"المارشيه" عقد اندماج تلقائي: تشجيع اللغة العربية في باريس
مها حسن 12 أغسطس 2023
آراء
صورة إيديت بياف قرب المنزل
شارك هذا المقال
حجم الخط
غادرت باريس بعد أن أقمت فيها قرابة ثلاثة عشر عامًا، وحين أعود إليها من حين لآخر أكون منهمكة في لقاءات كثيرة، ولا يسعني الوقت للاسترخاء والعودة إلى الحياة الباريسية السابقة، بل أعبرها كسائحة.
ساعدتني الظروف في هذه المرة، وبعد أكثر من ثمانية أعوام، على الانقطاع عن الحياة الباريسية، لأقيم مجددًا ولقرابة ستة أسابيع، حين عرضت عليّ صديقة باريسية شقتها في عطلة الصيف، لأتمكن من الكتابة مستعيدة، أو مستوحية، الحياة الباريسية التي أفتقدها في المدينة التي أعيش فيها حاليًا. غادرت صديقتي مع عائلتها، تمضي عطلة الصيف على ضفاف الأطلسي، حيث أقيم أنا، وجئت بدوري إلى مكان إقامتها في باريس.
ولأن صديقتي تقيم في حيّ لم أكن أزوره حين كنت أقيم في باريس، بل كنت أحضر إليه قصديًا، لشراء بعض المنتجات التي لا أجدها في السوق الفرنسية، شهقت وأنا أعبر الشارع: المحل الذي كنت أقطع إليه باريس من جهة بعيدة لشراء الملوخية والطحينة ودبس الرمان... يبعد عن شقة صديقتي أمتارًا عدة، خمس دقائق من السير.
قرب البيت، في رأس الشارع الذي أسكن فيه، عثرت على محل مصري يبيع منتجات لم أحصل عليها خلال سنوات إقامتي الفرنسية التي تكاد تقترب من العشرين: سجق، بصطرمة مصرية، جبن رومي، إضافة إلى المكدوس والبهارات التي أبحث عنها من دون كلل، حين أذهب إلى أي بلد عربي: سمّاق، بهارات الكبسة...
تحولت إقامتي الباريسية إلى طبخ عربي، وكتابة، وتجوال...
كأنني منحت نفسي معتزلًا خاصًا للكتابة، أكتشف باريس وأكتشف نفسي عبر هذا المكان.
قبل أن تسافر صديقتي إلسا، اصطحبني زوجها جيل في جولة صغيرة في الحي، ليعرفني على أماكن التسوق المهمة، والمطاعم، ومحطات المترو القريبة، ومع أنني لم أكن في حاجة لذلك، لأنني أحب اكتشاف الأمكنة بنفسي، لكنني منحت جيل وإلسا تلك الفرصة للإحساس بأنهما يعتنيان بي.
صورة إيديت بياف على الجدار قرب المنزل كانت أول ما لفت نظري في جولتنا، حين قال جيل: هنا ولدت، في هذا الحي، إيديت بياف.
شهقت كسائحة، وشعرت برائحة الفن والمنفى، هذا الخليط المدهش، حيث أتمسك بما قاله أبو تمام: "اغترب تتجدد"، فأنجذب نحو كل إبداع اختلط بالغربة.
تفاجأت إلسا حيث تحدثت إليّ عبر الهاتف تطمئن علي بأنني لم أستخدم أية معلومة خصّني بها جيل حول التسوق، حدثتها عن جارها المصري، والآخر التركي الذي يتحدث العربية بلكنة شامية كأنه عاش في سورية، وعن الطعام الذي أحضّره من الذاكرة السورية، فشهقت إلسا بدورها كسائحة، وتحمست لأن أحضّر لها بعض الأصناف السورية حين تعود من إجازتها.
السوق العربية: هيا نتحدث العربية!
في المدينة التي أعيش فيها في إقليم بروتانيا، هناك سوق أسبوعية، عثرت فيها على ثلاثة باعة غير فرنسيين: التونسية التي تقدم الكسكس الجاهز، التركي الذي يقدم الكباب، والسوري الذي وصل مؤخرًا، الذي يقدم الفلافل والتبولة... ما عدا هذا، فإن السوق برمتها تعجّ بالمنتجات المحلية، خاصة الأسماك، والصيد الطازج، طالما أننا قريبون من البحر.
أما في هذه السوق، التي تُقام مرتين في الأسبوع، وتبلغ مساحتها خمس مرات على الأقل من السوق التي تُقام في مدينتي، فإنني لم أعثر تقريبًا، ومنذ شهر، أي لثماني مرات، على بائع فرنسي من أصول فرنسية بحتة.
خلال الأسابيع الأولى، تمكنت، من دون جهد، من تأسيس معارف في السوق، بحيث، ومنذ المرة الثانية لمروري، صرت أسمع عبارات الترحيب حين أعبر، موجّهة إلى السوريين وأهل الشام.
هكذا، صار وجودي ملحوظًا وصرت" السورية"، وراح كل منهم، على حدة، يحكي لي قصصًا متنوعة بينما أشتري الخضار والفاكهة واللحوم الطازجة والزيتون والمخلل والبهارات.
كنت أتحدث معهم بالعربية، وتفاجأت أن أغلبهم يجيد هذه اللغة، على عكس دائرة معارفي السابقة، في الجو الأدبي والصحافي، فإن أغلب من التقيت بهم، هنا في باريس، من أصول عربية، كانوا يتحدثون الفرنسية بطلاقة، على حساب العربية. هذا لا يعني تعميم الظاهرة، هي ربما الصدف التي جمعتني بكتاب وصحافيين عرب ـ فرنسيين، يعبّرون بالفرنسية، ولم أفهم بعد هذه الظاهرة، أن يجيد الباعة في السوق العربية إلى حد ما التحدث بها بطريقة سليمة أقرب إلى الفصحى.
"كانت السوق بالنسبة لأمي مساحة الحرية التي تمارس فيها ذاتها، إذ تنطلق بالحديث مع الباعة والبائعات، وتؤسس صداقات، حتى تميّزها البائعات خاصة، وتضع لها أفضل المنتجات على جنب" |
بائع اللحوم، رابح، فرنسي مغربي، من أمازيغ المغرب، قال لي بأنه تعلم اللغة العربية هنا في باريس، بينما فاجأني هشام المصري، وهو حاصل على شهادة في تعليم اللغة الفرنسية، لكنه يعمل في السوق، ربما كعمل إضافي، بأنه يتحدث اللهجة السورية بطلاقة، وكأنه في دمشق.
كنت أحيانًا أدخل في صدّ وردّ حول بعض المفردات، ليجادلني المصري بأن الليمون هو البرتقال لدى الجزائريين، وأداعبه بالقول إن المصريين يقولون عن الحليب لبن، فراح يشرح لي ويستشهد بأقوال قديمة، ليؤكد أن مفردة الحليب لم تكن رائجة كثيرًا، وأن اللفظة السليمة هي اللبن.
الطاقة التي أشعر بها في السوق غريبة، حتى أصحابي المقيمين في المنطقة القريبة مني يستغربون إصراري على عدم تفويت موعد المارشيه الأسبوعي، وأشرح لهم أنني لست فقط أشتري خضارًا وفاكهة ولحومًا طازجة، وبأسعار منخفضة جدًا عن المحلات، بل أكتسب خبرات بشرية دافئة وحميمية.
قلت لرابح: أحب التحدث معكم باللغة العربية، مع أننا نجيد جميعًا اللغة الفرنسية، لكن استخدام اللغة العربية بيننا، ونحن القادمين من بلاد عربية عدة، يحرك مشاعر مختلفة من الألفة والثقة والمودة. فقال لي مازحًا: نعم، يجب استخدام اللغة العربية بيننا، هيا لنشجع اللغة العربية!
إن المجهود الذي يبذله الباعة العرب لتسويق منتجاتهم جدير باحترام كبير، فهم أيضًا ينادون على بضاعتهم بلغات أخرى: الفرنسية، والعربية، والصينية... نعم، الصينية أيضًا، حيث هنالك الكثير من الفرنسيين الصينيين المقيمين في الحي، والذين يأتون للتسوق، كما أن هنالك باعة صينيين، إضافة إلى العرب والأفغان والأفريقيين... سوق مدهشة من التنوع والتلّون، لهجات عديدة، لغات عديدة، بضاعة متعددة، ألوان الناس وألوان الخضار والفاكهة... وكثير من السلام والألفة بين الناس.
وريثة أمي
كانت أمي في حلب لا تفوّت الذهاب إلى سوق الخضار، وكانت أغلب جاراتنا اللاتي لا يملكن الوقت، أو لديهن مسؤوليات أخرى، أو يتعذر عليهن الخروج وحدهن، يكلّفن أمي بالتسوق لهن، وكانت تعود حاملة أكياسًا عديدة، تمر على كل جارة لتعطيها كيسها.
كانت السوق بالنسبة لأمي مساحة الحرية التي تمارس فيها ذاتها، إذ تنطلق بالحديث مع الباعة والبائعات، وتؤسس صداقات، حتى تميّزها البائعات خاصة، وتضع لها أفضل المنتجات على جنب، بل توسّع نشاط أمي آنذاك، حتى صارت بعض البائعات يأتين إلى منزلنا في آخر نهار عملهن، يشربن القهوة، ويحضرن معهن بعض هدايا السوق التي لم يبعنها...
عائدة من السوق، بعد حديث شيق مع الباعة الباريسيين، قلت لنفسي إن على فرنسا أن تعينني وزيرة، أو سفيرة، للتواصل الاجتماعي الواقعي، لا الافتراضي، بين الشعوب التي تعيش على الأرض الفرنسية، والتي تنتمي إلى الثقافتين معًا، ثقافة بلادها الأولى، وثقافة فرنسا، وتعاني كثيرًا من أزمة الانتماء، حيث لم تعد تجد مكانها هناك، في بلادها الأولى، ولا تجده تمامًا هنا، بسبب مشكلة الهوية والانتماء في المجتمعات المتعددة الثقافات.
بوصفي مواطنة فرنسية، أنتمي إلى هذا البلد، وأحبه، وأفهم قضاياه، وبالدرجة ذاتها، أنتمي إلى العالم العربي بقضاياه المتعددة، وللكرد أيضًا، فإنني أشعر وأنا أسير في باريس كأنني فراشة قادرة على فهم الجميع، ونقل الأفكار والتفاهم والانسجام بين الجميع، حين يحتاج الجميع لمن يأخذ بيدهم، كل منهم، برفق، ومحبة، وتفهّم، نحو الآخر.