انسان
Man - L'homme
الإنسان
أصل كلمة إنسان man في اللغة العربية إنسيان، لأن العرب قاطبة قالوا في تصغيره (أنيسيان) وهو إما فعليان من الأنس، وإما أفعلان من النسيان، حتى قيل إنه سمي إنساناً لأنه عهد إليه فنسي، والإنسان للذكر والأنثى، ويطلق على أفراد الجنس البشري.
والإنسان من وجهة النظر البيولوجية: كائن حي في رتبة الرئيسات من الثدييات، ويتمتع بذكاء ولغة مبينة، ويتخصص بمخه الضخم وبانتصابه الشاقولي وبيديه الأخاذتين.
ويدل مفهوم الإنسان في علم الاجتماع على الموجود الاجتماعي. ويحدد سلوكه مباشرة التفكير والانفعالات، والإرادة ودرجة معرفة القوانين التي تحكم الطبيعة والمجتمع والإنسان نفسه. ولا يمكن أن يوجد الإنسان بمعزل عن الناس الآخرين، فإنه منصهر في بيئات اجتماعية محددة. وقد كتب ماركس يقول: «إن جوهر الإنسان ليس تجريداً كامناً في كل فرد. إنما هو في حقيقته جماع العلاقات الاجتماعية». الإنسان هو نتاج تطور الجنس البشري كله: معرفياً، وثقافياً، وتاريخياً.
والإنسان في الفلسفة كما يعبر عنه أحد كبار السفسطائيين بروتاغوراس[ر] Protagoras: «هو مقياس الأشياء جميعاً». إلا أن سقراط فضل الحكمة المنقوشة على مدخل معبد دلفي: «أيها الإنسان، اعرف نفسك بنفسك». وكأنه يميل إلى القول: «قل لي من أنت أيها الإنسان؟ قبل أن تجعل نفسك معياراً مطلقاً للأشياء!». أما أفلاطون [ر] فقد ركز بحثه عن الإنسان في الدعوة إلى الانسجام بين الروح والجسد لاستكمال الفضيلة وبلوغ السعادة. وظهرت معه نزعة البحث عن الفضائل الجديرة بالإنسان، مثل الشرف والعدالة.
وأما أرسطو[ر] فقد خص الإنسان بأبرز ما يميزه من الحيوان، ألا وهو اللغة والعقل. وعزز الرواقيون هذه الميزة بالتزام فكرة اللوغوس logos، أي الكلام والعقل معاً، في سبيل التعمق في تعرف الإنسان. وشاع التعريف الدارج للإنسان بأنه «حيوان عاقل» الذي أطلقه سبكتوس أمبيريكوس في القرن الثاني للميلاد.
وفي هذه الحقبة نفسها نشأ التيار الهرمسي (نسبة إلى هرمس)، وريث الفيثاغورية الجديدة والأفلاطونية الجديدة، وأصبح الإنسان، من حيث إنه جسم، هابطاً نحو الشر والموت؛ أما من حيث إنه نفس، فهو من أصل إلهي. وألصقت بالجسم والمادة كل النقائص، في حين أن الإنسان المتحرر من أسر الجسد قادر بالعقل على الاتصال بالعالم الروحاني. وإذا تابعت النفس صعودها بالتطهر فإنها تكتشف عالم الملائكة.
وقد تبنت الكنيسة مسلك الزهد للخلاص من وحش الشهوات الجسدية، والفداء من الخطيئة الأصلية. وصار المسيح عليه السلام خشبة الخلاص لاشتماله على اللاهوت والناسوت معاً.
الإنسان في الفلسفة الإسلامية
اشتملت العقيدة الإسلامية على أخلاقيات أهل التوحيد الضرورية للإنسان في الحياة الدنيا وعلى الوعد بالآخرة. وارتبط الإيمان بفكرة التحرر من أسر الحياة الدنيا. ومع أن الإنسان صار يسعى للحياة الآخرة، فإن الفكرة الأساسية للأديان السماوية ظلت تعده «خليفة الله في الأرض». وأبرز القرآن فكرة هذه الخلافة بقوة في قوله تعالى: )وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة( (البقرة30). وقبل الإنسان حمل الأمانة، وغدا «العمل الصالح» معياراً للنجاة في الدارين.
وجاءت الأحاديث النبوية مؤكدة وشارحة للقيم القرآنية، ونبهت الإنسان للمبادئ التي يجب أن تقوم عليها حياته. إنه يطمع بلذة العيش، يحدوه أمل بطول العمر؛ في حين أن ميقات الأجل المحتوم ينتظره، في مكان وزمان مجهولين.
وهو بين هذا وذاك عرضة لأخطار المتغيرات الخارجية وأسير للأهواء والشهوات الباطنة.
وقد نجم عن التلاقي بين الثقافة العربية الإسلامية والفلسفة اليونانية فكر إنساني متميز. فقد أعجب أبو حيان التوحيدي[ر] (ت نحو 400هـ/1010م) بالحكمة الأثيرة لسقراط «اعرف نفسك بنفسك»، وعدها التوحيدي من الحِكَم القديمة، وقرظها قائلاً: «هذا قول لا شيء أقصر منه لفظاً، ولا أطول منه فائدة ومعنى. وأول ما يلوح منه الزراية على من جهل نفسه ولم يعرفها».
وقد جعل الصوفية والفلاسفة من أمثال السهروردي (ت632هـ/1234م) وابن عربي (ت638هـ/1240م) وأتباعهما «معرفة النفس» في أصل مذهبيهما. وشاعت لدى هؤلاء الفلاسفة الحكمة القائلة: «من عرف نفسه فقد عرف ربه»، ويعزوه بعض المحدثين ليحيى بن معاذ الرازي (ت258هـ).
وذاعت أفكار الفلاسفة اليونان عن طريق الأفلاطونية الجديدة، وصارت جمهرة الفلاسفة والمتكلمين المسلمين وذوي الثقافة العربية الإسلامية كافة تتداول أفكار أرسطو وأفلاطون عن حقيقة النفس كأنها حقائق خالدة. ففي القرن الرابع للهجرة ظهرت جماعة إخوان الصفا [ر] وبثت أفكارها عن الإنسان في رسائلها، فعبرت عن التكامل القائم بين الإنسان ومجمل الكون. ومع تميز الإنسان بالعقل فإنه يشارك العناصر الأربعة البسيطة والمعادن والنبات والحيوان والملائكة في خواصها، فطبائعه أربعة مثل العناصر الأربعة، وهي تقبل الاستحالة والتغير، وله كون وفساد مثل المعادن وبقية الموجودات، وهو يتغذى وينمو كالنبات، ويحس ويتحرك مثل الحيوانات، ويمكنه الالتحاق بمرتبة الملائكة بالتصوف والسمو الأخلاقي، «فما من موجود من الموجودات له خاصية إلا وهي توجد في الإنسان». وتوصل إخوان الصفا إلى أن الإنسان كون صغير microcosme، وبأن الكون وهو إنسان كبير يسمى الكون الكبير macrocosme.
وقد أطلق ابن عربي على هذا التشابه بين الكون والإنسان اسم «المضاهاة» وتبع آراء الفلاسفة والصوفية الذين سبقوه في أن الإنسان «نسخة جامعة» لما ينطوي عليه الكون. ويتوج إخوان الصفا نظريتين في الإنسان بسوق الأدلة والبراهين على خلود النفس.
وقد اختلف المتكلمون والفلاسفة حول العلاقة بين الجسد والروح وأيهما يمثل الإنسان أصدق تمثيل. وقد دام الجدل حول هذا الموضوع عدة قرون. فبعض المتكلمين ممن نحا نحو الأطباء والفلاسفة الطبيعيين، كأبي الهذيل العلاف [ر] (ت235هـ/850م) من المعتزلة، كان في تعريفه للإنسان يقول: «هو الشخص الظاهر المرئي»، في حين قال بشر بن المعتمر بأن الإنسان جسد وروح وأن الفعَّال هو مجموعهما. وهذا قريب من رأي ابن باجة [ر] (ت533هـ/1139م) الذي يسم الإنسان بأن فيه أموراً كثيرة، ويقول: «إنما هو إنسان بمجموعها». وينحاز النَّظَّام، رأس المعتزلة، إلى موقف قريب من الموقف القرآني فيقول: «إن الإنسان هو الروح، ولكنها مداخلة للبدن، مشابكة له، وإن كل هذا في كل هذا. وإن البدن آفة عليه وحبس».
ومع ارتفاع أصوات بين الفينة والفينة تؤمن بأن الإنسان هو «هذا الهيكل المحسوس» أو المخصوص، تأييداً لنظرية الأطباء والماديين، فإن النَظَّام ومن رأى رأيه يمثلون الأكثرية الكبيرة في الفكر العربي الإسلامي. وفي نهاية القرن السادس للهجرة كتب فخر الدين الرازي (ت606هـ/1210م) كتاب «النفس والروح» لخص فيه مذهبه وقدم الحجج والبراهين لإثبات خلود جوهر النفس ومغايرته للبدن الذي لا يكف عن التبدل والتغير حتى ينتهي بالانحلال والموت. وقدم الرازي في تفسيره عرضاً مفصلاً لنظرية الإنسان حين تعرض لشرح قوله تعالى: )قل الروح من أمر ربي( (الإسراء85). وصارت آراؤه في الإنسان تعبر عن القناعات التي تكونت لدى أكثر المفكرين، محققة التوفيق بين الفكر اليوناني والعقيدة الإسلامية. ومع تأكيد أهمية الجسد في الثنائية المعروفة لطبيعة الإنسان، فإن الروح ظلت الجانب الأساسي الذي يعبر عن حقيقة الإنسان. ويؤكد الرازي أن الإنسان لا يجوز أن يكون هذا «الهيكل المحسوس»، لأن أجزاءه أبداً في النمو والذبول والزيادة والنقصان ولا شك أن الإنسان من حيث هو هو أمر باقٍ من أول عمره إلى آخره فالمشار إليه عند كل واحد بقوله «أنا»، واجب أن يكون مغايراً لهذا الهيكل. وينحو ابن كمال باشا (ت 940هـ/1534م) في أوائل القرن السادس عشر للميلاد المنحى نفسه في «الرسالة الهيكلية» لينفي أن الجانب المادي من الإنسان قابل لأن يفسر بمفرده كما شاع لدى المتكلمين الذين تبنوا آراء الفلاسفة الماديين من اليونان وآراء بعض الأطباء من الطرفين فقال «وراء هذا البدن وأجزائه أمر مجرد هو الإنسان في الحقيقة». فالشخص الإنساني كثيف في الظاهر، لطيف في الباطن، وهو جوهر نوراني سرى في الهيكل المحسوس سريان الماء في الورد غير قابل للزوال، حامل لصفات الكمال. وانتهى إلى القول بأن كل من يقول إن الروح تموت وتفنى فهو ملحد. ونبه إلى أن الموت هو نهاية العلاقة بين الروح والبدن.
الإنسان والعالم
الإنسان والعالَم متكاملان في الفلسفة العربية الإسلامية، بل إن بينهما توافقاً أنطولوجياً. كتب ابن رشد[ر] (ت595هـ/1198م) في «مناهج الأدلة»: «إن العالم بجميع أجزائه يوجد موافقاً لوجود الإنسان، ولوجود جميع الموجودات التي ههنا". وأن هذه «الموافقة» مرتبطة بقصد إلهي، وهي واحدة من أهم حلقات الاتساق الكوني. وفي هذا الإطار فإن الفكرة التطورية في الإنسان مقبولة عموماً من الأوساط الفلسفية الإسلامية كافة، بدءاً من إخوان الصفا ومسكويه ومروراً بابن عربي، وانتهاءً بابن خلدون الذي لخص آراء سابقيه على النحو الآتي:
«إن آخر أفق المعادن متصل بأول أفق النبات: مثل الحشائش وما لا بذور له، وآخر أفق النبات مثل النخل والكرم متصل بأول أفق الحيوان: مثل الحلزون والصدف، ولم يوجد لها إلا قوة اللمس فقط. ومعنى الاتصال في هذه المكونات أن آخر أفق منها مستعد بالاستعداد القريب لأن يصير أول الأفق الذي بعده. واتسع عالم الحيوان وتعددت أنواعه وانتهى في تدريجه التكويني إلى الإنسان، صاحب الفكر والروية، ترتفع إليه من عالم القردة الذي اجتمع فيه الحس والإدراك».
كذلك قاس ابن عربي (الذي تبنى هذه النظرة التطورية) صلاة المسلم على مراحل التطور التي انتهت إلى الذروة في الإنسان، فقد كتب في «فصوص الحكم»: «إن الوجود لما كان من حركة معقولة نقلت العالم من العدم إلى الوجود، عمت الصلاة جميع الحركات وهي ثلاث: حركة مستقيمة وهي حال قيام المصلي، وحركة أفقية وهي حال ركوع المصلي، وحركة منكوسة وهي حال سجوده. فحركة الإنسان مستقيمة، وحركة الحيوان أفقية، وحركة النبات منكوسة، وليس للجماد حركة من ذاته».
يعد ابن عربي من أكثر المفكرين العرب اهتماماً بمشكلة الإنسان. فقد حاز الإنسان في رأيه «سر الجمعية الكبريائية» كما نال مقام الخلافة على العالم. وسر الجمعية هذا قائم على تضمن حقائق الملائكة والحيوان والنبات والجماد. فصار الإنسان بذلك «يزاحم الألوهية لوقوفه على الأسماء كلها». والألوهية[ر] لدى ابن عربي مرتبة تتيح قيام علاقة تبادلية بين الإله والمألوه. وقد بحث ابن عربي عن سر الألوهية في الإنسان في رسالة «روح القدس في محاسبة النفس» ونبه إلى أن ذلك السر داء عضال يحتاج إلى الأدوية. وأهم دواء هو تذكر الإنسان لحقيقته الأصلية، كما قيل في الذكر الحكيم: )أو لا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئاً( (مريم67). إن اكتشاف العبودية في الإنسان يساعده على الشفاء من داء الرئاسة على الكائنات ويقوده إلى توخي اللطف والرحمة.
وخلص في كتابه «فصوص الحكم» إلى أن الإنسان قيمة مطلقة بذاته ما دام على قيد الحياة، وأنه يرجى له «تحصيل الكمال الذي خلق له».
Man - L'homme
الإنسان
أصل كلمة إنسان man في اللغة العربية إنسيان، لأن العرب قاطبة قالوا في تصغيره (أنيسيان) وهو إما فعليان من الأنس، وإما أفعلان من النسيان، حتى قيل إنه سمي إنساناً لأنه عهد إليه فنسي، والإنسان للذكر والأنثى، ويطلق على أفراد الجنس البشري.
والإنسان من وجهة النظر البيولوجية: كائن حي في رتبة الرئيسات من الثدييات، ويتمتع بذكاء ولغة مبينة، ويتخصص بمخه الضخم وبانتصابه الشاقولي وبيديه الأخاذتين.
ويدل مفهوم الإنسان في علم الاجتماع على الموجود الاجتماعي. ويحدد سلوكه مباشرة التفكير والانفعالات، والإرادة ودرجة معرفة القوانين التي تحكم الطبيعة والمجتمع والإنسان نفسه. ولا يمكن أن يوجد الإنسان بمعزل عن الناس الآخرين، فإنه منصهر في بيئات اجتماعية محددة. وقد كتب ماركس يقول: «إن جوهر الإنسان ليس تجريداً كامناً في كل فرد. إنما هو في حقيقته جماع العلاقات الاجتماعية». الإنسان هو نتاج تطور الجنس البشري كله: معرفياً، وثقافياً، وتاريخياً.
والإنسان في الفلسفة كما يعبر عنه أحد كبار السفسطائيين بروتاغوراس[ر] Protagoras: «هو مقياس الأشياء جميعاً». إلا أن سقراط فضل الحكمة المنقوشة على مدخل معبد دلفي: «أيها الإنسان، اعرف نفسك بنفسك». وكأنه يميل إلى القول: «قل لي من أنت أيها الإنسان؟ قبل أن تجعل نفسك معياراً مطلقاً للأشياء!». أما أفلاطون [ر] فقد ركز بحثه عن الإنسان في الدعوة إلى الانسجام بين الروح والجسد لاستكمال الفضيلة وبلوغ السعادة. وظهرت معه نزعة البحث عن الفضائل الجديرة بالإنسان، مثل الشرف والعدالة.
وأما أرسطو[ر] فقد خص الإنسان بأبرز ما يميزه من الحيوان، ألا وهو اللغة والعقل. وعزز الرواقيون هذه الميزة بالتزام فكرة اللوغوس logos، أي الكلام والعقل معاً، في سبيل التعمق في تعرف الإنسان. وشاع التعريف الدارج للإنسان بأنه «حيوان عاقل» الذي أطلقه سبكتوس أمبيريكوس في القرن الثاني للميلاد.
وفي هذه الحقبة نفسها نشأ التيار الهرمسي (نسبة إلى هرمس)، وريث الفيثاغورية الجديدة والأفلاطونية الجديدة، وأصبح الإنسان، من حيث إنه جسم، هابطاً نحو الشر والموت؛ أما من حيث إنه نفس، فهو من أصل إلهي. وألصقت بالجسم والمادة كل النقائص، في حين أن الإنسان المتحرر من أسر الجسد قادر بالعقل على الاتصال بالعالم الروحاني. وإذا تابعت النفس صعودها بالتطهر فإنها تكتشف عالم الملائكة.
وقد تبنت الكنيسة مسلك الزهد للخلاص من وحش الشهوات الجسدية، والفداء من الخطيئة الأصلية. وصار المسيح عليه السلام خشبة الخلاص لاشتماله على اللاهوت والناسوت معاً.
الإنسان في الفلسفة الإسلامية
اشتملت العقيدة الإسلامية على أخلاقيات أهل التوحيد الضرورية للإنسان في الحياة الدنيا وعلى الوعد بالآخرة. وارتبط الإيمان بفكرة التحرر من أسر الحياة الدنيا. ومع أن الإنسان صار يسعى للحياة الآخرة، فإن الفكرة الأساسية للأديان السماوية ظلت تعده «خليفة الله في الأرض». وأبرز القرآن فكرة هذه الخلافة بقوة في قوله تعالى: )وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة( (البقرة30). وقبل الإنسان حمل الأمانة، وغدا «العمل الصالح» معياراً للنجاة في الدارين.
وجاءت الأحاديث النبوية مؤكدة وشارحة للقيم القرآنية، ونبهت الإنسان للمبادئ التي يجب أن تقوم عليها حياته. إنه يطمع بلذة العيش، يحدوه أمل بطول العمر؛ في حين أن ميقات الأجل المحتوم ينتظره، في مكان وزمان مجهولين.
وهو بين هذا وذاك عرضة لأخطار المتغيرات الخارجية وأسير للأهواء والشهوات الباطنة.
وقد نجم عن التلاقي بين الثقافة العربية الإسلامية والفلسفة اليونانية فكر إنساني متميز. فقد أعجب أبو حيان التوحيدي[ر] (ت نحو 400هـ/1010م) بالحكمة الأثيرة لسقراط «اعرف نفسك بنفسك»، وعدها التوحيدي من الحِكَم القديمة، وقرظها قائلاً: «هذا قول لا شيء أقصر منه لفظاً، ولا أطول منه فائدة ومعنى. وأول ما يلوح منه الزراية على من جهل نفسه ولم يعرفها».
وقد جعل الصوفية والفلاسفة من أمثال السهروردي (ت632هـ/1234م) وابن عربي (ت638هـ/1240م) وأتباعهما «معرفة النفس» في أصل مذهبيهما. وشاعت لدى هؤلاء الفلاسفة الحكمة القائلة: «من عرف نفسه فقد عرف ربه»، ويعزوه بعض المحدثين ليحيى بن معاذ الرازي (ت258هـ).
وذاعت أفكار الفلاسفة اليونان عن طريق الأفلاطونية الجديدة، وصارت جمهرة الفلاسفة والمتكلمين المسلمين وذوي الثقافة العربية الإسلامية كافة تتداول أفكار أرسطو وأفلاطون عن حقيقة النفس كأنها حقائق خالدة. ففي القرن الرابع للهجرة ظهرت جماعة إخوان الصفا [ر] وبثت أفكارها عن الإنسان في رسائلها، فعبرت عن التكامل القائم بين الإنسان ومجمل الكون. ومع تميز الإنسان بالعقل فإنه يشارك العناصر الأربعة البسيطة والمعادن والنبات والحيوان والملائكة في خواصها، فطبائعه أربعة مثل العناصر الأربعة، وهي تقبل الاستحالة والتغير، وله كون وفساد مثل المعادن وبقية الموجودات، وهو يتغذى وينمو كالنبات، ويحس ويتحرك مثل الحيوانات، ويمكنه الالتحاق بمرتبة الملائكة بالتصوف والسمو الأخلاقي، «فما من موجود من الموجودات له خاصية إلا وهي توجد في الإنسان». وتوصل إخوان الصفا إلى أن الإنسان كون صغير microcosme، وبأن الكون وهو إنسان كبير يسمى الكون الكبير macrocosme.
وقد أطلق ابن عربي على هذا التشابه بين الكون والإنسان اسم «المضاهاة» وتبع آراء الفلاسفة والصوفية الذين سبقوه في أن الإنسان «نسخة جامعة» لما ينطوي عليه الكون. ويتوج إخوان الصفا نظريتين في الإنسان بسوق الأدلة والبراهين على خلود النفس.
وقد اختلف المتكلمون والفلاسفة حول العلاقة بين الجسد والروح وأيهما يمثل الإنسان أصدق تمثيل. وقد دام الجدل حول هذا الموضوع عدة قرون. فبعض المتكلمين ممن نحا نحو الأطباء والفلاسفة الطبيعيين، كأبي الهذيل العلاف [ر] (ت235هـ/850م) من المعتزلة، كان في تعريفه للإنسان يقول: «هو الشخص الظاهر المرئي»، في حين قال بشر بن المعتمر بأن الإنسان جسد وروح وأن الفعَّال هو مجموعهما. وهذا قريب من رأي ابن باجة [ر] (ت533هـ/1139م) الذي يسم الإنسان بأن فيه أموراً كثيرة، ويقول: «إنما هو إنسان بمجموعها». وينحاز النَّظَّام، رأس المعتزلة، إلى موقف قريب من الموقف القرآني فيقول: «إن الإنسان هو الروح، ولكنها مداخلة للبدن، مشابكة له، وإن كل هذا في كل هذا. وإن البدن آفة عليه وحبس».
ومع ارتفاع أصوات بين الفينة والفينة تؤمن بأن الإنسان هو «هذا الهيكل المحسوس» أو المخصوص، تأييداً لنظرية الأطباء والماديين، فإن النَظَّام ومن رأى رأيه يمثلون الأكثرية الكبيرة في الفكر العربي الإسلامي. وفي نهاية القرن السادس للهجرة كتب فخر الدين الرازي (ت606هـ/1210م) كتاب «النفس والروح» لخص فيه مذهبه وقدم الحجج والبراهين لإثبات خلود جوهر النفس ومغايرته للبدن الذي لا يكف عن التبدل والتغير حتى ينتهي بالانحلال والموت. وقدم الرازي في تفسيره عرضاً مفصلاً لنظرية الإنسان حين تعرض لشرح قوله تعالى: )قل الروح من أمر ربي( (الإسراء85). وصارت آراؤه في الإنسان تعبر عن القناعات التي تكونت لدى أكثر المفكرين، محققة التوفيق بين الفكر اليوناني والعقيدة الإسلامية. ومع تأكيد أهمية الجسد في الثنائية المعروفة لطبيعة الإنسان، فإن الروح ظلت الجانب الأساسي الذي يعبر عن حقيقة الإنسان. ويؤكد الرازي أن الإنسان لا يجوز أن يكون هذا «الهيكل المحسوس»، لأن أجزاءه أبداً في النمو والذبول والزيادة والنقصان ولا شك أن الإنسان من حيث هو هو أمر باقٍ من أول عمره إلى آخره فالمشار إليه عند كل واحد بقوله «أنا»، واجب أن يكون مغايراً لهذا الهيكل. وينحو ابن كمال باشا (ت 940هـ/1534م) في أوائل القرن السادس عشر للميلاد المنحى نفسه في «الرسالة الهيكلية» لينفي أن الجانب المادي من الإنسان قابل لأن يفسر بمفرده كما شاع لدى المتكلمين الذين تبنوا آراء الفلاسفة الماديين من اليونان وآراء بعض الأطباء من الطرفين فقال «وراء هذا البدن وأجزائه أمر مجرد هو الإنسان في الحقيقة». فالشخص الإنساني كثيف في الظاهر، لطيف في الباطن، وهو جوهر نوراني سرى في الهيكل المحسوس سريان الماء في الورد غير قابل للزوال، حامل لصفات الكمال. وانتهى إلى القول بأن كل من يقول إن الروح تموت وتفنى فهو ملحد. ونبه إلى أن الموت هو نهاية العلاقة بين الروح والبدن.
الإنسان والعالم
الإنسان والعالَم متكاملان في الفلسفة العربية الإسلامية، بل إن بينهما توافقاً أنطولوجياً. كتب ابن رشد[ر] (ت595هـ/1198م) في «مناهج الأدلة»: «إن العالم بجميع أجزائه يوجد موافقاً لوجود الإنسان، ولوجود جميع الموجودات التي ههنا". وأن هذه «الموافقة» مرتبطة بقصد إلهي، وهي واحدة من أهم حلقات الاتساق الكوني. وفي هذا الإطار فإن الفكرة التطورية في الإنسان مقبولة عموماً من الأوساط الفلسفية الإسلامية كافة، بدءاً من إخوان الصفا ومسكويه ومروراً بابن عربي، وانتهاءً بابن خلدون الذي لخص آراء سابقيه على النحو الآتي:
«إن آخر أفق المعادن متصل بأول أفق النبات: مثل الحشائش وما لا بذور له، وآخر أفق النبات مثل النخل والكرم متصل بأول أفق الحيوان: مثل الحلزون والصدف، ولم يوجد لها إلا قوة اللمس فقط. ومعنى الاتصال في هذه المكونات أن آخر أفق منها مستعد بالاستعداد القريب لأن يصير أول الأفق الذي بعده. واتسع عالم الحيوان وتعددت أنواعه وانتهى في تدريجه التكويني إلى الإنسان، صاحب الفكر والروية، ترتفع إليه من عالم القردة الذي اجتمع فيه الحس والإدراك».
كذلك قاس ابن عربي (الذي تبنى هذه النظرة التطورية) صلاة المسلم على مراحل التطور التي انتهت إلى الذروة في الإنسان، فقد كتب في «فصوص الحكم»: «إن الوجود لما كان من حركة معقولة نقلت العالم من العدم إلى الوجود، عمت الصلاة جميع الحركات وهي ثلاث: حركة مستقيمة وهي حال قيام المصلي، وحركة أفقية وهي حال ركوع المصلي، وحركة منكوسة وهي حال سجوده. فحركة الإنسان مستقيمة، وحركة الحيوان أفقية، وحركة النبات منكوسة، وليس للجماد حركة من ذاته».
يعد ابن عربي من أكثر المفكرين العرب اهتماماً بمشكلة الإنسان. فقد حاز الإنسان في رأيه «سر الجمعية الكبريائية» كما نال مقام الخلافة على العالم. وسر الجمعية هذا قائم على تضمن حقائق الملائكة والحيوان والنبات والجماد. فصار الإنسان بذلك «يزاحم الألوهية لوقوفه على الأسماء كلها». والألوهية[ر] لدى ابن عربي مرتبة تتيح قيام علاقة تبادلية بين الإله والمألوه. وقد بحث ابن عربي عن سر الألوهية في الإنسان في رسالة «روح القدس في محاسبة النفس» ونبه إلى أن ذلك السر داء عضال يحتاج إلى الأدوية. وأهم دواء هو تذكر الإنسان لحقيقته الأصلية، كما قيل في الذكر الحكيم: )أو لا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئاً( (مريم67). إن اكتشاف العبودية في الإنسان يساعده على الشفاء من داء الرئاسة على الكائنات ويقوده إلى توخي اللطف والرحمة.
وخلص في كتابه «فصوص الحكم» إلى أن الإنسان قيمة مطلقة بذاته ما دام على قيد الحياة، وأنه يرجى له «تحصيل الكمال الذي خلق له».
تعليق