ساعي بريد نيرودا Postman Neruda
( The Postman )
كان الشاعر الشيوعي التشيلي الشهير " پابلو نيرودا " كثير الأسفار في العالم ، أكان ذلك بسبب مطاردة حكومة بلاده له أو الدعوات التي توجه إليه لحضور المؤتمرات الدولية في مختلف دول العالم ، أو بسبب النفي الإختياري أو الإجباري الذي يجد نفسه فيه . إيطاليا كانت أحد هذه المنافي .. عام 1952 .
و في مذكراته الرائعة التي صدرت عام 1974 ، بعد ستة أشهر من وفاته ، بعنوان ( أشهد أنني قد عشت ) و ترجمها دكتور " محمود صبح " الى العربية عام 1975 ، يتحدث " نيرودا " عن الإحتفاء الكبير به في إيطاليا ، حيث كان يُستقبَل بالأحضان و القـُـبل و الورورد و هو يُدعى الى قراءة أشعاره في مختلف المنتديات ، و يُعامَل كأحد أعيان مدينة روما . يتحدث " نيرودا " في هذه المذكرات عن روعة إيطاليا ، بما فيها رجال الشرطة الإيطالية و ( روعة ) مطارداتهم له ، و يصفها كما لو كانت مشاهد سينمائية ، غير أنهم أسرّوه ذات مرة بأن ذلك يجري بطلب من حكومة بلاده تشيلي ، ولكن الأمر بلغ ذروته في ( ناپولي ) عندما طُلب منه مغادرة الفندق و ركوب القطار الذي هُيّء له مقعدٌ فيه ليغادر البلاد بناء على طلب من سفارة تشيلي . و إذ كان عليه أن يغير قطاره في ( روما ) ، فقد لاحظ جمهرة غفيرة تحمل الورود و تهتف بإسم " پابلو نيرودا " حيث أصيب رجال الشرطة بالذهول و لم يستطيعوا فض هذا التجمهر ، و حضر مسؤولون و حضرت أسماء لامعة ، و كانت الجموع تهتف : ( نيرودا يبقى في روما .. نيرودا لن يغادر إيطاليا ) ، حتى جاء بلاغ رسمي يأمر بعدم مغادرة " نيرودا " إيطاليا .
و يقول في المذكرات : ( لقد أصبحتُ أصبوحة اليوم التالي في دار أحد النواب ، المتمتع بالحصانة البرلمانية ، حيث أخذني إليه الرسام " ريناتو غوتوسو " الذي لم يثق بالكلمة الحكومية . هناك وصلتني برقية من جزيرة ( كابري ) بعثها المؤرخ الشهير العظيم " ايروين ثيريو " ) .
و في هذه البرقية يعتذر المؤرخ من " نيرودا " عمّا حصل له في إيطاليا و يقدم له ڤيلا في الجزيرة ليقضي فيها ما يشاء من الوقت .
و يبدو أن أحداث فيلم ( ساعي بريد نيرودا ) تدور في هذه الجزيرة ، ولكن ــ كما نرى في الفيلم ــ فإن " نيرودا " لم يقم في ڤيلا ، بل في منزل ريفي بسيط ، كما صوره الكاتب التشيلي " أنتونيو سكارميتا " في روايته ( ساعي بريد نيرودا ) التي لها عنوان ثان ( ( صبر متأجج ) و كما صوّر ذلك المنزلَ المخرجُ البريطاني " مايكل رادفورد " ، في فيلمه المأخوذ عن هذه الرواية ، حسب خياله السينمائي .
هذا الفيلم من إنتاج عام 1994 ، ولكنه من الأفلام التي لم ، و لن ، يعفو عليها الزمن ، ذلك إنه يتناول موضوعاً متجدداً يتمثل بالعلاقة الإنسانية ، تلك التي نشأت ، بتأثير الشعر ، بين الشاعر " بابلو نيرودا " ( لعب دوره الممثل الفرنسي القدير " فيليپ نواريه " ( 1930 ــ 2006 ) الذي ظهر قريب الشبه جداً من " نيرودا " ) و حامل بريده اليومي " ماريو روبولو " الذي لعب دوره الممثل الإيطالي المذهل " ماسيمو ترويزي " ( 1953 ــ 1994 ) الذي يمكن القول أنه توفي بسبب هذا الفيلم ، حين أجّلَ عملية جراحية في القلب ليكمل آخر مَشاهده فمات بعد 12 ساعة من انتهاء تصوير الفيلم ، و هذا الممثل المذهل واحد من الممثلين الذين مُنِحوا جائزة الأوسكار بعد وفاتهم . لكن الغريب أنه صُنف كممثل في دور مساعد ( ربما لأنه مثّل أمام الفرنسي الشهير " فيليب نواريه " ) ولكن ــ الحق ــ كان " ماسيمو ترويزي " هو الممثل الرئيس في الفيلم و الشخصية التي لعب دورها هي شخصية البطل الرئيس لرواية الكاتب التشيلي " أنطونيو سكارميتا " ، ذلك أن الفيلم و الرواية كلاهما يحمل عنوان ( ساعي بريد نيرودا ) و شخصيته مثلت محور الرواية و الفيلم معاً ، ولا ندري كيف يمكن تخيل الرواية من دون ساعي البريد " ماريو روبولو " و لا الفيلم من دون " ماسيمو ترويزي " . بالعكس كان دور " فيليپ نواريه " ( نيرودا ) هو الثانوي .. على الرغم من أهميته و من كونه القطب المعادل في الفيلم .
يبدأ المشهد الأول للفيلم من زاوية جرف جبلي عند البحر و عودة الصيادين للرسو عند الزاوية ، ما يعطي إشارة عن طبيعة حياة سكان المكان الذي ستدور فيه الأحداث . اللقطة الداخلية التي تتولد من هذا المشهد تُظهر لنا كهلاً يضع السمك في حوض التنظيف ، و سنعرف أنه والد " ماريو روبولو " ، و الذي سيخبره عن إنقطاع الماء ، فيما كان يجلس عند مائدة الإفطار . و منذ اللقطة الأولى التي يظهر فيها " ماسيمو ترويزي " في دور " ماريو " سيدرك المشاهد أنه أمام ممثل استثنائي مدهش بأدائه العفوي ، من خلال حركة عينيه الواسعتين و التفاتاته و حركة كتفيه و جميع حركات وجهه المبتسم أو شبه المبتسم و حركات يديه . ممثل خسرته السينما الإيطالية و سينما العالم ، و كانت الأوسكار ــ بعد رحيله المبكر ــ قليلة بحقه . فهذا واحدٌ من الممثلين القلائل في تاريخ السينما ممن ينطوون على هذا القدْر العالي من القدرة على تقمص الدور بهذه العفوية المدهشة ، فهو خارج دورات دراسة قواعد التمثيل في المعاهد و الأكاديميات ، حتى و إن كان قد درس فيها ، و هو فوق التوجيه و التلقين .
يشعر " ماريو " أنه إنسانٌ ذهني و ليس عملياً ، لذلك فهو يتهرب ، و بالتالي يتنصل ، من العمل في صيد السمك ، بذريعة أنه يُصاب بنزلة برد عند نزوله الى البحر ، و يحدّث والده عن رسالة وصلته من صديقيه المهاجرَين الى أمريكا ، " گاتيانو " و " ألفريدو " ، و اللذين سيشتريان سيارة غالية ، و يقول لوالده أنهما أخبراه بأن أمريكا غنية ( و نحن هنا بلا ماء ) ، ما يعني أنه يطمح بحياة غير الحياة في الجزيرة و بعمل غير مهنة الصيد . و ما أن رأى إعلاناً على واجهة مكتب البريد عن الحاجة إلى ساعي بريد يمتلك دراجة هوائية حتى بدا و كأنه عثر على مبتغاه ، ولكنه تفاجأ أن وظيفته تقتصر على نقل بريد يومي الى شخص واحدٍ فقط .. هو الشاعر " بابلو نيرودا " ، و هذه الرسائل عادة ما تكون من نساء معجبات بالشاعر كشخص ، هن في أغلب الأحيان خليلاته .
لقاءات " ماريو " اليومية بالشاعر ألقته في حالة من الدهشة أمام طبيعة التراكيب اللغوية في أحاديث " نيرودا " ، فيُصاب بلوثة الشعر ، و فوق ذلك يقع في حب نادلة الحانة ، الفتاة السمراء " باتريشا " ( لعبت دورها الإيطالية " ماريا گرازيا كوچينوتا " ) و يُسمعها شعراً ( باتريشا ، إبتسامتك تتمدد مثل الفراشة ... ضحكتك وردية ، رمحٌ كاشفٌ يسقط على الماء .... ) . و عندما يخطبها للزواج يرفض الكاهن شهادة " بابلو نيرودا " على هذا الزواج .. لأنه ( شيوعي ) ، لكنه وافق في النهاية عندما رأى " نيرودا " في الكنيسة و هو يمثل دور ( المؤمن ) . غير أن الشاعر يتلقى بلاغاً بأن حكومة بلاده قد أعفت عنه و يحق له العودة الى تشيلي .
و ينتهي الفيلم نهاية مؤثرة ، بعد أن تمتعنا معه متعة استثنائية و نحن نعيش مع بطليه متعة العلاقة الإنسانية بين شاعر شهير و ساعي بريد بسيط .. على مدى ساعة و 48 دقيقة .
هادي ياسين
( The Postman )
كان الشاعر الشيوعي التشيلي الشهير " پابلو نيرودا " كثير الأسفار في العالم ، أكان ذلك بسبب مطاردة حكومة بلاده له أو الدعوات التي توجه إليه لحضور المؤتمرات الدولية في مختلف دول العالم ، أو بسبب النفي الإختياري أو الإجباري الذي يجد نفسه فيه . إيطاليا كانت أحد هذه المنافي .. عام 1952 .
و في مذكراته الرائعة التي صدرت عام 1974 ، بعد ستة أشهر من وفاته ، بعنوان ( أشهد أنني قد عشت ) و ترجمها دكتور " محمود صبح " الى العربية عام 1975 ، يتحدث " نيرودا " عن الإحتفاء الكبير به في إيطاليا ، حيث كان يُستقبَل بالأحضان و القـُـبل و الورورد و هو يُدعى الى قراءة أشعاره في مختلف المنتديات ، و يُعامَل كأحد أعيان مدينة روما . يتحدث " نيرودا " في هذه المذكرات عن روعة إيطاليا ، بما فيها رجال الشرطة الإيطالية و ( روعة ) مطارداتهم له ، و يصفها كما لو كانت مشاهد سينمائية ، غير أنهم أسرّوه ذات مرة بأن ذلك يجري بطلب من حكومة بلاده تشيلي ، ولكن الأمر بلغ ذروته في ( ناپولي ) عندما طُلب منه مغادرة الفندق و ركوب القطار الذي هُيّء له مقعدٌ فيه ليغادر البلاد بناء على طلب من سفارة تشيلي . و إذ كان عليه أن يغير قطاره في ( روما ) ، فقد لاحظ جمهرة غفيرة تحمل الورود و تهتف بإسم " پابلو نيرودا " حيث أصيب رجال الشرطة بالذهول و لم يستطيعوا فض هذا التجمهر ، و حضر مسؤولون و حضرت أسماء لامعة ، و كانت الجموع تهتف : ( نيرودا يبقى في روما .. نيرودا لن يغادر إيطاليا ) ، حتى جاء بلاغ رسمي يأمر بعدم مغادرة " نيرودا " إيطاليا .
و يقول في المذكرات : ( لقد أصبحتُ أصبوحة اليوم التالي في دار أحد النواب ، المتمتع بالحصانة البرلمانية ، حيث أخذني إليه الرسام " ريناتو غوتوسو " الذي لم يثق بالكلمة الحكومية . هناك وصلتني برقية من جزيرة ( كابري ) بعثها المؤرخ الشهير العظيم " ايروين ثيريو " ) .
و في هذه البرقية يعتذر المؤرخ من " نيرودا " عمّا حصل له في إيطاليا و يقدم له ڤيلا في الجزيرة ليقضي فيها ما يشاء من الوقت .
و يبدو أن أحداث فيلم ( ساعي بريد نيرودا ) تدور في هذه الجزيرة ، ولكن ــ كما نرى في الفيلم ــ فإن " نيرودا " لم يقم في ڤيلا ، بل في منزل ريفي بسيط ، كما صوره الكاتب التشيلي " أنتونيو سكارميتا " في روايته ( ساعي بريد نيرودا ) التي لها عنوان ثان ( ( صبر متأجج ) و كما صوّر ذلك المنزلَ المخرجُ البريطاني " مايكل رادفورد " ، في فيلمه المأخوذ عن هذه الرواية ، حسب خياله السينمائي .
هذا الفيلم من إنتاج عام 1994 ، ولكنه من الأفلام التي لم ، و لن ، يعفو عليها الزمن ، ذلك إنه يتناول موضوعاً متجدداً يتمثل بالعلاقة الإنسانية ، تلك التي نشأت ، بتأثير الشعر ، بين الشاعر " بابلو نيرودا " ( لعب دوره الممثل الفرنسي القدير " فيليپ نواريه " ( 1930 ــ 2006 ) الذي ظهر قريب الشبه جداً من " نيرودا " ) و حامل بريده اليومي " ماريو روبولو " الذي لعب دوره الممثل الإيطالي المذهل " ماسيمو ترويزي " ( 1953 ــ 1994 ) الذي يمكن القول أنه توفي بسبب هذا الفيلم ، حين أجّلَ عملية جراحية في القلب ليكمل آخر مَشاهده فمات بعد 12 ساعة من انتهاء تصوير الفيلم ، و هذا الممثل المذهل واحد من الممثلين الذين مُنِحوا جائزة الأوسكار بعد وفاتهم . لكن الغريب أنه صُنف كممثل في دور مساعد ( ربما لأنه مثّل أمام الفرنسي الشهير " فيليب نواريه " ) ولكن ــ الحق ــ كان " ماسيمو ترويزي " هو الممثل الرئيس في الفيلم و الشخصية التي لعب دورها هي شخصية البطل الرئيس لرواية الكاتب التشيلي " أنطونيو سكارميتا " ، ذلك أن الفيلم و الرواية كلاهما يحمل عنوان ( ساعي بريد نيرودا ) و شخصيته مثلت محور الرواية و الفيلم معاً ، ولا ندري كيف يمكن تخيل الرواية من دون ساعي البريد " ماريو روبولو " و لا الفيلم من دون " ماسيمو ترويزي " . بالعكس كان دور " فيليپ نواريه " ( نيرودا ) هو الثانوي .. على الرغم من أهميته و من كونه القطب المعادل في الفيلم .
يبدأ المشهد الأول للفيلم من زاوية جرف جبلي عند البحر و عودة الصيادين للرسو عند الزاوية ، ما يعطي إشارة عن طبيعة حياة سكان المكان الذي ستدور فيه الأحداث . اللقطة الداخلية التي تتولد من هذا المشهد تُظهر لنا كهلاً يضع السمك في حوض التنظيف ، و سنعرف أنه والد " ماريو روبولو " ، و الذي سيخبره عن إنقطاع الماء ، فيما كان يجلس عند مائدة الإفطار . و منذ اللقطة الأولى التي يظهر فيها " ماسيمو ترويزي " في دور " ماريو " سيدرك المشاهد أنه أمام ممثل استثنائي مدهش بأدائه العفوي ، من خلال حركة عينيه الواسعتين و التفاتاته و حركة كتفيه و جميع حركات وجهه المبتسم أو شبه المبتسم و حركات يديه . ممثل خسرته السينما الإيطالية و سينما العالم ، و كانت الأوسكار ــ بعد رحيله المبكر ــ قليلة بحقه . فهذا واحدٌ من الممثلين القلائل في تاريخ السينما ممن ينطوون على هذا القدْر العالي من القدرة على تقمص الدور بهذه العفوية المدهشة ، فهو خارج دورات دراسة قواعد التمثيل في المعاهد و الأكاديميات ، حتى و إن كان قد درس فيها ، و هو فوق التوجيه و التلقين .
يشعر " ماريو " أنه إنسانٌ ذهني و ليس عملياً ، لذلك فهو يتهرب ، و بالتالي يتنصل ، من العمل في صيد السمك ، بذريعة أنه يُصاب بنزلة برد عند نزوله الى البحر ، و يحدّث والده عن رسالة وصلته من صديقيه المهاجرَين الى أمريكا ، " گاتيانو " و " ألفريدو " ، و اللذين سيشتريان سيارة غالية ، و يقول لوالده أنهما أخبراه بأن أمريكا غنية ( و نحن هنا بلا ماء ) ، ما يعني أنه يطمح بحياة غير الحياة في الجزيرة و بعمل غير مهنة الصيد . و ما أن رأى إعلاناً على واجهة مكتب البريد عن الحاجة إلى ساعي بريد يمتلك دراجة هوائية حتى بدا و كأنه عثر على مبتغاه ، ولكنه تفاجأ أن وظيفته تقتصر على نقل بريد يومي الى شخص واحدٍ فقط .. هو الشاعر " بابلو نيرودا " ، و هذه الرسائل عادة ما تكون من نساء معجبات بالشاعر كشخص ، هن في أغلب الأحيان خليلاته .
لقاءات " ماريو " اليومية بالشاعر ألقته في حالة من الدهشة أمام طبيعة التراكيب اللغوية في أحاديث " نيرودا " ، فيُصاب بلوثة الشعر ، و فوق ذلك يقع في حب نادلة الحانة ، الفتاة السمراء " باتريشا " ( لعبت دورها الإيطالية " ماريا گرازيا كوچينوتا " ) و يُسمعها شعراً ( باتريشا ، إبتسامتك تتمدد مثل الفراشة ... ضحكتك وردية ، رمحٌ كاشفٌ يسقط على الماء .... ) . و عندما يخطبها للزواج يرفض الكاهن شهادة " بابلو نيرودا " على هذا الزواج .. لأنه ( شيوعي ) ، لكنه وافق في النهاية عندما رأى " نيرودا " في الكنيسة و هو يمثل دور ( المؤمن ) . غير أن الشاعر يتلقى بلاغاً بأن حكومة بلاده قد أعفت عنه و يحق له العودة الى تشيلي .
و ينتهي الفيلم نهاية مؤثرة ، بعد أن تمتعنا معه متعة استثنائية و نحن نعيش مع بطليه متعة العلاقة الإنسانية بين شاعر شهير و ساعي بريد بسيط .. على مدى ساعة و 48 دقيقة .
هادي ياسين