"عمر لافريز": عن الجريمة في مجتمع المهاجرين الفرنسي
سمير رمان 7 أغسطس 2023
سينما
ملصق فيلم "عمر لافريز"
شارك هذا المقال
حجم الخط
في شهر مايو/ أيار الماضي، بدأ عرض فيلم "عمر لافريز"، للمخرج الفرنسي إيلياس بيلكيدار. الفيلم يمثّل دراما قاسية يتتبّع من خلالها المخرج رحلة بطله، وصراعه النفسي الداخلي، وتفاعله مع الوسط المحيط في أجواء متوترة تحبس الأنفاس.
عمر (الممثل رضا خطيب) هو رجل عصابات أصدرت محكمة فرنسية في حقّه حكمًا بالسجن لمدة عشرين عامًا. يقرر عمر الهروب إلى وطنه الأصلي، الجزائر، برفقة زميله في العصابة روجيه (الممثل بينوا ماجيميل)، في محاولةٍ لبدء حياةٍ جديدة. غير أنّ ماضيه الإجرامي وعاداته المدمّرة سرعان ما تصبح عائقًا أمام عودته إلى الحياة الطبيعية. يتحالف الاثنان مع مجرمين شباب، ويجرون المدينة برمتّها إلى سلسلةٍ من الحوادث التي تدخلها في حالةٍ من الفوضى والعنف.
كرّس الممثلون في الفيلم نماذج لشخصياتٍ كاريزمية قاسية، ونجحوا في إدخال المشاهدين عالم الجريمة والعنف. أثار الفيلم اهتمامًا كبيرًا في الأوساط السينمائية، ورشّح لنيل جائزة "الكاميرا الذهبية" في مهرجان كان السينمائي لهذا العام.
تحمل كلمة "لافريز" في اللغة الفرنسية معنيين: أولهما "الفراولة"، وثانيها "المثقب". طيلة عرض الفيلم كان الغموض يلفّ شخصية عمر المزدوجة، ليضع المشاهد أمام خيارات عدة يخمّن من خلالها كيفية حصول عمر، بطل الفيلم الأول، على هذا الغموض المزدوج.
ربما جاء غموض شخصية عمر من كونه مجرد فتىً واضحًا كلّ الوضوح من جهة، ولكنّه، من جهةٍ أُخرى، شابٌّ مدمّرُ، يأتي على كلّ ما يقف في طريقه، شأنه شأن المثقب الذي يحقق هدفه مهما كان صعبًا، أو ربما كان عمر قد تلقى في طفولته صفعةً من أحد المعلمين، ولكنّه لم يتوان، وهو المعتزّ بنفسه، عن قذف المعلّم بثمار خوخٍ حشاها ببرادة الحديد التي يخلّفها المثقب عادة. هنالك احتمال ثالث أنّ عمر الشاب عمد إلى المثقب لخرق صهريج أحد تجار الفاكهة كي يسرق بعضًا منها ليوزّعه على أقرانه الأطفال الفقراء، الذين تعجّ بهم شوارع الضاحية، حيث ترعرع. في واقع الأمر، يتضّح أنّ الحقيقة، وكما سيقتنع المشاهد مع نهاية الفيلم، أشدّ مرارةً من كلّ هذا. وفي خضمّ كلّ هذه الفوضى الدراماتيكية، وحتى آخر لقطات الفيلم، يسعى المخرج جاهدًا كي يحظى بطله بتعاطف المشاهدين بعيدًا عن التعصّب.
من يبدأ برمي الخوخ والدراق على معلّمه سينتهي به الأمر حتمًا بشنّ غارة تلو الأُخرى على سيارات نقل الأموال، وسيقوم أيضًا بترويج الكوكائين على نطاق واسع. سيحصل عمر على حكمٍ بالسجن لعشرين عامًا تحت الحراسة المشدّدة، ولكنّ العدالة الفرنسية بطيئة. حتى لحظة النطق بالحكم، سيتمكن عمر، ليس فقط من الهرب إلى وطنه الأمّ، بل وسيحاول التأقلم هناك في مستقرّه الجديد. وكما هو معروف، فإنّ الجزائر دولة لا تتخلى عن مواطنيها، ولا تسلمهم إلى دولةٍ أُخرى.
"تحمل كلمة "لافريز" في اللغة الفرنسية معنيين: أولهما "الفراولة"، وثانيها "المثقب". يضع الفيلم المشاهد أمام خيارات عدة ليخمّن من خلالها كيفية حصول عمر على هذا الغموض المزدوج" |
ليس من منطلق الإخلاص للصداقة الحميمية التي تربطه بعمر، إنّما خوفًا من صدور حكمٍ جائر في حقه أيضًا، يلتحق الفرنسي روجيه بصديقه عمر في الجزائر. ولكنّ روجيه، وبعد أن علم أنّ المحكمة قد برأته لعدم كفاية الأدلّة الموجهة إليه، يقرّر عدم العودة إلى فرنسا، مفضلًا عدم التخلي عن شريكه، والإقامة معه في الفيلا الرحبة المطلّة على شاطئ البحر المتوسط. كان الأفضل لو كان المخرج قرّر أن يعود روجيه إلى بلاده: عندها لم يكن المشاهد مضطرًا أن يعاني من فائض المشاهد المرعبة في الفيلم: الدماء، الكوكائين، سمّ الأفاعي المدسوس في عصير الليمون وعصارات السكّر.
طالما كانت فكرة الصداقة التي لا تنفصم عراها بين أفراد العصابات واحدة من ركائز سينما النوار الفرنسية ـ العربية. صداقة عمر مع روجيه هي محاولة لإحياء هذه الأسطورة. عمر مجرم، قذر ووقح، يميل إلى التصرفات السيكولوجية المجنونة. أمّا روجيه، فشابّ مفتول العضلات، حريص وصلب.
من هذا الثنائي، عمر وروجيه، وفي ظل الظروفٍ المفترضة، يمكن الحصول على أيّ موضوع، بغضّ النظر عن طبيعته. في هذا الفيلم، يحاول بيلكيدار استخدام السجّلات الدرامية كافة، ودفعةً واحدة، ولكنّه لم يفلح، كما لم يفلح جميع من حاول ذلك قبله.
عادةً ما تكون أولى لقطات الفيلم هي المسؤولة عن مكوّن الفيلم الكوميدي: فوضى عارمة تعمّ الشارع، وفي خضمّها يستولي أبطال الفيلم بمهارةٍ على حقيبةٍ من الكوكائين. ها هم يجلسون معًا يعاقرون الخمرة، ويستنشقون المخدرات، ويدخنون السجائر في فيلتهم المنعزلة، ويمرحون مثل أطفالٍ أبرياء.
من هذا الثنائي، وفي ظروفٍ افتراضية، يخفّف بيلكيدار الدعابة الإجرامية عبر الشوق إلى الوطن الفرنسي، المختلطة بالمناسبة بأسبابٍ واقعية تمامًا. في حقيقة الأمر، ما الذي يمكن فعله لمواطني العالم في بلاد الجزائر الرائعة هذه: فالنقود تميل بطبيعتها دومًا إلى النفاذ. وحان الوقت الذي سيضطر فيه عمر للذهاب إلى العمل، ليس في ورشة بناءٍ، ولكن كـ"غطاءٍ" ومديرٍ وهميٍّ لشركة حلوياتٍ. وهنا، تطغى على الفيلم موجة من العواطف ليست في محلّها، تجعلك تشعر بحرجٍ شديد. يقع عمر في حبّ مديرة المصنع سامية (مريم عميار)، تلك المرأة الفخورة والمستقلة، والتي هربت ذات مرّةٍ من زفافها المشؤوم. تخضع سامية عمر لدورة مكثفة في النسوية يتحول بعدها من ذئبٍ منفرد إلى كلب بودل خالص.
تتجلى قوة مشاعر العاشقين في مشهدٍ يتسابقان فيه على الإبل، مشهد لا يمكن تفسيره إلا كنوعٍ من الدعاية لترويج السياحة الجزائرية. أمّا نغمة العواطف فتتعزّز باستمرار كما خطط لها المؤلف، من خلال قصة عصابةٍ من الفتيان المشردين يضعهم عمر تحت وصايته. ربما لن يجد المشاهد في ملائكة الشوارع هؤلاء، المسلحين بسكاكين الجزارين، وسيوف الساموراي، أيّ حافزٍ يدفعه إلى التعاطف معهم: إنّهم غيلان مصيرهم جليّ ومحتوم. بالطبع، سيلقى اللوم على هذه الحياة الحقيرة، فهي المسؤولة عن كلّ شيء، ولن يجدي أيّ علاج اجتماعي قد يحاول من خلاله إنقاذ الفتية من مصيرهم البائس. الأمر نفسه ينطبق على عمر وصديقه روجيه: فلماذا سيتعاطف المشاهد مع هكذا كائنين لا ينتميان لا من قريب، ولا من بعيد، إلى البشر.