عن امرأة اسمها ليلى
سعد القاسم
هي البهجة الطفولية ذاتها وان اختلفت صورها.. حين يترافق انزلاق الأرجل الصغيرة في رمال البحر الناعمة، أو في تراب الأرض الرطبة، بسعادة غامضة وبعض من خوف ممتع..
لسبب ما لم تعترف الطفلة الصغيرة، حتى بينها وبين نفسها، أن ما تفعله يوصف باللعب، ربما خجلت من حقها هذا وهي ترى ما ترى.. فآثرت أن تغلف لهوها البريء بعمل مفيد تجعل عنوانه مساعدة القرويات على جمع السلبين والخبيزة، وما يمكن العثور عليه في السهول الجرداء من أعشاب لها امكانية أن تكون طعاماً متواضعاً يمد أسرهن الجائعة بأسباب العيش في تلك السنوات القاسية من مطالع أربعينات القرن العشرين. أيام كانت الحرب الكونية تلتهم كل شيء.. الناس والبيوت والبلدان، وخيرات السماء والأرض..
ما كان لابنه (القائمقام) معرفة أن صور أولئك القرويين الذين عاشت طفولتها بينهم متنقلة من قرية إلى قرية مع انتقال عمل أبيها، ستظل محفوظة في ذاكرتها بنضارة لا تبهت لتخط لها طريق سنواتها القادمة.. لكن بعض ما أثار انتباهها في تلك الأيام كان ينبئ بهذا.. ففي غمرة اللعب المغلف بمساعدة الآخرين كانت عيناها تفتح أبواب التأمل والتفكير لتتدافع بعدئذ الأسئلة الوفيرة..
نظرت ملياً في الوجوه الشاحبة البائسة المتعبة المتشبسة بأضيق شعاعات الأمل… لكن الوجوم ملأ روحها وهي تحدق باستغراب في الأقدام الحافية المغروسة في التراب الرطب شديد البرودة.. هل كانت المقارنة بين ما تتخيله من برد قاس يمسك بتلك الأقدام المنهكة.. وبين الدفء اللذيذ الذي تتحسسه قدماها داخل الحذاء ذي الساق الطويلة هو ما أخجلها من لهوها الطفولي.. ودفعها أن تنفي - أمام ذاتها على الأقل - أي غاية لعملها سوى مساعدة القرويات؟..
قد تحمل الإجابة بقية الصور الباقية في ذاكرتها عن أطفال مدرستها يتنقلون قاطعين المسافات الشاسعة في برد الشتاء القارص بثياب رقيقة مهلهلة.. عن الفلاحين والعمال في محطة القطار يتناولون مفترشين الأرض أكثر وجبات طعامهم ترفاً وفخامة ورفاهية.. رغيف الخبز الأسود المحشو بقطعة من رغيف أبيض.. عن البازار حيث يتبادلون سلعهم الزهيدة في صفقات لا يمكن اعتبارها رابحة لأي طرف منهم.. ثم عن الجراد ذلك المشهد المفزع الذي لا يغيب عن ذاكرتها.. والوافد الكريه المرعب الذي قدم فجأة ليصل ببؤس القرويين إلى الحضيض ملتهماً في سرعة مخيفة كل نبتة متبقية.. وحارماً إياهم من النزر اليسير الذي كان يبقيهم على قيد الحياة…
لعشرات السنين القادمة لن تغيب عن مخيلتها صورة أسراب الجراد الهائلة تغطي وجه الشمس.. ومحاولات القرويين اليائسة لرد شرها بوسائل هزيلة لم يتوفر لهم سواها… وكيف لجأ بعضهم إلى التهام الغزاة أنفسهم يجمعونهم في أكياس الخيش المخصصة أصلاً لنتاج الأرض.. ثم يدفعون بهم إلى مواقد النار في حالة تلتقي عندها التقاط فرصة استمرار الحياة مع الرغبة في القصاص…
وبعد سنوات طويلة حين صار الرسم أميز وسائلها الإبداعية في التعبير عن مشاعرها وأحاسيسها وأفكارها خرجت تلك الصور إلى السطوح البيضاء للوحاتها بعيدة عما هو وثائقي أو فوتوغرافي.. بصياغة خاصة متفردة ومميزة صنفت تحت عنوان التعبيرية..
غابت عن لوحاتها صور لاتزال نضرة في ذاكرتها.. أقدام القرويات المغمورة بالتراب الرطب.. الرجال المرهقون المفترشون الأرض في البازار ومحطات القطار.. حلقات الفقراء يتقاسمون وجبات طعامهم الفقيرة.. الرجال والنساء والأطفال يطرقون بعنف على الأواني المعدنية علّ الصوت يطرد أسراب الجراد..
غابت كل تلك الصور عن لوحاتها بتفاصيلها الدرامية، فقد اختارت ليلى انتقاء ما هو أكثر جوهرية في المشهد البشري وأن تتجه لتصوير تعابير الوجوه، والأعين خاصة، مستعيدة تقاليد أسلافها من المصورين والنحاتين السوريين الذين آمنوا قبل آلاف السنين أن الرأس أهم ما في الإنسان، وأن الوجه أكثر ما يستحق الإظهار.. وأن العينين بوابة التقاء الإنسان بالعالم، والعالم بالإنسان.. فكما هما وسيلة معرفة المحيط.. هما أيضاً الطريق لاكتشاف كوامن المشاعر الإنسانية… وبتركيزها على وجوه وعيون أبطال لوحاتها اختزلت الحالات الإنسانية التي طالما تعاطفت معها مترجمة ببراعة مؤثرة أحاسيس الألم والقهر والخوف.. وفي مقابلها تعابير الصلابة والتحدي والشجاعة..
حلت ليلى بالمركز الأول في الشهادة الثانوية على محافظتها (اللاذقية) ونالت بذلك الحق بمنحة دراسية جامعية في مصر، فاختارت كلية الفنون.. ولما سئلت عن السبب قالت: أريد أن أكون مثل مايكل انجلو الذي تحدثت عنه بإسهاب بعد ذلك، وعن فنانين آخرين تركوا أثرهم في روحها المبدعة. في امتحان القبول بالقاهرة.. سألها أحد أعضاء لجنة الامتحان: من أين عرفت هؤلاء؟.. أجابت بعفوية وصراحة يسمان شخصيتها: من كتاب التاريخ المدرسي. وحين أخذ عليها أن تكون كتب الدراسة مصدر معلوماتها الوحيد، أجابته بأنها قادمة من مدينة لا يوجد فيها صحيفة.. غير أن امتحان الرسم كان له القول الفصل.. قال لها الفنان الكبير بيكار وهو يتأمل سلاسة خطها ورقته: أنت موهوبة لكنك ل اتعرفين الرسم.. تستعيد ليلى بعد سنوات طويلة هذا التعليق دون أي حرج.. ربما لقناعتها العميقة بالفارق الكبير بين ما كانت عليه قبل دخول الكلية وما صارت إليه.
إعجاب الأساتذة برسمها بقلم الرصاص حرمها دراسة النحت كما كانت ترغب.. وشجعهم على هذا الرقة التي اتصفت بها شخصية فتاة لاتزال في الثامنة عشرة من عمرها. ومع عدة تجارب في النحت بعد التخرج لم تستطع تحقيق رغبتها القديمة فقد أصيبت بكسر في كتفها وآخر في عظم القص، ثم انقراص في فقرات الرقبة حتى صارت ممارستها للنحت مستحيلة وهي المؤمنة أن لا معنى للنحت إن لم يكن بالحجر أو الرخام..
في القاهرة وجدت نفسها أمام أساتذة كبار أهمهم المتاحف المصرية الثرية والمتنوعة، وفي أحدها وقفت مشدوهة أمام براعة المعلمين الأوائل.. و في متحف آخر ركعت باكية أمام لوحة المنتحبات المصريات..
أدهشها بشكل خاص نحات مصر الكبير محمود مختار ورأت في عبقريته صلة وصل بين القديم والحديث، وإلى ما سبق كانت على تماس دائم مع ابداعات الفنانين المصريين المعاصرين.. ومن بينهم أساتذتها في الكلية فوفر ذلك مجتمعاً فرصة النمو الخلاق لمعارفها الفنية وذائقتها وذاكرتها البصرية، وقد امتلأت الآن بالكثير من الأشكال المتناغمة مع رؤيتها الفنية..
لقد استجاب الفن المصري لهواها الإبداعي، ووجدت في جمالياته الخاصة ماينسجم مع أسلوبها البادىء في التبلور، ففي الخط بساطة وتلخيص يوحيان بفراغ خارجي، مع رقة ولين في الآن ذاته، و هذا التضاد الذي شغفت به قبل ذلك منذ تأثرها بوقت واحد بمايكل انجلو وفان كوخ وموديلياني جعلته ينوس في لوحاتها بين قوة التعبير من جهة.. وبين الرقة والشعر من جهة ثانية.. وفي حين سعى الفن الحديث منذ بداياته أواخر القرن التاسع عشر إلى (تحرير) التشكيل من تأثيرات الأدب، فإن ليلى الفنانة المجددة المعاصرة لا تجد حرجاً في الحديث عن الشعر، بل استعاضت به لبعض الوقت عن الرسم اثر تخرجها قبل أن تتمكن من توفير مكان ترسم فيه وتعبر عن مشاعرها على سطح اللوحة.. حكت كتاباتها الشعرية عن ذاتها.. عن مشاعر امرأة شابة ألهب الحب قلبها... بخلاف لوحاتها التي بقيت تحكي عن الآخرين دائماً.. لكن للآخرين مكانهم الأهم في جانب آخر من ابداعاتها الأدبية.. القصة القصيرة..
لقد ابتكرت ليلى إلى جانب أسلوبها الخاص، تقنياتها الخاصة، وهي هنا أيضاً لم تفعل ذلك بغاية الاستعراض، وإنما للحصول على تأثير بصري محدد يحمل الرؤية الفلسفية الفنية في كل مرحلة، وكل لوحة. وإذا كانت الطباعة أكثر تقنياتها شهرة فهي لم تكن لتنفصل بحال من الأحوال عن الروح العامة التي ميزت لوحاتها في مسيرة تطورها الإبداعي، والتي امتلكت عدة صفات بقيت حاضرة في معظم أعمالها.. قوة الرسم وشفافية اللون وغناه التعبيري رغم زهده.. وإذا وضعنا جانباً رسومها المنفذة بقلم الرصاص التي تكشف عن مقدرة فريدة وبراعة مدهشة وتضاد لوني قوي بين درجات الأبيض والأسود، فإنها في أعمالها الملونة اتخذت مساراً ظل ينحو باستمرار نحو شفافية تتلاقى مع شفافية روحها وأحاسيسها، ومنذ تجربتها مطلع الستينات مع التجريد مروراً بالواقعية وصولاً إلى تعبيريتها يبدو هذا المسار جلياً دون أدنى التباس..
ترحل ليلى تاركة إرثاً فنياً مذهلاً يتمثل بمشاركات بالغة الأهمية في معارض فنية جماعية، وعشرات المعارض الفردية وبراءات تقدير من وزارة الثقافة ومجلس الوزراء تعود إلى أواخر الستينات، وتكريم خاص في بينالي المحبة في اللاذقية، وجائزة الدولة التقديرية لعام 2018 وعدد كبير من اللوحات المحفوظة في المتاحف وعند ذواقي الفن الراقي.. ويتوج ذلك كله حضور مشرق في المشهد التشكيلي السوري والعربي.. وفي الحياة الثقافية.
حضور جعل اسم ليلى نصير أساسياً في تاريخ الفن التشكيلي لا بحكم ريادتها كامرأة فنانة، وانما بحكم دورها المؤثر والحيوي والخاص.
* من نص أعددته لكتاب (نساء سورية) – إشراف: نبيل صالح – إصدار: الهيئة السورية لشؤون الأسرة 2008 (مع تعديل طفيف).