الفنانة التونسية شهرزاد الفقيه تتمرد على المألوف لتنقذ الطبيعة
الحشرات ثورة في الذائقة البصرية للفنان والمتلقي على حد السواء.
الأحد 2023/06/04
انشرWhatsAppTwitterFacebook
لوحات مفعمة بشاعرية الانطباع
يمكن للفن أن يغير وجهات نظرنا جذريا وأن يعدّل من رؤانا إلى العالم وبالتالي يعدّل من وعينا الفردي أو الجماعي، هذا ما استفادت منه الرسامة التونسية شهرزاد الفقيه التي توجهت بلوحاتها وألوانها وخطوطها إلى إعادة تمثل الطبيعة من جديد، دون أن تحرفها إلى مسار رمزي أو إيحائي، كل ذلك لتبرئة الكائنات الأكثر تأثيرا في البيئة الحشرات من نظرة الإنسان الخاطئة والظالمة في أحيان كثيرة.
“إذا كنت سأغني مثل شخص آخر فلا داعي للغناء مطلقا” هذا ما قالته يوما مغنية الجاز الأميركية بيلي هوليدي، وهذا ما آمنت به الرسامة التونسية شهرزاد الفقيه أيضا، فالفن هو تلك البيئة التي يمكن أن ينمو فيها الاختلاف والتفرد، أن تتجاور المتناقضات جنبا إلى جنب ويتسع فيها الخيال إلى أبعد المسافات، أو لعله ذلك التمرد اللطيف على الواقع لتحويله إلى صور مشبعة بالنضارة والحياة ومفعمة بالدلالات التعبيرية الجمالية.
يتطابق كل ما أسلفنا ذكره تماما مع الفلسفة الجمالية للفقيه، تجربة فريدة خارج أي حركة أو تيار، رسامة امتلكت عينا ذكية لتلتقط سر الطبيعة في لوحة، فالطبيعة مصدر إلهامها المستمر، ارتأت من خلالها خوض معترك إبداعي وإنساني قصد إعادة تشييد وبناء علاقة جديدة مع محيطنا البيئي من خلال اشتغالها الطريف على “الحشرات” بمعرضها الأخير insectum (حشرات).
بحث جمالي
لوحات تنزع التمثل السلبي للحشرات في أذهاننا لتحولها إلى مادة جمالية تشكيلية نعي من خلالها العالم من زاوية أخرى
جاء معرض الفقيه ليعلن معاهدة صلح بين الإنسان والأرض والطبيعة، مشبعا بدعوات صريحة لتقويم سلوك البشر تجاه بيئتهم، لوحات مقروءة بتفاصيلها وأسرارها تعكس رؤية تشكيلية مسعاها مخاطبة الوجدان والوعي في آن واحد.
ثلاث سنوات من البحث والتدقيق، بحوث خطية وميدانية بينهما كان يُشيد عالم فني مبهج.
بصبر المحارب ودقة العارف بالفن تخوض شهرزاد الفقيه معركتها التشكيلية من أجل تجاوز التعبير النمطي للواقع لتؤسس لواقع مرئي مغاير قائم على المكاشفة وإعادة التأسيس لكشف بصري يفند نمطية الاعتقاد والتعالي القائم حول هذه الحشرات وتعرية الخصائص اللونية والشكلية، لبناء رؤية فنية هدفها تبيان بهاء هذه “الكائنات”، التي يمكننا أن نطلق عليها صفة الغرابة الواقعية المقلقة على حد عبارة الطبيب النفسي الألماني إرنست جينتس.
خاضت الفنانة أعمالها متسلحة بالبحث، هذا البحث الذي أضفى على فنها معنى الطرافة والدهشة، معها تساءلنا بعفوية “هل يمكن للعادي أن يثير فينا القلق والاضطراب؟”، أن ننتقل معه ”العادي” من المتعة والاحتفاء إلى مساءلته وفك أسراره للولوج إلى المغزى الحقيقي لهذا المعرض فهو وإن بدا للوهلة الأولى لا يختلف كثيرا عن الصور الفوتوغرافية المشهدية، إلا أن ذلك لم يكن سوى انطباع عابر لتحل محله ملكة التفكيك والتأويل.
إنها رحلة تشكيلية خيوطها وعناصرها المتشابكة تشعرك بالفضول المتواطئ معها لتشكيل جمال غامض مختف بين لون ولون وبين خط وآخر، تلاعبت فيها الرسامة بانطباعاتنا المتأرجحة بين الدهشة والذهول، بين القبول والصد، بين الطرافة والجد، بين الشجاعة والدقة في المعالجة.
بصبر المحارب ودقة العارف بالفن تخوض شهرزاد الفقيه معركتها التشكيلية من أجل تجاوز التعبير النمطي للواقع
بدأت التشكيلية التونسية شهرزاد الفقيه مغامرتها الفنية “عالم الحشرات” محاولة أن تنزع التمثل السلبي للحشرات في أذهاننا لتحولها إلى مادة جمالية تشكيلية نعي من خلالها العالم من زاوية أخرى، تحملنا الفقيه في هذه الرحلة إلى تتبع أثر البهاء الكامن في تفاصيل هذه الكائنات “العادية”.
الفقيه رسامة متحيزة بكلها ضد القراءات المألوفة للطبيعة، التفتت حولها فرأت فراشة هنا وذبابة هناك ودعسوقة تشق طريقها بصبر بين الأعشاب، من هنا بدأت رحلة بحثها التي توجتها بلوحات تحمل تمردا لطيفا.
إن اشتغالات الفقيه الفنية المنصبة على دراسة عالم الحشرات مثلت ثورة في الذائقة البصرية للفنان والمتلقي على حد السواء، أن نرى قاعة عرض تتلون بألوان الطبيعة وكأننا داخل محمية غابية في أفريقيا، وميض ضوء يأخذنا معه إلى أقصى الفن والاختلاف، هذا ما يمكننا أن نطلق عليه التمرد اللطيف.
لم تحاول الفقيه أبدا الذهاب صوب الصورة الرمزية المتسمة بالإيحاء والغموض بل كانت صوتا للصورة الواقعية من حيث الشكل واللون وكأنها تقول لا فائدة من الخيال أمام الطبيعة، كاشفة صورا ومشاهد سردية تنقل لنا ما تراه كاميرا العين من تفاصيل الحشرة المرسومة بدقة، إنها عملية ولادة أخذت كامل وقتها لتتشكل.
شعور قلق غريب
إنصاف لكائنات جميلة
هنا نتفق على أن مصدر التمرد لدى الفقيه لم يأت عبر وسائط معقدة ورمزية بقدر ما أنتجته الصورة المباشرة الجلية، فكيف للعادي أن يتحول إلى فعل تمرد؟
كلنا نعلم أن العمل الفني أساسا هو عملية إعادة إنتاج مستمرة لما تهديه لنا الطبيعة وعلى هذا الفهم سارت الفقيه، إلا أن ما يميزها فعلا هو أنها رفضت أن تظل أسيرة أسلوب تصويري رائج من حيث الموضوع، فهي لم تتلكأ في السير بعيدا إلى دواخل الطبيعة لتلتقط عينها أصغر كائناتها وأجملها.
قبلها لم أكن من محبي الحشرات أو أعيرها لحظة تأمل بل إنها ارتبطت في مخيالنا بكونها الحيوان الأكثر إزعاجا لنا، الآن فقط اختلف الأمر برمته بعد مشاهدة حشرات الفقيه وهي تعرض وتحتل جدران قاعة العرض بكامل أناقتها البهية، مشاعر متضاربة تجاه أعمالها تتراوح بين الانجذاب والدهشة، إعجاب بشاعرية هذا الانطباع الجديد ودهشة من جهل سابق بجمالية هذا العالم السحري الصغير، فكيف لم ننتبه قبلها إلى التنوع اللوني الكامن فيها، مخلوقات مشبعة بجمالية قادرة على تحويل محيطها إلى فضاء مضيء.
هنا نستطيع القول إن طرافة المنجز المتمرد على الذائقة كانت سببا آخر لنشهد نحن المستقبلين لفنها صراعا مع ذواتنا، صراعا مفتوحا على إعادة بناء فكر جمالي آخر فنتمرد معها في تهكم داخلي ضد جميع معتقداتنا السابقة، فهذه اللوحات الشاعرية التي نراها استطاعت وفي غفلة منا أن تنحت شعورا قلقا غريبا، إنها حبكة فنية تشكيلية ملهمة.
مسار فني دقيق
رسامة منحازة إلى الطبيعة
في الأخير لا يجب أن نهمل التركيز على دراسة مكونات العمل الداخلي من لون وخط، ولأن تصوير الطبيعة يفرض على الرسام أحيانا التقيد ببعض قوانينها وعدم الخروج عن دائرتها فهي قادرة على أن تمده بكل ما يحتاجه من أدوات معرفية فنية وتقنية إذ حافظت الكائنات الحشرية في أغلب منجزات الفقيه على واقعية ألوانها الجذابة، فلا يمكن أن تغريك ألوان أخرى غير ألوانها الأصلية التي تختزن مساقط الضوء والظل بطريقة عفوية تارة وقصدية تارة أخرى، تعطي للمنجزات التشكيلية أبعادا تعبيرية متنوعة، موظفة في ذلك خامات متنوعة في تكوين أعمالها شكل فضاء لوني متعدد الكثافة.
وما يلفت النظر أيضا في أعمال الفقيه هو ذهابها إلى تقطيع اللوحة إلى جزأين أو ثلاثة أجزاء وأحيانا أكثر من عمل “متعدد الأطر يخلق كل إطار صورته، في شكل واحد وكأنه شباك يطل على الآخر” يأخذنا إلى عالم جديد صنعت من خلاله الفقيه مسارا مختلفا عن كل من سبقها وجايلها، عالم كان ينتظر عقلا مبدعا يمنحه معنى وحضورا.
يمثل الخط أحد أهم العناصر التشكيلية المكونة للتركيبة الفنية للوحات الفقيه، فيظهر مرة في شكل مسترسل وسريع منتقل في فضاء اللوحة حرا من كل ضوابط مكانية وزمانية، تتبعه العين في غفلة منها فتسرح حيث أراد لها أن تصل في رحلة بصرية، عفوية، متناسقة ومحكمة تذكرنا بعوالم الرسام العالمي مارك شاغال ومناخاته السحرية الخيالية المثيرة للذائقة. ثم يظهر مرة أخرى في شكل أقل حركة وانسيابية في أماكن مغايرة حيث يلعب فيها الخط دور تحديد شكل اللون والحجم وتخرج لنا الأشكال في مظهر يلفه السكون والرهبة، كما ساهم أيضا في إظهار تلك التفاصيل الصغيرة لتركيبة الحشرة من خلال رسم حدودها بشكل جلي أكثر لنتمكن نحن المتلقين من مشاهدة التوليفات التركيبية الأنيقة لها.
كما اعتمدت الرسامة خلال معرضها هذا توظيف تقنية الكولاج (التلصيق) باستحياء، فهو يظهر بين حين وآخر ليدعم التنوع الأسلوبي للفنانة.
في النهاية يمكننا الإقرار بحقيقة لا مفر منها كون الرسامة شهرزاد الفقيه وانطلاقا من شغفها وافتتانها بالطبيعة نجحت في خلق مسار فني يشي بجمالية ساحرة وهادفة، مشروع فني يرفع الحجاب عن المسكوت عنه ويجعل من الطبيعة تعويذة وعالما يستحق الاكتشاف من جديد.
شهرزاد الفقيه
ولدت شهرزاد الفقيه بمدينة بقالطة التونسية سنة 1979، بدأت دراسة الفنون التشكيلية في محافظة صفاقس ثم التحقت فيما بعد بالمعهد العالي للفنون الجميلة بتونس لتكمل دراستها الأكاديمية هناك ومن ثمة ولجت عالم التدريس، ولها العديد من المشاركات الفنية الجماعية داخل تونس وخارجها.
أقامت أول معرض شخصي لها في مايو سنة 2021 “exaltationmystère de la vie”، ثم تلاه معرضها الثاني “insectum” سنة 2022 إذ يعد نقطة تحول مهمة في مسيرة الرسامة.
انشرWhatsAppTwitterFacebook
سامي عمامي
كاتب تونسي
الحشرات ثورة في الذائقة البصرية للفنان والمتلقي على حد السواء.
الأحد 2023/06/04
انشرWhatsAppTwitterFacebook
لوحات مفعمة بشاعرية الانطباع
يمكن للفن أن يغير وجهات نظرنا جذريا وأن يعدّل من رؤانا إلى العالم وبالتالي يعدّل من وعينا الفردي أو الجماعي، هذا ما استفادت منه الرسامة التونسية شهرزاد الفقيه التي توجهت بلوحاتها وألوانها وخطوطها إلى إعادة تمثل الطبيعة من جديد، دون أن تحرفها إلى مسار رمزي أو إيحائي، كل ذلك لتبرئة الكائنات الأكثر تأثيرا في البيئة الحشرات من نظرة الإنسان الخاطئة والظالمة في أحيان كثيرة.
“إذا كنت سأغني مثل شخص آخر فلا داعي للغناء مطلقا” هذا ما قالته يوما مغنية الجاز الأميركية بيلي هوليدي، وهذا ما آمنت به الرسامة التونسية شهرزاد الفقيه أيضا، فالفن هو تلك البيئة التي يمكن أن ينمو فيها الاختلاف والتفرد، أن تتجاور المتناقضات جنبا إلى جنب ويتسع فيها الخيال إلى أبعد المسافات، أو لعله ذلك التمرد اللطيف على الواقع لتحويله إلى صور مشبعة بالنضارة والحياة ومفعمة بالدلالات التعبيرية الجمالية.
يتطابق كل ما أسلفنا ذكره تماما مع الفلسفة الجمالية للفقيه، تجربة فريدة خارج أي حركة أو تيار، رسامة امتلكت عينا ذكية لتلتقط سر الطبيعة في لوحة، فالطبيعة مصدر إلهامها المستمر، ارتأت من خلالها خوض معترك إبداعي وإنساني قصد إعادة تشييد وبناء علاقة جديدة مع محيطنا البيئي من خلال اشتغالها الطريف على “الحشرات” بمعرضها الأخير insectum (حشرات).
بحث جمالي
لوحات تنزع التمثل السلبي للحشرات في أذهاننا لتحولها إلى مادة جمالية تشكيلية نعي من خلالها العالم من زاوية أخرى
جاء معرض الفقيه ليعلن معاهدة صلح بين الإنسان والأرض والطبيعة، مشبعا بدعوات صريحة لتقويم سلوك البشر تجاه بيئتهم، لوحات مقروءة بتفاصيلها وأسرارها تعكس رؤية تشكيلية مسعاها مخاطبة الوجدان والوعي في آن واحد.
ثلاث سنوات من البحث والتدقيق، بحوث خطية وميدانية بينهما كان يُشيد عالم فني مبهج.
بصبر المحارب ودقة العارف بالفن تخوض شهرزاد الفقيه معركتها التشكيلية من أجل تجاوز التعبير النمطي للواقع لتؤسس لواقع مرئي مغاير قائم على المكاشفة وإعادة التأسيس لكشف بصري يفند نمطية الاعتقاد والتعالي القائم حول هذه الحشرات وتعرية الخصائص اللونية والشكلية، لبناء رؤية فنية هدفها تبيان بهاء هذه “الكائنات”، التي يمكننا أن نطلق عليها صفة الغرابة الواقعية المقلقة على حد عبارة الطبيب النفسي الألماني إرنست جينتس.
خاضت الفنانة أعمالها متسلحة بالبحث، هذا البحث الذي أضفى على فنها معنى الطرافة والدهشة، معها تساءلنا بعفوية “هل يمكن للعادي أن يثير فينا القلق والاضطراب؟”، أن ننتقل معه ”العادي” من المتعة والاحتفاء إلى مساءلته وفك أسراره للولوج إلى المغزى الحقيقي لهذا المعرض فهو وإن بدا للوهلة الأولى لا يختلف كثيرا عن الصور الفوتوغرافية المشهدية، إلا أن ذلك لم يكن سوى انطباع عابر لتحل محله ملكة التفكيك والتأويل.
إنها رحلة تشكيلية خيوطها وعناصرها المتشابكة تشعرك بالفضول المتواطئ معها لتشكيل جمال غامض مختف بين لون ولون وبين خط وآخر، تلاعبت فيها الرسامة بانطباعاتنا المتأرجحة بين الدهشة والذهول، بين القبول والصد، بين الطرافة والجد، بين الشجاعة والدقة في المعالجة.
بصبر المحارب ودقة العارف بالفن تخوض شهرزاد الفقيه معركتها التشكيلية من أجل تجاوز التعبير النمطي للواقع
بدأت التشكيلية التونسية شهرزاد الفقيه مغامرتها الفنية “عالم الحشرات” محاولة أن تنزع التمثل السلبي للحشرات في أذهاننا لتحولها إلى مادة جمالية تشكيلية نعي من خلالها العالم من زاوية أخرى، تحملنا الفقيه في هذه الرحلة إلى تتبع أثر البهاء الكامن في تفاصيل هذه الكائنات “العادية”.
الفقيه رسامة متحيزة بكلها ضد القراءات المألوفة للطبيعة، التفتت حولها فرأت فراشة هنا وذبابة هناك ودعسوقة تشق طريقها بصبر بين الأعشاب، من هنا بدأت رحلة بحثها التي توجتها بلوحات تحمل تمردا لطيفا.
إن اشتغالات الفقيه الفنية المنصبة على دراسة عالم الحشرات مثلت ثورة في الذائقة البصرية للفنان والمتلقي على حد السواء، أن نرى قاعة عرض تتلون بألوان الطبيعة وكأننا داخل محمية غابية في أفريقيا، وميض ضوء يأخذنا معه إلى أقصى الفن والاختلاف، هذا ما يمكننا أن نطلق عليه التمرد اللطيف.
لم تحاول الفقيه أبدا الذهاب صوب الصورة الرمزية المتسمة بالإيحاء والغموض بل كانت صوتا للصورة الواقعية من حيث الشكل واللون وكأنها تقول لا فائدة من الخيال أمام الطبيعة، كاشفة صورا ومشاهد سردية تنقل لنا ما تراه كاميرا العين من تفاصيل الحشرة المرسومة بدقة، إنها عملية ولادة أخذت كامل وقتها لتتشكل.
شعور قلق غريب
إنصاف لكائنات جميلة
هنا نتفق على أن مصدر التمرد لدى الفقيه لم يأت عبر وسائط معقدة ورمزية بقدر ما أنتجته الصورة المباشرة الجلية، فكيف للعادي أن يتحول إلى فعل تمرد؟
كلنا نعلم أن العمل الفني أساسا هو عملية إعادة إنتاج مستمرة لما تهديه لنا الطبيعة وعلى هذا الفهم سارت الفقيه، إلا أن ما يميزها فعلا هو أنها رفضت أن تظل أسيرة أسلوب تصويري رائج من حيث الموضوع، فهي لم تتلكأ في السير بعيدا إلى دواخل الطبيعة لتلتقط عينها أصغر كائناتها وأجملها.
قبلها لم أكن من محبي الحشرات أو أعيرها لحظة تأمل بل إنها ارتبطت في مخيالنا بكونها الحيوان الأكثر إزعاجا لنا، الآن فقط اختلف الأمر برمته بعد مشاهدة حشرات الفقيه وهي تعرض وتحتل جدران قاعة العرض بكامل أناقتها البهية، مشاعر متضاربة تجاه أعمالها تتراوح بين الانجذاب والدهشة، إعجاب بشاعرية هذا الانطباع الجديد ودهشة من جهل سابق بجمالية هذا العالم السحري الصغير، فكيف لم ننتبه قبلها إلى التنوع اللوني الكامن فيها، مخلوقات مشبعة بجمالية قادرة على تحويل محيطها إلى فضاء مضيء.
هنا نستطيع القول إن طرافة المنجز المتمرد على الذائقة كانت سببا آخر لنشهد نحن المستقبلين لفنها صراعا مع ذواتنا، صراعا مفتوحا على إعادة بناء فكر جمالي آخر فنتمرد معها في تهكم داخلي ضد جميع معتقداتنا السابقة، فهذه اللوحات الشاعرية التي نراها استطاعت وفي غفلة منا أن تنحت شعورا قلقا غريبا، إنها حبكة فنية تشكيلية ملهمة.
مسار فني دقيق
رسامة منحازة إلى الطبيعة
في الأخير لا يجب أن نهمل التركيز على دراسة مكونات العمل الداخلي من لون وخط، ولأن تصوير الطبيعة يفرض على الرسام أحيانا التقيد ببعض قوانينها وعدم الخروج عن دائرتها فهي قادرة على أن تمده بكل ما يحتاجه من أدوات معرفية فنية وتقنية إذ حافظت الكائنات الحشرية في أغلب منجزات الفقيه على واقعية ألوانها الجذابة، فلا يمكن أن تغريك ألوان أخرى غير ألوانها الأصلية التي تختزن مساقط الضوء والظل بطريقة عفوية تارة وقصدية تارة أخرى، تعطي للمنجزات التشكيلية أبعادا تعبيرية متنوعة، موظفة في ذلك خامات متنوعة في تكوين أعمالها شكل فضاء لوني متعدد الكثافة.
وما يلفت النظر أيضا في أعمال الفقيه هو ذهابها إلى تقطيع اللوحة إلى جزأين أو ثلاثة أجزاء وأحيانا أكثر من عمل “متعدد الأطر يخلق كل إطار صورته، في شكل واحد وكأنه شباك يطل على الآخر” يأخذنا إلى عالم جديد صنعت من خلاله الفقيه مسارا مختلفا عن كل من سبقها وجايلها، عالم كان ينتظر عقلا مبدعا يمنحه معنى وحضورا.
يمثل الخط أحد أهم العناصر التشكيلية المكونة للتركيبة الفنية للوحات الفقيه، فيظهر مرة في شكل مسترسل وسريع منتقل في فضاء اللوحة حرا من كل ضوابط مكانية وزمانية، تتبعه العين في غفلة منها فتسرح حيث أراد لها أن تصل في رحلة بصرية، عفوية، متناسقة ومحكمة تذكرنا بعوالم الرسام العالمي مارك شاغال ومناخاته السحرية الخيالية المثيرة للذائقة. ثم يظهر مرة أخرى في شكل أقل حركة وانسيابية في أماكن مغايرة حيث يلعب فيها الخط دور تحديد شكل اللون والحجم وتخرج لنا الأشكال في مظهر يلفه السكون والرهبة، كما ساهم أيضا في إظهار تلك التفاصيل الصغيرة لتركيبة الحشرة من خلال رسم حدودها بشكل جلي أكثر لنتمكن نحن المتلقين من مشاهدة التوليفات التركيبية الأنيقة لها.
كما اعتمدت الرسامة خلال معرضها هذا توظيف تقنية الكولاج (التلصيق) باستحياء، فهو يظهر بين حين وآخر ليدعم التنوع الأسلوبي للفنانة.
في النهاية يمكننا الإقرار بحقيقة لا مفر منها كون الرسامة شهرزاد الفقيه وانطلاقا من شغفها وافتتانها بالطبيعة نجحت في خلق مسار فني يشي بجمالية ساحرة وهادفة، مشروع فني يرفع الحجاب عن المسكوت عنه ويجعل من الطبيعة تعويذة وعالما يستحق الاكتشاف من جديد.
شهرزاد الفقيه
ولدت شهرزاد الفقيه بمدينة بقالطة التونسية سنة 1979، بدأت دراسة الفنون التشكيلية في محافظة صفاقس ثم التحقت فيما بعد بالمعهد العالي للفنون الجميلة بتونس لتكمل دراستها الأكاديمية هناك ومن ثمة ولجت عالم التدريس، ولها العديد من المشاركات الفنية الجماعية داخل تونس وخارجها.
أقامت أول معرض شخصي لها في مايو سنة 2021 “exaltationmystère de la vie”، ثم تلاه معرضها الثاني “insectum” سنة 2022 إذ يعد نقطة تحول مهمة في مسيرة الرسامة.
انشرWhatsAppTwitterFacebook
سامي عمامي
كاتب تونسي