عجينة نورانية في لوحات الفنان السوري إبراهيم حسون
"مدن الطين - ثوب أمي" مساحات ملونة من ريف حلب.
انشرWhatsAppTwitterFacebook
معادلات بصرية تستعيد خاصيات الوطن
اختار الفنان التشكيلي السوري إبراهيم حسون أن يكون موضوع معرضه التشكيلي الجديد -الذي اختزل فيه تجربته الفنية وأثبت مدى نضجه والمرحلة التي بلغها- من طين حلب الذي عرفته أصابعه منذ كان طفلا صغيرا، ومن ثوب أمه التقليدي المميز.
"مدن الطين – ثوب أمي" عنوان معرض الفنان التشكيلي السوري إبراهيم حسون الذي افتتح في “غاليري آزاد” بالقاهرة، ويستمر حتى يونيو المقبل. يضم المعرض مجموعة كبيرة من اللوحات ذات القياسات الكبيرة.
في تقديمه لأعماله الجديدة يشير الفنان إلى أنه لا يستغرق “وقتا كي يتعرف على اللون الفسفوري أو الألوان المُشرقة جدًا، بماهيتها الحقيقية، فهو منذ صغره تربى على أن اللون الأحمر أحمر، والأصفر أصفر. مدن الطين وثوب الأم هما وسيلة لصياغة نصٍّ بصريٍّ، بعيدا عن الحكي أو السرد المباشر، هو نصٌّ بصري يفكك العناصر ويعيد صياغتها من جديد، فمدن الطين بالنسبة إليَّ تُمثّل قيمة كبيرة، فأنا مولود بقبة طينية، وهذه البيئة ذات البيوت المصنوعة من الطين وذات الشكل العفوي، اليد البشرية هي التي بنتها من مادة الطين، بالإضافة إلى مادة التبن، لذلك تكون هذه البيوت أقرب إلى الروح والقلب، من تلك البيوت التي تصنعها الآلات التي نراها حاليا، وهذه البيئة مكان مفتوح أمامي”.
وبمعزل عما قاله الفنان فإن عنوان المعرض الذي يقيمه إبراهيم حسون “مدن الطين – ثوب أمي” يمدّ نظر زائري معرضه نحو مساحات ملونة لا نهاية لها كما هي لانهائية ثوب الأم الخافق في النسائم والمُحمّل بلانهائية ذكريات مدينة من طين احتضنت طفولة الفنان في ريف حلب الجنوبي.
بالنسبة إلى الكثير منا كلام الفنان هو دعوة مبطنة إلى اعتلاء رياح خمسينية عبقت في ثوب الأم لترفعنا معها في جولة خاطفة ودافئة على علوّ منخفض من خارطة الوجود الخاص بنا.
لوحات إبراهيم حسون الجديدة في معرضه "مدن الطين - ثوب أمي" يمكن اعتبارها تتويجا للمراحل الفنية التي مرّ بها
وكل وجود على اختلافه هو موشوم بالذكريات وآثار أمكنة وتيارات متحلقة حول ذاتها خانقة تارة ولاهية تارة أخرى، تماما كما في حياة الفنان وحياة كل من كُتب له أن يكون في مدة قصيرة، مهما امتدت، في هذه الدنيا.
وفي المعرض لوحات مشهدية بأتم معنى الكلمة؛ لا تنتهي حين تبدأ ولا تكتمل بقاعها أفقيا، بل تنحدر في العمق لتغلّ في طبقات لونية هي أشبه بتأريخ بصري لزمن فوق زمن هو الآخر فوق زمن آخر. غير أن طبقات لوحات الفنان لا تتعدى ربما ثلاث طبقات متعاقبة تارة تشف عن بعضها وتارة أخرى تنغلق بكتمان لونيّ على بعضها الآخر. لوحات موشومة بخطوط دقيقة تتشابك وتستدير، تتلاشى وتتحلل وتعود إلى الظهور لتنعقد كبطون أحرف عربية لتبقي الرحلة خفيفة على الروح وغير مثقلة بالآلام الإنسانية التي ما من كائن بشري لم يعش شيئا منها على الأقل.
وقد أشار الفنان إلى أنه “منذ صغري والذاكرة البصرية لها حيز كبير في باطني. مخزن عميق يتسع للمكان المفتوح وأفقه حيث لا تعكره حواجز ترهق العين أو تصطدم به”.
وأضاف قائلا إن “المعادلات الذهنية التي يُجريها الإنسان بالمدينة ترهق ذاكرته البصرية وتؤثر على الحالة اللونية لديه، بينما المنطقة ذات البيوت الطينية مريحة للعين ولا تصطدم بها”.
قد يعتبر زائر المعرض لوحات الفنان السوري إبراهيم حسون في الوهلة الأولى أنها لوحات تجريدية، لكن سيكتشف إن تأمل فيها، ولاسيما إن ترك بينه وبينها مسافة، أنها ليست تجريدية بحتة.
سيعثر الزائر تباعا على آثار لمسارات طويلة لبشر وحيوانات ساروا يوما في قوافل، وأزهار تكورت لتصبح عيونا ومساحات جرفتها الرمال دون أن تلقي فيها أجواء تراجيدية بل لتحلّ مكانها بقاعا من ماء عذب تحلقت حوله خطوط دقيقة لا يكاد الناظر إليها يؤلف شيئا واضحا منها حتى تختفي أو تنمو فوقها أشجار بالكاد يمكن أن يتعرف عليها بصريا، بل يستشعر وجودها من الخضرة المتناثرة فوق باقي الموجودات غير واضحة الملامح: مدن الطين الخاصة بذاكرة الفنان لا تعرف شيئا من التصحرّ حتى وإن دثّرت الرمال الكثير من ملامحها الجغرافية وأشكال بيوتها المصنوعة يدويا من الطين والقش والماء.
لا غرابة في ذلك حين تحتشد هذه البقاع والمنازل ذات القبب والعناصر الطبيعية والكائنات التي تعيش في كنفها، في ثوب الأم المزخرف بالألوان والمطرز بشتى أنواع القطب التي تحاكي الطبيعة وكل ما هو مفرح ومُطمئن فيها، والتجريدي/ الغنائي بطبيعته.
ولا تلقي لوحات الفنان في نفس المُشاهد حزنا غالبا ما يرافق اللوحات التي تصور مشاهد من الماضي (تجريديا أو تشكيليا) بل على العكس، إذ فيها نضرة وحيوية، وكأنها تقول لنا “أهلا بالزائر – الناظر إلي. أنا الآن موجود لكن في عالم مواز للعالم الذي تعيش فيه. أطل الزيارة ما شئت”.
وهناك نحل مُحمّل بالعسل الملون ينغل في لوحات الفنان إبراهيم حسون. موشومة لوحاته بحركة لا تخفت ولا تضج في آن واحد. وما من مبالغة في هذا القول لاسيما حين نقارن أعماله هذه بلوحاته الأولى التي ربما طغى عليها سكون بارد لا يعود فقط إلى استخدام الفنان مجموعة من الألوان كالأسود والرمادي والأبيض والبني والأصفر الباهت والتي تمكنت في حضورها مع بعضها البعض من إيصاد الأبواب المفضية إلى أي فرح أرضي، بل يعود إلى المساحات المركبة إلى جانب بعضها البعض وإلى الشخوص غير الواضحة التي تغصّ بحزن مجهول.
والجدير بالذكر أن مرحلة هجرته إلى تركيا مع عائلته بسبب الحرب في سوريا كان لها أثر باهر في تحرير روح الفنان وريشته ودفعه إلى اكتشاف الحدائق الملونة التي تسكنه بأسلوب معاصر ويحمل توقيعه الخاص.
أما هذه اللوحات الجديدة في معرضه “مدن الطين – ثوب أمي” فيمكن اعتبارها تتويجا للمرحلة الفنية التي مرّ بها؛ مرحلة غنائية بامتياز صهر فيها الألوان الناصعة مع أجواء مدن الطين لونيا وتشكيليا تحت عنوان واحد لا لبس فيه: الغنائية، الغنائية.
من الجدير بالذكر أن الفنان إبراهيم حسون من مواليد مدينة حلب، وسبق أن درس في جامعة حلب في قسم الفنون الجميلة. وحاز على شهادة دبلوم الدراسات العليا للفنون الجميلة – قسم التصوير الزيتي من جامعة دمشق عام 1996.
أقام حسون العديد من المعارض الفردية داخل سوريا وخارجها وله مشاركات عديدة في معارض جماعية في سوريا وخارجها. ومن البلدان التي عرض فيها نذكر فرنسا وإسبانيا وتركيا ومصر ودول الخليج.
انشرWhatsAppTwitterFacebook
ميموزا العراوي
ناقدة لبنانية
"مدن الطين - ثوب أمي" مساحات ملونة من ريف حلب.
انشرWhatsAppTwitterFacebook
معادلات بصرية تستعيد خاصيات الوطن
اختار الفنان التشكيلي السوري إبراهيم حسون أن يكون موضوع معرضه التشكيلي الجديد -الذي اختزل فيه تجربته الفنية وأثبت مدى نضجه والمرحلة التي بلغها- من طين حلب الذي عرفته أصابعه منذ كان طفلا صغيرا، ومن ثوب أمه التقليدي المميز.
"مدن الطين – ثوب أمي" عنوان معرض الفنان التشكيلي السوري إبراهيم حسون الذي افتتح في “غاليري آزاد” بالقاهرة، ويستمر حتى يونيو المقبل. يضم المعرض مجموعة كبيرة من اللوحات ذات القياسات الكبيرة.
في تقديمه لأعماله الجديدة يشير الفنان إلى أنه لا يستغرق “وقتا كي يتعرف على اللون الفسفوري أو الألوان المُشرقة جدًا، بماهيتها الحقيقية، فهو منذ صغره تربى على أن اللون الأحمر أحمر، والأصفر أصفر. مدن الطين وثوب الأم هما وسيلة لصياغة نصٍّ بصريٍّ، بعيدا عن الحكي أو السرد المباشر، هو نصٌّ بصري يفكك العناصر ويعيد صياغتها من جديد، فمدن الطين بالنسبة إليَّ تُمثّل قيمة كبيرة، فأنا مولود بقبة طينية، وهذه البيئة ذات البيوت المصنوعة من الطين وذات الشكل العفوي، اليد البشرية هي التي بنتها من مادة الطين، بالإضافة إلى مادة التبن، لذلك تكون هذه البيوت أقرب إلى الروح والقلب، من تلك البيوت التي تصنعها الآلات التي نراها حاليا، وهذه البيئة مكان مفتوح أمامي”.
وبمعزل عما قاله الفنان فإن عنوان المعرض الذي يقيمه إبراهيم حسون “مدن الطين – ثوب أمي” يمدّ نظر زائري معرضه نحو مساحات ملونة لا نهاية لها كما هي لانهائية ثوب الأم الخافق في النسائم والمُحمّل بلانهائية ذكريات مدينة من طين احتضنت طفولة الفنان في ريف حلب الجنوبي.
بالنسبة إلى الكثير منا كلام الفنان هو دعوة مبطنة إلى اعتلاء رياح خمسينية عبقت في ثوب الأم لترفعنا معها في جولة خاطفة ودافئة على علوّ منخفض من خارطة الوجود الخاص بنا.
لوحات إبراهيم حسون الجديدة في معرضه "مدن الطين - ثوب أمي" يمكن اعتبارها تتويجا للمراحل الفنية التي مرّ بها
وكل وجود على اختلافه هو موشوم بالذكريات وآثار أمكنة وتيارات متحلقة حول ذاتها خانقة تارة ولاهية تارة أخرى، تماما كما في حياة الفنان وحياة كل من كُتب له أن يكون في مدة قصيرة، مهما امتدت، في هذه الدنيا.
وفي المعرض لوحات مشهدية بأتم معنى الكلمة؛ لا تنتهي حين تبدأ ولا تكتمل بقاعها أفقيا، بل تنحدر في العمق لتغلّ في طبقات لونية هي أشبه بتأريخ بصري لزمن فوق زمن هو الآخر فوق زمن آخر. غير أن طبقات لوحات الفنان لا تتعدى ربما ثلاث طبقات متعاقبة تارة تشف عن بعضها وتارة أخرى تنغلق بكتمان لونيّ على بعضها الآخر. لوحات موشومة بخطوط دقيقة تتشابك وتستدير، تتلاشى وتتحلل وتعود إلى الظهور لتنعقد كبطون أحرف عربية لتبقي الرحلة خفيفة على الروح وغير مثقلة بالآلام الإنسانية التي ما من كائن بشري لم يعش شيئا منها على الأقل.
وقد أشار الفنان إلى أنه “منذ صغري والذاكرة البصرية لها حيز كبير في باطني. مخزن عميق يتسع للمكان المفتوح وأفقه حيث لا تعكره حواجز ترهق العين أو تصطدم به”.
وأضاف قائلا إن “المعادلات الذهنية التي يُجريها الإنسان بالمدينة ترهق ذاكرته البصرية وتؤثر على الحالة اللونية لديه، بينما المنطقة ذات البيوت الطينية مريحة للعين ولا تصطدم بها”.
قد يعتبر زائر المعرض لوحات الفنان السوري إبراهيم حسون في الوهلة الأولى أنها لوحات تجريدية، لكن سيكتشف إن تأمل فيها، ولاسيما إن ترك بينه وبينها مسافة، أنها ليست تجريدية بحتة.
سيعثر الزائر تباعا على آثار لمسارات طويلة لبشر وحيوانات ساروا يوما في قوافل، وأزهار تكورت لتصبح عيونا ومساحات جرفتها الرمال دون أن تلقي فيها أجواء تراجيدية بل لتحلّ مكانها بقاعا من ماء عذب تحلقت حوله خطوط دقيقة لا يكاد الناظر إليها يؤلف شيئا واضحا منها حتى تختفي أو تنمو فوقها أشجار بالكاد يمكن أن يتعرف عليها بصريا، بل يستشعر وجودها من الخضرة المتناثرة فوق باقي الموجودات غير واضحة الملامح: مدن الطين الخاصة بذاكرة الفنان لا تعرف شيئا من التصحرّ حتى وإن دثّرت الرمال الكثير من ملامحها الجغرافية وأشكال بيوتها المصنوعة يدويا من الطين والقش والماء.
لا غرابة في ذلك حين تحتشد هذه البقاع والمنازل ذات القبب والعناصر الطبيعية والكائنات التي تعيش في كنفها، في ثوب الأم المزخرف بالألوان والمطرز بشتى أنواع القطب التي تحاكي الطبيعة وكل ما هو مفرح ومُطمئن فيها، والتجريدي/ الغنائي بطبيعته.
ولا تلقي لوحات الفنان في نفس المُشاهد حزنا غالبا ما يرافق اللوحات التي تصور مشاهد من الماضي (تجريديا أو تشكيليا) بل على العكس، إذ فيها نضرة وحيوية، وكأنها تقول لنا “أهلا بالزائر – الناظر إلي. أنا الآن موجود لكن في عالم مواز للعالم الذي تعيش فيه. أطل الزيارة ما شئت”.
وهناك نحل مُحمّل بالعسل الملون ينغل في لوحات الفنان إبراهيم حسون. موشومة لوحاته بحركة لا تخفت ولا تضج في آن واحد. وما من مبالغة في هذا القول لاسيما حين نقارن أعماله هذه بلوحاته الأولى التي ربما طغى عليها سكون بارد لا يعود فقط إلى استخدام الفنان مجموعة من الألوان كالأسود والرمادي والأبيض والبني والأصفر الباهت والتي تمكنت في حضورها مع بعضها البعض من إيصاد الأبواب المفضية إلى أي فرح أرضي، بل يعود إلى المساحات المركبة إلى جانب بعضها البعض وإلى الشخوص غير الواضحة التي تغصّ بحزن مجهول.
والجدير بالذكر أن مرحلة هجرته إلى تركيا مع عائلته بسبب الحرب في سوريا كان لها أثر باهر في تحرير روح الفنان وريشته ودفعه إلى اكتشاف الحدائق الملونة التي تسكنه بأسلوب معاصر ويحمل توقيعه الخاص.
أما هذه اللوحات الجديدة في معرضه “مدن الطين – ثوب أمي” فيمكن اعتبارها تتويجا للمرحلة الفنية التي مرّ بها؛ مرحلة غنائية بامتياز صهر فيها الألوان الناصعة مع أجواء مدن الطين لونيا وتشكيليا تحت عنوان واحد لا لبس فيه: الغنائية، الغنائية.
من الجدير بالذكر أن الفنان إبراهيم حسون من مواليد مدينة حلب، وسبق أن درس في جامعة حلب في قسم الفنون الجميلة. وحاز على شهادة دبلوم الدراسات العليا للفنون الجميلة – قسم التصوير الزيتي من جامعة دمشق عام 1996.
أقام حسون العديد من المعارض الفردية داخل سوريا وخارجها وله مشاركات عديدة في معارض جماعية في سوريا وخارجها. ومن البلدان التي عرض فيها نذكر فرنسا وإسبانيا وتركيا ومصر ودول الخليج.
انشرWhatsAppTwitterFacebook
ميموزا العراوي
ناقدة لبنانية