مقارنة سينمائيّة بين حِمارَيْ بروسّون وسكوليموڨسكي

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • مقارنة سينمائيّة بين حِمارَيْ بروسّون وسكوليموڨسكي

    مقارنة سينمائيّة بين حِمارَيْ بروسّون وسكوليموڨسكي
    جورج كعدي 8 أغسطس 2023
    سينما
    ماري (آنّ ڨيازيمسكي) وبالتازار في فيلم "بالتازار كيفما اتفق"
    شارك هذا المقال
    حجم الخط

    المترفّقون بالحيوان يسعهم إدراك مزايا الحمار، الذي نُعت ظلمًا بالغباء على مرّ الأزمنة، وهو في الحقيقة والواقع من أذكى الحيوانات (لناحية ذاكرته القوية بخاصةٍ) ومن أكثرها ودًّا وحنانًا وصبرًا ووفاءً وقدرةً على التحمّل، إلى جانب صفة العناد التي لا ندري موقعها بين الذكاء والغباء، ومَنْ يجزم بعدم انتمائها إلى الأول بينهما! وأعرّج هنا، قبل الشروع في المقارنة السينمائية، على ما قاله بعض الأدباء والمفكرين في الحمار. ففي حكايات لا فونتين الشعرية (بين عامي 1668 و1694) تسخير للحيوان بغية توجيه أقسى أنواع النقد لأحوال المجتمع الفرنسي وقيمه وعاداته، والحمار في عدد من حكاياته الرمزية والاستعارية هو إمّا ضحية في "سارقو الحمار" أو حكيم في "العجوز والحمار" حيث يقول هذا الأخير "عدوّنا هو سيّدنا" أو معتدّ بنفسه في "الحمار حامل الذخائر"... إلخ. أمّا حمار جورج أورويل في "مزرعة الحيوانات" (1945) فإنّه لا يضحك إذ لا سبب يدعو إلى الضحك، ولا يفهم لِمَ نصّب الإنسان نفسه سيّدًا على كلّ الحيوانات في حين أنّه الكائن (أو الحيوان) الأوحد الذي يستهلك من غير أن يُنتج بيضًا أو حليبًا... وفي حين تُمسك الخنازير بالسلطة في مزرعة أورويل، وحده الحمار في هذا العمل المبدع المتخيَّل يُظهر شيئًا من الإحساس بالشفقة والتعاطف عندما يروح يطرد بذيله الذباب المحوّم على صديقه الحصان "مالابار" في أثناء احتضاره وقد تخلّى عنه الجميع. ولدينا حمار خادم دون كيخوته سانشو بانثا، وحمار جحا، وحمار توفيق الحكيم في "حماري قال لي" محادثًا الأديب المصري عن كل شيء، من هتلر وموسوليني إلى قضايا حقوق المرأة، كاستعارة وذريعة تسمح للأديب بإدلاء ما في جعبته حيال مسائل العصر. ويفيدنا الباحثان في حضارات بلاد ما بين النهرين بأن الحمار كان رمزًا للمعرفة والحكمة لدى شعوب هذه المنطقة قديمًا، فالأذنان الكبيرتان كانتا ترمزان إلى حسن الإصغاء، على عكس ما شرعت تحكم به المدارس الأوروبية، مع مطلع القرن العشرين، على التلميذ الذي يرتكب حماقة معينة أو يرسب في دراسته بارتداء قبعة من ورق كُتب عليها "حمار"! لإثارة سخرية رفاقه منه، علمًا أن لا علاقة لصفتي الغباء والحماقة بهذا الحيوان الذي يُعدّ ذكيًا وودودًا... رغم عناده.

    في القرن التاسع عشر أَحْضَرَ فيكتور هوغو الحمار إلى ميدان الفلسفة ووضعه، استعاريًّا بالطبع، في مواجهة الفيلسوف الألماني الكبير كانط، وحصلت الحوارية الفلسفية بين الحمار وكانط ضمن قصيدة عنوانها Patience (صبر) في خمس وستين صفحة. ويرسم الحمار في هذه القصيدة، من خلال مرافعة عنيفة وانفعالية، صورة للإنسان الميؤوس منه، والذي لا يجد له عذرًا وجيهًا يسوّغ تصرّفاته، قائلًا إنّ العلم ينحني أمام السياسة، ويقدّم العالِمَين جيوردانو برونو وكامبانيلا اللذين أُحرقا بدلًا من الاستماع إلى استجوابيهما ووجهتي نظرهما العلميّتين (الصحيحتين تمامًا في نهاية الأمر)، كما يذكّر الحمار بغاليليو الذي تنكّر ليقينه العلمي خوفًا من المصير نفسه. ويرى الحمار "باسيانس" أنّ الإنسان يتحوّل إلى وحش بعد بضع سنوات من التربية التي تغتال فيها براءته ولا تعلّمه سوى المكر والشرّ، ويُعلن تفضيله الإنسان الجاهل والغبي والأعمى شرط أن يكون طيّب القلب. في المقابل، لا يجد الفيلسوف كانط أيّ حجة عقلانية يقارع بها مرافعة الحمار الانفعالية، فيُعلن في ختام القصيدة اقتناعه بصوابية آراء الحمار، معبّرًا عن قلقه من صورة الإنسان: عالِمٌ ولكنّه خبيث، جبانٌ أمام الكبار، بيد أنّه بلا رحمة إزاء المساكين... وبعد سنة على قصيدة "باسيانس"، كتب هوغو قصيدة "الضفدع" ويروي فيها أنّ حمارًا كان يجرّ عربة عائدًا بها إلى المزرعة بعد نهار شاقّ تعرّض فيه لضرب كثير، فصادف في طريقه ضفدعًا سمّره بعض الأولاد القساة أرضًا وكانوا يتهيّأون لدحرجة عجلة لقتله، فاستجمع الحمار ما بقي لديه من قوة لتغيير مسار العجلة القاتلة وإنقاذ الضفدع من الموت... هنا يَخْلُصُ هوغو إلى أنّ هذا الحمار هو أنبل من سقراط وأعظم من أفلاطون.

    بدورهم التفت الرسّامون الكبار إلى الحمار في لوحاتهم، بدءًا برسوم التزيين في "كليلة ودمنة"، مرورًا بالرسام الألماني دورر والإسباني غويا الذي توسّله في رسومه الكاريكاتورية الساخرة، وغوستاف دوريه، وغوستاف مورو، وبيكاسو، ودالي، وسواهم. فلو لم يكن الحمار كائنًا محمّلًا بالرموز والمعاني لما كان الاهتمام به بهذا القدر... وصولًا إلى السينما موضوعنا الأساسيّ هنا.
    روبير بروتسون وملصق "بالتازار كيفما اتفق" (Au hazard Balthazar)
    فيلمان وحماران
    في البدء كانت رؤية المخرج الفرنسي روبير بروسّون Bresson، في فيلمه الرقيق "بالتازار كيفما اتفق" (Au hazard Balthazar) الذي يعود تاريخه إلى 1966، قبل أن يأتينا المخرج البولنديّ ييجي سكوليموڨسكي Skolimowski عام 2022 بفيلمه الحديث EO (العنوان مطابق لصوت نهيق الحمار) الذي أنجزه كتحيّة للمخرج الفرنسيّ المعلّم بروسون، أحد أكبر ملهميه سينمائيًا بحسب إعلانه شخصيًا في مهرجان كانّ ما قبل الأخير حيث نال جائزة لجنة التحكيم.

    بمَ يتميّز فيلم بروسّون أوّلًا، وضمن الترتيب التاريخيّ، قبل الانتقال إلى مزايا فيلم سكوليموڨسكي. لفهم طريقة عمل بروسون يجب ذكر بعض السمات الصادمة. كلّ صفحة في السيناريو الذي يُعدّه مقسومة عمودين، أوّل إلى اليسار لتدوينات مختصرة للمرئيّ، وثانٍ إلى اليمين للأصوات (ضجيج، حوارات...)، وكلّ لقطة تحمل إرشادًا عن حجم اللقطة (متوسطة، قريبة، بعيدة، جامعة...)، وعند الضرورة، داخل اللقطة إرشادات حول تحرّك الكاميرا (النادر إجمالًا لديه إذ يكثر من اللقطات الثابتة). وثمة تباعًا ملاحظات حول الدخول أو الخروج في حقل الصورة. وفي اللقطة تظهر الشخوص في مواجهة الكاميرا، أو من الخلف. وتقنيتا "الخفوت" Fade out أو "الظهور" Fade in تفصلان بعامة بين اللقطات. الأسلوب عينه مطبّق في تحفته هذه، "بالتازار كيفما اتفق"، حيث يفتح على ثلاث لقطات متتالية، أولى عامة تليها لقطات جامعة فمتوسطة، لطبيعة ريفية فيها رعاة مع ماشيتهم والكلب قريبًا من الطفلين مارت وجاك ووالدهما، ثم للحمار الصغير "بالتازار" الذي تُظهر لقطةٌ قريبة يدًا تربّت عليه بلطف. بروسون في سينماه كلّها يهب كلّ عنصر تأثيره. بالتازار يجسّد لديه البراءة المطلقة التي يسعى طوال الفيلم إلى إظهارها، خاصةً في نظرة الحمار الذاتية. ثمة زاوية نظر (Point of view) للحمار ناظرًا إلى محيطه وليس منظورًا إليه. هي وجهة نظره إلى العالم، إلى الوجود، وليست وجهة نظر البشر إليه.
    "النقطة الجوهرية التي تجمع الفيلمين هي تبنّي كلا السينمائيين وجهة نظر الحمار، أي أنّ الحمار هو الذي ينظر إلى البشر لا العكس، هو المتأمّل في أحوالنا لا نحن في أحواله"
    من خلال تبنّيه وجهة نظر الحمار أنجز بروسّون تحفة حيّاها جان- لوك غودار كمعجزة سينمائية، فالحمار هو في رأيه تلك الصورة الوسيطة بين العيد والسيرك، وبين المدنّس والمقدّس (لا تغيب عنّا هنا نظرة بروسّون الكاثوليكية المؤمنة الثابتة)، التسجيليّ والروائيّ، الاتفاقيّ والضروريّ... بالنسبة إلى بروسون، تدعونا نظرة الحمار إلى تغيير نظرتنا. "بالتازار كيفما اتفق" حكاية روحيّة بطلها "بالتازار" والحسناء الفتية ماري (دور خالد لآنّ ڨيازيمسكي). حكاية يختزلها بروسّون نفسه بأنّها بين الحنان والألم والموت. رحلة عبر شرّ أنطولوجيّ يمثّل الحمار نقطة العقدة فيها. إنّه في مقدّم كل اللقطات. هذا الحضور شبه الدائم يجعله شخصية مفارقة، فهذا الحمار في نظر والد الحسناء ماري التي تعشقه وتلازمه هو "رجعيّ وسخيف"، والفتية الأشقياء يقولون ساخرين لدى رؤية بالتازار: "ظريف هذا الحمار، سريع، عصريّ". لكن بروسّون يتعمّد اختيار "نقيض البطل" هذا، البطيء، الرجعيّ (إذ كنّا أصبحنا في زمن الآلة ووسائل الانتقال)، وفي الخلفية جبال البيرينيه، أي كلّ ما يناقض صورة فرنسا المتحوّلة في "الثلاثينيّات المجيدة"، أي مع انتهاء زمن الفلاحين وتفشّي مظاهر التمدين والاستهلاك والراديو والترانزستور... بحيث يبدو الحمار الصورة المعاكسة لعالم في مرحلة تحوّل.

    سكوليموڨسكي و"إي أو"
    ماري وبالتازار هما صورتان لضعف إنسانيّ وضعف حيوانيّ. يتعمّد بروسّون وضع بَطَلي هذه الحكاية خارج "الحداثة" الصاعدة. كلاهما يتعرّض للعدوانية والإهانة من الآخرين، كلاهما يُستغلّ ويُهان (بالتازار من معظم المجتمع، وماري من جاك حبيب الطفولة، وجيرار الفظّ الذي يذلّها...). بروسّون يجعل ماري وبالتازار نموذج علاقة بين كائنين بسيطين وحسَّاسيْن. بل ثمة "حسّية" غامضة نستشعرها في مشهد انهيال ماري بالقبلات على بالتازار بعدما وضعت تاجًا من الزهور على رأسه. ولدينا في المقابل نظرة بالتازار العميقة والحنونة إلى ماري، والتي تخاطب إنسانيتنا وتسائلها. تقول ماري للمتسوّل: "إنّي في حاجة إلى صديق يقاسمني متعاتي وآلامي". هذا الصديق هو بالتازار الذي تجعله كاتم سرّ حبّها لجاك. وفي حين يكرهه والدها، تصف أمّها بالتازار بـ"القديس". وفي السيرك يتبدّى ذكاء الحمار مثل "آلة حاسبة" في تفاعله مع باقي حيوانات هذا السيرك (أسد، دب، قرد، فيل، نمر...) من خلال تبادل النظرات معها والتقاط بروسّون تلك النظرات بلقطات قريبة جدّ معبّرة.

    الإنسان عند بروسّون لا يبحث إلّا عن السيطرة، وتنسحب هذه من السيطرة على الأرض إلى السيطرة على البشر، مرورًا بالسيطرة على الحيوان. المسألة إذًا بالنسبة إلى بروسّون هي مسألة سلطة وسيطرة، إن من نوع على آخر، أو من جنس على آخر، أو من طبقة اجتماعية على أخرى. هذا المعطى الرهيب لا يفضي لديه مع ذلك إلى إدانة أشخاص ليسوا سوى أشباهنا، بمزاياهم وعيوبهم. لكنّ بروسّون منحاز إلى الحمار الذي يصوّره بطريقة تهزّنا. والمؤلم أنّ حيوانه المحبوب منه ومن ماري (التي تختفي في نهاية الفيلم إثر تعرّضها لاغتصاب) يصاب في قائمته برصاصة من جرّاء تبادل نار بين مجموعتين متخاصمتين، فيجرجر نفسه بعيدًا نحو أحد المراعي حيث ينفق (والأصحّ أن نقول يموت لأنّه مؤنسن هنا) محاطًا بنعاج متعاطفة.

    تحفةٌ سينمائيّة حيّاها زملاء كبار لبروسّون، غودار في مقدّمهم ولوي مال وآخرون، فهذه الحكاية المغلّفة بالحزن أفردت لصانعها مكانةً على حدة في سينما ما بعد الحرب.
    "حمار بروسّون رمز للألم الكاثوليكي الخلاصيّ، على النقيض من حمار سكوليموڨسكي الذي يشهد على آفات زمن ليبرالي وحشيّ "متطوّر". هو هنا شاهد وليس رمز فداء أو خلاص"
    إلى حمار سكوليموڨسكي، المُرسل من المخرج البولندي تحيّة إلى روبير بروسّون وفيلمه، إنّما مع فروق بيّنة، فـ"إي أو" (2022) صاخب، هلوسيّ، سريع الإيقاع، ذو كاميرا دائمة الحركة والتحويم، على عكس فيلم بروسّون الهادئ جدًا، الساكن تكوينًا وتصويرًا، ذي الأبعاد الصوفيّة. فضلًا عن الفرق الأساسيّ في جانبي اللون والمناخ، فشريط بروسّون بالأسود والأبيض ويمعن في إيحاءات "التضادّ" (الكونتراست) الدراماتورجيّة، في حين أن شريط سكوليموڨسكي فاقع الألوان الموظّفة لرؤية أكثر ارتباطًا بعصرها وزمنها.

    النقطة الجوهرية التي تجمع الفيلمين، في المقابل، هي تبنّي كلا السينمائيين وجهة نظر الحمار، أي أنّ الحمار هو الذي ينظر إلى البشر لا العكس، هو المتأمّل في أحوالنا لا نحن في أحواله، ويتجلّى هذا الجانب أكثر في فيلم سكوليموڨسكي الذي يجعل حماره (أو حميره المتناوبة على الظهور لتشكل في النهاية حمارًا واحدًا) يقوم برحلة طريق (Road movie) مجنونة، ليس من ناحية الحمار المذهول أمام الأفعال البشرية التي يغلب عليها العنف والقسوة، بل من ناحية البشر أنفسهم بكامل وحشيتهم ضد الإنسان والحيوان والطبيعة معًا. هنا المعاني الدفينة في الفيلم الذي قد يراه البعض عاديًا وسطحيًا ومجرّد إعادة وتحيّة إلى المعلّم الأوّل روبير بروسّون. لكنّ الحقيقة أن شريط سكوليموفسكي يمضي أبعد من ذلك وينطوي على نظرة انتقادية حادّة للعصر. رحلة أوديسيّة في عالم بشريّ مجنون، متوحّش، فوضويّ، مهدِّد وقاتل. يمرّ حمار المخرج البولندي ببعض المراحل والمحطات المطابقة لفيلم بروسّون (السيرك مثلًا) لكنّه يفترق عنه نحو مواقع أخرى. وماريا لدى بروسّون تصبح كساندرا لدى سكوليموڨسكي. وبعد فراره من السيرك تبدأ رحلة "إي أو" عبر السهول والطرقات السريعة وشوارع المدن، وسط اللامبالاة والمعاملات الودية أو القاسية. حتى أنّه يتحوّل في ملعب لكرة القدم إلى فأل سيّئ للاعبين يطاردونه غاضبين بعد خسارتهم ضربة جزاء، فيما يحسبه الفريق المنتصر فألًا حسنًا له (النظرة الانتهازية المتناقضة). و"إي أو" ابن عصر الروبوتات، يخال حمارًا آليًا مسيّرًا كمبيوتريًا، كأننا نمسي في ديستوبيا خيالية لا حيوانات طبيعية فيها بل روبوتات. نحن في عصر الآلة، أو الذكاء الاصطناعي، وينتمي فيلم سكوليموڨسكي بالتالي إلى عصره، مثلما انتمى فيلم بروسّون إلى مرحلة تاريخية سابقة. زمن سكوليموڨسكي مدينيّ، غير ريفيّ (كما لدى بروسّون)، فيه الترحال والسفر والسكك الحديد والسيارات والشاحنات والطرقات السريعة. وإذا كانت رحلة "بالتازار" قد تمّت كيفما اتفق، فإنّ رحلة "إي أو" هي أيضًا رحلة بلا هدف محدّد، سوى ذاك الذي رسمه له ولنا سكوليموڨسكي ليرينا أحوال عالمنا المقزّزة، المثيرة للاستهجان، من بولنده موطنه إلى إيطاليا حيث نرى بعيني "إي أو" الاستغلال البشري والسوق السوداء والتهريب وتبعات النظام الليبرالي المتوحش المعولم والجشع والقسوة (المسالخ الحديثة التي تجرّ ألوف الحيوانات المسكينة إلى الذبح لتلبية نهم الاستهلاك البشريّ... واحد من أقسى مشاهد الفيلم على الإطلاق... ويمرّ "إي أو" شاهدًا في محاذاة المسلخ كأنّه سيكون إحدى ذبائحه). ونرى "إي أو" شاهدًا على مذبحة بلا كلام من خلال نظرات (بلقطات قريبة كما لدى بروسّون لإيصال عمق النظرة ودلالتها) بين "إي أو" والكلاب المحتجزة داخل أقفاصها.

    حمار بروسّون رمز للألم الكاثوليكي الخلاصيّ، على النقيض من حمار سكوليموڨسكي الذي يشهد على آفات زمن ليبرالي وحشيّ "متطوّر". هو هنا شاهد وليس رمز فداء أو خلاص. الخطاب السينمائي مختلف تمامًا، نظرةً واستعارةً وأسلوبًا. الشكل ذو أولوية بالنسبة إلى السينمائي البولندي، لذا كاميراه كثيرة التحويم في المناظر الطبيعية الآسرة، بواسطة الدرون، المتنوعة، والألوان الحارّة التي يطغى الأحمر عليها، لون الدم والموت، ويجدر التنويه هنا بالعمل الفذّ الذي أنجزه مدير تصوير "EO" البولنديّ الشاب المبدع ميخال ديميك.

    بين قديم وحديث، هادئ وسريع، متأمّل وناقد، تبقى عين الحمار الواسعة تتقطّر في اللقطة القريبة حزنًا وودًّا وتعبيرًا يمزّق القلب وتوسّلًا إلى البشر بأن يرأفوا بحال الحيوان الضعيف... ويرأفوا بحالهم أيضًا.

    ٭ناقد وأستاذ جامعي من لبنان.
يعمل...
X