مهى سلطان
سايبي Saype هو ليس اسم فنان فحسب، بل انّه شعار لظاهرة فنية لافتة، أضحت في السنوات الأخيرة من أكثر الظواهر شعبية ورواجاً على المستوى الإنساني والاجتماعي والجماهيري.
اشتهر بأنّه اتخذ الجبال مرسماً له. قام بإنشاء مجسّمات جدارية ضخمة في الطبيعة بأسلوب وُصف بالواقعية العملاقة أو ما فوق الواقعية، وهو واحد من أكثر الفنانين انتشاراً على المستوى الإعلامي. فكل مشاريعه الفنية وتدخلاّته في المواقع الطبيعية تترافق مع مواكبة إعلامية، نظراً لأهمية القضايا الإنسانية المحقّة المرتبطة بها. تنتمي أعماله إلى فن الأرض land art، فهو يرى عالم الأشياء كبيراً جداً، لذا تصل أعماله الهائلة الحجم التي ترسو على العشب، إلى ما يفوق الـ 3000 متر مربع، يلعب فيها الإنسان دوراً أساسياً، لاسيما الموضوعات المتعلقة بحقوق الطفل. في عام 2019، أدرجته مجلة "فوربس" في قائمتها السنوية التي تضمّ 30 شخصية تحت سن 30 عاماً من الشخصيات الأكثر تأثيراً في مجال الفن والثقافة في أوروبا.
عمر الفن في الطبيعة
يُعَدّ فن الأرض حركة فنية مستدامة تخاطب أفكاراً كونية كبرى، ظهرت في الولايات المتحدة الأميركية في أواخر الستينات ومطلع السبعينات الماضية، مع تصاعد الاهتمام بالبيئة والدعوة للحفاظ عليها. ورغبة في التخلّص من القيود الفنية والقواعد التي يمليها نقّاد الفن وأصحاب الغاليريات والمتاحف، قرّر الفنانون الاستفادة من الحركة البيئية لاستخدام البيئة بحكمة هذه المرّة، بحيث لم يعد الفن مجرد لوحة أو منحوتة، بل أصبح أنشاءً فنياً في قلب الطبيعة.
تَشكّل هذا الفن مع معرض "أعمال الأرض" الذي أُقيم في تشرين الأول (أكتوبر) العام 1968 في نيويورك، يعود الفضل في إنشائه إلى الأميركي روبرت سميثسون أحد مؤسسي فن الأرض، عندما نشر مقالته بعنوان "ترسبات الفكر: أعمال الأرض" في العام نفسه، أثبت نفسه بشكل ملموس كمنظّر للحركة، ثم أصبح شخصية رمزية "أيقونية"، لاسيما بعد رحيله المفجع في العام 1973 في انفجار المروحية التي كان يلتقط منها صوراً تذكارية لعمله "حاجز الميناء الحلزوني" الذي أنشأه من صخور البازالت والطين على شواطئ بحيرة الملح بولاية يوتا الأميركية.
ثم أُقيم معرض فن الأرض في شباط (فبراير) 1969، نظّمه كريستو وزوجته جين كلود ومايكل هايزر، أكّد هذا الحدث أنّ فن الأرض أضحى جزءاً لا يتجزأ من الثقافة الفنية.
ومع ازدياد اهتمام الفنانين به، نمت اتجاهات وتيارات عدة، لاسيما بعد النجاحات والشهرة التي حققها كريستو وزوجته في تغليف المباني التذكارية وأشجار الحدائق والجسور والبحيرات.
عرف هذا الفن انتشاره وازدادت أهميته في عصر العولمة، خصوصاً أنّه ارتبط بمبادئ أخلاقية وإنسانية وبيئية. ولعلّ من أكثر الأعمال الملفتة هو "الجبال الزرقاء" التي أنجزها الفنان البلجيكي جان فيرام في صحراء سيناء، في شهر كانون الأول (ديسمبر) من عام 1980 وأسماها "ملتقى السلام"، حيث قام بتلوين بعض الهضاب الصخرية باللون الأزرق، مما غيّر بطبيعة المشهد المعروف بكثرة الجبال ذات اللون الأحمر، فمنحها طابعاً فريداً.
من الغرافيتي إلى قلب الطبيعة
كثرٌ الذين مرّوا على دروب الأرض، غير أنّ سايبي يُعتبر من الجيل المعاصر الذي أوصل فنّ الأرض إلى ذروة الضخامة. ربط بين الفن كفكرة وبين طبيعته الهشّة كفن زائل، مستخدماً وسائط مبتكرة تراعي البيئة من ضمن رؤى عميقة المؤدّى، تتجاوز الحدود والأمكنة والاستراتيجيات والنزاعات السياسية بين بلدان العالم، وتتنقل ما بين الثقافات والحضارات، كما تدعو إلى التضامن من أجل الإنسانية. يقول في حديثه إلى صحيفة "الغارديان": "لقد شرعت دائماً في التأثير على عقول الناس وذكرياتهم، دون ترك أي أثر في الطبيعة".
وُلد سايبي، واسم الفنان هو غيوم ليغروس، في بلفور في 17 شباط (فبراير) 1989، ونشأ في إيفيت سالبرت، على الحدود الفرنسية- السويسرية.
تدرّب كممرض ومارس هذه المهنة بالتوازي مع نشاطه الفني لما يقرب من 7 سنوات. يُعتقد أنّ مهنته الأولى كان لها تأثير على عمله الفني، إذ انّها دفعت مقارباته أكثر نحو المسائل الوجودية كمعاناة البشر والشيخوخة والمرض. عن تلك المرحلة يقول: " عندما كنت طفلاً لم أذهب مطلقاً إلى متحف أو معرض واحد، بدأتُ الرسم بالريش في سن الثالثة عشرة كنوع من التمرّد وطريقة لإثبات الوجود في المجتمع. لم تكن رسومات الغرافيتي الريفية لها مواقع واضحة دائماً. في البداية، لم يكن هناك سوى جدار ملعب تنس أو منزل مهجور، تدريجياً انتقلتُ إلى رسم الغرافيتي لأقرب بلدة، تحت الجسور أو القطارات".
في الثامنة عشرة، ابتكر لنفسه اسماً مستعاراً مكوّناً من مقاطع كلمتين بالانكليزية هما "قُل" و"سلام" Say Peace، منذ ذلك الحين أصبحت تلك الكلمة Saype اسمه الحركي.
في باريس طوّر موهبته في رسم البورتريه بأسلوب ما فوق الواقعية من خلال رسم الأشخاص في أنفاق المترو. مقتنعاً بأنّ الكتابة على الجدران باتت متمازجة مع تلوث مجتمعاتنا الحالية، قرّر "تكييف فن الشارع مع ساحة لعب أكبر وأقل استغلالًا: ألا وهي الطبيعة".
هذه هي الطريقة التي تَحوَّل بها إلى فن الأرض، مستكشفاً المادة "الجدارية" (Fresque) لتنفيذ تكاوين عملاقة منفّذة على العشب بمواد تراعي البيئة. فقد أمضى سايبي عاماً في إجراء التجارب في حديقة والديه لصنع طلاء قابل للتّحلل الحيوي، يتكوّن من الماء، والميودون الأبيض، والفحم وحليب الكازين caséine. أعماله تظهر من السماء لبضعة أسابيع، ثم تختفي تدريجياً حسب تقلّبات الطبيعة. وللاحتفاظ بها يقوم سايبي بنسخها من خلال الطباعة الحجرية (ليتوغرافيا) أو يرسمها كأعمال مفردة موقّعة منه، كما انّ إمكانات الطائرة بلا طيار أتاحت له تصوير أعماله في رؤية علوية مدهشة لم تكن متاحة من قبل.
ما وراء الجدران
أول أعمال سايبي في الطبيعة كان بعنوان "الحب"، في عام 2015، نفّذه في جبال الألب الفرنسية على العشب، بأسلوب الواقعية المفرطة، ويجسّد تمثالاً نصفياً لامرأة، كان آنذاك أكبر قطعة جدارية على العشب في العالم بعلو 1200 متر مربع، ثم كسر هذا الرقم القياسي في مناسبات عدة. في عام 2018، انضمّ إلى جمعية SOS Méditerranée وأنشأ عملاً جدارياً بعنوان "رسالة من أجل المستقبل" شُيّد بالقرب من مكتب الأمم المتحدة في جنيف. يهدف المشروع إلى تكريم متطوعي الجمعية الذين يساعدون في إنقاذ المهاجرين في البحر.
في 15 حزيران (يونيو) 2019 ، أطلق Saype مشروعه الطموح بعنوان "ما وراء الجدران" Beyond Walls، الذي خطف الأضواء، والذي يهدف إلى ربط القارات الخمس، من خلال أكبر سلسلة بشرية رمزية في العالم.
كانت المحطة الأولى هي Champ de Mars، عند سفح برج إيفل في باريس، الذي تمّ إغلاقه أمام الجمهور لمدة أسبوعين، لإنجاز هذا العمل، وهي سابقة تاريخية بلا نظير. تصوّر اللوحات الجدارية التي يبلغ طولها 600 متر مربع أيدي تمسّك بعضها ببعض.
يشمل هذا المشروع 30 دولة حول العالم (من بينها إيطاليا وإفريقيا الجنوبية والولايات المتحدة الأميركية وإيرلندا الشمالية ونيروبي وساحل العاج وبوركينا فاسو وتورينو واسطنبول)، أوضح سايبي: "الفكرة هي التجول حول العالم بهذه السلسلة من الأيدي المتشابكة التي ترمز إلى الوحدة والإنسانية والتضامن والعيش معاً"
تضمّن المشروع 17 مرحلة أو خطوة تنتهي في ايلول (سبتمبر) العام 2023 في اليابان (في أوكيناوا، ثم في موقع ناكازاكي، وفي موقع مطلّ على جبل فيوجي وانتهاءً في العاصمة طوكيو) ليصل في نهاية المطاف إلى سلطنة عمان. ويُذكر أنّ مشروع "ما وراء الجدران" قد نفّذه سايبي في دبي (الإمارات العربية) ضمن نطاق "اكسبو 2020" على مساحة 1500 متر مربع، وفي نيسان (أبريل) من عام 2022 ولمناسبة "بينالي البندقية"، فقد شاهد الجمهور أيادي سايبي المتشابكة تبحر على طول القناة.
من منجزات سايبي المُجسّم الجداري الذي نفّذه أمام مقرّ منظمة الأمم المتحدة في نيويورك (بين عامي 2021- 2022)، لمناسبة الذكرى الخامسة والسبعين للمنظمة، ويجسّد "رسالة أمل" تقوم على تَصوّر عالم مثالي يتخيّله طفلان.
يقول سايبي: "عندما أرسم، لا أستطيع رؤية ما أفعله. إنّه فلسفي للغاية- إذا كنت قريباً جداً من الناحية العاطفية من شيءٍ ما، فلن ترى شيئًا. فقط عندما تتراجع فإنّ الواقع يصفعك".
ولئن كان مصير عمله أن يختفي، يعتقد سايبي أنّه على العكس من ذلك "فإنّه من المفارقات أن يطبع ذاكرة الناس أكثر"، آملاً أن يتجاوز مضمون رسالته الفنية الداعية إلى السلام كل الحدود.