اندونيسيه(ادب)
Indonesia - Indonésie
الأدب الإندونيسي
تدل تسمية الأدب الإندونيسي بالمعنى الحصري على آداب الشعوب المتمدنة التي تقطن الجزر الإندونيسية، وتدل بالمعنى العام على تراث الآداب الشفهية للشعوب والقبائل الإندونيسية مثل شعوب باتاك ومينانغكابو وأتشه وداجاك وغيرها التي حافظت إلى حد ما على بدائيتها، فلم تتطور إلى حالة التمدن، بمعنى أنها لم تسهم في التطور الحضاري العام للمنطقة الإندونيسية. وهناك ثلاثة مؤثرات خارجية أسهمت في أزمنة مختلفة في تكوين الأدب الإندونيسي، أولها الحضارة الهندية والديانة البوذية، ثم الحضارة الإسلامية إبان الرحلات والتجارة، ثم الحضارة الأوربية في العصور الحديثة عن طريق الغزو والتبشير. وقد تولد عن هذه المؤثرات ثلاث مراحل أدبية متتالية: الهندية الجاوية، ثم الإسلامية الملاوية، ثم الإندونيسية الحديثة. وتمتد المرحلة الأولى من القرن الخامس الميلادي حتى منتصف السادس عشر، وتمتد الثانية حتى مطلع التاسع عشر، وتليها الثالثة حتى القرن الحادي والعشرين.
يرتبط ازدهار أدب المرحلة الهندية الجاوية واندثاره ارتباطاً وثيقاً بظهور مجموعة من الممالك المتهنّدة على الأرض الإندونيسية وأفولها، ويمكن القول بأن الثقافة الجاوية هي ثقافة هندية تلقفها شعب منفتح فكرياً فصاغها وفق خصائصه، وكان البلاط آنذاك بترتيبه الديني والدنيوي محور الحياة الأدبية والفنية.
كان لإندونيسية، ما قبل التهنيد، أدب متنوع، تمَّ تناقله شفهياً، إلا أن دخول الكتابة التي تطورت، مثل تطور الجاوية من كتابة البالافا Pallava في جنوبي الهند، وفّر إمكانية تدوين الإبداع الأدبي. ويعود أقدم نصوص الأدب الهندي الجاوي إلى القرن الخامس للميلاد، وهي جميعها نقوش حجرية ذات طابع قانوني تنظيمي، أما قيمتها الأدبية فهي ضئيلة. ويبدو أن بقية الأعمال الأدبية قد ضاعت عندما اضطرت سلالة مملكة شايلندرة البوذية إلى الانتقال إلى سومطرة هرباً من الضغط العسكري القادم من شرقي جاوة عام 860م. ويبدأ التاريخ الحقيقي للأدب الجاوي مع الملك مبو سيندوك Mpu Sindok أول حكام سلالة مترام في شرقي جاوة، ويصل إلى ذروته في عصر مملكة كيدري التي كان أمراؤها من رعاة الأدب والفن والعلم. ويطلق على الأدب الجاوي القديم اسم كاوي Kawi وهو أدب هندي في رداء لغوي محلي. وقد كانت الملحمتان السنسكريتيتان مهابهاراتا[ر] Mahãbhãrata ورامايانا[ر] Rámáyana مصدر إلهام مهم لشعراء البلاطات المتهندة، فنظموا ملاحمهم محاكين هاتين الملحمتين، فنتج من ذلك نوع شعر جديد هو الكاكاوين Kakawin الذي استعار الأوزان الشعرية الهندية التقليدية وطبقها، مع أنها معقدة، على اللغة الجاوية، مما أدى، على براعة النظم، إلى ضعف المقولة الشعرية وغياب ذات الشاعر، كما في ملحمة «أرجوناويواها» (Ardjunawiwaha (1035 التي يتغنى فيها الشاعر مبو كانوا Mpu Kanwa بمغامرات البطل أرجونا، وكذلك في ملحمة «بهاراتايودها» (1157) للشاعر مبو سيداه Mpu Sidah.
يعود الانتشار الواسع للأدب الملحمي الجاوي القديم في جاوة وسومطرة ومستعمرات مملكة مجابهيت الملاوية إلى تأثير مسرحيات خيال الظل التي ظلت حية حتى القرن العشرين، لأن الترجمات الملاوية لهذه النصوص المسرحية ربطت التراث الجاوي بالأدب الملاوي. وكانت ملحمة «ناغارا كِرتاغاما» Nagara-Kertagama التي نظمها الشاعر ركاوي برابانتجا Rakawi Prapantja عام 1365 نقلة نوعية من الأدب الجاوي القديم إلى الجديد، فمع نظمها وفق تقاليد الكاكاوين الشعرية فقد ابتعدت في مضمونها عن الموضوعات الهندية بتناولها أمجاد مملكة مجابهيت وفضائل ملكها هاجام وروك HajamWuruk الذي حكم المملكة بين 1350 و 1389م. وفي هذه المرحلة التي نضج فيها الوعي بالذات ظهر نوع شعري جديد هو شعر كيدونغ Kidung الذي يحل فيه عدد التفعيلات والقافية الموحدة محل أوزان كاكاوين الهندية الأصل. ومن حيث الموضوعات التفت الشعر الجديد إلى مجموعة الملاحم المحلية بانجي Pandji المعروفة أيضاً في آداب سيام وكمبودية. فإلى جانب العلاقة الغرامية المعقدة مثلاً بين أميرة كيدري وأمير كوريبان يستعرض الكيدونغ قصصاً متداولة من تاريخ مملكة سينغازاري ومجابهيت. وضمن هذا النوع من الكتابة التأريخية الممزوجة بالخيال ظهر نحو عام 1481م كتاب «تاريخ الأمراء» Pararaton الذي وضعه نثراً مؤلف مجهول، وجمع فيه بأسلوب خيالي مبدع بين تاريخ سينغازاري ومجابهيت ومغامرات أبطال جاويين، بعضهم حقيقي وبعضهم الآخر متخيل.
أما شعر التانتري Tantri القريب شكلاً من الكيدونغ فقد ظهر في أواسط جاوة، وهو صياغات محلية تستوحي كتاب الحكايات الهندية المعروف «بانتجاتانترا» Pantjatantra بأسلوب بنائي جديد يعتمد الحكاية التوليدية الاستطرادية كما في «ألف ليلة وليلة»[ر]، ويدور مغزى الحكايات حول تقديم النصح للحكام والرعية في فن الحكم والحياة. وقد اكتسبت هذه الحكايات الشعرية شهرة واسعة سواء في البلاطات أو بين الناس، مما حفّز على ترجمتها إلى معظم اللغات الأدبية في إندونيسية.
بسقوط مملكة مجابهيت انتهت المرحلة الهندية في إندونيسية وانتهى معها الأدب الجاوي المتهند. ولم يبق للثقافة الهندية والتراث الجاوي من ملجأ إلا في جزيرة بالي التي لم تتأثر بالأحداث والتحولات الجارية في الجزر الإندونيسية الكبرى. إلا أن التراث الأدبي الكبير الذي خلفته الثقافة الجاوية المتهندة وجد له استمراراً ورعاية في مراكز الحكم الملاوية في سومطرة وشبه جزيرة ملقة. ففي كثير من الترجمات النثرية التي تعود مخطوطات أصولها الشعرية إلى مطلع القرن السابع عشر يتعرف القارىء الموضوعات الملحمية الهندية في صيغة جديدة وبأسماء جديدة أيضاً، فكانت بذلك مصدر إلهام لأهم الأعمال النثرية، المجهولة المؤلف، في الأدب الملاوي، مثل «تاريخ الملايو» sedjarah malaju والرواية البطولية «حكاية هانغ تواه» Hikajat hang tuah. ومع ذلك فإن هذه الأعمال التي تنتمي إلى مرحلة ما قبل الإسلام في إندونيسية، مثل «حكاية الأمير راما» Hikajat sri Rãma، تدل من حيث أسلوب التعبير وانتقاء المفردات على تأثير إسلامي جلي، كما أنها مدونة بالخط العربي. ونحو عام 1400م وصل الإسلام إلى شبه جزيرة الملايو، وساد في جاوة عام 1520م. وفي الوقت نفسه تقريباً بدأ الغزو الأوربي لهذه المناطق. ومع انتشار الإسلام عرف الأدب الملاوي عالم الحكايات والملاحم الشعرية الفارسية الذي يتلاقى مع مثيله الهندي، كما استفاد المسلمون الإندونيسيون بذكاء وحذق من التراث الجاوي المتهند المترجم إلى الملاوية من أجل نشر الدعوة الجديدة، وذلك بإحلال شخصيات من التراث الإسلامي محل الشخصيات الملحمية الوثنية.
ومع انتشار الإسلام في إندونيسية ظهر كثير من المؤلفات التشريعية والدينية والصوفية باللغات المحلية مثل قصائد الصوفي السومطري حمزة بانسوري Hamza Pansuri، ومؤلفات في حكمة الحياة ونظرية الأخلاق، مثل «تاج السلاطين» و«بستان السلاطين». وبلغ النثر الملاوي ذروته في التأريخ والرواية التاريخية، ولاشك في أن أهم مؤلَّف في هذا الميدان هو «تاريخ الملايو» الذي يُعد مدخلاً مهماً إلى الأدب الملاوي وإلى أنماط معيشة سكان المنطقة وأخلاقهم. وواضح أن مؤلفه المجهول كان واسع الاطلاع على معارف عصره وعلومه إلى جانب إتقانه عدة لغات، مما أهله لكتابة تاريخ موسع للممالك الملاوية حتى سقوط ملقة وسنغافورة بيد الأوربيين، لكنه كثيراً ما كان يدمج الحقيقة التاريخية بالخيال الملحمي، سواء على صعيد الأحداث أو الشخصيات من دون تدقيق علمي. أما رواية «حكاية هانغ تواه» فهي أدبياً من أجمل ما قدمه الأدب الملاوي الذي دخل مرحلة نثرية جديدة مع عبد الله بن عبد القادر (1797 - 1854م)، فهو ينحدر من أب ملاوي وأم هندية، ويعد المعلم الذي لا يجارى في سهولة أسلوبه باللهجة العامية الملاوية غير الأدبية. فعلى نقيض أسلافه ومعاصريه تخلى ابن عبد القادر واعياً عن تقاليد الأدب المتوارثة، وأشهر أعماله سيرته الذاتية «حكاية عبد الله» التي لم يدخلها أي مؤثرات خرافية أو خيالية. وهو يستمد مادته السردية من الوقائع التي عايشها في زمنه المتخم بالصراعات الاقتصادية والدينية والسياسية.
ولاشك في أن الأدب الشعبي الملاوي قد أدى دوراً مماثلاً للآداب الشعبية لدى سائر الشعوب والقبائل الإندونيسية من حيث حفظه التراث الحكائي حياً في نفوس الناس. وما يسترعي الانتباه هو تسميته «بنغاليبور لارا» Pengalipur Lara أي قصص السلوان والمواساة التي يرويها «الحكواتي» الجوال، وقد حافظ هذا الأدب على نقائه من أي مؤثرات أجنبية، حاملاً خصائص النثر الأدبي الشعبي عامة، من حيث الإسهاب والإطناب والتكرار والشخصيات النمطية والإكثار من الأمثال. ويتغنى هذا الأدب في حكاياته بالماضي الملاوي السعيد المفتقد، وبالأمراء الفاضلين والأميرات الجميلات، وبالأبطال المحاربين الشجعان الذين يتوق الإنسان الملاوي إلى عالمهم، تعويضاً عن بؤس حاضره الذي يحاول أن يتغلب عليه بتبني نصائح الحيوانات الذكية في الحكايات المشابهة لـ «كليلة ودمنة» وممارستها والتي يكون بطلها دائماً غزالاً قزماً.
تعود أصول الشعر الملاوي في المرحلة الإسلامية إلى التعاويذ السحرية التي كان يستخدمها طاردو الأرواح والكهنة ويتلونها بمرافقة إيقاعات حرة، وهي تنقسم إلى شكلين شعريين: سجير Sjair المصحفة من سجع بالعربية، وبانتوم Pantum. تتألف بنية قصيدة السجير من عدة أبيات في كل بيت منها أربع كلمات، وتشكل معاً اثنى عشر مقطعاً تنتهي بقافية موحدة أو مختلفة بحسب الضرورة. وموضوعاتها ملحمية، لهذا قد تتألف القصيدة من آلاف الأبيات، وثمة تشابه كبير بين هذه القصائد من حيث الوزن والمفردات، وهي تتناول مصائر البشر وصراعاتهم الحياتية في مواجهة الحسد والكراهية، ولكن غالباً ما تنتهي القصيدة بخاتمة سعيدة، كما في الحكايات الشعبية، وقد تكون الخاتمة أحياناً مأساوية. وثمة من هذا النوع قصائد تعليمية ذات موضوعات دينية أو أخلاقية، وقد تكون نقدية تتعلق بالوضع الراهن. أما البانتوم فقد حظي بانتشار أوسع منذ القدم وبين جميع فئات الشعب، وتتألف قصيدته من أربعة أبيات، وكل بيت من أربع كلمات، وكل كلمة من مقطعين، وتنتهي الأبيات بقافية مختلفة. في البيتين الأولين يقدم الشاعر فكرته بلغة مرمزة مع التورية، وفي الأخيرين يأتي جوابه لتكتمل القصيدة في وحدة فنية لا حدود لموضوعاتها، من الحب والنصح والمديح وحتى السخرية اللاذعة. وهناك تشابه ملحوظ بين قصائد البانتوم وقصائد الهايكو Haiko اليابانية. وقصائد البانتوم تُغنَّى، أما السجير فتقرأ من دون تنغيم، فهي أقرب إلى النثر المسجّع، كما في المقامات العربية.
أما الأدب الإندونيسي الحديث فهو في خصائصه الرئيسية وليد كفاح الشعوب والقبائل الإندونيسية من أجل استقلالها عن الاستعمارين البرتغالي والهولندي وفي سبيل إقامة دولة موحدة، وكذلك بهدف نشر لغة تكون رابطة إندونيسية للسكان كافة، بغض النظر عن انتمائهم العرقي أو الديني. فاعتُمدت اللغة الملاوية لحمل هذه المهمة الوطنية بسبب سعة انتشارها، ولكونها لغة الدواوين والثقافة والتجارة. ومنذ مطلع القرن العشرين عمل العلماء على تطويرها حتى أعلنت عام 1945 لغة رسمية للدولة المستقلة باسم بهاسا إندونيسية Bahasa Indonesia. وفي هذا السياق كانت القضية المحورية لدى الأدباء المحدثين هي تجاوز الأجناس الأدبية التقليدية الجامدة في الأدب الملاوي وإيجاد أجناس جديدة قادرة على استيعاب قضايا العصر ومعالجتها. وطالب هؤلاء الأدباء على الصعيد الاجتماعي بالحرية الفردية المطلقة وبالانعتاق من أسر التقاليد الأخلاقية الموروثة التي تقيد هذه الحرية. وكانت أول رواية مهمة تعبر عن هذه الأفكار هي «سيتي نورباجا» Sitti Nurbaja (1922) التي يعرض فيها كاتبها ماراه روسلي Marah Rusli مصير الشابة سيتي التي تحطم حبها على صخرة التقاليد الأخلاقية والاجتماعية. وفي عام 1928 نشر عبد المغيث Abdul Muis روايته «تربية خاطئة» Asuhan Salah التي يريد أن يثبت فيها تعارض الحضارة الغربية مع التقاليد المحلية، من زواج مختلط بين إندونيسي وأوربية. ومع التجديد الملحوظ الذي جاء به أدباء هذه المرحلة على صعيد الشكل والمضمون فقد بقي شعر السجير والبانتوم متجذرين في نفوس الإندونيسيين.
وفي عام 1933 أصدر الروائي تقدير علي جاهبانه Takdir Ali Jahbana مجلته الثقافية «الأدب الجديد» Pudjangga Baru التي جمعت أهم أقلام الثورة الأدبية، وبدأت مرحلة جديدة في الأدب الإندونيسي، فعن طريق موادها المتنوعة أصبح الكتّاب نقاداً للحركة الثقافية، ولكن سرعان ما انقسموا إلى تيارين متعارضين، أولهما يطالب بالتخلي عن الموروث الثقافي المحلي وبالتوجه نحو الغرب الحديث، كما في رواية «أشرعة منتفخة» لصاحب المجلة نفسه، وثانيهما يطالب بالنهل من معين التراث وتطويره باتجاه الحداثة، ومن رواد هذا التيار أمير حمزة وأرمين بانِه Armin Pan. حاول أمير حمزة في مجموعتيه الشعريتين «قصائد العزلة» و«ثمار الحسرة» تجديد شكل قصيدة السجير بمضامين معاصرة.
وإبان الاحتلال الياباني لإندونيسية والحرب العالمية الثانية كان على ما سُمي بجيل الـ «45» من الكتاب الشباب أن يناضل من أجل الاستقلال والتحديث الثقافي، وكان أحد رواده الشاعر شايريل أنور Chairil Anwar (1922- 1949م) الذي أدخل الشعر الحر على التراث الشعري الإندونيسي، بمضامين تؤكد الفردانية المطلقة بدل الروح الجماعية. وسرعان ما جاء الرد على هذا التوجه الفرداني المتطرف على لسان رائد الحداثة تقدير علي جاهبانه الذي ألح على الدور الاجتماعي النضالي للأدب، متهماً جيل الـ «45» بتأثره بالكتب الغربية بدلاً من الواقع المتخم بالمشكلات التي تطالب بحلول جذرية بهدف تطوير المجتمع الإندونيسي.
نبيل الحفار
Indonesia - Indonésie
الأدب الإندونيسي
تدل تسمية الأدب الإندونيسي بالمعنى الحصري على آداب الشعوب المتمدنة التي تقطن الجزر الإندونيسية، وتدل بالمعنى العام على تراث الآداب الشفهية للشعوب والقبائل الإندونيسية مثل شعوب باتاك ومينانغكابو وأتشه وداجاك وغيرها التي حافظت إلى حد ما على بدائيتها، فلم تتطور إلى حالة التمدن، بمعنى أنها لم تسهم في التطور الحضاري العام للمنطقة الإندونيسية. وهناك ثلاثة مؤثرات خارجية أسهمت في أزمنة مختلفة في تكوين الأدب الإندونيسي، أولها الحضارة الهندية والديانة البوذية، ثم الحضارة الإسلامية إبان الرحلات والتجارة، ثم الحضارة الأوربية في العصور الحديثة عن طريق الغزو والتبشير. وقد تولد عن هذه المؤثرات ثلاث مراحل أدبية متتالية: الهندية الجاوية، ثم الإسلامية الملاوية، ثم الإندونيسية الحديثة. وتمتد المرحلة الأولى من القرن الخامس الميلادي حتى منتصف السادس عشر، وتمتد الثانية حتى مطلع التاسع عشر، وتليها الثالثة حتى القرن الحادي والعشرين.
يرتبط ازدهار أدب المرحلة الهندية الجاوية واندثاره ارتباطاً وثيقاً بظهور مجموعة من الممالك المتهنّدة على الأرض الإندونيسية وأفولها، ويمكن القول بأن الثقافة الجاوية هي ثقافة هندية تلقفها شعب منفتح فكرياً فصاغها وفق خصائصه، وكان البلاط آنذاك بترتيبه الديني والدنيوي محور الحياة الأدبية والفنية.
كان لإندونيسية، ما قبل التهنيد، أدب متنوع، تمَّ تناقله شفهياً، إلا أن دخول الكتابة التي تطورت، مثل تطور الجاوية من كتابة البالافا Pallava في جنوبي الهند، وفّر إمكانية تدوين الإبداع الأدبي. ويعود أقدم نصوص الأدب الهندي الجاوي إلى القرن الخامس للميلاد، وهي جميعها نقوش حجرية ذات طابع قانوني تنظيمي، أما قيمتها الأدبية فهي ضئيلة. ويبدو أن بقية الأعمال الأدبية قد ضاعت عندما اضطرت سلالة مملكة شايلندرة البوذية إلى الانتقال إلى سومطرة هرباً من الضغط العسكري القادم من شرقي جاوة عام 860م. ويبدأ التاريخ الحقيقي للأدب الجاوي مع الملك مبو سيندوك Mpu Sindok أول حكام سلالة مترام في شرقي جاوة، ويصل إلى ذروته في عصر مملكة كيدري التي كان أمراؤها من رعاة الأدب والفن والعلم. ويطلق على الأدب الجاوي القديم اسم كاوي Kawi وهو أدب هندي في رداء لغوي محلي. وقد كانت الملحمتان السنسكريتيتان مهابهاراتا[ر] Mahãbhãrata ورامايانا[ر] Rámáyana مصدر إلهام مهم لشعراء البلاطات المتهندة، فنظموا ملاحمهم محاكين هاتين الملحمتين، فنتج من ذلك نوع شعر جديد هو الكاكاوين Kakawin الذي استعار الأوزان الشعرية الهندية التقليدية وطبقها، مع أنها معقدة، على اللغة الجاوية، مما أدى، على براعة النظم، إلى ضعف المقولة الشعرية وغياب ذات الشاعر، كما في ملحمة «أرجوناويواها» (Ardjunawiwaha (1035 التي يتغنى فيها الشاعر مبو كانوا Mpu Kanwa بمغامرات البطل أرجونا، وكذلك في ملحمة «بهاراتايودها» (1157) للشاعر مبو سيداه Mpu Sidah.
يعود الانتشار الواسع للأدب الملحمي الجاوي القديم في جاوة وسومطرة ومستعمرات مملكة مجابهيت الملاوية إلى تأثير مسرحيات خيال الظل التي ظلت حية حتى القرن العشرين، لأن الترجمات الملاوية لهذه النصوص المسرحية ربطت التراث الجاوي بالأدب الملاوي. وكانت ملحمة «ناغارا كِرتاغاما» Nagara-Kertagama التي نظمها الشاعر ركاوي برابانتجا Rakawi Prapantja عام 1365 نقلة نوعية من الأدب الجاوي القديم إلى الجديد، فمع نظمها وفق تقاليد الكاكاوين الشعرية فقد ابتعدت في مضمونها عن الموضوعات الهندية بتناولها أمجاد مملكة مجابهيت وفضائل ملكها هاجام وروك HajamWuruk الذي حكم المملكة بين 1350 و 1389م. وفي هذه المرحلة التي نضج فيها الوعي بالذات ظهر نوع شعري جديد هو شعر كيدونغ Kidung الذي يحل فيه عدد التفعيلات والقافية الموحدة محل أوزان كاكاوين الهندية الأصل. ومن حيث الموضوعات التفت الشعر الجديد إلى مجموعة الملاحم المحلية بانجي Pandji المعروفة أيضاً في آداب سيام وكمبودية. فإلى جانب العلاقة الغرامية المعقدة مثلاً بين أميرة كيدري وأمير كوريبان يستعرض الكيدونغ قصصاً متداولة من تاريخ مملكة سينغازاري ومجابهيت. وضمن هذا النوع من الكتابة التأريخية الممزوجة بالخيال ظهر نحو عام 1481م كتاب «تاريخ الأمراء» Pararaton الذي وضعه نثراً مؤلف مجهول، وجمع فيه بأسلوب خيالي مبدع بين تاريخ سينغازاري ومجابهيت ومغامرات أبطال جاويين، بعضهم حقيقي وبعضهم الآخر متخيل.
أما شعر التانتري Tantri القريب شكلاً من الكيدونغ فقد ظهر في أواسط جاوة، وهو صياغات محلية تستوحي كتاب الحكايات الهندية المعروف «بانتجاتانترا» Pantjatantra بأسلوب بنائي جديد يعتمد الحكاية التوليدية الاستطرادية كما في «ألف ليلة وليلة»[ر]، ويدور مغزى الحكايات حول تقديم النصح للحكام والرعية في فن الحكم والحياة. وقد اكتسبت هذه الحكايات الشعرية شهرة واسعة سواء في البلاطات أو بين الناس، مما حفّز على ترجمتها إلى معظم اللغات الأدبية في إندونيسية.
بسقوط مملكة مجابهيت انتهت المرحلة الهندية في إندونيسية وانتهى معها الأدب الجاوي المتهند. ولم يبق للثقافة الهندية والتراث الجاوي من ملجأ إلا في جزيرة بالي التي لم تتأثر بالأحداث والتحولات الجارية في الجزر الإندونيسية الكبرى. إلا أن التراث الأدبي الكبير الذي خلفته الثقافة الجاوية المتهندة وجد له استمراراً ورعاية في مراكز الحكم الملاوية في سومطرة وشبه جزيرة ملقة. ففي كثير من الترجمات النثرية التي تعود مخطوطات أصولها الشعرية إلى مطلع القرن السابع عشر يتعرف القارىء الموضوعات الملحمية الهندية في صيغة جديدة وبأسماء جديدة أيضاً، فكانت بذلك مصدر إلهام لأهم الأعمال النثرية، المجهولة المؤلف، في الأدب الملاوي، مثل «تاريخ الملايو» sedjarah malaju والرواية البطولية «حكاية هانغ تواه» Hikajat hang tuah. ومع ذلك فإن هذه الأعمال التي تنتمي إلى مرحلة ما قبل الإسلام في إندونيسية، مثل «حكاية الأمير راما» Hikajat sri Rãma، تدل من حيث أسلوب التعبير وانتقاء المفردات على تأثير إسلامي جلي، كما أنها مدونة بالخط العربي. ونحو عام 1400م وصل الإسلام إلى شبه جزيرة الملايو، وساد في جاوة عام 1520م. وفي الوقت نفسه تقريباً بدأ الغزو الأوربي لهذه المناطق. ومع انتشار الإسلام عرف الأدب الملاوي عالم الحكايات والملاحم الشعرية الفارسية الذي يتلاقى مع مثيله الهندي، كما استفاد المسلمون الإندونيسيون بذكاء وحذق من التراث الجاوي المتهند المترجم إلى الملاوية من أجل نشر الدعوة الجديدة، وذلك بإحلال شخصيات من التراث الإسلامي محل الشخصيات الملحمية الوثنية.
ومع انتشار الإسلام في إندونيسية ظهر كثير من المؤلفات التشريعية والدينية والصوفية باللغات المحلية مثل قصائد الصوفي السومطري حمزة بانسوري Hamza Pansuri، ومؤلفات في حكمة الحياة ونظرية الأخلاق، مثل «تاج السلاطين» و«بستان السلاطين». وبلغ النثر الملاوي ذروته في التأريخ والرواية التاريخية، ولاشك في أن أهم مؤلَّف في هذا الميدان هو «تاريخ الملايو» الذي يُعد مدخلاً مهماً إلى الأدب الملاوي وإلى أنماط معيشة سكان المنطقة وأخلاقهم. وواضح أن مؤلفه المجهول كان واسع الاطلاع على معارف عصره وعلومه إلى جانب إتقانه عدة لغات، مما أهله لكتابة تاريخ موسع للممالك الملاوية حتى سقوط ملقة وسنغافورة بيد الأوربيين، لكنه كثيراً ما كان يدمج الحقيقة التاريخية بالخيال الملحمي، سواء على صعيد الأحداث أو الشخصيات من دون تدقيق علمي. أما رواية «حكاية هانغ تواه» فهي أدبياً من أجمل ما قدمه الأدب الملاوي الذي دخل مرحلة نثرية جديدة مع عبد الله بن عبد القادر (1797 - 1854م)، فهو ينحدر من أب ملاوي وأم هندية، ويعد المعلم الذي لا يجارى في سهولة أسلوبه باللهجة العامية الملاوية غير الأدبية. فعلى نقيض أسلافه ومعاصريه تخلى ابن عبد القادر واعياً عن تقاليد الأدب المتوارثة، وأشهر أعماله سيرته الذاتية «حكاية عبد الله» التي لم يدخلها أي مؤثرات خرافية أو خيالية. وهو يستمد مادته السردية من الوقائع التي عايشها في زمنه المتخم بالصراعات الاقتصادية والدينية والسياسية.
ولاشك في أن الأدب الشعبي الملاوي قد أدى دوراً مماثلاً للآداب الشعبية لدى سائر الشعوب والقبائل الإندونيسية من حيث حفظه التراث الحكائي حياً في نفوس الناس. وما يسترعي الانتباه هو تسميته «بنغاليبور لارا» Pengalipur Lara أي قصص السلوان والمواساة التي يرويها «الحكواتي» الجوال، وقد حافظ هذا الأدب على نقائه من أي مؤثرات أجنبية، حاملاً خصائص النثر الأدبي الشعبي عامة، من حيث الإسهاب والإطناب والتكرار والشخصيات النمطية والإكثار من الأمثال. ويتغنى هذا الأدب في حكاياته بالماضي الملاوي السعيد المفتقد، وبالأمراء الفاضلين والأميرات الجميلات، وبالأبطال المحاربين الشجعان الذين يتوق الإنسان الملاوي إلى عالمهم، تعويضاً عن بؤس حاضره الذي يحاول أن يتغلب عليه بتبني نصائح الحيوانات الذكية في الحكايات المشابهة لـ «كليلة ودمنة» وممارستها والتي يكون بطلها دائماً غزالاً قزماً.
تعود أصول الشعر الملاوي في المرحلة الإسلامية إلى التعاويذ السحرية التي كان يستخدمها طاردو الأرواح والكهنة ويتلونها بمرافقة إيقاعات حرة، وهي تنقسم إلى شكلين شعريين: سجير Sjair المصحفة من سجع بالعربية، وبانتوم Pantum. تتألف بنية قصيدة السجير من عدة أبيات في كل بيت منها أربع كلمات، وتشكل معاً اثنى عشر مقطعاً تنتهي بقافية موحدة أو مختلفة بحسب الضرورة. وموضوعاتها ملحمية، لهذا قد تتألف القصيدة من آلاف الأبيات، وثمة تشابه كبير بين هذه القصائد من حيث الوزن والمفردات، وهي تتناول مصائر البشر وصراعاتهم الحياتية في مواجهة الحسد والكراهية، ولكن غالباً ما تنتهي القصيدة بخاتمة سعيدة، كما في الحكايات الشعبية، وقد تكون الخاتمة أحياناً مأساوية. وثمة من هذا النوع قصائد تعليمية ذات موضوعات دينية أو أخلاقية، وقد تكون نقدية تتعلق بالوضع الراهن. أما البانتوم فقد حظي بانتشار أوسع منذ القدم وبين جميع فئات الشعب، وتتألف قصيدته من أربعة أبيات، وكل بيت من أربع كلمات، وكل كلمة من مقطعين، وتنتهي الأبيات بقافية مختلفة. في البيتين الأولين يقدم الشاعر فكرته بلغة مرمزة مع التورية، وفي الأخيرين يأتي جوابه لتكتمل القصيدة في وحدة فنية لا حدود لموضوعاتها، من الحب والنصح والمديح وحتى السخرية اللاذعة. وهناك تشابه ملحوظ بين قصائد البانتوم وقصائد الهايكو Haiko اليابانية. وقصائد البانتوم تُغنَّى، أما السجير فتقرأ من دون تنغيم، فهي أقرب إلى النثر المسجّع، كما في المقامات العربية.
أما الأدب الإندونيسي الحديث فهو في خصائصه الرئيسية وليد كفاح الشعوب والقبائل الإندونيسية من أجل استقلالها عن الاستعمارين البرتغالي والهولندي وفي سبيل إقامة دولة موحدة، وكذلك بهدف نشر لغة تكون رابطة إندونيسية للسكان كافة، بغض النظر عن انتمائهم العرقي أو الديني. فاعتُمدت اللغة الملاوية لحمل هذه المهمة الوطنية بسبب سعة انتشارها، ولكونها لغة الدواوين والثقافة والتجارة. ومنذ مطلع القرن العشرين عمل العلماء على تطويرها حتى أعلنت عام 1945 لغة رسمية للدولة المستقلة باسم بهاسا إندونيسية Bahasa Indonesia. وفي هذا السياق كانت القضية المحورية لدى الأدباء المحدثين هي تجاوز الأجناس الأدبية التقليدية الجامدة في الأدب الملاوي وإيجاد أجناس جديدة قادرة على استيعاب قضايا العصر ومعالجتها. وطالب هؤلاء الأدباء على الصعيد الاجتماعي بالحرية الفردية المطلقة وبالانعتاق من أسر التقاليد الأخلاقية الموروثة التي تقيد هذه الحرية. وكانت أول رواية مهمة تعبر عن هذه الأفكار هي «سيتي نورباجا» Sitti Nurbaja (1922) التي يعرض فيها كاتبها ماراه روسلي Marah Rusli مصير الشابة سيتي التي تحطم حبها على صخرة التقاليد الأخلاقية والاجتماعية. وفي عام 1928 نشر عبد المغيث Abdul Muis روايته «تربية خاطئة» Asuhan Salah التي يريد أن يثبت فيها تعارض الحضارة الغربية مع التقاليد المحلية، من زواج مختلط بين إندونيسي وأوربية. ومع التجديد الملحوظ الذي جاء به أدباء هذه المرحلة على صعيد الشكل والمضمون فقد بقي شعر السجير والبانتوم متجذرين في نفوس الإندونيسيين.
وفي عام 1933 أصدر الروائي تقدير علي جاهبانه Takdir Ali Jahbana مجلته الثقافية «الأدب الجديد» Pudjangga Baru التي جمعت أهم أقلام الثورة الأدبية، وبدأت مرحلة جديدة في الأدب الإندونيسي، فعن طريق موادها المتنوعة أصبح الكتّاب نقاداً للحركة الثقافية، ولكن سرعان ما انقسموا إلى تيارين متعارضين، أولهما يطالب بالتخلي عن الموروث الثقافي المحلي وبالتوجه نحو الغرب الحديث، كما في رواية «أشرعة منتفخة» لصاحب المجلة نفسه، وثانيهما يطالب بالنهل من معين التراث وتطويره باتجاه الحداثة، ومن رواد هذا التيار أمير حمزة وأرمين بانِه Armin Pan. حاول أمير حمزة في مجموعتيه الشعريتين «قصائد العزلة» و«ثمار الحسرة» تجديد شكل قصيدة السجير بمضامين معاصرة.
وإبان الاحتلال الياباني لإندونيسية والحرب العالمية الثانية كان على ما سُمي بجيل الـ «45» من الكتاب الشباب أن يناضل من أجل الاستقلال والتحديث الثقافي، وكان أحد رواده الشاعر شايريل أنور Chairil Anwar (1922- 1949م) الذي أدخل الشعر الحر على التراث الشعري الإندونيسي، بمضامين تؤكد الفردانية المطلقة بدل الروح الجماعية. وسرعان ما جاء الرد على هذا التوجه الفرداني المتطرف على لسان رائد الحداثة تقدير علي جاهبانه الذي ألح على الدور الاجتماعي النضالي للأدب، متهماً جيل الـ «45» بتأثره بالكتب الغربية بدلاً من الواقع المتخم بالمشكلات التي تطالب بحلول جذرية بهدف تطوير المجتمع الإندونيسي.
نبيل الحفار