"فريمونت": الأمل من حيث وحين لا نتوقع
ندى الأزهري 31 يوليه 2023
سينما
لقطة من فيلم "فريمونت" للإيراني ـ الأميركي باباك جلالي
شارك هذا المقال
حجم الخط
"دنيا كانت تعمل مترجمة للجيش الأميركي في أفغانستان. هي اليوم في سان فرنسيسكو، حياتها تسير على وتيرة واحدة". في أحيانٍ، يشير ملخص فيلم إليه ببرودٍ وحيادية، تشقّ الكتابة حين التعبير عن فيلم يتكئ على لغةٍ بصرية وحوارٍ مقتصدٍ ومشاعر جوانيّة، فيلم تبقى صوره أكثر من كلماته، وتعابير وجوه شخصياته أكثر من أقوالهم. لنعد إلى دنيا في "فريمونت" (2023) للإيراني الأميركي باباك جلالي. فيلمٌ لا تبقى صوره في المخيلة، فقط لأنه كان الأخير الذي شاهدتُه في مهرجان كارلوفي فاري السينمائي الدولي (30 يونيو/ حزيران ـ 8 يوليو/ تموز 2023) قبل مغادرة المدينة، بل لشدّة تأثيره وقت حضوره، وفي ما بعد. لا بدّ، بعد مشاهدة حوالي خمسة عشر فيلمًا في أقلّ من خمسة أيام، للصور أن تختلط، ولعديد منها أن يغيب، ولبعض آخر أن يفرض حضوره. "فريمونت" يتسلّل باستمرارٍ إلى المخيلة في لحظات يومية أبعد ما تكون عن السينما. أهي فقط جودة الفيلم ما يستدعي ذلك، أم أنها رهافة حسّ في رؤاه لمست لدى مشاهده حساسية ما، أو أحالت إلى ذكريات مؤثرة أو قادت إلى رحلة تأملية في ماضٍ وحاضر؟ كي يثير فيلمٌ كلّ هذه المشاعر لا بدّ من أن يكون بديعًا، وأن يستحق جائزة أفضل إخراج لأسلوبٍ بسيط عرف كيف يعبر بعمق عن روح شرقية حلّت في مجتمع غربي. جائزة لمخرجٍ ولد في إيران، ونشأ في لندن، ويعيش في الولايات المتحدة، وهي ليست الأولى في مسيرة باباك جلالي (1978)، المعتاد على الجوائز في أفلامه الثلاثة السابقة.
فيلمٌ بالأبيض والأسود، سردٌ حساس ليوميات شابة حول بدايات جديدة في الحياة. بدايات دنيا تتخللها فترات ضياع في بلد آخر، وضجر تحيل إليه عادات وحركات وكلمات تتكرر كل يوم. نهوضٌ بعد ليل بلا نوم، كلمات عابرة مع سيجارة تتبادلها مع جار في ليلٍ طويل، تحية صباحية لجارٍ آخر لا يُرد عليها، ذهاب بلا حماس إلى عمل، وانهماك مخلص مع شيء من لا مبالاة لصنع كعك في معمل تمتلكه عائلة صينية. هذه هي حياة دنيا المهاجرة الأفغانية في فريمونت الأميركية. دنيا، شخصية رئيسية في الفيلم، علاقاتها تنحصر بثلاثة أشخاص زميلة وصديقة أميركية، وصيني، وأفغاني، من خلالهم ينسج السيناريو تمازج ثقافات وتشابه رغم الاختلاف. ثمة أوجه متقاربة عالمية يشترك فيها المهاجر وغير المهاجر، فلكلٍ الآمال والأحلام والطموحات نفسها. دنيا ذات شخصية قوية بسبب خياراتها في الحياة، هي مصممة على الرغم من عقبات النزوح على تغيير وضعها، تريد العمل، وتريد اللقاء مع شاب تحبه ويحبها. محنة هذه المترجمة الأفغانية وحياتها الجديدة في ثقافة مغايرة، يبديها المخرج ليس ليقول إن المهاجر بائس، أو إن تلاؤم الثقافات صعب، أو إن الإنسان يحمل معه بيئته وأسلوب تفكيره نحو بيئة جديدة، بل ليهتم (الفيلم) بهذه البداية الجديدة التي يقررها الإنسان في أيّ بقعة بعيدة عن مكانه الأصلي، حتى لو اختلفت أسبابه للمغادرة. دنيا لم تكن راغبة تمامًا ومقررة للهجرة، لكن لم يكن لديها خيار. بعد عودة طالبان كانت ستُقتل لو بقيت، فهي تعد خائنة من وجهة نظر الناس هناك. إنّما ليس فقط من قِبلهم، بل أيضًا من وجهة نظر هؤلاء الذين قدموا معها إلى الولايات المتحدة. جارها ينظر لها باحتقار، ولا يرد على تحيتها، كل يوم تحييه، ولا يرد، ويغادر المكان. وهي مضطربة لم تجد نفسها ولا مكانها بعد. محاولاتها لعلاج مشاكل الوحدة والأرق تبوء بفشل، في البداية تسعى بمفردها ومن ثم بمساعدة معالج نفساني غريب الأطوار. تساؤلاته لا تدفعها كثيرًا للثرثرة، ترد عليها باختصار، بشبه ابتسامة، دوره كان كشف مكنوناتها أكثر، هي تعرف مشكلتها، لكنها لا تستطيع الخلاص منها. مشكلتان بالأحرى، فليس من الواضح ما إذا كان من الصعب عليها أن تتصالح مع ماضيها المؤلم في أفغانستان، أو مع وجودها الحالي المضطرب في الولايات المتحدة.
الممثلة أنايتا والي زاده ذات ملامح معبرة، تتراوح بين ضجر مبتسم وتصميم غير منفعل، تتحرك بهدوء وتتخذ قرارتها بهدوء، لا شيء يثير أعصابها ظاهريًا حتى زوجة صاحب المصنع التي تتعمد إهانتها يومًا، فلا تفلح. حتّى مع جارها النافر، حين تقرر يومًا أنها لم تعد تحتمل صفة الخائنة التي يلصقها بها تواجهه بحزم وتصيح به من دون عصبية أنها ليست خائنة، لأنها خدمت مترجمة، لقد كان الأفغان في حاجة إلى ما تترجمه، تلت عليه خطبتها القصيرة بسرعة وحزم، كأنها وأخيرًا بدأت تخطو في طريق المستقبل حقًا. تدريجيًا، يسير الفيلم مع تطورها البطيء، يصاحبها ولا يضغط عليها، يرافق معاناتها شبه الصامتة، ويقرب عدسته من وجهها الأنيس الضجر البارد، وينقل بحثها المتأني عن استقرار وحبّ، عن حياة جديدة.
حين تقرر يومًا محاولة كتابة طلب تعارف في السكاكر التي تصنع في المعمل، ففي كل سكرة حزورة، تقودها محاولتها إلى قدرها السعيد، لكن غير المنتظر. شخصية دنيا مركز الفيلم، تحيط بها شخصيات ثانوية، مثّل كلٌّ منها دوره في مجتمع تتمازج فيه ثقافات وتفترق. المخرج عبر شخصية تسعى لاكتشاف ذاتها يتساءل عما إذا كان وضع اللاجئ تابعًا للموقع الجغرافي حيث يتواجد، أو ما إذا كان حالة ذهنية. إنه يتجاوز الفردي لينطلق نحو إشكالات اللجوء عامة هناك، لذلك ثمة مسحة شجن تسود أجواء الفيلم طوال الوقت تساهم فيها إضاءة خافتة. حياةٌ تسودها كآبة لا تسلية فيها ولا ضوء، لا حماسة، لا أحد يجري، ولا أحد يصرخ، أو ينفعل. المهاجرون الأفغان في بنايتهم، لا شيء كثيرًا عن حياتهم القديمة إلا ضرورة الهرب، وعن الجديدة إلا هذا التكرار، وهذا اللا أمل. كأن المخرج يُنفّرنا من الهجرة بهذا المصير، كأنه برسمه حيوات على هذا القدر من التعاسة والشعور باللاجدوى يدفعنا إلى القول: وماذا لو بقي هؤلاء في بلدانهم المضيئة ذات الأنوار المبهرة بدلًا من آلية عيش كئيب؟ رغم هذا، فإن جوّ الفيلم أجمل ما فيه، رُسم بشاعرية مؤثرة أبعدت شبح الإغراق في واقعية مملة تتماثل في أفلام الهجرة والمهاجرين، وعبث التكيف الثقافي، ومشاعر النزوح. شكل جديد لتبيان اختلاف البشر في مجتمع جديد، تقاربهم أيضًا أحلامهم وآمالهم.
أيضًا، هو فيلمٌ يتحلّى بروح دعابة بالرغم من قتامة موضوع، وخفة تنجيه من تحوّلٍ سهلٍ إلى مبالغة عاطفية ثقيلة، وفي هذا جزء من متعته، كما أنه يحمل الأمل الذي يأتي من حيث وحين لا نتوقع.
ندى الأزهري 31 يوليه 2023
سينما
لقطة من فيلم "فريمونت" للإيراني ـ الأميركي باباك جلالي
شارك هذا المقال
حجم الخط
"دنيا كانت تعمل مترجمة للجيش الأميركي في أفغانستان. هي اليوم في سان فرنسيسكو، حياتها تسير على وتيرة واحدة". في أحيانٍ، يشير ملخص فيلم إليه ببرودٍ وحيادية، تشقّ الكتابة حين التعبير عن فيلم يتكئ على لغةٍ بصرية وحوارٍ مقتصدٍ ومشاعر جوانيّة، فيلم تبقى صوره أكثر من كلماته، وتعابير وجوه شخصياته أكثر من أقوالهم. لنعد إلى دنيا في "فريمونت" (2023) للإيراني الأميركي باباك جلالي. فيلمٌ لا تبقى صوره في المخيلة، فقط لأنه كان الأخير الذي شاهدتُه في مهرجان كارلوفي فاري السينمائي الدولي (30 يونيو/ حزيران ـ 8 يوليو/ تموز 2023) قبل مغادرة المدينة، بل لشدّة تأثيره وقت حضوره، وفي ما بعد. لا بدّ، بعد مشاهدة حوالي خمسة عشر فيلمًا في أقلّ من خمسة أيام، للصور أن تختلط، ولعديد منها أن يغيب، ولبعض آخر أن يفرض حضوره. "فريمونت" يتسلّل باستمرارٍ إلى المخيلة في لحظات يومية أبعد ما تكون عن السينما. أهي فقط جودة الفيلم ما يستدعي ذلك، أم أنها رهافة حسّ في رؤاه لمست لدى مشاهده حساسية ما، أو أحالت إلى ذكريات مؤثرة أو قادت إلى رحلة تأملية في ماضٍ وحاضر؟ كي يثير فيلمٌ كلّ هذه المشاعر لا بدّ من أن يكون بديعًا، وأن يستحق جائزة أفضل إخراج لأسلوبٍ بسيط عرف كيف يعبر بعمق عن روح شرقية حلّت في مجتمع غربي. جائزة لمخرجٍ ولد في إيران، ونشأ في لندن، ويعيش في الولايات المتحدة، وهي ليست الأولى في مسيرة باباك جلالي (1978)، المعتاد على الجوائز في أفلامه الثلاثة السابقة.
فيلمٌ بالأبيض والأسود، سردٌ حساس ليوميات شابة حول بدايات جديدة في الحياة. بدايات دنيا تتخللها فترات ضياع في بلد آخر، وضجر تحيل إليه عادات وحركات وكلمات تتكرر كل يوم. نهوضٌ بعد ليل بلا نوم، كلمات عابرة مع سيجارة تتبادلها مع جار في ليلٍ طويل، تحية صباحية لجارٍ آخر لا يُرد عليها، ذهاب بلا حماس إلى عمل، وانهماك مخلص مع شيء من لا مبالاة لصنع كعك في معمل تمتلكه عائلة صينية. هذه هي حياة دنيا المهاجرة الأفغانية في فريمونت الأميركية. دنيا، شخصية رئيسية في الفيلم، علاقاتها تنحصر بثلاثة أشخاص زميلة وصديقة أميركية، وصيني، وأفغاني، من خلالهم ينسج السيناريو تمازج ثقافات وتشابه رغم الاختلاف. ثمة أوجه متقاربة عالمية يشترك فيها المهاجر وغير المهاجر، فلكلٍ الآمال والأحلام والطموحات نفسها. دنيا ذات شخصية قوية بسبب خياراتها في الحياة، هي مصممة على الرغم من عقبات النزوح على تغيير وضعها، تريد العمل، وتريد اللقاء مع شاب تحبه ويحبها. محنة هذه المترجمة الأفغانية وحياتها الجديدة في ثقافة مغايرة، يبديها المخرج ليس ليقول إن المهاجر بائس، أو إن تلاؤم الثقافات صعب، أو إن الإنسان يحمل معه بيئته وأسلوب تفكيره نحو بيئة جديدة، بل ليهتم (الفيلم) بهذه البداية الجديدة التي يقررها الإنسان في أيّ بقعة بعيدة عن مكانه الأصلي، حتى لو اختلفت أسبابه للمغادرة. دنيا لم تكن راغبة تمامًا ومقررة للهجرة، لكن لم يكن لديها خيار. بعد عودة طالبان كانت ستُقتل لو بقيت، فهي تعد خائنة من وجهة نظر الناس هناك. إنّما ليس فقط من قِبلهم، بل أيضًا من وجهة نظر هؤلاء الذين قدموا معها إلى الولايات المتحدة. جارها ينظر لها باحتقار، ولا يرد على تحيتها، كل يوم تحييه، ولا يرد، ويغادر المكان. وهي مضطربة لم تجد نفسها ولا مكانها بعد. محاولاتها لعلاج مشاكل الوحدة والأرق تبوء بفشل، في البداية تسعى بمفردها ومن ثم بمساعدة معالج نفساني غريب الأطوار. تساؤلاته لا تدفعها كثيرًا للثرثرة، ترد عليها باختصار، بشبه ابتسامة، دوره كان كشف مكنوناتها أكثر، هي تعرف مشكلتها، لكنها لا تستطيع الخلاص منها. مشكلتان بالأحرى، فليس من الواضح ما إذا كان من الصعب عليها أن تتصالح مع ماضيها المؤلم في أفغانستان، أو مع وجودها الحالي المضطرب في الولايات المتحدة.
"شخصية دنيا مركز الفيلم، تحيط بها شخصيات ثانوية، مثّل كلٌّ منها دوره في مجتمع تتمازج فيه ثقافات وتفترق" |
الممثلة أنايتا والي زاده ذات ملامح معبرة، تتراوح بين ضجر مبتسم وتصميم غير منفعل، تتحرك بهدوء وتتخذ قرارتها بهدوء، لا شيء يثير أعصابها ظاهريًا حتى زوجة صاحب المصنع التي تتعمد إهانتها يومًا، فلا تفلح. حتّى مع جارها النافر، حين تقرر يومًا أنها لم تعد تحتمل صفة الخائنة التي يلصقها بها تواجهه بحزم وتصيح به من دون عصبية أنها ليست خائنة، لأنها خدمت مترجمة، لقد كان الأفغان في حاجة إلى ما تترجمه، تلت عليه خطبتها القصيرة بسرعة وحزم، كأنها وأخيرًا بدأت تخطو في طريق المستقبل حقًا. تدريجيًا، يسير الفيلم مع تطورها البطيء، يصاحبها ولا يضغط عليها، يرافق معاناتها شبه الصامتة، ويقرب عدسته من وجهها الأنيس الضجر البارد، وينقل بحثها المتأني عن استقرار وحبّ، عن حياة جديدة.
حين تقرر يومًا محاولة كتابة طلب تعارف في السكاكر التي تصنع في المعمل، ففي كل سكرة حزورة، تقودها محاولتها إلى قدرها السعيد، لكن غير المنتظر. شخصية دنيا مركز الفيلم، تحيط بها شخصيات ثانوية، مثّل كلٌّ منها دوره في مجتمع تتمازج فيه ثقافات وتفترق. المخرج عبر شخصية تسعى لاكتشاف ذاتها يتساءل عما إذا كان وضع اللاجئ تابعًا للموقع الجغرافي حيث يتواجد، أو ما إذا كان حالة ذهنية. إنه يتجاوز الفردي لينطلق نحو إشكالات اللجوء عامة هناك، لذلك ثمة مسحة شجن تسود أجواء الفيلم طوال الوقت تساهم فيها إضاءة خافتة. حياةٌ تسودها كآبة لا تسلية فيها ولا ضوء، لا حماسة، لا أحد يجري، ولا أحد يصرخ، أو ينفعل. المهاجرون الأفغان في بنايتهم، لا شيء كثيرًا عن حياتهم القديمة إلا ضرورة الهرب، وعن الجديدة إلا هذا التكرار، وهذا اللا أمل. كأن المخرج يُنفّرنا من الهجرة بهذا المصير، كأنه برسمه حيوات على هذا القدر من التعاسة والشعور باللاجدوى يدفعنا إلى القول: وماذا لو بقي هؤلاء في بلدانهم المضيئة ذات الأنوار المبهرة بدلًا من آلية عيش كئيب؟ رغم هذا، فإن جوّ الفيلم أجمل ما فيه، رُسم بشاعرية مؤثرة أبعدت شبح الإغراق في واقعية مملة تتماثل في أفلام الهجرة والمهاجرين، وعبث التكيف الثقافي، ومشاعر النزوح. شكل جديد لتبيان اختلاف البشر في مجتمع جديد، تقاربهم أيضًا أحلامهم وآمالهم.
أيضًا، هو فيلمٌ يتحلّى بروح دعابة بالرغم من قتامة موضوع، وخفة تنجيه من تحوّلٍ سهلٍ إلى مبالغة عاطفية ثقيلة، وفي هذا جزء من متعته، كما أنه يحمل الأمل الذي يأتي من حيث وحين لا نتوقع.