"دنيا وأميرة حلب": كم نحتاج لبيادر من حبّات البركة!
عزيز تبسي 28 يوليه 2023
سينما
الفيلم عن حلب، وعن سورية، وبلاد عربية أخرى
شارك هذا المقال
حجم الخط
يحتاج من يشاهد فيلم "دنيا وأميرة حلب" إلى أن يكون عصي الدمع، وشيمته الصبر في آن، وفق تعبير الشاعر والفارس أبو فراس الحمداني، وعليه الإصغاء الصبور لفهم همهمات وهمس أناس اعتادوا الصمت، إذ تمرسوا في كتم الأسرار.
تشكل العائلة الإطار الأثير لخطط الدراما، بما تمثله من وحدة اجتماعية صغرى يجري العبور من خلالها إلى المجتمع الواسع.
يتأسس فيلم "دنيا وأميرة حلب" (إنتاج فرنسي ـ كندي، 2022) لابنة حلب الكاتبة والرسامة والمخرجة ماريا ظريف، بالاشتراك مع رسام الكاريكاتير أندريه قاضي، على حياة أسرة حلبية مكونة من الجد درويش بائع الصابون وعاشق الموسيقى، والجدة أمونة صانعة الأطعمة بمحبة ومزاج رائق، وابنهما نور بائع الكتب القديمة بجوار جامع حلب الكبير، وهاو لعزف العود وقراءة الكتب، وزوجته ليلى وابنتهما دنيا.
المكان مدينة حلب والزمان هو السنوات العشر الأخيرة.
تقدم الكاتبة والمخرجة فيلمها بوعي تراكمي وحواس متيقظة للطفلة دنيا، فأن يكتب الأطفال التاريخ بلغتهم ومشاعرهم وخيالاتهم يعني الانحياز للحياة غير المتكلفة والعاطفة ورغبة الاستمرار، وتقديم الوقائع بصياغات يلطفها الخيال والبهجة والأمنيات.
شيد بناء الفيلم على التفاصيل الناعمة، الطعام بوصفه وعاء للذاكرة ووسيلة لتمتين الألفة الاجتماعية والحميمية العائلية، والموسيقى كتفاعل حي مع الحوارات ومتمم سردي لها، والوقائع المتحركة الملطفة بالخيال المتكئ على تأويل الحياة اليومية.
يبدأ الفيلم بآلام مخاض ليلى قبل ولادتها الأولى، لتبصر بعدها دنيا النور بالإطار الحميمي لأسرتها... بوفاة الأم تتأسس الحكاية الأولى التي ترويها الجدة أمونة لتخفيف آلام الافتقاد، تحكي لحفيدتها أن أمها لبت نداء ملك السحاب، الذي يخاف عتمة الليل، واكتشف النور من شعيراتها العالقة بمنديلها الذي أطاره الهواء، حين كانت تتنزه على الشاطئ، وأرسل من يحضرها إليه، ومن يومها تجلس بجانبه، لتضيء بوجهها القمري وشعرها المضيء لياليه المظلمة. ومن ثم استهلال للحكاية الثانية التي يرويها الأب عن صراع بين أميرين، هدما الجسر الوحيد الواصل بين طرفي مدينتهما، بإشارة إلى الصراع العسكري أعوام (2012 ـ 2015)، الذي تسبب في تقسيم جزافي لمدينة حلب.
في عيد ميلاد دنيا الرابع، يهديها جدها قفصًا مع كناري، يعترض ابنه نور على الهدية، لأن الطيور مكانها السماء والأشجار، ويذكر والديه بالأعداد الكبيرة للسجناء، تحذره أمه، بضرورة تخفيض صوته، لأن للحيطان آذانًا.
أنهى حوارهما قرع على باب البيت، من عساكر لا تظهر وجوههم، قادوه إلى السجن، غير مكترثين بنداءات ابنته ووالده.
تعمدت الكاتبة والمخرجة نقل المشاهد إلى تفاصيل إعداد الأطعمة، المامونية والمربيات المتنوعة وشلل الجبنة المزينة بحبة البركة، خلطات التوابل في محل جار العائلة "أبو عبدو"، إلى الصبحيات مع الجارة جورجيت دبوس المتمكنة في قراءة الطالع بفناجين القهوة. بعد سلسلة من المشاهد عن التفجيرات، التي أصاب أحدها بيتهم وجواره، وتحليق الطيران، وانتشار الحواجز العسكرية، ومنع أحد الحواجز العسكرية الجد درويش وحفيدته من الوصول إلى دكانه، تقرر الأسرة وجيرانها الرحيل.
غادروا على ظهر شاحنة قادها مهرب، الذي رأى أن المال الذي قدمه الجد درويش لا يتناسب مع عدد المهاجرين، فوضعت جورجيت في كفه الممدودة مجموعة من خواتم وأقراط ذهب لإكمال باقي أجرة النقل. انطلقت الشاحنة التي حملت الأسرة وجيرانها، وانضم إليهم في الطريق الشاب الكردي جوان، الذي كان ينتظر مع بزقه عبور أي سيارة أو شاحنة تنقله إلى الحدود.
أوصلهم المهرب إلى مكان قرب الحدود التركية، وألزمهم النزول.
وحين رفض حرس الحدود عبورهم، تفطنت لدنيا حبات البركة التي أبقتها بجيب بنطالها، ونثرت بضع حبيبات منها على الأرض، لتنمو وتصنع حاجزًا من النباتات حجبت عنهم عيون الحراس، ليعبر المهاجرون إلى الأراضي التركية.
احتاجت شعوبنا لمعجزات دائمة لتجاوز المصاعب التي وضعت أمام مسيرة حياتها. تكرر إعجاز حبات البركة لوقف هياج الأمواج التي كادت تغرق زورقهم المطاطي قبل وصولهم إلى إحدى الجزر اليونانية، كما لمعجزة بث الدفء الإنساني في صقيع المخيم على الحدود اليونانية ـ المقدونية، لتكون سانحة لتعاطف الحراس مع المهاجرين ومشاركتهم رقصهم. يصل المهاجرون إلى هنغاريا، ومنها عبر العدد الأكبر إلى ألمانيا، وتبقى دنيا وجداها بانتظار معجزة أخيرة... تكتب دنيا رسالة وتحملّها للعصفور الذي نحته جدها درويش في حلب على قالب صابون، وهو آخر مقتنياتها من حلب، بعدما بثت فيه الحياة، يطير العصفور، لتستلم منه الرسالة حمامة، وتسلمها إلى نورس، ليسلمها إلى طير آخر، وتصل في النهاية إلى أسرة كندية، ويقرأها صديقهم الجزائري كريم، الذي ميز حروفها العربية، ليتصلوا بعدها برقم الهاتف المدون في آخرها، ويسهلوا طلب استضافتها... وتعلن دنيا التي بات عمرها سبع سنوات أنها في انتظار انضمام أبيها الذي يظهر في الطرف الآخر من العالم بوقفته المنتصبة وشاله الأبدي، الذي يحمل المطرزات الفلسطينية، منسدلًا على كتفيه وحقيبته على ظهره. كأنها بذلك قد ميزت بين الوطن كأرض في جغرافيا محددة، وبين الموطن بكونه الأرض الواسعة للشعوب.
على المشاهد أن يتقبل العيش التناقضي، زخم الحنان الأمومي بالغياب المبكر للأم، والحضور الجمالي والحيوي لحلب بدمارها، والخصائص الإعجازية لحبة البركة- "الحبة السوداء"- خارج حلب، وعجزها داخلها، يخادع الفيلم بكونه موجهاً للأطفال. لن يتأخر عن الذهاب بعيدًا للوصول إلى أعماق الذاكرة، واستنهاضها بعبارات شديدة المحلية: "عصافير بطني عم تزقزق" على لسان الجد درويش، في إشارة إلى جوعه، "واخ واخ" بمعنى يا للهول، "وبا" بمعنى اللعنة. وحزمة من الهنهونات، والأغنيات الغافية، بانتشالها من النسيان، وهو خيار واع لصانعة الفيلم ربما للتعويض العاطفي عن الدمار العمراني الذي لا يمكن تعويضه، أخذت الموسيقى والأغاني موقعًا متممًا للمشاهد والحوارات، وهي من إبداع الموسيقي الحلبي فواز باقر.
قدم الفيلم زاوية من الصراع السياسي ـ العسكري ونتائجه الكارثية، من دون مشهد لقطرة دم، أو مشهد قتل... هذا لا يعني أن من يفعل هذا جاهل، أو يتجاهل الوقائع، وإنما للقبض على رسغ الحياة، واستئناف ما تبقى من مسيرتها. ولم يكن سرد بصري لقصص للأطفال لإخفاء الحقيقة عنهم.
لا شك في أن الفيلم عن حلب، وأيضًا عن سورية، وعن بلاد عربية أخرى.
عزيز تبسي 28 يوليه 2023
سينما
الفيلم عن حلب، وعن سورية، وبلاد عربية أخرى
شارك هذا المقال
حجم الخط
يحتاج من يشاهد فيلم "دنيا وأميرة حلب" إلى أن يكون عصي الدمع، وشيمته الصبر في آن، وفق تعبير الشاعر والفارس أبو فراس الحمداني، وعليه الإصغاء الصبور لفهم همهمات وهمس أناس اعتادوا الصمت، إذ تمرسوا في كتم الأسرار.
تشكل العائلة الإطار الأثير لخطط الدراما، بما تمثله من وحدة اجتماعية صغرى يجري العبور من خلالها إلى المجتمع الواسع.
يتأسس فيلم "دنيا وأميرة حلب" (إنتاج فرنسي ـ كندي، 2022) لابنة حلب الكاتبة والرسامة والمخرجة ماريا ظريف، بالاشتراك مع رسام الكاريكاتير أندريه قاضي، على حياة أسرة حلبية مكونة من الجد درويش بائع الصابون وعاشق الموسيقى، والجدة أمونة صانعة الأطعمة بمحبة ومزاج رائق، وابنهما نور بائع الكتب القديمة بجوار جامع حلب الكبير، وهاو لعزف العود وقراءة الكتب، وزوجته ليلى وابنتهما دنيا.
المكان مدينة حلب والزمان هو السنوات العشر الأخيرة.
تقدم الكاتبة والمخرجة فيلمها بوعي تراكمي وحواس متيقظة للطفلة دنيا، فأن يكتب الأطفال التاريخ بلغتهم ومشاعرهم وخيالاتهم يعني الانحياز للحياة غير المتكلفة والعاطفة ورغبة الاستمرار، وتقديم الوقائع بصياغات يلطفها الخيال والبهجة والأمنيات.
شيد بناء الفيلم على التفاصيل الناعمة، الطعام بوصفه وعاء للذاكرة ووسيلة لتمتين الألفة الاجتماعية والحميمية العائلية، والموسيقى كتفاعل حي مع الحوارات ومتمم سردي لها، والوقائع المتحركة الملطفة بالخيال المتكئ على تأويل الحياة اليومية.
يبدأ الفيلم بآلام مخاض ليلى قبل ولادتها الأولى، لتبصر بعدها دنيا النور بالإطار الحميمي لأسرتها... بوفاة الأم تتأسس الحكاية الأولى التي ترويها الجدة أمونة لتخفيف آلام الافتقاد، تحكي لحفيدتها أن أمها لبت نداء ملك السحاب، الذي يخاف عتمة الليل، واكتشف النور من شعيراتها العالقة بمنديلها الذي أطاره الهواء، حين كانت تتنزه على الشاطئ، وأرسل من يحضرها إليه، ومن يومها تجلس بجانبه، لتضيء بوجهها القمري وشعرها المضيء لياليه المظلمة. ومن ثم استهلال للحكاية الثانية التي يرويها الأب عن صراع بين أميرين، هدما الجسر الوحيد الواصل بين طرفي مدينتهما، بإشارة إلى الصراع العسكري أعوام (2012 ـ 2015)، الذي تسبب في تقسيم جزافي لمدينة حلب.
في عيد ميلاد دنيا الرابع، يهديها جدها قفصًا مع كناري، يعترض ابنه نور على الهدية، لأن الطيور مكانها السماء والأشجار، ويذكر والديه بالأعداد الكبيرة للسجناء، تحذره أمه، بضرورة تخفيض صوته، لأن للحيطان آذانًا.
"شيد بناء الفيلم على التفاصيل الناعمة، الطعام بوصفه وعاء للذاكرة ووسيلة لتمتين الألفة الاجتماعية والحميمية العائلية، والموسيقى كتفاعل حي مع الحوارات ومتمم سردي له" |
أنهى حوارهما قرع على باب البيت، من عساكر لا تظهر وجوههم، قادوه إلى السجن، غير مكترثين بنداءات ابنته ووالده.
تعمدت الكاتبة والمخرجة نقل المشاهد إلى تفاصيل إعداد الأطعمة، المامونية والمربيات المتنوعة وشلل الجبنة المزينة بحبة البركة، خلطات التوابل في محل جار العائلة "أبو عبدو"، إلى الصبحيات مع الجارة جورجيت دبوس المتمكنة في قراءة الطالع بفناجين القهوة. بعد سلسلة من المشاهد عن التفجيرات، التي أصاب أحدها بيتهم وجواره، وتحليق الطيران، وانتشار الحواجز العسكرية، ومنع أحد الحواجز العسكرية الجد درويش وحفيدته من الوصول إلى دكانه، تقرر الأسرة وجيرانها الرحيل.
غادروا على ظهر شاحنة قادها مهرب، الذي رأى أن المال الذي قدمه الجد درويش لا يتناسب مع عدد المهاجرين، فوضعت جورجيت في كفه الممدودة مجموعة من خواتم وأقراط ذهب لإكمال باقي أجرة النقل. انطلقت الشاحنة التي حملت الأسرة وجيرانها، وانضم إليهم في الطريق الشاب الكردي جوان، الذي كان ينتظر مع بزقه عبور أي سيارة أو شاحنة تنقله إلى الحدود.
أوصلهم المهرب إلى مكان قرب الحدود التركية، وألزمهم النزول.
وحين رفض حرس الحدود عبورهم، تفطنت لدنيا حبات البركة التي أبقتها بجيب بنطالها، ونثرت بضع حبيبات منها على الأرض، لتنمو وتصنع حاجزًا من النباتات حجبت عنهم عيون الحراس، ليعبر المهاجرون إلى الأراضي التركية.
احتاجت شعوبنا لمعجزات دائمة لتجاوز المصاعب التي وضعت أمام مسيرة حياتها. تكرر إعجاز حبات البركة لوقف هياج الأمواج التي كادت تغرق زورقهم المطاطي قبل وصولهم إلى إحدى الجزر اليونانية، كما لمعجزة بث الدفء الإنساني في صقيع المخيم على الحدود اليونانية ـ المقدونية، لتكون سانحة لتعاطف الحراس مع المهاجرين ومشاركتهم رقصهم. يصل المهاجرون إلى هنغاريا، ومنها عبر العدد الأكبر إلى ألمانيا، وتبقى دنيا وجداها بانتظار معجزة أخيرة... تكتب دنيا رسالة وتحملّها للعصفور الذي نحته جدها درويش في حلب على قالب صابون، وهو آخر مقتنياتها من حلب، بعدما بثت فيه الحياة، يطير العصفور، لتستلم منه الرسالة حمامة، وتسلمها إلى نورس، ليسلمها إلى طير آخر، وتصل في النهاية إلى أسرة كندية، ويقرأها صديقهم الجزائري كريم، الذي ميز حروفها العربية، ليتصلوا بعدها برقم الهاتف المدون في آخرها، ويسهلوا طلب استضافتها... وتعلن دنيا التي بات عمرها سبع سنوات أنها في انتظار انضمام أبيها الذي يظهر في الطرف الآخر من العالم بوقفته المنتصبة وشاله الأبدي، الذي يحمل المطرزات الفلسطينية، منسدلًا على كتفيه وحقيبته على ظهره. كأنها بذلك قد ميزت بين الوطن كأرض في جغرافيا محددة، وبين الموطن بكونه الأرض الواسعة للشعوب.
على المشاهد أن يتقبل العيش التناقضي، زخم الحنان الأمومي بالغياب المبكر للأم، والحضور الجمالي والحيوي لحلب بدمارها، والخصائص الإعجازية لحبة البركة- "الحبة السوداء"- خارج حلب، وعجزها داخلها، يخادع الفيلم بكونه موجهاً للأطفال. لن يتأخر عن الذهاب بعيدًا للوصول إلى أعماق الذاكرة، واستنهاضها بعبارات شديدة المحلية: "عصافير بطني عم تزقزق" على لسان الجد درويش، في إشارة إلى جوعه، "واخ واخ" بمعنى يا للهول، "وبا" بمعنى اللعنة. وحزمة من الهنهونات، والأغنيات الغافية، بانتشالها من النسيان، وهو خيار واع لصانعة الفيلم ربما للتعويض العاطفي عن الدمار العمراني الذي لا يمكن تعويضه، أخذت الموسيقى والأغاني موقعًا متممًا للمشاهد والحوارات، وهي من إبداع الموسيقي الحلبي فواز باقر.
قدم الفيلم زاوية من الصراع السياسي ـ العسكري ونتائجه الكارثية، من دون مشهد لقطرة دم، أو مشهد قتل... هذا لا يعني أن من يفعل هذا جاهل، أو يتجاهل الوقائع، وإنما للقبض على رسغ الحياة، واستئناف ما تبقى من مسيرتها. ولم يكن سرد بصري لقصص للأطفال لإخفاء الحقيقة عنهم.
لا شك في أن الفيلم عن حلب، وأيضًا عن سورية، وعن بلاد عربية أخرى.