النجاح المذهل والسحر اللامتناهي للفنانة اليابانية يايوي كوساما
يصطف الناس طوال ساعات لقضاء دقيقة واحدة فقط داخل غرفة من تصميمها ذات المرايا اللانهائية فيما تقدر قيمة قطعها في سوق الفن بأثمان مرتفعة، لكن كيف يمكن تفسير النجاح الخارق الذي تتمتع به الفنانة التسعينية؟
أليستر سمارت
الجمعة 11 أغسطس 2023 13:15
صورة بورتريه ليايوي كوساما مقدمة من "غاليري أوتا" للفنون الجميلة و"غاليري فكتوريا ميرو" وديفيد زويرنه (يوسوكيه ميازاكي)
في نوفمبر (تشرين الثاني) 1968 وقبل أشهر قليلة من ذكرى ميلادها الـ 40، وجهت الفنانة يايوي كوساما رسالة مفتوحة لرئيس الولايات المتحدة المنتخب آنذاك ريتشارد نيكسون، عرضت عليه أن تمارس الجنس معه وأن "تزين جسده الرجولي القاسي بلمسة بلسم ومحبة" إذا وافق على وضع حد لتدخل الولايات المتحدة في حرب فيتنام.
وليس من الواضح تماماً إن كانت جادة أو أن نيكسون رد على طلبها، لكن الأمر الذي لا يمكن نكرانه فضلاً عن كونه لافتاً فعلاً هو أن كوساما البالغة من العمر 94 سنة لا تزال تخلق حولها ضجة بعد مرور 50 عاماً على هذا الحدث.
ويبدو أن أعمالها التي تتضمن إجمالاً أنماطاً متكررة ومذهلة من الدوائر، موجودة أينما وجهت نظرك هذا العام، فالمعرض الافتتاحي لــ "أفيفا ستوديوز"، المركز الجديد للفنون في مانشستر البالغة قيمته 211 مليون جنيه استرليني (268 مليون دولاراً)، هو عرض لتماثيل قابلة للنفخ بعنوان "يايوي كوساما: أنت، أنا والبالونات" Yayoi Kusama: You, Me and the Balloons.
ولا يزال الزوار ينبهرون أمام تركيبات معرضها من غرفتين بمرايا لانهائية، في متحف تيت مودرن Tate Modern. (افتتح المعرض عام 2021 ونظراً للإقبال الجماهيري يستمر تأجيل موعد انتهائه، وهو محدد حالياً لأبريل / نيسان 2024).
كما افتتح معرضها الضخم الذي يلقي نظرة شاملة على مسيرتها المهنية بعنوان "يايوي كوساما: 1945 حتى اليوم" Yayoi Kusama: 1945 to Now في متحف غوغنهايم بيلباو.
ولا ينحصر تأثيرها في عالم الفن، ففي يناير (كانون الثاني) الماضي أطلقت كوساما تعاوناً واسع النطاق مع دار الأزياء "لويس فيتون"، ووظفت في سياق هذا التعاون دوائرها الشهيرة في تصميم عدد كبير من الحقائب اليدوية وثياب الرياضة وغيرها من الأغراض، إضافة إلى تزيين واجهات متاجر "لويس فيتون" كما داخلها. (ظهرت نسخة روبوتية عن كوساما وهي ترسم دوائر في نوافذ العرض في فروع لندن وباريس ونيويورك).
أما سوق أعمالها الفنية فمزدهرة كذلك، وفي عام 2014 بيعت لوحتها "أبيض رقم 28" White No.28 التي رسمتها عام 1960 بمبلغ 7.1 مليون دولار في كريستيز بنيويورك، وكان هذا الثمن عندها أعلى سعر يدفع على الإطلاق في مقابل عمل فني لفنانة في مزاد.
كيف يمكن إذاً تفسير النجاح الخارق الذي تتمتع به الفنانة التسعينية التي أدخلت نفسها إلى مستشفى للأمراض العقلية في طوكيو عام 1977 من دون أن تسجل خروجها منه؟
"أنت، أنا والبالونات" ليايوي كوساما في أفيفا ستوديوز، مانشستر (غيتي)
يقول مدير "غاليري فيكتوريا ميرو" Victoria Miro اللندني غلين سكوت رايت الذي يمثل كوساما في أوروبا، إن أحد الأسباب هو أن عالم الفن "يصحح" نفسه، ففي مرحلة سابقة من حياتها المهنية، "لا شك في أنها كانت دخيلة لكونها امرأة ويابانية، ولم تلق التقدير نفسه الذي لقيه الفنانون الرجال البيض"، إنما في أيامنا هذه وفيما يحاول عالم الفن أن يصبح مكاناً تسود فيه المساواة بشكل أكبر "ازداد الوعي بأهمية أعمالها"، كما يقول رايت.
ولا شك في أن قصة حياة كوساما نفسها عامل آخر في هذا النجاح، فقد عانت أمراضاً نفسية طوال حياتها، ويمكن أن تقضي المعرفة العلنية بهذا الموضوع على سمعة الفنان، كما ظهر جلياً في حال فاغ غوغ، وإن بعد وفاته، لكن المرض النفسي أصبح يلقى تفهماً أكبر بكثير من أيام الفنان الهولندي مع أن الاعتقاد يسود حتى الآن بأن المعاناة تتحول بشكل ما إلى قمة الفن.
بعض تعليقات كوساما نفسها في هذا الإطار جديرة بالانتباه، فقد كتبت في سيرتها الذاتية "الشبكة اللامتناهية" Infinity Net الصادرة عام 2011 "أحارب الألم والقلق والخوف كل يوم، ووجدت أن الطريقة الوحيدة التي تساعدني في التخفيف من وطأة مرضي هي الاستمرار في صناعة الفن".
لكن في سبيل التوصل إلى فهم تام لمكانة كوساما في الثقافة المعاصرة على المرء العودة لبداية حياتها ومسيرتها المهنية، فقد وُلدت في مدينة ماتسوموتو وسط اليابان عام 1929 لعائلة ميسورة مادياً تدير مشتلاً زراعياً، ولم تعش طفولة سعيدة فقد قضى والدها معظم تلك الفترة في ملاحقة النساء، فيما اعتادت والدتها التي عارضت بشراسة حلم يايوي بأن تصبح فنانة، على تمزيق رسوماتها، وعانت الفتاة كذلك من هلوسات متكررة غالباً ما كانت ترى فيها الأزهار وهي تحدثها.
ارتادت كوساما كلية الفنون بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية لكنها اعتبرت أن المجتمع الياباني محافظ للغاية، وفي منتصف خمسينيات القرن الماضي انتقلت إلى الولايات المتحدة وعاشت في البداية حالاً من الفقر المدقع إذ اقتاتت على رؤوس الأسماك التي كانت تجمعها من حاوية في نيويورك وتسلقها لتصنع منها حساء.
غرفة المرايا اللانهائية المليئة ببريق الحياة ليايوي كوساما عرضتها الفنانة و"غاليري أوتا" للفنون الجميلة و"غاليري فكتوريا ميرو" عام 2015 واقتناها المتحف عام 2019 (يايوي كوساما/تيت/جو همفريز)
لكنها حققت النجاح مع الوقت من خلال مجموعة رسوم تجريدية عرفت باسم "الشباك اللامتناهية" Infinity Nets التي تشكل لوحة "أبيض رقم 28" المذكورة آنفاً إحداها، وهي عبارة عن لوحات كبيرة تغطيها حلقات متناهية الصغر ومتكررة تعطي انطباعاً إجمالياً بأنها سياج أو شبكة.
وخلال هذه الفترة أخذت كوساما تعرض أعمالها إلى جانب آندي وورهول، وانبرت جورجيا أوكيف تدافع عنها وبدأت تواعد دونالد جود، ثلاثة فنانين لا بأس بهم أبداً كشركاء في الفن.
وفي عام 1965 صنعت أول غرفة من غرف المرايا اللانهائية التي لا يزال أكثر من 20 منها موجودة حتى اليوم (ومنها الغرفتان الموجودتان في "تيت مودرن"). وشكلت هذه الغرف جزءاً أساساً من نجاحها في الفترة الأخيرة، وتتضمن غرفاً تغطيها المرايا بشكل كامل تتحول معها الغرف إلى انعكاسات لامتناهية، ولطالما كان دخول إحداها تجربة يغوص فيها المرء مع أن نماذج القرن الـ 21 أكثر تطوراً من الناحية التقنية من الغرف القديمة، وتتضمن في غالبية الأحيان مؤثرات ضوئية تستخدم لمبات "ليد" لتعطي انطباعاً بالهلوسة. (غالباً ما تستضيف الـ "غاليريهات" اليوم والمتاحف حول العالم غرف المرايا اللانهائية، وتمتد فترة الانتظار لدخول الغرف ثلاث ساعات من أجل قضاء دقيقة واحدة فقط داخلها في أكثر الأحيان).
"شبكات لا نهائية (إكس واي زي)" ليايوي كوساما يحملها مساعدان في دار سوذبيز للمزادات العلنية عام 2021 (غيتي لمصلحة سوذبيز)
وبحلول نهاية ستينيات القرن الماضي كانت كوساما تنظم مجموعة من الفعاليات العارية في أرجاء نيويورك، وكان يشارك في هذه الفعاليات إجمالاً راقصون وراقصات عراة رسمت دوائر بولكا على أجسادهم كاملة، ويدافعون عن قضايا سياسية مثل إنهاء هيمنة "وول ستريت" والتدخل الأميركي في فيتنام.
وفي عام 1973 عادت كوساما لليابان بعد ردود فعل سلبية قوية على هذه الفعاليات، لكن بعد فترة قصيرة بدأت بالمعاناة من الإنهاك وتدهورت حالها النفسية، وهي تقضي حياتها منذ عام 1977 بين مستشفى سيوا والأستوديو الخاص بها الواقع إلى جوار المستشفى، ولا تزال تعمل حتى يومنا هذا بينما يساندها فريق صغير من المساعدين.
ويقول رايت الذي يزور كوساما ثلاث أو أربع مرات سنوياً، "لا تعتبر أن أي شيء من المسلمات، وهي تقدر جداً كل الانتباه الذي تلقته في وقت متأخر من حياتها"، ويعتقد رايت أن صيت الفنانة ذاع فعلاً منذ نحو 12 عاماً، مشيراً إلى المعرض الكبير المتنقل عن حياتها المهنية الذي استضافه متحف "الملكة صوفيا" في مدريد ومركز "بومبيدو" في باريس ومحتف "تيت مودرن" في لندن و"متحف ويتني" للفن الأميركي في نيويورك عام 2011 و2012، على أنه لحظة جوهرية.
وقد يكون ذلك صحيحاً من ناحية اعتراف القيمين على المعارض والمؤسسات، فبعد طول انتظار عرضت المكانة التي احتلتها كوساما في صلب مذاهب فنية عدة مهمة خلال الجزء الثاني من القرن الـ 20 بالصورة المناسبة، من التعبيرية التجريدية والتقليلية (Minimalism) إلى فنون الأداء.
غرفة المرايا اللانهائية - تمنيات بسعادة البشر من وراء الكون (يايوي كوساما/ تقدمة "غاليري أوتا" للفنون الجميلة)
لكن من ناحية الجاذبية الشعبية يبرز في تلك الفترة تاريخ أهم وهو أكتوبر (تشرين الأول) 2010، أي موعد إطلاق "إنستغرام"، ويشكل فن كوساما اللافت للأنظار، ولا سيما غرف المرايا اللانهائية، الخلفية المثالية لالتقاط صور السيلفي بفضل خليط الأضواء الساطعة وأنماط الألوان الزاهية، وتعد أديل وكايتي بيري من بين 100 ألف مستخدم نشروا صوراً وذيلوها بوسم #غرف_لانهائية infinityroom# على "إنستغرام".
ويصب في هذا الموضوع أيضاً الاتجاه المتنامي خلال الأعوام الأخيرة لصناعة فن من النوع الذي يشكل تجربة تفاعلية للمتلقي، ويعتاد مرتادو المعارض الفنية بشكل متزايد على لوحات فيها أكثر من مجرد زيت على قماش، فحتى كبار الرسامين القدامى مثل فان غوخ وفريدا كاهلو وسالفادور دالي كيفت أعمالهم لتكون تجربة ينغمس فيها المرء، أي صنعت منها نسخات رقمية عبارة عن صور ضخمة تعرض على جدران وسقف وأرضية مكان معين، وتناسب غرف المرايا اللانهائية هذه الصيحة تماماً.
ويضيف دوريون تشونغ، أحد القيمين على معرض "يايوي كوساما: 1945 إلى اليوم"، أن جائحة "كوفيد" ربما أسهمت في تعزيز شهرة الفنانة اليابانية، ويقول تشونغ "كشفت تلك المرحلة هشاشة الوجود الإنساني، وأعتقد أن مصادفتنا فن كوساما منذ تلك الفترة جدد إيماننا بقوة الفن العلاجية، إذ إن أعمالها تحمل شيئاً يغذي الروح".
لحظة النهضة (يايوي كوساما)
ولا تزال بعض الأسئلة والتناقضات مطروحة بالنسبة إلى مسيرة كوساما المهنية، فمثلاً إلى أي درجة تشارك فعلاً هذه الأيام في اتخاذ مختلف القرارات حول اختيار أعمالها الفنية وأماكن عرضها؟ وأيضاً كيف أفضت الصور التي انبثقت من معاناة نفسية إلى بث هذا الكم من الفرح حول العالم؟
لكن مهما كانت الإجابات فإن كوساما تعيش فترة تبلغ فيها جاذبيتها بالنسبة إلى الجمهور كما المؤسسة الفنية، لأسباب مختلفة بعض الشيء، درجة عالية جداً، وقد حصل ذلك وليد الصدفة إلى حد ما ونتيجة تغيرات اجتماعية وثقافية ما كانت قادرة على توقعها، إنما لو كنتَ شخصاً مبدعاً يأخذ مخاطرات ويعمل حتى التسعينيات من عمره فأنت تتيح لنفسك فرصة جيدة لتكون موجوداً حتى ترى العالم يدرك أفكارك.
يصطف الناس طوال ساعات لقضاء دقيقة واحدة فقط داخل غرفة من تصميمها ذات المرايا اللانهائية فيما تقدر قيمة قطعها في سوق الفن بأثمان مرتفعة، لكن كيف يمكن تفسير النجاح الخارق الذي تتمتع به الفنانة التسعينية؟
أليستر سمارت
الجمعة 11 أغسطس 2023 13:15
صورة بورتريه ليايوي كوساما مقدمة من "غاليري أوتا" للفنون الجميلة و"غاليري فكتوريا ميرو" وديفيد زويرنه (يوسوكيه ميازاكي)
في نوفمبر (تشرين الثاني) 1968 وقبل أشهر قليلة من ذكرى ميلادها الـ 40، وجهت الفنانة يايوي كوساما رسالة مفتوحة لرئيس الولايات المتحدة المنتخب آنذاك ريتشارد نيكسون، عرضت عليه أن تمارس الجنس معه وأن "تزين جسده الرجولي القاسي بلمسة بلسم ومحبة" إذا وافق على وضع حد لتدخل الولايات المتحدة في حرب فيتنام.
وليس من الواضح تماماً إن كانت جادة أو أن نيكسون رد على طلبها، لكن الأمر الذي لا يمكن نكرانه فضلاً عن كونه لافتاً فعلاً هو أن كوساما البالغة من العمر 94 سنة لا تزال تخلق حولها ضجة بعد مرور 50 عاماً على هذا الحدث.
ويبدو أن أعمالها التي تتضمن إجمالاً أنماطاً متكررة ومذهلة من الدوائر، موجودة أينما وجهت نظرك هذا العام، فالمعرض الافتتاحي لــ "أفيفا ستوديوز"، المركز الجديد للفنون في مانشستر البالغة قيمته 211 مليون جنيه استرليني (268 مليون دولاراً)، هو عرض لتماثيل قابلة للنفخ بعنوان "يايوي كوساما: أنت، أنا والبالونات" Yayoi Kusama: You, Me and the Balloons.
ولا يزال الزوار ينبهرون أمام تركيبات معرضها من غرفتين بمرايا لانهائية، في متحف تيت مودرن Tate Modern. (افتتح المعرض عام 2021 ونظراً للإقبال الجماهيري يستمر تأجيل موعد انتهائه، وهو محدد حالياً لأبريل / نيسان 2024).
كما افتتح معرضها الضخم الذي يلقي نظرة شاملة على مسيرتها المهنية بعنوان "يايوي كوساما: 1945 حتى اليوم" Yayoi Kusama: 1945 to Now في متحف غوغنهايم بيلباو.
ولا ينحصر تأثيرها في عالم الفن، ففي يناير (كانون الثاني) الماضي أطلقت كوساما تعاوناً واسع النطاق مع دار الأزياء "لويس فيتون"، ووظفت في سياق هذا التعاون دوائرها الشهيرة في تصميم عدد كبير من الحقائب اليدوية وثياب الرياضة وغيرها من الأغراض، إضافة إلى تزيين واجهات متاجر "لويس فيتون" كما داخلها. (ظهرت نسخة روبوتية عن كوساما وهي ترسم دوائر في نوافذ العرض في فروع لندن وباريس ونيويورك).
أما سوق أعمالها الفنية فمزدهرة كذلك، وفي عام 2014 بيعت لوحتها "أبيض رقم 28" White No.28 التي رسمتها عام 1960 بمبلغ 7.1 مليون دولار في كريستيز بنيويورك، وكان هذا الثمن عندها أعلى سعر يدفع على الإطلاق في مقابل عمل فني لفنانة في مزاد.
كيف يمكن إذاً تفسير النجاح الخارق الذي تتمتع به الفنانة التسعينية التي أدخلت نفسها إلى مستشفى للأمراض العقلية في طوكيو عام 1977 من دون أن تسجل خروجها منه؟
"أنت، أنا والبالونات" ليايوي كوساما في أفيفا ستوديوز، مانشستر (غيتي)
يقول مدير "غاليري فيكتوريا ميرو" Victoria Miro اللندني غلين سكوت رايت الذي يمثل كوساما في أوروبا، إن أحد الأسباب هو أن عالم الفن "يصحح" نفسه، ففي مرحلة سابقة من حياتها المهنية، "لا شك في أنها كانت دخيلة لكونها امرأة ويابانية، ولم تلق التقدير نفسه الذي لقيه الفنانون الرجال البيض"، إنما في أيامنا هذه وفيما يحاول عالم الفن أن يصبح مكاناً تسود فيه المساواة بشكل أكبر "ازداد الوعي بأهمية أعمالها"، كما يقول رايت.
ولا شك في أن قصة حياة كوساما نفسها عامل آخر في هذا النجاح، فقد عانت أمراضاً نفسية طوال حياتها، ويمكن أن تقضي المعرفة العلنية بهذا الموضوع على سمعة الفنان، كما ظهر جلياً في حال فاغ غوغ، وإن بعد وفاته، لكن المرض النفسي أصبح يلقى تفهماً أكبر بكثير من أيام الفنان الهولندي مع أن الاعتقاد يسود حتى الآن بأن المعاناة تتحول بشكل ما إلى قمة الفن.
بعض تعليقات كوساما نفسها في هذا الإطار جديرة بالانتباه، فقد كتبت في سيرتها الذاتية "الشبكة اللامتناهية" Infinity Net الصادرة عام 2011 "أحارب الألم والقلق والخوف كل يوم، ووجدت أن الطريقة الوحيدة التي تساعدني في التخفيف من وطأة مرضي هي الاستمرار في صناعة الفن".
لكن في سبيل التوصل إلى فهم تام لمكانة كوساما في الثقافة المعاصرة على المرء العودة لبداية حياتها ومسيرتها المهنية، فقد وُلدت في مدينة ماتسوموتو وسط اليابان عام 1929 لعائلة ميسورة مادياً تدير مشتلاً زراعياً، ولم تعش طفولة سعيدة فقد قضى والدها معظم تلك الفترة في ملاحقة النساء، فيما اعتادت والدتها التي عارضت بشراسة حلم يايوي بأن تصبح فنانة، على تمزيق رسوماتها، وعانت الفتاة كذلك من هلوسات متكررة غالباً ما كانت ترى فيها الأزهار وهي تحدثها.
ارتادت كوساما كلية الفنون بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية لكنها اعتبرت أن المجتمع الياباني محافظ للغاية، وفي منتصف خمسينيات القرن الماضي انتقلت إلى الولايات المتحدة وعاشت في البداية حالاً من الفقر المدقع إذ اقتاتت على رؤوس الأسماك التي كانت تجمعها من حاوية في نيويورك وتسلقها لتصنع منها حساء.
غرفة المرايا اللانهائية المليئة ببريق الحياة ليايوي كوساما عرضتها الفنانة و"غاليري أوتا" للفنون الجميلة و"غاليري فكتوريا ميرو" عام 2015 واقتناها المتحف عام 2019 (يايوي كوساما/تيت/جو همفريز)
لكنها حققت النجاح مع الوقت من خلال مجموعة رسوم تجريدية عرفت باسم "الشباك اللامتناهية" Infinity Nets التي تشكل لوحة "أبيض رقم 28" المذكورة آنفاً إحداها، وهي عبارة عن لوحات كبيرة تغطيها حلقات متناهية الصغر ومتكررة تعطي انطباعاً إجمالياً بأنها سياج أو شبكة.
وخلال هذه الفترة أخذت كوساما تعرض أعمالها إلى جانب آندي وورهول، وانبرت جورجيا أوكيف تدافع عنها وبدأت تواعد دونالد جود، ثلاثة فنانين لا بأس بهم أبداً كشركاء في الفن.
وفي عام 1965 صنعت أول غرفة من غرف المرايا اللانهائية التي لا يزال أكثر من 20 منها موجودة حتى اليوم (ومنها الغرفتان الموجودتان في "تيت مودرن"). وشكلت هذه الغرف جزءاً أساساً من نجاحها في الفترة الأخيرة، وتتضمن غرفاً تغطيها المرايا بشكل كامل تتحول معها الغرف إلى انعكاسات لامتناهية، ولطالما كان دخول إحداها تجربة يغوص فيها المرء مع أن نماذج القرن الـ 21 أكثر تطوراً من الناحية التقنية من الغرف القديمة، وتتضمن في غالبية الأحيان مؤثرات ضوئية تستخدم لمبات "ليد" لتعطي انطباعاً بالهلوسة. (غالباً ما تستضيف الـ "غاليريهات" اليوم والمتاحف حول العالم غرف المرايا اللانهائية، وتمتد فترة الانتظار لدخول الغرف ثلاث ساعات من أجل قضاء دقيقة واحدة فقط داخلها في أكثر الأحيان).
"شبكات لا نهائية (إكس واي زي)" ليايوي كوساما يحملها مساعدان في دار سوذبيز للمزادات العلنية عام 2021 (غيتي لمصلحة سوذبيز)
وبحلول نهاية ستينيات القرن الماضي كانت كوساما تنظم مجموعة من الفعاليات العارية في أرجاء نيويورك، وكان يشارك في هذه الفعاليات إجمالاً راقصون وراقصات عراة رسمت دوائر بولكا على أجسادهم كاملة، ويدافعون عن قضايا سياسية مثل إنهاء هيمنة "وول ستريت" والتدخل الأميركي في فيتنام.
وفي عام 1973 عادت كوساما لليابان بعد ردود فعل سلبية قوية على هذه الفعاليات، لكن بعد فترة قصيرة بدأت بالمعاناة من الإنهاك وتدهورت حالها النفسية، وهي تقضي حياتها منذ عام 1977 بين مستشفى سيوا والأستوديو الخاص بها الواقع إلى جوار المستشفى، ولا تزال تعمل حتى يومنا هذا بينما يساندها فريق صغير من المساعدين.
ويقول رايت الذي يزور كوساما ثلاث أو أربع مرات سنوياً، "لا تعتبر أن أي شيء من المسلمات، وهي تقدر جداً كل الانتباه الذي تلقته في وقت متأخر من حياتها"، ويعتقد رايت أن صيت الفنانة ذاع فعلاً منذ نحو 12 عاماً، مشيراً إلى المعرض الكبير المتنقل عن حياتها المهنية الذي استضافه متحف "الملكة صوفيا" في مدريد ومركز "بومبيدو" في باريس ومحتف "تيت مودرن" في لندن و"متحف ويتني" للفن الأميركي في نيويورك عام 2011 و2012، على أنه لحظة جوهرية.
وقد يكون ذلك صحيحاً من ناحية اعتراف القيمين على المعارض والمؤسسات، فبعد طول انتظار عرضت المكانة التي احتلتها كوساما في صلب مذاهب فنية عدة مهمة خلال الجزء الثاني من القرن الـ 20 بالصورة المناسبة، من التعبيرية التجريدية والتقليلية (Minimalism) إلى فنون الأداء.
غرفة المرايا اللانهائية - تمنيات بسعادة البشر من وراء الكون (يايوي كوساما/ تقدمة "غاليري أوتا" للفنون الجميلة)
لكن من ناحية الجاذبية الشعبية يبرز في تلك الفترة تاريخ أهم وهو أكتوبر (تشرين الأول) 2010، أي موعد إطلاق "إنستغرام"، ويشكل فن كوساما اللافت للأنظار، ولا سيما غرف المرايا اللانهائية، الخلفية المثالية لالتقاط صور السيلفي بفضل خليط الأضواء الساطعة وأنماط الألوان الزاهية، وتعد أديل وكايتي بيري من بين 100 ألف مستخدم نشروا صوراً وذيلوها بوسم #غرف_لانهائية infinityroom# على "إنستغرام".
ويصب في هذا الموضوع أيضاً الاتجاه المتنامي خلال الأعوام الأخيرة لصناعة فن من النوع الذي يشكل تجربة تفاعلية للمتلقي، ويعتاد مرتادو المعارض الفنية بشكل متزايد على لوحات فيها أكثر من مجرد زيت على قماش، فحتى كبار الرسامين القدامى مثل فان غوخ وفريدا كاهلو وسالفادور دالي كيفت أعمالهم لتكون تجربة ينغمس فيها المرء، أي صنعت منها نسخات رقمية عبارة عن صور ضخمة تعرض على جدران وسقف وأرضية مكان معين، وتناسب غرف المرايا اللانهائية هذه الصيحة تماماً.
ويضيف دوريون تشونغ، أحد القيمين على معرض "يايوي كوساما: 1945 إلى اليوم"، أن جائحة "كوفيد" ربما أسهمت في تعزيز شهرة الفنانة اليابانية، ويقول تشونغ "كشفت تلك المرحلة هشاشة الوجود الإنساني، وأعتقد أن مصادفتنا فن كوساما منذ تلك الفترة جدد إيماننا بقوة الفن العلاجية، إذ إن أعمالها تحمل شيئاً يغذي الروح".
لحظة النهضة (يايوي كوساما)
ولا تزال بعض الأسئلة والتناقضات مطروحة بالنسبة إلى مسيرة كوساما المهنية، فمثلاً إلى أي درجة تشارك فعلاً هذه الأيام في اتخاذ مختلف القرارات حول اختيار أعمالها الفنية وأماكن عرضها؟ وأيضاً كيف أفضت الصور التي انبثقت من معاناة نفسية إلى بث هذا الكم من الفرح حول العالم؟
لكن مهما كانت الإجابات فإن كوساما تعيش فترة تبلغ فيها جاذبيتها بالنسبة إلى الجمهور كما المؤسسة الفنية، لأسباب مختلفة بعض الشيء، درجة عالية جداً، وقد حصل ذلك وليد الصدفة إلى حد ما ونتيجة تغيرات اجتماعية وثقافية ما كانت قادرة على توقعها، إنما لو كنتَ شخصاً مبدعاً يأخذ مخاطرات ويعمل حتى التسعينيات من عمره فأنت تتيح لنفسك فرصة جيدة لتكون موجوداً حتى ترى العالم يدرك أفكارك.