"شلبي": هل ينقذ المهمّشون السينما المصرية؟
محمد جميل خضر 16 أغسطس 2023
سينما
فيلمٌ ينحاز للبسطاء يفشل بالتخلّص من نمطية التنمّر
شارك هذا المقال
حجم الخط
في محاولة طريفة ظريفة لإنقاذ السينما المصرية، يُقَدِّمُ فيلم "شلبي" (2023)، من إخراج بيتر ميمي، وتأليف مصطفى حمدي، وبطولة كريم محمود عبد العزيز، وروبي، نفسه بوصفه شهادة حسن سلوك للمهمّشين في أزقة مصر وشوارعها الخلفية.
بالطَّرقِ المُباشِر
بطرقٍ مباشرٍ على آفاق فكرة الفيلم وحدوتته والناس الذين ينحاز لهم، وبعد أن يهدي ميمي شريطه إلى "روح صلاح سقّا، رائد فن تحريك العرائس في مصر" (صلاح السقا هو والد الفنان أحمد السقا، وتعود أصوله إلى غزّة)، ومع الموسيقى اللطيفة لخالد الكمار صاحب الموسيقى التصويرية في الفيلم، يطل علينا (شلبي)، وشلبي هو دمية تنتمي إلى فن العرائس، تتحرك بواسطة خيطان وتنطق بصوت محركها، يرافقه عازفون من الدمى أيضًا، ليقول لنا: "أهلًا وسهلًا بيكم في حكاية الناس اللي ولا حاجة... الناس الشفّافة... اللي بتعدّي من جنبك وقدّامك، أو حتى ماشيين وراك، بس إنت مش حاسس بيهم، ولا همّه كمان حاسّين بنفسهم... إيه يللا بينا... يللا بينا".
هي، إذًا، سرديّة المهمّشين (الناس اللي ولا حاجة)، ولكن، وفي الوقت نفسه، المحمّلين أحلامًا وشجنًا وإصرارًا على أن يُلْتَفَتَ إليهم، ولو من باب لعبة دمى، وهل نحن، في نهاية المطاف، سوى لعبة الأقدار، وتزاحم المصائر، وتلاطم أمواج الواقع المرير؟
تغيير وجهات
هل يغيّر بيتر ميمي في "شلبي"، وجهات موضوعات أفلامه؟ ليس تمامًا، فهو كلما تعاون مع الكاتب مصطفى حمدي، عاد وركّز على البسطاء، الفقراء، المهمّشين، المتمسّكين بأيِّ طاقةِ فرج، أو فرصة عبور، حدث هذا الأمر حين تعاون كلاهما لإنجاز فيلم "من أجل زيكو" (2022)، وكان معهم، أيضًا، في فريق التمثيل كريم محمود عبد العزيز، وشاركته منّة شلبي دور البطولة. العائلة المعدمة تجد نفسها فجأة أمام مجدٍ غير متوقّع عندما أُعلموا، بالخطأ، أن ابنهم زيكو نال شرف المشاركة في مسابقة "أذكى طفل في مصر". في التعاون الأول بينه وبين حمدي، قدّم ميمي "حارة مزنوقة" (2015)، الذي لم يرتقِ لِمستوى الفيلميْن اللاحقيْن من مسيرة تعاونهما، وإن كان لم ينس، بشكلٍ، أو بآخر، حارات المنسيين، الباحثين عن أي فرصة للخروج من القاع، حتى لو عن طريق الجريمة.
وإلى حدٍّ ما، اقترب في "برد الشتا" (2015) من عالم المهمّشين، وقصص الداخلين إلى طوارئ مستشفى حكوميّ. هو، على كل حال، كان بدأ بسلسلة سينمائية أطلق عليها اسم "المستضعفون"، من تأليفه وإخراجه، وقدم فيها فيلميّ "الهرم الرابع" (2016)، و"موسى" (2021)، الذي يلج فيه دوامة الخيال العلمي وأفلام الروبوت، وصولًا إلى "برد الشتا" المُشار إليه، وأوّل أفلام هذه السلسلة زمنيًّا. وقد يكون في "عقدة الخواجا" (2018) اقترب قليلًا من عالم المعدمين، ولكن الحلول هناك وعين كاميرته لم ترتق إلى تجلّياته في "شلبي".
لا في أفلامه "حرب كرموز" (2018)، و"كازابلانكا" (2019)، ولا في مسلسلاته جميعها: "الاختيار" (2020، 2021 و2022) بأجزائه الثلاثة، و"كلبش" (2017، 2018 و2019) بأجزائه الثلاثة أيضًا، و"الأب الروحي" (2017)، ولا في أعمال أُخرى له، يحقق هذا الانحياز اللافت، الذي تجلّى أكثر وضوحًا في "شلبي" شكلًا ومضمونًا.
ولعل الحديث عن تغيير وِجْهةٍ سابق لأوانه في حالة مخرج من طراز بيتر ميمي غزير الإنتاج لا يكاد يخلو عام منذ انطلاقته عام 2008، كمخرج وصانع أفلام، بعد انطلاقته عام 2004، كطبيب ترك الطب وتفرّغ للسينما، من دون أن تكون له في ذلك العام بصمة سينمائية وأخرى تلفزيونية، وربما أكثر من بصمة هنا، وبصمة هناك، كما حدث في بعض الأعوام (عامي 2017 و2018 على سبيل المثال). فالواضح أن الرجل يراهن، ولا يزال، على ترك الرؤى السينمائية تغربل نفسها بنفسها، ناهيكم عن ضغط الظروف المحيطة؛ السياسية والاجتماعية والإنتاجية ("الاختيار" مثلًا).
ثم إن الحديث عن تغيير الوجهات يحتّم التعريج على فيلمه الثاني لهذا العام "بيت الروبي" (2023)، الذي شارك فيه، أيضًا، كريم محمود عبد العزيز، إلى جوار كريم عبد العزيز، فهو ليس من نمط "شلبي"، ولا بروحانيّته، ولا حرارته، ولا صدق الدافعية فيه.
"شلبي" الأقل إيرادات من "بيت الروبي" (لا تقارن الإيرادات بينهما) هو الفيلم الذي ينبغي للسينما المصرية أن تفخر به، ولعل حيوية شباب ميمي (36 عامًا) تقوده إلى نضج الاستقرار على سينما من طراز "شلبي" وبهجته وشعاع الأصالة فيه.
تناقضات وملاحظات
أوّل تناقض أن مخرج "شلبي" هو نفسه مخرج "الاختيار"! وأن فيلمًا ينحاز إلى الناس البسطاء يفشل بالتخلّص من نمطية التنمّر التي اعتمدتها وتعتمدها أفلام مصرية بالغمزِ واللمزِ من قناة فنانين شعبيين أمثال شعبان عبد الرحيم في أفلام سابقة، وعبد الباسط حمودة في هذا الفيلم. أو باعتماد شكل ممثل؛ قصرِ طولِه مثلًا، أو عدم جماليات شكله مدخلًا للضحك. تناقضٌ ثالث أن الفيلم الذي يحض على العودة إلى الألعاب الشعبية، والفنون القائمة على مهارات بشرية حقيقية، مثل الأراجوز والحكواتيّ والبلياتشو، وعدم إدمان الألعاب الإلكترونية، يمرّر، رغم ذلك، مشهد استقبال (البونسيون) الذي تملكه سعدية (روبي) أطفال مدارس متسرّبين من مدارسهم ومدارسهنّ، يلعبون في قاعة أرضية هناك ألعاب إلكترونية مقابل دفعهم مصروفهم لطفلة توظّفها سعدية لمهمة جمع هذه الملاليم القليلة.
ومن الملاحظات أن بيتر ميمي لم يستطع أن يمنع نفسه من بعض حشوات (الأكشن)، وكوميديا (الأفيهات)، وإقحام أجواء الصعيد، وبنت العم التي لا بد أن يتزوّجها ابن العم، وركاكة بعض الحوارات.
ومن الملاحظات الإيجابية أن الممثل حاتم صلاح قدّم في الفيلم دورًا لافتًا يسجّل له، بشخصيته الإسكندرانية الحميمة، ممثلًا مسرحيًا نال، مرّة، شهادة تقدير عن دور صغير أدّاه فوق مسرح قريتهم (كفرِهِم/ عزبتِهم)، وتحديدًا من مركز شباب عزبة محسن، وهو يحتفظ بالشهادة ويحملها معه في حلّه وترحالِه، منتظرًا اتصال مخرج، أو منتج، أو مدير إنتاج، أو حتّى (أسايمِنت) به، ليبلغه عن تغيّب ممثّل، وحصوله على فرصة أن يحل مكان الممثل المتغيّب. وهو مثل باقي مهمّشي الفيلم يفقد تركيزه أمام الأضواء البرّاقة فاقدة الروح النديّة، وكل ما يحلم به أن يتصوّر مع نجمٍ معروف ليفرح والدته بصورةٍ له مع ذلك النجم، والدته التي كانت وهي وباقي (إخواته البنات) جمهوره الوحيد، في دوره الوحيد، وشهادة تقديره الوحيدة.
سريعًا، يلتقط شريف جزرة (اسم حاتم صلاح في الفيلم)، النقاط المشتركة بينه وبين صابر (كريم محمود عبد العزيز)، وسعدية (الممثلة والمغنية روبي)، وكارما بنت سعدية (أدت دورها باقتدار الطفلة لافينيا نادر).
بقعة ضوء
يصعدُ "شلبي" بقدرٍ معقولٍ فوق المستوى السينمائي المصري المعروض هذه الأيام. ويُفسح، بقوّة، مكانًا له تحت شمس الريف، والنِّجَع، والفضاءات المفتوحة، والحارات المرصوفة بالدفء والحنين.
وهو يميّز نفسه بأغنياته: أغنية "صابر" في مستهل الفيلم غناء كريم محمود عبد العزيز، الذي يغطي بقوّته الأدائية على ضعف قدراته الصوتية، وتشاركه حنان (الطفلة سيليا) الغناء (دويتو)، و"البطة السودة" غناء رامي جمال، وأحمد سالم، في منتصفه، و"قرنفل" في ختام الفيلم. والأغنيات الثلاث من كلمات منة عدلي القيعي، وألحان إيهاب عبد الواحد، وتوزيع أحمد طارق يحيى، مقابل الأغاني الممعنة بالإسفاف في كثير من الأفلام المصرية، التي لا بد أن تتصاحب مع ملهى ليليّ، وراقصات، وصخب مزعج، وغياب لمختلف مقاييس الجودة، وتكون عادة خارج سياق حدوتة الفيلم، وكل ما تفعله أنها تسرق دقائق ليست قليلة من مجموع دقائق تلك الأفلام، عكس أغنيات "شلبي" التي تبوح بأشجان شخصيات الفيلم، وتشكّل معاينة رشيقة لأحوالِهِم، وأحلامِهِم، ووجوهِ معاناتِهِم.
"شلبي" فيلم عن التفاني من أجل الطفولة... عن الدهشة الثاوية داخل قيم الجمال المشعّة بالبساطة والروح الشعبية... عن الحب الذي لا يتوسّلُ التعبير عنه من خلال مشاهد غير أسرية في فيلم تحلو مشاهدته مع أفراد الأسرة جميعهم على اختلاف أعمارهم.
عن (جَدْعَنَةِ) الأقل حظًّا رغم قسوة ظروفهم، وضيق ذات أيديهم، وغيابِ آفاقِ توقّعٍ مشجّعةٍ لهم، وسهولة تفكيك تطلّعاتِهم، والانتباه إلى قليلِ كلفتها، ونضارةِ غاياتِها، وعذوبةِ طهارتِها.
محمد جميل خضر 16 أغسطس 2023
سينما
فيلمٌ ينحاز للبسطاء يفشل بالتخلّص من نمطية التنمّر
شارك هذا المقال
حجم الخط
في محاولة طريفة ظريفة لإنقاذ السينما المصرية، يُقَدِّمُ فيلم "شلبي" (2023)، من إخراج بيتر ميمي، وتأليف مصطفى حمدي، وبطولة كريم محمود عبد العزيز، وروبي، نفسه بوصفه شهادة حسن سلوك للمهمّشين في أزقة مصر وشوارعها الخلفية.
بالطَّرقِ المُباشِر
بطرقٍ مباشرٍ على آفاق فكرة الفيلم وحدوتته والناس الذين ينحاز لهم، وبعد أن يهدي ميمي شريطه إلى "روح صلاح سقّا، رائد فن تحريك العرائس في مصر" (صلاح السقا هو والد الفنان أحمد السقا، وتعود أصوله إلى غزّة)، ومع الموسيقى اللطيفة لخالد الكمار صاحب الموسيقى التصويرية في الفيلم، يطل علينا (شلبي)، وشلبي هو دمية تنتمي إلى فن العرائس، تتحرك بواسطة خيطان وتنطق بصوت محركها، يرافقه عازفون من الدمى أيضًا، ليقول لنا: "أهلًا وسهلًا بيكم في حكاية الناس اللي ولا حاجة... الناس الشفّافة... اللي بتعدّي من جنبك وقدّامك، أو حتى ماشيين وراك، بس إنت مش حاسس بيهم، ولا همّه كمان حاسّين بنفسهم... إيه يللا بينا... يللا بينا".
هي، إذًا، سرديّة المهمّشين (الناس اللي ولا حاجة)، ولكن، وفي الوقت نفسه، المحمّلين أحلامًا وشجنًا وإصرارًا على أن يُلْتَفَتَ إليهم، ولو من باب لعبة دمى، وهل نحن، في نهاية المطاف، سوى لعبة الأقدار، وتزاحم المصائر، وتلاطم أمواج الواقع المرير؟
تغيير وجهات
هل يغيّر بيتر ميمي في "شلبي"، وجهات موضوعات أفلامه؟ ليس تمامًا، فهو كلما تعاون مع الكاتب مصطفى حمدي، عاد وركّز على البسطاء، الفقراء، المهمّشين، المتمسّكين بأيِّ طاقةِ فرج، أو فرصة عبور، حدث هذا الأمر حين تعاون كلاهما لإنجاز فيلم "من أجل زيكو" (2022)، وكان معهم، أيضًا، في فريق التمثيل كريم محمود عبد العزيز، وشاركته منّة شلبي دور البطولة. العائلة المعدمة تجد نفسها فجأة أمام مجدٍ غير متوقّع عندما أُعلموا، بالخطأ، أن ابنهم زيكو نال شرف المشاركة في مسابقة "أذكى طفل في مصر". في التعاون الأول بينه وبين حمدي، قدّم ميمي "حارة مزنوقة" (2015)، الذي لم يرتقِ لِمستوى الفيلميْن اللاحقيْن من مسيرة تعاونهما، وإن كان لم ينس، بشكلٍ، أو بآخر، حارات المنسيين، الباحثين عن أي فرصة للخروج من القاع، حتى لو عن طريق الجريمة.
وإلى حدٍّ ما، اقترب في "برد الشتا" (2015) من عالم المهمّشين، وقصص الداخلين إلى طوارئ مستشفى حكوميّ. هو، على كل حال، كان بدأ بسلسلة سينمائية أطلق عليها اسم "المستضعفون"، من تأليفه وإخراجه، وقدم فيها فيلميّ "الهرم الرابع" (2016)، و"موسى" (2021)، الذي يلج فيه دوامة الخيال العلمي وأفلام الروبوت، وصولًا إلى "برد الشتا" المُشار إليه، وأوّل أفلام هذه السلسلة زمنيًّا. وقد يكون في "عقدة الخواجا" (2018) اقترب قليلًا من عالم المعدمين، ولكن الحلول هناك وعين كاميرته لم ترتق إلى تجلّياته في "شلبي".
لا في أفلامه "حرب كرموز" (2018)، و"كازابلانكا" (2019)، ولا في مسلسلاته جميعها: "الاختيار" (2020، 2021 و2022) بأجزائه الثلاثة، و"كلبش" (2017، 2018 و2019) بأجزائه الثلاثة أيضًا، و"الأب الروحي" (2017)، ولا في أعمال أُخرى له، يحقق هذا الانحياز اللافت، الذي تجلّى أكثر وضوحًا في "شلبي" شكلًا ومضمونًا.
ولعل الحديث عن تغيير وِجْهةٍ سابق لأوانه في حالة مخرج من طراز بيتر ميمي غزير الإنتاج لا يكاد يخلو عام منذ انطلاقته عام 2008، كمخرج وصانع أفلام، بعد انطلاقته عام 2004، كطبيب ترك الطب وتفرّغ للسينما، من دون أن تكون له في ذلك العام بصمة سينمائية وأخرى تلفزيونية، وربما أكثر من بصمة هنا، وبصمة هناك، كما حدث في بعض الأعوام (عامي 2017 و2018 على سبيل المثال). فالواضح أن الرجل يراهن، ولا يزال، على ترك الرؤى السينمائية تغربل نفسها بنفسها، ناهيكم عن ضغط الظروف المحيطة؛ السياسية والاجتماعية والإنتاجية ("الاختيار" مثلًا).
""شلبي" فيلم عن التفاني من أجل الطفولة، عن الدهشة الثاوية داخل قيم الجمال المشعّة بالبساطة والروح الشعبية" |
ثم إن الحديث عن تغيير الوجهات يحتّم التعريج على فيلمه الثاني لهذا العام "بيت الروبي" (2023)، الذي شارك فيه، أيضًا، كريم محمود عبد العزيز، إلى جوار كريم عبد العزيز، فهو ليس من نمط "شلبي"، ولا بروحانيّته، ولا حرارته، ولا صدق الدافعية فيه.
"شلبي" الأقل إيرادات من "بيت الروبي" (لا تقارن الإيرادات بينهما) هو الفيلم الذي ينبغي للسينما المصرية أن تفخر به، ولعل حيوية شباب ميمي (36 عامًا) تقوده إلى نضج الاستقرار على سينما من طراز "شلبي" وبهجته وشعاع الأصالة فيه.
تناقضات وملاحظات
أوّل تناقض أن مخرج "شلبي" هو نفسه مخرج "الاختيار"! وأن فيلمًا ينحاز إلى الناس البسطاء يفشل بالتخلّص من نمطية التنمّر التي اعتمدتها وتعتمدها أفلام مصرية بالغمزِ واللمزِ من قناة فنانين شعبيين أمثال شعبان عبد الرحيم في أفلام سابقة، وعبد الباسط حمودة في هذا الفيلم. أو باعتماد شكل ممثل؛ قصرِ طولِه مثلًا، أو عدم جماليات شكله مدخلًا للضحك. تناقضٌ ثالث أن الفيلم الذي يحض على العودة إلى الألعاب الشعبية، والفنون القائمة على مهارات بشرية حقيقية، مثل الأراجوز والحكواتيّ والبلياتشو، وعدم إدمان الألعاب الإلكترونية، يمرّر، رغم ذلك، مشهد استقبال (البونسيون) الذي تملكه سعدية (روبي) أطفال مدارس متسرّبين من مدارسهم ومدارسهنّ، يلعبون في قاعة أرضية هناك ألعاب إلكترونية مقابل دفعهم مصروفهم لطفلة توظّفها سعدية لمهمة جمع هذه الملاليم القليلة.
ومن الملاحظات أن بيتر ميمي لم يستطع أن يمنع نفسه من بعض حشوات (الأكشن)، وكوميديا (الأفيهات)، وإقحام أجواء الصعيد، وبنت العم التي لا بد أن يتزوّجها ابن العم، وركاكة بعض الحوارات.
ومن الملاحظات الإيجابية أن الممثل حاتم صلاح قدّم في الفيلم دورًا لافتًا يسجّل له، بشخصيته الإسكندرانية الحميمة، ممثلًا مسرحيًا نال، مرّة، شهادة تقدير عن دور صغير أدّاه فوق مسرح قريتهم (كفرِهِم/ عزبتِهم)، وتحديدًا من مركز شباب عزبة محسن، وهو يحتفظ بالشهادة ويحملها معه في حلّه وترحالِه، منتظرًا اتصال مخرج، أو منتج، أو مدير إنتاج، أو حتّى (أسايمِنت) به، ليبلغه عن تغيّب ممثّل، وحصوله على فرصة أن يحل مكان الممثل المتغيّب. وهو مثل باقي مهمّشي الفيلم يفقد تركيزه أمام الأضواء البرّاقة فاقدة الروح النديّة، وكل ما يحلم به أن يتصوّر مع نجمٍ معروف ليفرح والدته بصورةٍ له مع ذلك النجم، والدته التي كانت وهي وباقي (إخواته البنات) جمهوره الوحيد، في دوره الوحيد، وشهادة تقديره الوحيدة.
سريعًا، يلتقط شريف جزرة (اسم حاتم صلاح في الفيلم)، النقاط المشتركة بينه وبين صابر (كريم محمود عبد العزيز)، وسعدية (الممثلة والمغنية روبي)، وكارما بنت سعدية (أدت دورها باقتدار الطفلة لافينيا نادر).
بقعة ضوء
يصعدُ "شلبي" بقدرٍ معقولٍ فوق المستوى السينمائي المصري المعروض هذه الأيام. ويُفسح، بقوّة، مكانًا له تحت شمس الريف، والنِّجَع، والفضاءات المفتوحة، والحارات المرصوفة بالدفء والحنين.
"بيتر ميمي لم يستطع أن يمنع نفسه من بعض حشوات الأكشن، وكوميديا الأفيهات، وإقحام أجواء الصعيد" |
وهو يميّز نفسه بأغنياته: أغنية "صابر" في مستهل الفيلم غناء كريم محمود عبد العزيز، الذي يغطي بقوّته الأدائية على ضعف قدراته الصوتية، وتشاركه حنان (الطفلة سيليا) الغناء (دويتو)، و"البطة السودة" غناء رامي جمال، وأحمد سالم، في منتصفه، و"قرنفل" في ختام الفيلم. والأغنيات الثلاث من كلمات منة عدلي القيعي، وألحان إيهاب عبد الواحد، وتوزيع أحمد طارق يحيى، مقابل الأغاني الممعنة بالإسفاف في كثير من الأفلام المصرية، التي لا بد أن تتصاحب مع ملهى ليليّ، وراقصات، وصخب مزعج، وغياب لمختلف مقاييس الجودة، وتكون عادة خارج سياق حدوتة الفيلم، وكل ما تفعله أنها تسرق دقائق ليست قليلة من مجموع دقائق تلك الأفلام، عكس أغنيات "شلبي" التي تبوح بأشجان شخصيات الفيلم، وتشكّل معاينة رشيقة لأحوالِهِم، وأحلامِهِم، ووجوهِ معاناتِهِم.
"شلبي" فيلم عن التفاني من أجل الطفولة... عن الدهشة الثاوية داخل قيم الجمال المشعّة بالبساطة والروح الشعبية... عن الحب الذي لا يتوسّلُ التعبير عنه من خلال مشاهد غير أسرية في فيلم تحلو مشاهدته مع أفراد الأسرة جميعهم على اختلاف أعمارهم.
عن (جَدْعَنَةِ) الأقل حظًّا رغم قسوة ظروفهم، وضيق ذات أيديهم، وغيابِ آفاقِ توقّعٍ مشجّعةٍ لهم، وسهولة تفكيك تطلّعاتِهم، والانتباه إلى قليلِ كلفتها، ونضارةِ غاياتِها، وعذوبةِ طهارتِها.