الأندلس (تاريخيا وجغرافيا)
اندلس (تاريخيا جغرافيا)
Al-Andalus - Al-Andalûs
الأندلس تاريخياً
فتح الأندلس
1ـ أحوال الأندلس قبل الفتح: اتسم فتح الأندلس باليسر والسرعة مقارنة بفتح المغرب الذي سبقها مباشرة. ويمكن تفسير ذلك بوضع الأندلس التي كانت تعيش آنذاك مرحلة أزمة تفاقمت لعدة عقود، كان الحكام قبلها وهم قوط غزاة قد أفلحوا في تحقيق الاندماج بين مجتمعهم والمجتمع الإسباني، وذلك بالتخلي عن مذهبهم الأريوسي واعتناق الكاثوليكية مذهب السكان، وبوضع قانون واحد مبني على تقاليد الطرفين وأعرافهما ضمن الوحدة القانونية. لكن هذا المجتمع لم يلبث أن انقسم إلى نبلاء يملكون معظم الأرض، وأقنان يعملون فيها. أما على الصعيد الديني فقد علا مقام رجال الكنيسة الكبار فأفلحوا في توجيه سياسة الدولة نحو اضطهاد الأقلية اليهودية حتى فُرِض التنصر عليهم، ونزع أولادهم منهم بحجة عدم صدقهم في التنصر، والخشية من تربية هؤلاء الأولاد على اليهودية، مما خلق أقلية بالغة النقمة تنشد الخلاص ولو على يد غاز. وفي الوقت نفسه تفاقمت أزمة سياسية بين مؤيدي تطوير النظام الجرماني من الملكية الانتخابية إلى الوراثية، والنبلاء الحريصين على امتيازاتهم في انتخاب الملك. وقد نال ويتيثا Witiza الذي يسميه العرب غيطشة، عرشه وراثة عن أبيه، وقد خفف من اضطهاد اليهود، فأثار عليه بذلك سخط النبلاء ورجال الكنيسة، وزاد هذا السخط محاولته تأكيد نظام الوراثة بتسمية ابنه أخيلا Aquila (وِقْلَة عند العرب) ولياً لعهده وإعطائه حكم شمالي إسبانية. ولما توفي غيطشة عام 90هـ /708م، لم يتمكن ابنه من دخول طُلَيْطُلة والجلوس على العرش، وقام النبلاء بانتخاب دوق قُرْطُبة رودريغو Rodrigo (لذريق أو رذريق عند العرب) فقدم إلى العاصمة التي هرب منها أفراد أسرة غيطشة. ثم قوى سلطانه بعد أن خضع له أَخَوان لوِقْلَة وتسلم وظائف مهمة في جيشه.
تزامن هذا الاضطراب السياسي الجديد في الداخل مع قحط دام ثلاث سنوات، ووباء أودى بحياة ما يزيد على نصف السكان، ومن الخارج وصل العرب المسلمون الفاتحون إلى المضيق، وكان يقودهم موسى بن نصير، أمير المغرب الذي وصل إلى طَنْجةَ سنة 89هـ/ 707م وأنزل العرب فيها، وجعلها لهم قاعدة يقودهم فيها مولاه طارق بن زياد. ومن هذه القاعدة كرر العرب هجماتهم على سَبْتَة التي استعصى عليهم فتحها لطبيعتها، فقد كانت لساناً برياً داخلاً في البحر، وكان يحكمها يوليان، وهو حاكم بيزنطي، على ما يرجح، تقوّى بعد انقراض سلطان دولته في المغرب بتوثيق علاقته بأسرة غيطشة مالكة الأندلس قبل سقوطها. بهذا تجمعت الظروف التي قادت يوليان وأصحابه من الأسرة المالكة المخلوعة إلى التحالف مع العرب لتحطيم عرش لذريق بعدما أخفقوا في مجابهته بقواهم وحدها، يضاف إلى ذلك رغبة يوليان في توجيه اندفاع العرب بعيداً عن ملكه، وعزمه على الانتقام الشخصي من لذريق الذي اعتدى على عفاف ابنته الوصيفة في القصر الملكي بطُلَيْطلُة. أما العرب فكان القيام بفتح الأندلس عندهم تنفيذاً لفريضة الجهاد، ولذلك كان من المنتظر بعد إتمام فتح المغرب الاستمرار في الفتح الذي يصعب متابعته جنوباً لوجود الصحراء، في حين كان يمكن متابعته شمالاً أي في الأندلس. ولم يكن عرض الحاجز المائي، وهو المضيق، يتجاوز تسعة عشر كيلومتراً في بعض النقاط ولكن كان ثمة عقبات أخرى تفرض عليهم التوقف ولو لأمد، ريثما تتوافر وسائل العبور على الأقل. وهنا جاء تدخل يوليان في الاتصال بهم وتشجيعهم وعرض معونته عليهم من السفن والأَدلاء، ميسراً بدء أعمال فتح الأندلس في السنة التالية لفتح طَنْجة.
2ـ عمليات الفتح: اتصل يوليان بموسى بن نصير، مباشرة أو عن طريق طارق بن زياد وعرض عليه إمداده بالسفن والأدلاء لغزو الأندلس، كما هوّن من شأن المقاومة فيها. وبناء على أمر الخليفة تم التأكد من صدق يوليان ومن عداوته للذريق، بقيامه بغارة على جهات الجزيرة الخضراء، عاد منها بسرعة حاملاً الغنائم والسبي. كما اختبر العرب ضعف المقاومة بتوجيه غارة قاد فيها طريف بن مالك أربعمئة راجل ومئة فارس نزلوا في ميناء أندلسي قريب من الشاطىء المغربي للمضيق، حمل منذ ذلك الوقت اسم طريف Tarrif، وأحرزوا نجاحاً مماثلاً لما حققه يوليان.
قامت الحملة الكبرى في رجب أو شعبان سنة 91هـ/ نيسان أو أيار سنة 710م، بقيادة طارق بن زياد وتألفت من سبعة آلاف مجاهد حملتهم أربع سفن ليوليان على دفعات وأنزلتهم في سفح جبل كالبي Calpe الذي حمل اسم طارق فيما بعد. ورفده موسى بن نصير بعد ذلك بخمسة آلاف مقاتل. توافقت عملية الإنزال مع انشغال لذريق بمحاربة الخارجين عليه في بمبلونة بأقصى شمالي الأندلس. وتبعه تحرك طارق لاحتلال بقية الخليج المتصل بالجبل، الذي تقع في أعلاه مدينة قرطجنة Cartagena الصغيرة، وينتهي على بعد ستة أميال بالموقع الذي سمي الجزيرة الخضراء، مما يدل على سعيه لإيجاد خليج بحري للاتصال مع قاعدته. لكن روايات متأخرة تنفرد بنسبة عملين آخرين إلى طارق أولهما إحراق السفن وثانيهما خطبته المشهورة. وهذان الأمران موضع نظر وبحث.
بعدما علم لذريق بنزول طارق اتجه مسرعاً إلى الجنوب على رأس جيش اختلفت الروايات في تقدير عدده بين الأربعين ألفاً والمئة ألف. أما طارق فلم يسر إلا مسافة يسيرة نحو الشمال الغربي نحو بحيرة خاندا التي تمتد عدة كيلومترات في موازاة البحر، ويعبرها نهر بَرْبَاط Barbat (الشائع تسميته في المصادر العربية بوادي لكُّه)، وهناك حمى طارق جناحي جيشه بمانعين طبيعيين هما البحيرة من جانب ومرتفعات جبال ريتين المجاورة من جانب آخر، وبذلك حرم خصمه الاستفادة من نقاط تفوقه في العدد لأن الميدان ضيق.
بدأت المعركة في 28 رمضان91هـ/31 تموز 710م ودامت ثمانية أيام انتهت بهزيمة لذريق وموته غرقاً على الأرجح. وربما ساعد العرب على إحراز هذا النصر خيانة جرت في جيش لذريق، إذ إن ششبرت وأبه قريبي وقلة، كانا يقودان الميمنة والميسرة في جيش لذريق وقد انسحبا في أوج المعركة كي يجرا عليه الهزيمة وكانا يظنان أن العرب سوف ينسحبون من الأندلس بعد امتلاء أيديهم بالغنائم، أما ابن القوطية، سليل أسرة غيطشة من ناحية الأم والمولع بالاعتماد على روايات الشعوبيين من مولدي الأندلس، فيذكر أن الانسحاب تم بالاتفاق مع طارق الذي وعدهما برد ضياع أبيهما إليهما البالغ عددها ثلاثة آلاف ضيعة.
كان نصر العرب مُكلفاً إذ خسروا ربع عددهم، لكنه كان من ناحية أخرى الحدث الحاسم في الفتح، لأنه حطم أكبر قوة ضاربة أمكن للقوط جمعها، كما كان من جملة غنائم المسلمين خيول كافية لإركاب المجاهدين جميعاً وقد مكنتهم من طي المراحل بسرعة. إذ إن طارقاً لم يتوقف في مكانه بانتظار سيده كما أُمِر، بل تابع تقدمه لاستثمار النصر، فهاجم أولاً مدينة إِستِجَة على نهر شنيل حيث احتمت فلول المنهزمين، وأحرز نصراً آخر بعد معركة حامية. لكن متابعة الفتح بهذا الأسلوب، من حرب المعاقل كان يضطره إلى التوقف عند كل مدينة مما يفسح في المجال للقوط لجمع أمرهم، لذلك عمل بنصيحة يوليان مرافقه باتباع طريقة الحرب الخاطفة، فأرسل قوات قليلة إلى مدن مالَقَة وغرناطة وقُرْطُبَة. وقد فتحت هذه الأخيرة بعد حصار المولى مغيث لها ثلاثة شهور، في حين كان طارق يخترق شبه الجزيرة من وسطها بسرعة خاطفة حتى وصل إلى طُلَيْطُلة العاصمة قبل حلول الشتاء. ويبدو أن وصوله كان مفاجأة كاملة لأصحابها فهرب كبار النبلاء ورجال الكنيسة، ولم تبد المدينة مقاومة تذكر فدخلها طارق وجنده وغنموا كثيراً من النفائس التي بهرت عقول الناس، فأطلق بعضهم العنان لخياله في ابتداع الصور الخيالية عنها. ويبدو أن طارقاً تابع تقدمه نحو الجبال المحيطة بها ففتح وادي الحجارة ثم عاد إلى طليطلة لقضاء فصل الشتاء.
نزل موسى بن نصير في الجزيرة الخضراء في رمضان سنة 92هـ/ حزيران وتموز 711م، مع عشرة آلاف أو ثمانية عشر ألف مجاهد، أكثرهم من العرب. ولم يكن قدومه إلى الأندلس بدافع الحسد لاستئثار طارق بشرف الفتح، كما يرى بعض المؤرخين، بل كان استجابة لضرورات تأمين الفتح واستكماله لأن طارق بن زياد اخترق الجزيرة من وسطها وترك على جانبيه معاقل مهمة قوتها بالمقاومة الشديدة التي واجهت بها موسى، بحيث استغرق فتح معاقل الغرب من الجنوب إلى الوسط أكثر من سنة. بدأت غزوات موسى بفتح مدينة شَذُونة Medina Sidonia ثم قَرْمُوِنة الحصينة التي فتحت بالحيلة، وبعدها اضطر إلى التوقف أمام إشْبِيليَة محاصراً عدة شهور. وأبدت ماردَة إثر ذلك مقاومة أشد، إذ حاربه أهلها خارجها كما أوقعوا بالذين حاولوا اختراق السور ثم استسلمت. ولما غادرها موسى شمالاً نحو طُلَيْطُلة خرج طارق للقائه فاجتمعا في مدينة طَلَبِيرَة، وكان اللقاء عاصفاً بحسب الروايات التي تباينت قي تحديد مدى الجفاء الذي أظهره موسى لتابعه، ومع ذلك أبقى موسى طارقاً في موقعه القيادي وأمره بمتابعة الفتح، سواء كان برفقة مولاه كما حصل عند فتح سَرَقُسْطَة على وادي إِبرو، أو منفرداً عندما سار على خط روماني قديم متجهاً غرباً نحو جليقية حيث مدن أماية وليون واشتُرقة Astorga في السفوح الجنوبية لجبال أشتوريش وجليقية. وقام موسى في أثناء ذلك بفتح لارِدَة على أحد روافد الإبْرو، ثم اتجه غرباً ليفتح مدن الساحل الشمالي الذي يحيط بجبال مناطق أشتوريش وجليقية من الشمال مثل أوبيدو (أوفيدو) وخيخون. وبذلك اضطر بعض سكان السهول المحيطة بهذه الجبال، سواء في الشمال أو في الجنوب، ممن لم يرغب في الاستسلام للعرب إلى ارتقاء هذه الجبال الوعرة والتحصن بها، حيث تكونت النواة الأولى للمقاومة الإسبانية في المراحل اللاحقة.
غادر موسى إثر ذلك الأندلس برفقة مولاه طارق تنفيذاً لأمر الخليفة أواخر سنة 95هـ/أيلول 714م، تاركاً حكمها لابنه عبد العزيز. وصل موكبه الكبير الذي ضم الأسرى والسبي والغنائم إلى دمشق قبيل وفاة الوليد بن عبد الملك سنة 96هـ/715م.
3ـ عصر الولاة (97 - 138هـ /716- 756م): أقام عبد العزيز بن موسى بن نصير يدير شؤون الأندلس من مقره في إشبيلية، مستكملاً أعمال الفتح التي ساعد أباه فيها سابقاً، ولعل أهم أعماله في هذا المضمار إخضاعه تُدْمِير، فدخلت المنطقة في ذمة المسلمين. وفي رجب 97هـ/آذار716م اغتاله زياد بن عُذرة البَلَوي وهو يؤم الناس في الصلاة واتُهم عبد العزيز بن موسى بن نصير بالخروج عن الإسلام بتأثير زوجته أم عاصم أرملة لذريق التي ألبسته التاج وجعلت القادمين عليه يركعون له.
شغر منصب الولاية مدة إثر ذلك، إلى أن اتفق قادة الجند على تقديم أيوب بن حبيب اللخمي ابن أخت موسى الذي كان يؤمهم في صلاتهم، وبدأ عصر جديد هو عصر الولاة الذي استمر ما يزيد قليلاً على أربعين عاماً، وانتهى ببيعة عبد الرحمن الداخل بالإمارة سنة 138هـ/756م. وتوالى على الحكم فيها عشرون والياً هم:
أيوب بن حبيب اللخمي، حتى ذي الحجة 97هـ/ آب 716م
الحر بن عبد الرحمن الثقفي حتى رمضان 100هـ/ نيسان 719م
السمح بن مالك الخولاني حتى ذي الحجة 102هـ/كانون الثاني 721م
عبد الرحمن الغافقي (المرة الأولى) حتى صفر 103هـ/ آب 721م
عنبسة بن كليم الكلبي حتى شعبان 107هـ/ كانون الثاني 726م
عذرة بن عبد الله الفهري حتى شوال 107هـ / آذار 726م
يحيى بن سلمة الكلبي حتى ربيع الأول 110هـ/ شباط728م
حذيفة بن الأحوص القبسي حتى شعبان 110هـ/ تشرين الثاني 728م
عثمان بن أبي نِسْعَة الخثعمي حتى محرم 111هـ/ نيسان 729م
الهيثم بن عبيد الكلابي حتى ذي القعدة 111هـ/ شباط 730م
محمد بن عبد الله الأشجعي حتى صفر 112هـ/ نيسان 730م
عبد الرحمن الغافقي(المرة الثانية) حتى رمضان 114هـ/ تشرين أول 732م
عُقبة بن الحجاج السلولي حتى صفر 123هـ/ كانون الثاني 741م
عبد الملك بن قطن الفهري حتى ذي القعدة 123هـ/ أيلول 741م
بَلْج بن بشر القشيري حتى شوال 124هـ/ آب 742م
ثعلبة بن سلامة العاملي أو الجذامي حتى رجب 125هـ/ أيار 743م
أبو الخطار الحُسام بن ضِرار الكلبي حتى رجب 127هـ/ نيسان 745م
ثوابة بن سَلامة الجُذامي حتى 129هـ/ 746م
يوسف بن عبد الرحمن الفهري من ربيع ثاني 129هـ/ كانون أول 746م إلى ذي الحجة 138هـ/أيار 756م.
انصرف جل اهتمام هؤلاء الولاة إلى متابعة أعمال الفتح في النصف الأول من هذه الحقبة في حين شغلتهم المنازعات الداخلية في النصف الثاني، مما جعل العصر عصر اضطراب دلت عليه هذه القائمة الطويلة من الولاة.
4ـ الفتح في غاليش (فرنسة): استمرت أعمال الفتح في هذه البلاد نحو عشرين عاماً لم يعرف فيها استقرار على أراضيها، وكانت غارات المسلمين تتوغل حتى أعماق مختلفة وتتبدل المحاور فيها من حملة إلى أخرى. وبعد أن فتح طارق الأندلس أرسل إلى بَرْشَلونة حملة عبرت جبال البيرنيه (البرانس أو البرتات كما يسميها عرب الأندلس) وتوغلت في حوض الرون فدخلت أَرْبُونَة ثم صخرة أبينيون (أفينيون Avignon) فحصن لودون (ليون اليوم) على نهر رُدُونه (الرون اليوم). واستطاع شارل مارتل إخراجهم منها وأقام فيها الحصون بعد ذلك، في حين احتمى العرب بحصون أَرْبُونة، التي استعادها الفرنج على الأرجح في مرحلة الاضطراب التي أعقبت اغتيال عبد العزيز بن موسى بن نصير. ثم استعادها السمح بن مالك الخولاني وجعلها قاعدة للفتح على محور آخر هو حوض الغارون حتى وصل إلى طَلُّوشة (تولوز) وحاصرها، فأنجدها دوق أكيتانية وقُتل السمح في المعركة حولها وتفرق جيشه. ثم تجدد الفتح بعد أربع سنوات وقاده عنبسة بن سحيم الكلبي إلى بورغونية ودخل قَرْقَشُونَة، ودفع أهلها الجزية تعبيراً عن خضوعهم وحرروا أسرى المسلمين فيها، ثم صعد شمالاً حتى ماكون وشالون. وفي طريق عودته هاجمته جموع فرنجية كبيرة فأُصيب بجراح توفي على أثرها في شعبان 107هـ/كانون الثاني 726م.
قامت أكبر الغارات بعد سبع سنوات بقيادة عبد الرحمن الغافقي، الذي حشد جنده في بمبلونة في صيف عام 114هـ/732م، وعبر جبال البيرنيه إلى بوردو على نهر الغارون، فهزم بجوارها دوق أكيتانية وتابع تقدمه شمالاً. أما على الطرف الآخر فقد كان حاجب الدولة الميروفنجية شارل مارتل قد هيأ منذ زمن مستلزمات الصمود أمام خطر العرب، فأدخل عنصر الفرسان بأعداد كبيرة في جيشه، بعدما كان محاربو قومه مشاة لا قبل لهم بمواجهة العرب الفرسان السريعي الحركة. وتحرك لنجدة دوق أكيتانية جنوباً فدخل مدينة تور على اللوار قبل وصول العرب إليها، ثم واجههم وهم مثقلون بالغنائم في نقطة تقع على طريق روماني قديم وتبعد عشرين كيلومتراً إلى الشمال الشرقي من مدينة بواتيه حيث وقعت المعركة في رمضان 114هـ/732م واستشهد فيها عبد الرحمن الغافقي مع عدد كبير من جنده. أطلق المؤرخون المسلمون على المعركة اسم بلاط الشهداء، ولو أنهم لم يخصوها بتفاصيل تذكر تمييزاً لها من غيرها، في حين عدّها الدارسون الأوربيون قديماً وحديثاً واحدة من المعارك الفاصلة في التاريخ، لأن نصر شارل مارتل وضع حداً للتوسع العربي الإسلامي على الأرض الأوربية وحمى أوربة كلها. لم يفقد العرب مع ذلك كل وجود لهم في غاليش بل بقيت قاعدتهم أربونة في حوزتهم مدة ثلاثين سنة أخرى، وبقي حاكمها يقوم بغارات في حوض الرون ولو أنها أقل عمقاً. وربما كان ذلك نتيجة للمقاومة الفرنجية أو لانشغال الولاة بالصراعات الداخلية في الأندلس.
الصراع الداخلي
كان مجتمع الأندلس في هذا العصر حديث التكوّن يفتقر إلى التجانس بين فئاته، وإلى التماسك ضمن الفئة الواحدة. ويمكن تمييز فئتين كبيرتين فيه: فئة الفاتحين وفئة سكان البلد المفتوح الذين تركت لهم حرية العقيدة والحفاظ على قوانينهم وإن لم يحل ذلك دون محاولة نشر الإسلام بالحسنى كفعل الوالي عُقبة بن الحجاج، الذي أسلم على يديه ألف أسير بالإقناع. وأدت دوافع أخرى عدا الإقناع إلى اعتناق الإسلام، كظفر العبيد بالحرية وتوفير العدالة للأقنان، أو حفظ المكانة والثروة لبعض أفراد الأسرة المالكة. وقد أطلق العرب على الداخلين في الإسلام اسم المُسالِمة في حين شاع اسم المولَّدين للجيل التالي. وأطلقوا على الباقين على دينهم اسم العجم أو المعاهَدين، وربما اقتصر استخدام مصطلح أهل الذمة على اليهود وقد تقرب هؤلاء من الفاتحين الذين أنقذوهم من الاضطهاد. ومع هذا التفتت الذي أصاب هذه الفئة فإنها ظلت هادئة طوال هذه الحقبة ولم يشارك أحد منهم في اضطراب إلا حالة واحدة التحق فيها بعض من غير المسلمين بفتنة عذرة بن عبد الله الفهري.
كان التفتت أكبر في جماعة الفاتحين الذين كانوا فئتين كبيرتين: مشارقة (عرب) ومغاربة (بربر)، وكان جلّ هؤلاء الأخيرين من شمالي المغرب الأقصى الجبلي المجاور للمضيق، اتخذوا لأنفسهم منازل في الأندلس، في المناطق المشابهة لبلادهم، كوسط الأندلس وشماليها، حيث كانوا أيضاً على مقربة من ميادين الغزو في غاليش. ولم يتيسر لهم النزول في أحواض الأنهار الخصبة ولاسيما في الجنوب لاستئثار المشارقة بها أو لعدم تقدير المغاربة لها حق قدرها. ولما انقطعت عنهم موارد الفتح جهروا بالشكوى من سوء معاملتهم، إذ احتفظ المشارقة في الأندلس بالنظرة نفسها لهم في المغرب كسكان بلاد مفتوحة.
أما فئة المشارقة (العرب) فكانت مؤلفة من وحدات كثيرة هي القبائل التي احتفظت كل منها بكيانها، لأن كل قبيلة كونت وحدة عسكرية ثم سكنية في الغالب، وقد حملت معها عصبياتها من المشرق. كعصبية الانتماء إلى القبيلة أو الجذم (قيس أو يمن)، وقد ساق ابن حزم في كتابه جمهرة أنساب العرب ما يدل على وجود اثنين وأربعين فرعاً من فروع اليمانية. وقد أدت هذه العصبية إلى التنافس بين القبائل على الزعامة في كل جذم. فقد فازت قبيلة كلب بالزعامة على اليمانية أمداً طويلاً، ونافستها عليها كل من قبيلتي لخم وجذام. وحُرمت غطفان بين القيسية الزعامة وحازتها قبائل ربيعة بن عامر بن صعصعة، وفي إطار هذه القبيلة قامت المنافسة بين كلاب وكعب بفرعيها قُشير وعُقيل. ومما حملته القبائل من عصبيات المشرق عصبية الموطن، كالحجاز والشام والعراق، وأضيف إليها في الأندلس عصبية النازلين فيها منذ زمن الفتح الذين سُمّوا بلديين في مقابل الطارئين الجدد الشاميين.
أضيفت إلى هذه العصبيات في الأندلس أسباب ملائمة لانفجار الصراع فيما بينها، فلم تكن هناك قاعدة ثابتة في تعيين الولاة، الذين يعينهم إما والي المغرب وإما الخليفة وإما القوى المحلية الأندلسية. كما أن أرض الأندلس لم تقسم كما تقسم الغنائم، ولم توقف على المسلمين كما حصل في البلاد المفتوحة الأخرى، بل سادت فيها قاعدة كل يد وما أخذت، وتكاد المشاركة في هذه الصراعات تكون عامة، ولعل الاستثناء الوحيد هو وجود فئة صغيرة اعتزلتها عرفت باسم الصالحين، انصرف رجالها إلى بناء المساجد كالحنش الصنعاني، أو لإصلاح ذات البين عند احتدام الصراعات، أو مراقبة التزام الحكام الشرع، كما حصل في زمن الفتح. وشكا بعضهم من خرق قادة الفتح لهذا الالتزام في بعض أعمالهم.
بدأت ضروب الصراع هذه بين الفئات المتباعدة ثم تعمقت شيئاً فشيئاً إلى أن وصلت إلى القبيلة الواحدة، كما تدل على ذلك وقائعها.
آ - الصراع بين المشارقة والمغاربة: كان هذا فاتحة الصراع الداخلي، وانطلقت شرارته الأولى من المغرب، حيث ثار المغاربة تحت راية الخوارج الصفرية منطلقين من طنجة سنة 122هـ /739م، وألحقوا بجند الوالي هزائم عدة، ثم أضافوا إليها هزيمة أخرى لهم وللمدد الذي أرسله الخليفة هشام بن عبد الملك وجله من أجناد الشام. وكان من ذيول هذه الهزيمة الأخيرة انفصال خيالة جند الشام بقيادة بلج بن بشر عن بقية الجيش في أقصى المغرب، فاحتموا بأسوار سبتة، حيث حاصرهم الثائرون حتى أوشكوا أن يموتوا جوعاً. ولم يقبل والي الأندلس عبد الملك بن قطن الفهري المدني الأصل تلبية طلبهم بدخول الأندلس لنقمته على الشاميين لما فعلوه بالمدينة في موقعة الحَرَّة، ولخشيته على سلطانه منهم، فهم كتلة من سبعة آلاف فارس، ودعمه عرب الأندلس البلديون خشية مشاركتهم لهم في أرزاقهم. ثم تغير الموقف بعدما شجعت انتصارات الصفرية في المغرب مغاربة الأندلس على الثورة التي استطاعوا فيها تهديد المشارقة كلهم، فاضطر الوالي إلى الاستعانة بقوى الشاميين وقبل نقلهم إلى الأندلس ضمن شرط تنتفي معه كل محاذير دخولهم، وهو أن يخرجوا من الأندلس بعد إخماد ثورة المغاربة. كما قبل شرطهم لضمان سلامتهم وهو نقلهم دفعة واحدة إلى شواطىء إفريقية الآمنة. وقد استطاع الشاميون تحقيق المهمة المنوطة بهم، فهزموا المغاربة الثائرين على كل المحاور التي سلكوها من الشمال باتجاه قُرْطُبة، في شَذُونَة وعلى مقربة من قُرْطُبة وعلى وادي سليط Guazalete بجهات طُلَيطُلة. ولما طلب الوالي بعد ذلك منهم الخروج وتملص من الوفاء بشرطهم، وهو نقلهم إلى إفريقية رفضوا طلبه وهاجموا القصر فخلعوه ونصبوا مكانه قائدهم بَلْج بن بشر القشيري. وبعد مدة قتلوا الوالي المخلوع، فتحرك لحربهم البلديون بقيادة ابنين له وانضم إليهم المغاربة، وعندما اقتربوا من قُرْطُبة جابههم الشاميون وهم في خمس عددهم وصدوهم. لكن قائدهم بلج أصيب بجراح توفي على أثرها بعد أيام قليلة في شوال عام 124هـ/742م فولّوا مكانه ثعلبة بن سلامة العاملي، الذي سارع إلى محاربة البلديين في جهات ماردة فانتصر وعاد إلى قُرْطُبةَ بعدد كبير من الأسرى تشفى منهم بالإذلال إذ عرض بيعهم بالمناقصة حتى بيع أحد الأشراف بكلب وآخر بعود. ولهذا ناشد عدد من الصالحين في الأندلس الخليفة إنقاذ بلدهم، فعيّن أبا الخطّار الحسام بن ضرار الكلبي والياً. وبعد تسلمه لمنصبه في رجب 125هـ/أيار 743م وضع صيغة حل ملائمة، إذ هدأ من ثائرة الشاميين بإبقائهم في الأندلس، وأزال مخاوف البلديين من مشاركة هؤلاء لهم في أرزاقهم بجعله رزق الشاميين على ثلث ما يؤديه أهل الذمة. كما خلص سلطة الوالي في قُرْطُبةَ من هيمنتهم بتوزيعهم على الكُوَر، مختاراً لكل جند منهم الكورة المشابهة لموطنه. فأنزل جند دمشق في إلبيرة، وجند الأردن في ريّة (مالقة) وجند فلسطين في شذونة، وجند حمص في إشْبِيلِيَة وجند قِنَّسْرين في جَيّان. وقسّم جند مصر بين باجة في الغرب وتُدْمير في الشرق.
ب - النزاع بين القيسية واليمانية: تبع ارتقاء أبي الخطار سدّة الحكم احتدام نار العصبية القبلية في قاعدة الدولة وامتدت إلى الولايات ومنها المغرب والأندلس. وبدت عليه دلائل انحياز لعصبيته اليمانية، فأهان في مجلسه زعيم القيسية الصَّميل بن حاتم الكلابي، وهو يحاول رفع ظلامة لحقت بقيسي. ورد هذا بمحاولة قلب حكم أبي الخطّار، فتمكن أولاً من رصّ صفوف القيسية، بإزالة الجفاء بينه وبين زعيم غطفان. ثم أفلح في شق صفوف اليمانية ذات الأكثرية العددية، بالتحالف مع لخم وجذام بإحلال زعيم منهما هو ثوابة بن سلامة العاملي محل أبي الخطار. واجه المتحالفون أبا الخطار في شَذونة، فهزموه لكثرتهم ولتراخي بعض اليمانية من أنصاره؛ لأن الولاية ستنتقل إلى يماني آخر، وذلك في رجب سنة 127هـ/نيسان745م، وأُدخل أبو الخطار السجن.
دام حكم ثوابة أكثر من عام، فقد توفي في محرم 129هـ /تشرين أول 746م وتنازع قومه على وراثته ما بين ابنه عمرو ويحيى بن حريث، وبقيت الأندلس شهوراً بلا وال، اقترح بعدها الصميل اختيار قرشي للمنصب كما يفعل المشارقة عند تنازع القبائل على الحكم، فقبل اقتراحه لتلهف الجميع إلى إنهاء الفوضى. ثم ضمن تعيين مرشحه يوسف بن عبد الرحمن الِفهْري بعد إرضاء يحيى بن حريث بكورة ريّة طُعمة. وكان الوالي الجديد المنحدر من نسل عقبة بن نافع مسناً معتزلاً على شيمة أهل الخير، فكان واجهة بَرَّاقة لا خبرة لها في الحكم الذي مارسه الصَميل فعلياً. وصرف همه إلى الانتقام من اليمانية فعزل يحيى بن حريث عن رَيَّة، وأدى هذا إلى توحيد صفوف اليمانيين. فقام بعضهم بإخراج أبي الخطار من سجنه لتتحالف قبيلته مع جذام، جعلوا الحكم لزعيمها يحيى بن حريث. جرت الموقعة بين الفريقين سنة 130هـ/747 في شقندة وقد اعتزلها يوسف، وقاد الصميل القيسية ولما نهكت الحرب الفريقين استعان الصَّميل، بعامة قُرْطُبة وأحرز النصر، ثم قتل أبا الخطار وابن حريث بعد وقوعهما في أسره وحمل بقية الأسرى إلى قرطبة القريبة، وأقام من نفسه مدعياً وقاضياً وجلاداً فقتل سبعين منهم، ثم توقف بتدخل زعيم غطفان بعد ما كاد يهمّ بقتل المزيد.
استقر الحكم بعد ذلك للقيسية وساعد على ذلك حلول القحط بالأندلس لعدة سنوات. وكان يوسف قد تمرس في شؤون الحكم فرام التخلص من وصاية الصميل بإبعاده إلى سَرَقُسْطَة حاكماً لها. وقبل الصميل ذلك على كثرة اليمانية فيها، وتمكن بكرمه من إرضاء جميع الفئات، لكن اليمانية لم تنس ثاراتها وحقها في الحكم، فما إن انقضت سنوات القحط حتى تحركت سنة 136هـ/753م واعتمدت على دعامتين معنويتين: الأولى واجهة براقة تمثلت في عامر بن عمرو القُرشي العَبْدَري من قريش البطاح لا من قريش الظواهر كالفهري، والثانية الادعاء بأن ثورتهم قامت باسم الخليفة العباسي. وقد وجهوا ضربتهم نحو رأس القيسية الصميل فحاصروا سَرَقُسْطَة مدة أربعة شهور، فتحركت القيسية لنجدته وفكّوا الحصار. وكان ضمن جيشهم داعية عبد الرحمن الداخل ومولاه بدر مع زعماء موالي الأمويين في الأندلس، الذين استغلوا الحادثة لجس نبض القيسية وزعيمها تجاه دعوة سيدهم. ولما أدركوا رفضهم لها، تحولوا نحو اليمانية الذين كانوا في حاجة إلى مثله كي يدركوا ثأرهم، مثلما كان هو في حاجة إلى أعدادهم الكثيرة لإقامة ملك الأمويين وإنهاء عصر الولاة.
أحمد بدر
اندلس (تاريخيا جغرافيا)
Al-Andalus - Al-Andalûs
الأندلس تاريخياً
فتح الأندلس
1ـ أحوال الأندلس قبل الفتح: اتسم فتح الأندلس باليسر والسرعة مقارنة بفتح المغرب الذي سبقها مباشرة. ويمكن تفسير ذلك بوضع الأندلس التي كانت تعيش آنذاك مرحلة أزمة تفاقمت لعدة عقود، كان الحكام قبلها وهم قوط غزاة قد أفلحوا في تحقيق الاندماج بين مجتمعهم والمجتمع الإسباني، وذلك بالتخلي عن مذهبهم الأريوسي واعتناق الكاثوليكية مذهب السكان، وبوضع قانون واحد مبني على تقاليد الطرفين وأعرافهما ضمن الوحدة القانونية. لكن هذا المجتمع لم يلبث أن انقسم إلى نبلاء يملكون معظم الأرض، وأقنان يعملون فيها. أما على الصعيد الديني فقد علا مقام رجال الكنيسة الكبار فأفلحوا في توجيه سياسة الدولة نحو اضطهاد الأقلية اليهودية حتى فُرِض التنصر عليهم، ونزع أولادهم منهم بحجة عدم صدقهم في التنصر، والخشية من تربية هؤلاء الأولاد على اليهودية، مما خلق أقلية بالغة النقمة تنشد الخلاص ولو على يد غاز. وفي الوقت نفسه تفاقمت أزمة سياسية بين مؤيدي تطوير النظام الجرماني من الملكية الانتخابية إلى الوراثية، والنبلاء الحريصين على امتيازاتهم في انتخاب الملك. وقد نال ويتيثا Witiza الذي يسميه العرب غيطشة، عرشه وراثة عن أبيه، وقد خفف من اضطهاد اليهود، فأثار عليه بذلك سخط النبلاء ورجال الكنيسة، وزاد هذا السخط محاولته تأكيد نظام الوراثة بتسمية ابنه أخيلا Aquila (وِقْلَة عند العرب) ولياً لعهده وإعطائه حكم شمالي إسبانية. ولما توفي غيطشة عام 90هـ /708م، لم يتمكن ابنه من دخول طُلَيْطُلة والجلوس على العرش، وقام النبلاء بانتخاب دوق قُرْطُبة رودريغو Rodrigo (لذريق أو رذريق عند العرب) فقدم إلى العاصمة التي هرب منها أفراد أسرة غيطشة. ثم قوى سلطانه بعد أن خضع له أَخَوان لوِقْلَة وتسلم وظائف مهمة في جيشه.
2ـ عمليات الفتح: اتصل يوليان بموسى بن نصير، مباشرة أو عن طريق طارق بن زياد وعرض عليه إمداده بالسفن والأدلاء لغزو الأندلس، كما هوّن من شأن المقاومة فيها. وبناء على أمر الخليفة تم التأكد من صدق يوليان ومن عداوته للذريق، بقيامه بغارة على جهات الجزيرة الخضراء، عاد منها بسرعة حاملاً الغنائم والسبي. كما اختبر العرب ضعف المقاومة بتوجيه غارة قاد فيها طريف بن مالك أربعمئة راجل ومئة فارس نزلوا في ميناء أندلسي قريب من الشاطىء المغربي للمضيق، حمل منذ ذلك الوقت اسم طريف Tarrif، وأحرزوا نجاحاً مماثلاً لما حققه يوليان.
قامت الحملة الكبرى في رجب أو شعبان سنة 91هـ/ نيسان أو أيار سنة 710م، بقيادة طارق بن زياد وتألفت من سبعة آلاف مجاهد حملتهم أربع سفن ليوليان على دفعات وأنزلتهم في سفح جبل كالبي Calpe الذي حمل اسم طارق فيما بعد. ورفده موسى بن نصير بعد ذلك بخمسة آلاف مقاتل. توافقت عملية الإنزال مع انشغال لذريق بمحاربة الخارجين عليه في بمبلونة بأقصى شمالي الأندلس. وتبعه تحرك طارق لاحتلال بقية الخليج المتصل بالجبل، الذي تقع في أعلاه مدينة قرطجنة Cartagena الصغيرة، وينتهي على بعد ستة أميال بالموقع الذي سمي الجزيرة الخضراء، مما يدل على سعيه لإيجاد خليج بحري للاتصال مع قاعدته. لكن روايات متأخرة تنفرد بنسبة عملين آخرين إلى طارق أولهما إحراق السفن وثانيهما خطبته المشهورة. وهذان الأمران موضع نظر وبحث.
بعدما علم لذريق بنزول طارق اتجه مسرعاً إلى الجنوب على رأس جيش اختلفت الروايات في تقدير عدده بين الأربعين ألفاً والمئة ألف. أما طارق فلم يسر إلا مسافة يسيرة نحو الشمال الغربي نحو بحيرة خاندا التي تمتد عدة كيلومترات في موازاة البحر، ويعبرها نهر بَرْبَاط Barbat (الشائع تسميته في المصادر العربية بوادي لكُّه)، وهناك حمى طارق جناحي جيشه بمانعين طبيعيين هما البحيرة من جانب ومرتفعات جبال ريتين المجاورة من جانب آخر، وبذلك حرم خصمه الاستفادة من نقاط تفوقه في العدد لأن الميدان ضيق.
بدأت المعركة في 28 رمضان91هـ/31 تموز 710م ودامت ثمانية أيام انتهت بهزيمة لذريق وموته غرقاً على الأرجح. وربما ساعد العرب على إحراز هذا النصر خيانة جرت في جيش لذريق، إذ إن ششبرت وأبه قريبي وقلة، كانا يقودان الميمنة والميسرة في جيش لذريق وقد انسحبا في أوج المعركة كي يجرا عليه الهزيمة وكانا يظنان أن العرب سوف ينسحبون من الأندلس بعد امتلاء أيديهم بالغنائم، أما ابن القوطية، سليل أسرة غيطشة من ناحية الأم والمولع بالاعتماد على روايات الشعوبيين من مولدي الأندلس، فيذكر أن الانسحاب تم بالاتفاق مع طارق الذي وعدهما برد ضياع أبيهما إليهما البالغ عددها ثلاثة آلاف ضيعة.
كان نصر العرب مُكلفاً إذ خسروا ربع عددهم، لكنه كان من ناحية أخرى الحدث الحاسم في الفتح، لأنه حطم أكبر قوة ضاربة أمكن للقوط جمعها، كما كان من جملة غنائم المسلمين خيول كافية لإركاب المجاهدين جميعاً وقد مكنتهم من طي المراحل بسرعة. إذ إن طارقاً لم يتوقف في مكانه بانتظار سيده كما أُمِر، بل تابع تقدمه لاستثمار النصر، فهاجم أولاً مدينة إِستِجَة على نهر شنيل حيث احتمت فلول المنهزمين، وأحرز نصراً آخر بعد معركة حامية. لكن متابعة الفتح بهذا الأسلوب، من حرب المعاقل كان يضطره إلى التوقف عند كل مدينة مما يفسح في المجال للقوط لجمع أمرهم، لذلك عمل بنصيحة يوليان مرافقه باتباع طريقة الحرب الخاطفة، فأرسل قوات قليلة إلى مدن مالَقَة وغرناطة وقُرْطُبَة. وقد فتحت هذه الأخيرة بعد حصار المولى مغيث لها ثلاثة شهور، في حين كان طارق يخترق شبه الجزيرة من وسطها بسرعة خاطفة حتى وصل إلى طُلَيْطُلة العاصمة قبل حلول الشتاء. ويبدو أن وصوله كان مفاجأة كاملة لأصحابها فهرب كبار النبلاء ورجال الكنيسة، ولم تبد المدينة مقاومة تذكر فدخلها طارق وجنده وغنموا كثيراً من النفائس التي بهرت عقول الناس، فأطلق بعضهم العنان لخياله في ابتداع الصور الخيالية عنها. ويبدو أن طارقاً تابع تقدمه نحو الجبال المحيطة بها ففتح وادي الحجارة ثم عاد إلى طليطلة لقضاء فصل الشتاء.
نزل موسى بن نصير في الجزيرة الخضراء في رمضان سنة 92هـ/ حزيران وتموز 711م، مع عشرة آلاف أو ثمانية عشر ألف مجاهد، أكثرهم من العرب. ولم يكن قدومه إلى الأندلس بدافع الحسد لاستئثار طارق بشرف الفتح، كما يرى بعض المؤرخين، بل كان استجابة لضرورات تأمين الفتح واستكماله لأن طارق بن زياد اخترق الجزيرة من وسطها وترك على جانبيه معاقل مهمة قوتها بالمقاومة الشديدة التي واجهت بها موسى، بحيث استغرق فتح معاقل الغرب من الجنوب إلى الوسط أكثر من سنة. بدأت غزوات موسى بفتح مدينة شَذُونة Medina Sidonia ثم قَرْمُوِنة الحصينة التي فتحت بالحيلة، وبعدها اضطر إلى التوقف أمام إشْبِيليَة محاصراً عدة شهور. وأبدت ماردَة إثر ذلك مقاومة أشد، إذ حاربه أهلها خارجها كما أوقعوا بالذين حاولوا اختراق السور ثم استسلمت. ولما غادرها موسى شمالاً نحو طُلَيْطُلة خرج طارق للقائه فاجتمعا في مدينة طَلَبِيرَة، وكان اللقاء عاصفاً بحسب الروايات التي تباينت قي تحديد مدى الجفاء الذي أظهره موسى لتابعه، ومع ذلك أبقى موسى طارقاً في موقعه القيادي وأمره بمتابعة الفتح، سواء كان برفقة مولاه كما حصل عند فتح سَرَقُسْطَة على وادي إِبرو، أو منفرداً عندما سار على خط روماني قديم متجهاً غرباً نحو جليقية حيث مدن أماية وليون واشتُرقة Astorga في السفوح الجنوبية لجبال أشتوريش وجليقية. وقام موسى في أثناء ذلك بفتح لارِدَة على أحد روافد الإبْرو، ثم اتجه غرباً ليفتح مدن الساحل الشمالي الذي يحيط بجبال مناطق أشتوريش وجليقية من الشمال مثل أوبيدو (أوفيدو) وخيخون. وبذلك اضطر بعض سكان السهول المحيطة بهذه الجبال، سواء في الشمال أو في الجنوب، ممن لم يرغب في الاستسلام للعرب إلى ارتقاء هذه الجبال الوعرة والتحصن بها، حيث تكونت النواة الأولى للمقاومة الإسبانية في المراحل اللاحقة.
غادر موسى إثر ذلك الأندلس برفقة مولاه طارق تنفيذاً لأمر الخليفة أواخر سنة 95هـ/أيلول 714م، تاركاً حكمها لابنه عبد العزيز. وصل موكبه الكبير الذي ضم الأسرى والسبي والغنائم إلى دمشق قبيل وفاة الوليد بن عبد الملك سنة 96هـ/715م.
3ـ عصر الولاة (97 - 138هـ /716- 756م): أقام عبد العزيز بن موسى بن نصير يدير شؤون الأندلس من مقره في إشبيلية، مستكملاً أعمال الفتح التي ساعد أباه فيها سابقاً، ولعل أهم أعماله في هذا المضمار إخضاعه تُدْمِير، فدخلت المنطقة في ذمة المسلمين. وفي رجب 97هـ/آذار716م اغتاله زياد بن عُذرة البَلَوي وهو يؤم الناس في الصلاة واتُهم عبد العزيز بن موسى بن نصير بالخروج عن الإسلام بتأثير زوجته أم عاصم أرملة لذريق التي ألبسته التاج وجعلت القادمين عليه يركعون له.
شغر منصب الولاية مدة إثر ذلك، إلى أن اتفق قادة الجند على تقديم أيوب بن حبيب اللخمي ابن أخت موسى الذي كان يؤمهم في صلاتهم، وبدأ عصر جديد هو عصر الولاة الذي استمر ما يزيد قليلاً على أربعين عاماً، وانتهى ببيعة عبد الرحمن الداخل بالإمارة سنة 138هـ/756م. وتوالى على الحكم فيها عشرون والياً هم:
أيوب بن حبيب اللخمي، حتى ذي الحجة 97هـ/ آب 716م
الحر بن عبد الرحمن الثقفي حتى رمضان 100هـ/ نيسان 719م
السمح بن مالك الخولاني حتى ذي الحجة 102هـ/كانون الثاني 721م
عبد الرحمن الغافقي (المرة الأولى) حتى صفر 103هـ/ آب 721م
عنبسة بن كليم الكلبي حتى شعبان 107هـ/ كانون الثاني 726م
عذرة بن عبد الله الفهري حتى شوال 107هـ / آذار 726م
يحيى بن سلمة الكلبي حتى ربيع الأول 110هـ/ شباط728م
حذيفة بن الأحوص القبسي حتى شعبان 110هـ/ تشرين الثاني 728م
عثمان بن أبي نِسْعَة الخثعمي حتى محرم 111هـ/ نيسان 729م
الهيثم بن عبيد الكلابي حتى ذي القعدة 111هـ/ شباط 730م
محمد بن عبد الله الأشجعي حتى صفر 112هـ/ نيسان 730م
عبد الرحمن الغافقي(المرة الثانية) حتى رمضان 114هـ/ تشرين أول 732م
عُقبة بن الحجاج السلولي حتى صفر 123هـ/ كانون الثاني 741م
عبد الملك بن قطن الفهري حتى ذي القعدة 123هـ/ أيلول 741م
بَلْج بن بشر القشيري حتى شوال 124هـ/ آب 742م
ثعلبة بن سلامة العاملي أو الجذامي حتى رجب 125هـ/ أيار 743م
أبو الخطار الحُسام بن ضِرار الكلبي حتى رجب 127هـ/ نيسان 745م
ثوابة بن سَلامة الجُذامي حتى 129هـ/ 746م
يوسف بن عبد الرحمن الفهري من ربيع ثاني 129هـ/ كانون أول 746م إلى ذي الحجة 138هـ/أيار 756م.
انصرف جل اهتمام هؤلاء الولاة إلى متابعة أعمال الفتح في النصف الأول من هذه الحقبة في حين شغلتهم المنازعات الداخلية في النصف الثاني، مما جعل العصر عصر اضطراب دلت عليه هذه القائمة الطويلة من الولاة.
4ـ الفتح في غاليش (فرنسة): استمرت أعمال الفتح في هذه البلاد نحو عشرين عاماً لم يعرف فيها استقرار على أراضيها، وكانت غارات المسلمين تتوغل حتى أعماق مختلفة وتتبدل المحاور فيها من حملة إلى أخرى. وبعد أن فتح طارق الأندلس أرسل إلى بَرْشَلونة حملة عبرت جبال البيرنيه (البرانس أو البرتات كما يسميها عرب الأندلس) وتوغلت في حوض الرون فدخلت أَرْبُونَة ثم صخرة أبينيون (أفينيون Avignon) فحصن لودون (ليون اليوم) على نهر رُدُونه (الرون اليوم). واستطاع شارل مارتل إخراجهم منها وأقام فيها الحصون بعد ذلك، في حين احتمى العرب بحصون أَرْبُونة، التي استعادها الفرنج على الأرجح في مرحلة الاضطراب التي أعقبت اغتيال عبد العزيز بن موسى بن نصير. ثم استعادها السمح بن مالك الخولاني وجعلها قاعدة للفتح على محور آخر هو حوض الغارون حتى وصل إلى طَلُّوشة (تولوز) وحاصرها، فأنجدها دوق أكيتانية وقُتل السمح في المعركة حولها وتفرق جيشه. ثم تجدد الفتح بعد أربع سنوات وقاده عنبسة بن سحيم الكلبي إلى بورغونية ودخل قَرْقَشُونَة، ودفع أهلها الجزية تعبيراً عن خضوعهم وحرروا أسرى المسلمين فيها، ثم صعد شمالاً حتى ماكون وشالون. وفي طريق عودته هاجمته جموع فرنجية كبيرة فأُصيب بجراح توفي على أثرها في شعبان 107هـ/كانون الثاني 726م.
قامت أكبر الغارات بعد سبع سنوات بقيادة عبد الرحمن الغافقي، الذي حشد جنده في بمبلونة في صيف عام 114هـ/732م، وعبر جبال البيرنيه إلى بوردو على نهر الغارون، فهزم بجوارها دوق أكيتانية وتابع تقدمه شمالاً. أما على الطرف الآخر فقد كان حاجب الدولة الميروفنجية شارل مارتل قد هيأ منذ زمن مستلزمات الصمود أمام خطر العرب، فأدخل عنصر الفرسان بأعداد كبيرة في جيشه، بعدما كان محاربو قومه مشاة لا قبل لهم بمواجهة العرب الفرسان السريعي الحركة. وتحرك لنجدة دوق أكيتانية جنوباً فدخل مدينة تور على اللوار قبل وصول العرب إليها، ثم واجههم وهم مثقلون بالغنائم في نقطة تقع على طريق روماني قديم وتبعد عشرين كيلومتراً إلى الشمال الشرقي من مدينة بواتيه حيث وقعت المعركة في رمضان 114هـ/732م واستشهد فيها عبد الرحمن الغافقي مع عدد كبير من جنده. أطلق المؤرخون المسلمون على المعركة اسم بلاط الشهداء، ولو أنهم لم يخصوها بتفاصيل تذكر تمييزاً لها من غيرها، في حين عدّها الدارسون الأوربيون قديماً وحديثاً واحدة من المعارك الفاصلة في التاريخ، لأن نصر شارل مارتل وضع حداً للتوسع العربي الإسلامي على الأرض الأوربية وحمى أوربة كلها. لم يفقد العرب مع ذلك كل وجود لهم في غاليش بل بقيت قاعدتهم أربونة في حوزتهم مدة ثلاثين سنة أخرى، وبقي حاكمها يقوم بغارات في حوض الرون ولو أنها أقل عمقاً. وربما كان ذلك نتيجة للمقاومة الفرنجية أو لانشغال الولاة بالصراعات الداخلية في الأندلس.
الصراع الداخلي
كان مجتمع الأندلس في هذا العصر حديث التكوّن يفتقر إلى التجانس بين فئاته، وإلى التماسك ضمن الفئة الواحدة. ويمكن تمييز فئتين كبيرتين فيه: فئة الفاتحين وفئة سكان البلد المفتوح الذين تركت لهم حرية العقيدة والحفاظ على قوانينهم وإن لم يحل ذلك دون محاولة نشر الإسلام بالحسنى كفعل الوالي عُقبة بن الحجاج، الذي أسلم على يديه ألف أسير بالإقناع. وأدت دوافع أخرى عدا الإقناع إلى اعتناق الإسلام، كظفر العبيد بالحرية وتوفير العدالة للأقنان، أو حفظ المكانة والثروة لبعض أفراد الأسرة المالكة. وقد أطلق العرب على الداخلين في الإسلام اسم المُسالِمة في حين شاع اسم المولَّدين للجيل التالي. وأطلقوا على الباقين على دينهم اسم العجم أو المعاهَدين، وربما اقتصر استخدام مصطلح أهل الذمة على اليهود وقد تقرب هؤلاء من الفاتحين الذين أنقذوهم من الاضطهاد. ومع هذا التفتت الذي أصاب هذه الفئة فإنها ظلت هادئة طوال هذه الحقبة ولم يشارك أحد منهم في اضطراب إلا حالة واحدة التحق فيها بعض من غير المسلمين بفتنة عذرة بن عبد الله الفهري.
كان التفتت أكبر في جماعة الفاتحين الذين كانوا فئتين كبيرتين: مشارقة (عرب) ومغاربة (بربر)، وكان جلّ هؤلاء الأخيرين من شمالي المغرب الأقصى الجبلي المجاور للمضيق، اتخذوا لأنفسهم منازل في الأندلس، في المناطق المشابهة لبلادهم، كوسط الأندلس وشماليها، حيث كانوا أيضاً على مقربة من ميادين الغزو في غاليش. ولم يتيسر لهم النزول في أحواض الأنهار الخصبة ولاسيما في الجنوب لاستئثار المشارقة بها أو لعدم تقدير المغاربة لها حق قدرها. ولما انقطعت عنهم موارد الفتح جهروا بالشكوى من سوء معاملتهم، إذ احتفظ المشارقة في الأندلس بالنظرة نفسها لهم في المغرب كسكان بلاد مفتوحة.
أما فئة المشارقة (العرب) فكانت مؤلفة من وحدات كثيرة هي القبائل التي احتفظت كل منها بكيانها، لأن كل قبيلة كونت وحدة عسكرية ثم سكنية في الغالب، وقد حملت معها عصبياتها من المشرق. كعصبية الانتماء إلى القبيلة أو الجذم (قيس أو يمن)، وقد ساق ابن حزم في كتابه جمهرة أنساب العرب ما يدل على وجود اثنين وأربعين فرعاً من فروع اليمانية. وقد أدت هذه العصبية إلى التنافس بين القبائل على الزعامة في كل جذم. فقد فازت قبيلة كلب بالزعامة على اليمانية أمداً طويلاً، ونافستها عليها كل من قبيلتي لخم وجذام. وحُرمت غطفان بين القيسية الزعامة وحازتها قبائل ربيعة بن عامر بن صعصعة، وفي إطار هذه القبيلة قامت المنافسة بين كلاب وكعب بفرعيها قُشير وعُقيل. ومما حملته القبائل من عصبيات المشرق عصبية الموطن، كالحجاز والشام والعراق، وأضيف إليها في الأندلس عصبية النازلين فيها منذ زمن الفتح الذين سُمّوا بلديين في مقابل الطارئين الجدد الشاميين.
أضيفت إلى هذه العصبيات في الأندلس أسباب ملائمة لانفجار الصراع فيما بينها، فلم تكن هناك قاعدة ثابتة في تعيين الولاة، الذين يعينهم إما والي المغرب وإما الخليفة وإما القوى المحلية الأندلسية. كما أن أرض الأندلس لم تقسم كما تقسم الغنائم، ولم توقف على المسلمين كما حصل في البلاد المفتوحة الأخرى، بل سادت فيها قاعدة كل يد وما أخذت، وتكاد المشاركة في هذه الصراعات تكون عامة، ولعل الاستثناء الوحيد هو وجود فئة صغيرة اعتزلتها عرفت باسم الصالحين، انصرف رجالها إلى بناء المساجد كالحنش الصنعاني، أو لإصلاح ذات البين عند احتدام الصراعات، أو مراقبة التزام الحكام الشرع، كما حصل في زمن الفتح. وشكا بعضهم من خرق قادة الفتح لهذا الالتزام في بعض أعمالهم.
بدأت ضروب الصراع هذه بين الفئات المتباعدة ثم تعمقت شيئاً فشيئاً إلى أن وصلت إلى القبيلة الواحدة، كما تدل على ذلك وقائعها.
آ - الصراع بين المشارقة والمغاربة: كان هذا فاتحة الصراع الداخلي، وانطلقت شرارته الأولى من المغرب، حيث ثار المغاربة تحت راية الخوارج الصفرية منطلقين من طنجة سنة 122هـ /739م، وألحقوا بجند الوالي هزائم عدة، ثم أضافوا إليها هزيمة أخرى لهم وللمدد الذي أرسله الخليفة هشام بن عبد الملك وجله من أجناد الشام. وكان من ذيول هذه الهزيمة الأخيرة انفصال خيالة جند الشام بقيادة بلج بن بشر عن بقية الجيش في أقصى المغرب، فاحتموا بأسوار سبتة، حيث حاصرهم الثائرون حتى أوشكوا أن يموتوا جوعاً. ولم يقبل والي الأندلس عبد الملك بن قطن الفهري المدني الأصل تلبية طلبهم بدخول الأندلس لنقمته على الشاميين لما فعلوه بالمدينة في موقعة الحَرَّة، ولخشيته على سلطانه منهم، فهم كتلة من سبعة آلاف فارس، ودعمه عرب الأندلس البلديون خشية مشاركتهم لهم في أرزاقهم. ثم تغير الموقف بعدما شجعت انتصارات الصفرية في المغرب مغاربة الأندلس على الثورة التي استطاعوا فيها تهديد المشارقة كلهم، فاضطر الوالي إلى الاستعانة بقوى الشاميين وقبل نقلهم إلى الأندلس ضمن شرط تنتفي معه كل محاذير دخولهم، وهو أن يخرجوا من الأندلس بعد إخماد ثورة المغاربة. كما قبل شرطهم لضمان سلامتهم وهو نقلهم دفعة واحدة إلى شواطىء إفريقية الآمنة. وقد استطاع الشاميون تحقيق المهمة المنوطة بهم، فهزموا المغاربة الثائرين على كل المحاور التي سلكوها من الشمال باتجاه قُرْطُبة، في شَذُونَة وعلى مقربة من قُرْطُبة وعلى وادي سليط Guazalete بجهات طُلَيطُلة. ولما طلب الوالي بعد ذلك منهم الخروج وتملص من الوفاء بشرطهم، وهو نقلهم إلى إفريقية رفضوا طلبه وهاجموا القصر فخلعوه ونصبوا مكانه قائدهم بَلْج بن بشر القشيري. وبعد مدة قتلوا الوالي المخلوع، فتحرك لحربهم البلديون بقيادة ابنين له وانضم إليهم المغاربة، وعندما اقتربوا من قُرْطُبة جابههم الشاميون وهم في خمس عددهم وصدوهم. لكن قائدهم بلج أصيب بجراح توفي على أثرها بعد أيام قليلة في شوال عام 124هـ/742م فولّوا مكانه ثعلبة بن سلامة العاملي، الذي سارع إلى محاربة البلديين في جهات ماردة فانتصر وعاد إلى قُرْطُبةَ بعدد كبير من الأسرى تشفى منهم بالإذلال إذ عرض بيعهم بالمناقصة حتى بيع أحد الأشراف بكلب وآخر بعود. ولهذا ناشد عدد من الصالحين في الأندلس الخليفة إنقاذ بلدهم، فعيّن أبا الخطّار الحسام بن ضرار الكلبي والياً. وبعد تسلمه لمنصبه في رجب 125هـ/أيار 743م وضع صيغة حل ملائمة، إذ هدأ من ثائرة الشاميين بإبقائهم في الأندلس، وأزال مخاوف البلديين من مشاركة هؤلاء لهم في أرزاقهم بجعله رزق الشاميين على ثلث ما يؤديه أهل الذمة. كما خلص سلطة الوالي في قُرْطُبةَ من هيمنتهم بتوزيعهم على الكُوَر، مختاراً لكل جند منهم الكورة المشابهة لموطنه. فأنزل جند دمشق في إلبيرة، وجند الأردن في ريّة (مالقة) وجند فلسطين في شذونة، وجند حمص في إشْبِيلِيَة وجند قِنَّسْرين في جَيّان. وقسّم جند مصر بين باجة في الغرب وتُدْمير في الشرق.
ب - النزاع بين القيسية واليمانية: تبع ارتقاء أبي الخطار سدّة الحكم احتدام نار العصبية القبلية في قاعدة الدولة وامتدت إلى الولايات ومنها المغرب والأندلس. وبدت عليه دلائل انحياز لعصبيته اليمانية، فأهان في مجلسه زعيم القيسية الصَّميل بن حاتم الكلابي، وهو يحاول رفع ظلامة لحقت بقيسي. ورد هذا بمحاولة قلب حكم أبي الخطّار، فتمكن أولاً من رصّ صفوف القيسية، بإزالة الجفاء بينه وبين زعيم غطفان. ثم أفلح في شق صفوف اليمانية ذات الأكثرية العددية، بالتحالف مع لخم وجذام بإحلال زعيم منهما هو ثوابة بن سلامة العاملي محل أبي الخطار. واجه المتحالفون أبا الخطار في شَذونة، فهزموه لكثرتهم ولتراخي بعض اليمانية من أنصاره؛ لأن الولاية ستنتقل إلى يماني آخر، وذلك في رجب سنة 127هـ/نيسان745م، وأُدخل أبو الخطار السجن.
دام حكم ثوابة أكثر من عام، فقد توفي في محرم 129هـ /تشرين أول 746م وتنازع قومه على وراثته ما بين ابنه عمرو ويحيى بن حريث، وبقيت الأندلس شهوراً بلا وال، اقترح بعدها الصميل اختيار قرشي للمنصب كما يفعل المشارقة عند تنازع القبائل على الحكم، فقبل اقتراحه لتلهف الجميع إلى إنهاء الفوضى. ثم ضمن تعيين مرشحه يوسف بن عبد الرحمن الِفهْري بعد إرضاء يحيى بن حريث بكورة ريّة طُعمة. وكان الوالي الجديد المنحدر من نسل عقبة بن نافع مسناً معتزلاً على شيمة أهل الخير، فكان واجهة بَرَّاقة لا خبرة لها في الحكم الذي مارسه الصَميل فعلياً. وصرف همه إلى الانتقام من اليمانية فعزل يحيى بن حريث عن رَيَّة، وأدى هذا إلى توحيد صفوف اليمانيين. فقام بعضهم بإخراج أبي الخطار من سجنه لتتحالف قبيلته مع جذام، جعلوا الحكم لزعيمها يحيى بن حريث. جرت الموقعة بين الفريقين سنة 130هـ/747 في شقندة وقد اعتزلها يوسف، وقاد الصميل القيسية ولما نهكت الحرب الفريقين استعان الصَّميل، بعامة قُرْطُبة وأحرز النصر، ثم قتل أبا الخطار وابن حريث بعد وقوعهما في أسره وحمل بقية الأسرى إلى قرطبة القريبة، وأقام من نفسه مدعياً وقاضياً وجلاداً فقتل سبعين منهم، ثم توقف بتدخل زعيم غطفان بعد ما كاد يهمّ بقتل المزيد.
استقر الحكم بعد ذلك للقيسية وساعد على ذلك حلول القحط بالأندلس لعدة سنوات. وكان يوسف قد تمرس في شؤون الحكم فرام التخلص من وصاية الصميل بإبعاده إلى سَرَقُسْطَة حاكماً لها. وقبل الصميل ذلك على كثرة اليمانية فيها، وتمكن بكرمه من إرضاء جميع الفئات، لكن اليمانية لم تنس ثاراتها وحقها في الحكم، فما إن انقضت سنوات القحط حتى تحركت سنة 136هـ/753م واعتمدت على دعامتين معنويتين: الأولى واجهة براقة تمثلت في عامر بن عمرو القُرشي العَبْدَري من قريش البطاح لا من قريش الظواهر كالفهري، والثانية الادعاء بأن ثورتهم قامت باسم الخليفة العباسي. وقد وجهوا ضربتهم نحو رأس القيسية الصميل فحاصروا سَرَقُسْطَة مدة أربعة شهور، فتحركت القيسية لنجدته وفكّوا الحصار. وكان ضمن جيشهم داعية عبد الرحمن الداخل ومولاه بدر مع زعماء موالي الأمويين في الأندلس، الذين استغلوا الحادثة لجس نبض القيسية وزعيمها تجاه دعوة سيدهم. ولما أدركوا رفضهم لها، تحولوا نحو اليمانية الذين كانوا في حاجة إلى مثله كي يدركوا ثأرهم، مثلما كان هو في حاجة إلى أعدادهم الكثيرة لإقامة ملك الأمويين وإنهاء عصر الولاة.
أحمد بدر
تعليق