الفيض
الفيض emanation كلمة لاتينية بمعنى الصدور procession، وهو مقولة فلسفية ترتبط بالنظرة الجدلية للعالم، أي إنها تحاول تفسير العلاقة بين العالم المفارق والعالم المادي المحسوس. ويقوم مذهب الفيض على القول إن الموجودات صدرت أو فاضت عن الأول، أي الله، كما يفيض النور عن الشمس. وقد فاضت هذه الموجودات عن الله وفق نظام متراتب الدرجات، وليس دفعة واحدة، فالواحد لا يصدر عنه إلا واحدا، ثم يصدر عن هذا الواحد، واحد آخر، وهكذا إلى آخر مراتب العقول والأنفس والأجسام.
ويعد أفلوطين[ر] Plotinus أول من قال بهذا المذهب في كتابه «التاسوعات». فهو يفسّر نشأة الكون برده إلى مبدأ أعلى هو الخير الأول أو الله، يصدر عنه الخلق كالإشعاع أو الدفق، بحكم الطبع والضرورة (لا عن إرادة واختيار) وهو سرمدي، ولا يقلل هذا التدفق الدائم من الأصل. ويكون الصدور من الأكمل إلى الأنقص، بحيث يظل المبدأ الأول أو الأقنوم الأول في كماله وتمامه. وينبثق عنه العقل، ويقال له الأقنوم الثاني، وهو صورة للأقنوم الأول وانعكاس لنوره يتولد منه، وهذا العقل دون الأول، وأقل منه كمالاً، ويضعه أفلوطين في منزلة صانع العالم، كما هو عند أفلاطون[ر] Plato، ويحتوي على مُثُلٍ شبيهة بمثل أفلاطون، عدا مثال الخير الذي هو الأول. ثم يفيض من الثاني أقنوم ثالث، هو النفس الكلية، وهي أيضاً صورة للثاني وانعكاس لنوره، وهي آخر الموجودات في عالم العقول المنتمية إلى العالم الإلهي، إلا أنها دونه درجة، وبها تكون الصلة بين العالم الأعلى والعالم الأسفل، ويفيض منها فيوضات كثيرة، هي نفوس الكواكب ونفوس البشر وسائر الموجودات في العالم المحسوس.
ويمكن القول إن مقولة الفيض الأفلوطينية شكل آخر من أشكال القول «بوحدة الوجود» (خاصة الرواقية منها)، يتداخل فيها الكل في الكل، ويكون الله منبثاً في الأشياء غير متميز منها؛ فالأول يحوي كل شيء لأن الأدنى حاضر في الأعلى: فالجسم في النفس، والنفس في العقل، والعقل في الأول والأول والواحد في كل مكان. كما تقوم فكرة الفيض على أساس المفهوم القائل إن الأشياء جميعاً وكذلك الظواهر هي وحدات أضداد، ويعدُّ هيراقليطس[ر] Heraclitus رائد المادية القديمة والقائل بالتغير المستمر للأشياء والظواهر، أول من عبَّر عن نظرية الفيض بصيغته الشهيرة «كل الأشياء تفيض». ولاشك في وجود نفحات وتعابير فيضية في شتى الفلسفات والمذاهب، حيث تظهر بذور مذهب الفيض عند فيلون اليهودي[ر] Philo، وإن تجنب استعمال الكلمة، كما قال بالصدور أيضاً الغنوصيون، وعلى رأسهم ڤالنتينوسValentinus، بيد أنهم يضعون الصانع في مرتبة أدنى من الأيونات الخيرة، ويزعمون أنه في أفعاله هو علة الشرور في العالم.
وقد وصلت نظرية الفيض إلى العرب عن طريق الخطأ بسبب نسب كتاب «ثيولوجيا» الأفلوطيني الأصل إلى أرسطو الذي حاز ثقة عميقة عند فلاسفة العرب المسلمين، فاعتمدوا هذه النظرية ظناً منهم أنها أرسطية.
وفي مجال الفلسفة العربية الإسلامية[ر] يعد الفارابي[ر] أول من وضع نظرية الفيض الأفلوطينية في سياق التطور التاريخي للفلسفة العربية، كعلم وأيديولوجيا. وقد استفاد كثيراً من أفلوطين، كما تأثر بحديث أرسطو[ر] عن عقول الكواكب، إضافة إلى بعض أفكار بطلميوس الفلكي[ر]، في صياغة نظريته عن الفيض. فمزج تعاليمهم بعضها ببعض وأكمل ذلك، بما أضفاه عليها من مسحات مستقاة من المذهب الإسماعيلي والصابئة والتصوف[ر]، وصبغ كل ذلك بصبغة إسلامية واضحة في إطار من التفلسف الديني يتلاءم مع عقائد عصره وثقافته، فتحدث بالتفصيل، وخاصة في كتابه «آراء أهل المدينة الفاضلة» عن كيفية صدور جميع الموجودات عن الأول: أي الله، وعن مراتب هذه الموجودات، وكيفية صدور كثير عن الواحد، بقوله إن «الأول هو الذي عنه وجد. ومتى وجد للأول الوجود الذي هو له، لزم ضرورة أن يوجد عنه سائر الموجودات»، والكائنات الأقرب للمبدأ هي الأكمل، ومنها تفيض كائنات أدنى.
كما أخذ ابن سينا بمذهب الفيض أو الصدور، ولم يختلف جوهر نظريته عما هو عليه عند الفارابي، إلا في جعله الفيض يصدر أثلاثاً أثلاثاً، بمعنى أنه يصدر عن كل عقل ثلاثة فيوضات متدرجة في الشرف والرتبة، لا اثنين فقط، كما كانت الحال عند الفارابي. ويعود الفضل لابن سينا في إيضاح أفكار عديدة وتعميقها، فكانت نظريته أكثر انسجاماً وتماسكاً من نظرية الفارابي، مما أدى إلى ذيوعها وانتشارها على نحو واسع. وقد عقد ابن سينا لهذا الغرض فصولاً عدة في كثير من كتبه «الشفاء والنجاة» و«الإشارات والتنبيهات» يبين فيها كيفية تسلسل الموجودات، وأن «الواحد لايصدر عنه إلا واحد». كما شرح كيفية تساوق العلة للمعلول، وخلص إلى إثبات أزلية المبدأ الأول: الله والعالم، وإن كان الأول يتقدَّم بالرتبة والشرف.
ومن الذين نقدوا القول بالفيض، الفيلسوف أبو البركات البغدادي[ر] في كتابه »المعتبر في الحكمة«. كذلك ابن رشد[ر] نقد في كتابه «تهافت التهافت» بشدة القول بالفيض زاعماً «أن الواحد مادامت لديه القدرة، فإنه يصدر عنه الكثرة».
وتأثرت الاتجاهات الصوفية بنظرية الفيض، وتجلّت فكرة الوسائط بمظهرها الفلسفي عند الإسماعيلية، وفسروا الوجود والمعرفة على أساس إيجادِ عليّةً إفاضة لأنوار المعرفة: فالله يبدع العقل الأول، وهذا ينتج النفس، ثم هذه تتجه بحركتها نحو الكمال، فتحدث الأفلاك السماوية، وبحركتها تحدث الكائنات المادية، ومنها الإنسان الذي يتميز من سائر الكائنات باستعداده لتلقي الفيض المعرفي، وعلى هذا يتم الفيض الإسماعيلي بفضل حركتين: حركة إبداع من الله نحو الوسائط وهي حركة هابطة، وحركة اشتياق من النفس إلى كمال العقل وهي حركة صاعدة.
كذلك يهدف السهروردي[ر] في فلسفته الإشراقية إلى إثبات مبدأ واحد للوجود، هو النور الذي يفيض من المصدر الأعلى نور الأنوار، هابطاً درجة درجة إلى النهاية السفلى، وكل درجة من الفيض هي وجود نوراني، ولكن كلما انحدر درجة انخفض مستوى النور، حتى إذا بلغ الدرجة الجرمية، عالم الأجسام، تضاءل النور حتى الاضمحلال.
ويؤكد السهروردي أنَّ الواحد لايصدر عنه إلا موجود واحد هو النور الإبداعي الأول، وهو منتهى جميع الممكنات، وتستمر حركة الفيض متخذة اتجاهاً ثنائياً مرة هابطاً، باعتبار شدة نوريتها بالنسبة لما دونها، ويعبر عنه بحركة الإشراق، ومرة أخرى صاعداً باعتبار ضعف نوريتها بالنسبة لما فوقها من الأنوار العليا، ويعبر عن هذا الاتجاه بالمشاهدة. وعلى الرغم من اختلاف فعلي الإشراق والمشاهدة من حيث الاتجاه، إلا أنهما يتحدان من حيث الوظيفة المزدوجة، ويشارك كل منهما في عملية الإيجاد من جهة، وطريق المعرفة من جهة ثانية، فتتحد بهذه الصورة عملية الإيجاد والمعرفة في عملية الفيض.
واقتنع الفلاسفة المسيحيون في العصور الوسطى بالفيض، ومن بين هؤلاء جون سكوت إريجينا[ر] Erigena في كتابه «تقسيم الطبيعة». وتوما الأكويني[ر] Aquinas الذي فسَّر الصدور على أساس فكرة المشاركة، والتفسير نفسه تبناه إيكهارت[ر] Eckhart، وكان التعارض، آنذاك حاداً بين نظرية الفيض ونظرية الخلق، فصار مذهب الفيض نقيض مذهب الخلق والتطور، فالأول يفترض مبدأ علوياً يخلق الكائنات من العدم أو من مادة سابقة موجودة منذ الأزل إلى جانب المبدأ الخالق، والثاني يفترض صدور الكائنات من بعضها بعضاً في سلسلة متطورة للأحسن، أي من الأقل كمالاً إلى الأكمل، ويجري في عملية التطور التغير على المبدأ. والعمليتان، سواء الخلق أم التطور، حقيقتان تقومان في الزمان.
ويمكن القول إن نظرية الفيض حلّت ألغازاً معرفية في الفكر الفلسفي، والإسلامي منه خاصة، فقد أسهمت في إيجاد بعض الحلول لمعضلات اتصال العالم الحسي بالعالم المفارق، على الرغم من بتِّها بوحدة الوجود بشكل أو بآخر، فقدمت نظرية متسقة مترابطة يأخذ فيها السابق بعنق اللاحق في نظام منطقي متسلسل معقول.
عبد الحميد الصالح
الفيض emanation كلمة لاتينية بمعنى الصدور procession، وهو مقولة فلسفية ترتبط بالنظرة الجدلية للعالم، أي إنها تحاول تفسير العلاقة بين العالم المفارق والعالم المادي المحسوس. ويقوم مذهب الفيض على القول إن الموجودات صدرت أو فاضت عن الأول، أي الله، كما يفيض النور عن الشمس. وقد فاضت هذه الموجودات عن الله وفق نظام متراتب الدرجات، وليس دفعة واحدة، فالواحد لا يصدر عنه إلا واحدا، ثم يصدر عن هذا الواحد، واحد آخر، وهكذا إلى آخر مراتب العقول والأنفس والأجسام.
ويعد أفلوطين[ر] Plotinus أول من قال بهذا المذهب في كتابه «التاسوعات». فهو يفسّر نشأة الكون برده إلى مبدأ أعلى هو الخير الأول أو الله، يصدر عنه الخلق كالإشعاع أو الدفق، بحكم الطبع والضرورة (لا عن إرادة واختيار) وهو سرمدي، ولا يقلل هذا التدفق الدائم من الأصل. ويكون الصدور من الأكمل إلى الأنقص، بحيث يظل المبدأ الأول أو الأقنوم الأول في كماله وتمامه. وينبثق عنه العقل، ويقال له الأقنوم الثاني، وهو صورة للأقنوم الأول وانعكاس لنوره يتولد منه، وهذا العقل دون الأول، وأقل منه كمالاً، ويضعه أفلوطين في منزلة صانع العالم، كما هو عند أفلاطون[ر] Plato، ويحتوي على مُثُلٍ شبيهة بمثل أفلاطون، عدا مثال الخير الذي هو الأول. ثم يفيض من الثاني أقنوم ثالث، هو النفس الكلية، وهي أيضاً صورة للثاني وانعكاس لنوره، وهي آخر الموجودات في عالم العقول المنتمية إلى العالم الإلهي، إلا أنها دونه درجة، وبها تكون الصلة بين العالم الأعلى والعالم الأسفل، ويفيض منها فيوضات كثيرة، هي نفوس الكواكب ونفوس البشر وسائر الموجودات في العالم المحسوس.
ويمكن القول إن مقولة الفيض الأفلوطينية شكل آخر من أشكال القول «بوحدة الوجود» (خاصة الرواقية منها)، يتداخل فيها الكل في الكل، ويكون الله منبثاً في الأشياء غير متميز منها؛ فالأول يحوي كل شيء لأن الأدنى حاضر في الأعلى: فالجسم في النفس، والنفس في العقل، والعقل في الأول والأول والواحد في كل مكان. كما تقوم فكرة الفيض على أساس المفهوم القائل إن الأشياء جميعاً وكذلك الظواهر هي وحدات أضداد، ويعدُّ هيراقليطس[ر] Heraclitus رائد المادية القديمة والقائل بالتغير المستمر للأشياء والظواهر، أول من عبَّر عن نظرية الفيض بصيغته الشهيرة «كل الأشياء تفيض». ولاشك في وجود نفحات وتعابير فيضية في شتى الفلسفات والمذاهب، حيث تظهر بذور مذهب الفيض عند فيلون اليهودي[ر] Philo، وإن تجنب استعمال الكلمة، كما قال بالصدور أيضاً الغنوصيون، وعلى رأسهم ڤالنتينوسValentinus، بيد أنهم يضعون الصانع في مرتبة أدنى من الأيونات الخيرة، ويزعمون أنه في أفعاله هو علة الشرور في العالم.
وقد وصلت نظرية الفيض إلى العرب عن طريق الخطأ بسبب نسب كتاب «ثيولوجيا» الأفلوطيني الأصل إلى أرسطو الذي حاز ثقة عميقة عند فلاسفة العرب المسلمين، فاعتمدوا هذه النظرية ظناً منهم أنها أرسطية.
وفي مجال الفلسفة العربية الإسلامية[ر] يعد الفارابي[ر] أول من وضع نظرية الفيض الأفلوطينية في سياق التطور التاريخي للفلسفة العربية، كعلم وأيديولوجيا. وقد استفاد كثيراً من أفلوطين، كما تأثر بحديث أرسطو[ر] عن عقول الكواكب، إضافة إلى بعض أفكار بطلميوس الفلكي[ر]، في صياغة نظريته عن الفيض. فمزج تعاليمهم بعضها ببعض وأكمل ذلك، بما أضفاه عليها من مسحات مستقاة من المذهب الإسماعيلي والصابئة والتصوف[ر]، وصبغ كل ذلك بصبغة إسلامية واضحة في إطار من التفلسف الديني يتلاءم مع عقائد عصره وثقافته، فتحدث بالتفصيل، وخاصة في كتابه «آراء أهل المدينة الفاضلة» عن كيفية صدور جميع الموجودات عن الأول: أي الله، وعن مراتب هذه الموجودات، وكيفية صدور كثير عن الواحد، بقوله إن «الأول هو الذي عنه وجد. ومتى وجد للأول الوجود الذي هو له، لزم ضرورة أن يوجد عنه سائر الموجودات»، والكائنات الأقرب للمبدأ هي الأكمل، ومنها تفيض كائنات أدنى.
كما أخذ ابن سينا بمذهب الفيض أو الصدور، ولم يختلف جوهر نظريته عما هو عليه عند الفارابي، إلا في جعله الفيض يصدر أثلاثاً أثلاثاً، بمعنى أنه يصدر عن كل عقل ثلاثة فيوضات متدرجة في الشرف والرتبة، لا اثنين فقط، كما كانت الحال عند الفارابي. ويعود الفضل لابن سينا في إيضاح أفكار عديدة وتعميقها، فكانت نظريته أكثر انسجاماً وتماسكاً من نظرية الفارابي، مما أدى إلى ذيوعها وانتشارها على نحو واسع. وقد عقد ابن سينا لهذا الغرض فصولاً عدة في كثير من كتبه «الشفاء والنجاة» و«الإشارات والتنبيهات» يبين فيها كيفية تسلسل الموجودات، وأن «الواحد لايصدر عنه إلا واحد». كما شرح كيفية تساوق العلة للمعلول، وخلص إلى إثبات أزلية المبدأ الأول: الله والعالم، وإن كان الأول يتقدَّم بالرتبة والشرف.
ومن الذين نقدوا القول بالفيض، الفيلسوف أبو البركات البغدادي[ر] في كتابه »المعتبر في الحكمة«. كذلك ابن رشد[ر] نقد في كتابه «تهافت التهافت» بشدة القول بالفيض زاعماً «أن الواحد مادامت لديه القدرة، فإنه يصدر عنه الكثرة».
وتأثرت الاتجاهات الصوفية بنظرية الفيض، وتجلّت فكرة الوسائط بمظهرها الفلسفي عند الإسماعيلية، وفسروا الوجود والمعرفة على أساس إيجادِ عليّةً إفاضة لأنوار المعرفة: فالله يبدع العقل الأول، وهذا ينتج النفس، ثم هذه تتجه بحركتها نحو الكمال، فتحدث الأفلاك السماوية، وبحركتها تحدث الكائنات المادية، ومنها الإنسان الذي يتميز من سائر الكائنات باستعداده لتلقي الفيض المعرفي، وعلى هذا يتم الفيض الإسماعيلي بفضل حركتين: حركة إبداع من الله نحو الوسائط وهي حركة هابطة، وحركة اشتياق من النفس إلى كمال العقل وهي حركة صاعدة.
كذلك يهدف السهروردي[ر] في فلسفته الإشراقية إلى إثبات مبدأ واحد للوجود، هو النور الذي يفيض من المصدر الأعلى نور الأنوار، هابطاً درجة درجة إلى النهاية السفلى، وكل درجة من الفيض هي وجود نوراني، ولكن كلما انحدر درجة انخفض مستوى النور، حتى إذا بلغ الدرجة الجرمية، عالم الأجسام، تضاءل النور حتى الاضمحلال.
ويؤكد السهروردي أنَّ الواحد لايصدر عنه إلا موجود واحد هو النور الإبداعي الأول، وهو منتهى جميع الممكنات، وتستمر حركة الفيض متخذة اتجاهاً ثنائياً مرة هابطاً، باعتبار شدة نوريتها بالنسبة لما دونها، ويعبر عنه بحركة الإشراق، ومرة أخرى صاعداً باعتبار ضعف نوريتها بالنسبة لما فوقها من الأنوار العليا، ويعبر عن هذا الاتجاه بالمشاهدة. وعلى الرغم من اختلاف فعلي الإشراق والمشاهدة من حيث الاتجاه، إلا أنهما يتحدان من حيث الوظيفة المزدوجة، ويشارك كل منهما في عملية الإيجاد من جهة، وطريق المعرفة من جهة ثانية، فتتحد بهذه الصورة عملية الإيجاد والمعرفة في عملية الفيض.
واقتنع الفلاسفة المسيحيون في العصور الوسطى بالفيض، ومن بين هؤلاء جون سكوت إريجينا[ر] Erigena في كتابه «تقسيم الطبيعة». وتوما الأكويني[ر] Aquinas الذي فسَّر الصدور على أساس فكرة المشاركة، والتفسير نفسه تبناه إيكهارت[ر] Eckhart، وكان التعارض، آنذاك حاداً بين نظرية الفيض ونظرية الخلق، فصار مذهب الفيض نقيض مذهب الخلق والتطور، فالأول يفترض مبدأ علوياً يخلق الكائنات من العدم أو من مادة سابقة موجودة منذ الأزل إلى جانب المبدأ الخالق، والثاني يفترض صدور الكائنات من بعضها بعضاً في سلسلة متطورة للأحسن، أي من الأقل كمالاً إلى الأكمل، ويجري في عملية التطور التغير على المبدأ. والعمليتان، سواء الخلق أم التطور، حقيقتان تقومان في الزمان.
ويمكن القول إن نظرية الفيض حلّت ألغازاً معرفية في الفكر الفلسفي، والإسلامي منه خاصة، فقد أسهمت في إيجاد بعض الحلول لمعضلات اتصال العالم الحسي بالعالم المفارق، على الرغم من بتِّها بوحدة الوجود بشكل أو بآخر، فقدمت نظرية متسقة مترابطة يأخذ فيها السابق بعنق اللاحق في نظام منطقي متسلسل معقول.
عبد الحميد الصالح