإنّما تتداخل وتتوالد الأمكنة أيضاً، وذلك بسبب حركة وتنقّلات الشّخصيات نفسها، ولعلّ منطقة السّرد الخاصّة بتلّة قصر آل منجوك، وكذا بجزيرة سان نيكولا الإيطاليّة هما المختبر الخيميائيّ الحقّ الّذي اشتغلت فيه لينا هويان الحسن بدقّة وشفافية نادرتَيْن، فجمعت من العناصر الطّبيعيّة كلّ ما يلزم لتكوين الحبكة الدراميّة والعقدة القصصيّة التي تتفجّر بموجبها الأحداث وتتحوّل فيها الشّخصيّات. ويبقى قبو الإيطالية غلوريا سونينو لعصر وتقطير الخمور، هو المدرسة التي تخرّج منها سيزار الفايز وقد تغيّر بالكامل، وأصبح جاهزاً للانتقال إلى الضفّة الأخرى، بعد أن تعلّم فنّ العشق والحياة. ولقد أدهشني حقّاً كيف أنّ لينا اختارت إيطاليا كموقع لتطوّرات نفسية عميقة لشخصيّة مهمّة من شخصيّات روايتها، وكيف أنّ معلّمات الحكمة وقدّيساتها هنّ نساء بالدرجة الأولى، بدءاً بمريم الهدهدية ومروراً بغلوريا، ثمّ وصولاً إلى دادا وفجر.

    الهوامش:
    (1) رواية (أنطاكية وملوك الخفاء)، ص 5.
    (2) د. أسماء غريب، أنا النّقطة، دار الفرات للثقافة والإعلام، العراق، 2021، صص 66-67.
    (3) رواية (أنطاكية وملوك الخفاء)، ص 74.
    (4) المصدر نفسه، صص 77-78.
    (5) المصدر نفسه، ص 9.
    #لينا_هويان_الحسن
    #أنطاكية_وملوك_الخفاء
يعمل...
X