في محبة إيلي شويري
رشا عمران 15 مايو 2023
موسيقى
إيلي شويري (1939 ـ 2023)
شارك هذا المقال
حجم الخط
رحل "بياع دواليب الهوى"، الذي كان يبيع الفرح في الضيع الصغيرة، ويستبدل الحب بالتجول في الطرقات القصية بحثًا عمن أضاع الفرح ليشتري منه القصب، ويصنع منه دولاب هواء. رحل إيلي شويري، الفنان الجميل الذي كان ركنًا رئيسًا في كل أعمال الأخوين رحباني المسرحية، وفي كل الاسكتشات والأوبريتات التي قدماها طيلة حياتهما برفقة فيروز، وصباح، ووديع الصافي، ونصري شمس الدين، وأنطوان كرباج، وفيلمون وهبي، وهدى حداد، وعدد من أشهر مغني لبنان في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، ممن أصبحوا في ثمانينياته، بعد رحيل عاصي الرحباني، وتعاون فيروز مع ابنها زياد الرحباني، المغنين الأساسيين الذين حافظوا علي المستوى الرفيع للأغنية اللبنانية في الصوت والكلمة واللحن والتوزيع، قبل الهبوط المريع الذي طاول الفن العربي، وأوله اللبناني، مع بدء ظهور الفضائيات، وانتشار ظاهرة الفيديو كليب، التي أعلت من شأن الاستعراض على حساب قيمة الفن في الأغنية؛ وهو، للأسف، ما أوصل الأغنية العربية إلى مستواها الحالي بالغ الرداءة والركاكة. حيث ما تحتاجه الأغنية حاليًا هو استديو صوت بتقنيات ممتازة، وكاميرا بفلاتر متطورة، وإيقاعات مكررة، في كل ما يقدم من الأغاني، بحيث لا يمكن تمييز أغنية عن أخرى، ولا صوت عن آخر، ولا مغنية عن أخرى؛ لا يمكن تمييز أي شيء سوى مستوى الرداءة والانحدار المرافق لكل فيديو كليب، أو تراك صوتي جديد. وهو ما جعل إيلي شويري قبل سنوات من رحيله يقول متحسرًا: "اليوم أنا مش أنا، وما يجري لا يعنيني ولا يثير اهتمامي، أعاني من الواقع الفني المتردي، لا سيما وأنني جئت من حقيقة البارحة".
حقيقة البارحة التي تحدث عنها إيلي شويري هي ليست فقط مرحلة الرحابنة التي عززت وجود الأغنية اللبنانية مقابل الأغنية المصرية، بل هي المرحلة العربية الفنية كلها، ذلك أن إيلي شويري (المولود في الأشرفية في بيروت عام 1939) عاصر المرحلة الذهبية للفن العربي، وجايل عظماءه من مطربين وملحنين وشعراء في لبنان ومصر والعراق، ممن وضعوا الأغنية العربية في قلب العالم، حين استطاعوا نقلها من محليتها لتكون عالمية من دون أن تفقد خصوصيتها الشرقية، لا سيما في الموسيقى التي ظل أساسها التخت الشرقي بمقاماته الطربية، رغم تطعيمه بالآلات الغربية، كالأكورديون، والبيانو، والفلوت، والغيتار... إلخ، وبالجمل الموسيقية المقتبسة من الكلاسيك الغربي، وموسيقى الجاز، والفلامينكو، والفالس، وكثير من الجمل الموسيقية العالمية، ما أعطى غنى حقيقيًا للفن العربي، ودل أيضًا علي الثقافة الموسيقية التي كان يتمتع بها فنانو عصر ما قبل الانحدار والركاكة الفنية في عالمنا العربي.
كان إيلي شويري ابن تلك المرحلة بامتياز، فهو الذي تعلم العود باكرًا على يد عازف كويتي، ثم تدرب مع عازف عود مصري، ما جعله ملمًا بمعظم الإيقاعات الموسيقية العربية، وهو أيضًا ما فتح له الطريق ليكون في لبنان واحدًا من أهم عناصر مرحلة الرحابنة، حيث قدم معهم ما يزيد على خمسة وعشرين عملًا مسرحيًا، كان فيها البياع وهولو، وفضلو، وشاكر الكندرجي، والبوسطجي، وكثير من الشخصيات التي جعلت منه (أيقونة في معبد الرحابنة)، كما وصفه ذات يوم الصحافي اللبناني سعيد فريحة.
شهرة إيلي شويري في سورية لدي أبناء جيلي والجيل الأسبق جاءت أولًا من عمله مع الأخوين رحباني، لهذا فإن أكثر أغانيه شهرة لدينا هي أغنية "وصلوا الحلوين وقعدوا بالعلوة"، التي غناها في اسكتش "ليلة حب"، وهي واحدة من أبدع ما غناه شويري من كلمات وألحان الأخوين رحباني، تضاف إليها أغنية أقل شهرة "يا زهرة النار" في مسرحية الشخص، وتضاف إليهما أيضًا مجموعة من الثنائيات الغنائية التي أداها مع فيروز وصباح وهدى حداد وجورجيت صايغ، وغيرهن ممن اشتغلن في فرقة الأخوين رحباني، وتحولن لاحقًا إلى مطربات معروفات بأسمائهن الشخصية، بعد أن تدربن على يد الأخوين العبقريين.
لم تطل مدة وجود إيلي شويري مع الرحابنة، إذ استطاع، باكرًا، أن يؤسس لنفسه خطًا آخر مختلفًا عما قدمه مع الرحابنة، أكثر ميلًا للتخت الشرقي، وأقل تأثرًا بالطقس الكنسي اللحني الذي تميز به الأخوين رحباني، لكنه احتفظ منهما برقة الصوت الذي تدرب في تلك المدرسة، ورغم أن خامة صوته تميل إلى الرقة، إلا أنها عنده أكثر ميلًا لأن تكون مكتسبة نتيجة تدريب طويل على أداء المونولوج الغنائي الذي يتناسب مع طبقة صوته؛ والذي استخدمه لاحقًا حينما بدأ بالتلحين لكبار المغنين اللبنانيين، وفي مقدمتهم وديع الصافي، وصباح، لتتوالى بعدها أعماله الجميلة التي أدى بعضًا منها بصوته هو، ولعل أجملها بالنسبة لي هي أغنيته "وحدو الزمن"، التي غناها في منتصف الثمانينيات، وكان لافتًا وقتها أن زمنها كان يقارب الخمس عشرة دقيقة في الوقت الذي كانت فيه الأغنية العربية لا تتجاوز الدقيقتين، أو ثلاث دقائق، وبرر ذلك (كما كتب الصحافي والشاعر عبد الغني طليس) أنه "كان يريد أن يسترجع السلطنة على المسرح، أن يغني ليسلطن ويطرب نفسه قبل المستمعين". وفي الحقيقة، فإن استعادة سريعة للقاءات التي أجريت معه في العقد الماضي تظهر كم كان شويري يشعر بالأسف على حال الأغنية العربية الحالية التي قال إنها "ستنتهي سريعا ولن يتذكرها أحد، ربما يستطيع المطربون حاليا تجميع ثروة، لكنهم لا يستطيعون تجميع سميعة حقيقيين ولا ذاكرة فنية أصيلة".
لحن إيلي شويري وكتب ما يقارب ألفًا وخمسمئة أغنية وعمل فني، كان أجملها ما غناه وديع الصافي وصباح، أما الأكثر شهرة له فهي أغنية "يا بلح زغلولي"، التي غنتها داليدا رحمة، بعد أن غناها هو بصوته، كذلك أغنية "إيام اللولو"، التي تنازعت صباح وسميرة توفيق على ملكية حقوقها وقتها. كما اشتهر شويري بأغنيات وطنية علقت في ذاكرتنا طويلًا، كأغنية "بكتب اسمك يا بلادي"، التي كادت أن تحل في سورية مكان نشيدها الوطني لشدة تعلق السوريين بها، إذ كانت بديلًا عن الأغنية الوطنية السورية المفقودة، ذلك أن النشيد الوطني الذي غناه السوريون وقتها كان مخصصًا لتمجيد الأسد لا الوطن (منذ تكريس حكم الأسد لم يعد للوطن السوري وجود خارج الأسد). أما أغنيته الأشهر في الحرب اللبنانية فهي (يا ناس حبو الناس الله موصي بالحب)، التي حاول من خلالها استعادة رؤية الأخوين الرحباني للعالم، وهي الرؤية التي ترى في الحب طريقة وحيدة لحل مختلف النزاعات الشخصية والعامة. غير أن هذه الرؤية الرومانسية، رغم جماليتها، كانت طريقة للهروب من الواقع والحقيقة، عبر إشهار المحبة في الفن، والتبشير بها كمعجزة، وهذا كان دأب الرحابنة في معظم أعمالهم، وهو ما جعل زياد الرحباني ابن الحرب بامتياز يسخر من رؤية عائلته للبنان والعالم، ويكتب أعمالًا تشرح الواقع، وتشرح الفن الذي كان يجمل الواقع، والذي كان الراحل إيلي شويري جزءًا منه.
رشا عمران 15 مايو 2023
موسيقى
إيلي شويري (1939 ـ 2023)
شارك هذا المقال
حجم الخط
رحل "بياع دواليب الهوى"، الذي كان يبيع الفرح في الضيع الصغيرة، ويستبدل الحب بالتجول في الطرقات القصية بحثًا عمن أضاع الفرح ليشتري منه القصب، ويصنع منه دولاب هواء. رحل إيلي شويري، الفنان الجميل الذي كان ركنًا رئيسًا في كل أعمال الأخوين رحباني المسرحية، وفي كل الاسكتشات والأوبريتات التي قدماها طيلة حياتهما برفقة فيروز، وصباح، ووديع الصافي، ونصري شمس الدين، وأنطوان كرباج، وفيلمون وهبي، وهدى حداد، وعدد من أشهر مغني لبنان في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، ممن أصبحوا في ثمانينياته، بعد رحيل عاصي الرحباني، وتعاون فيروز مع ابنها زياد الرحباني، المغنين الأساسيين الذين حافظوا علي المستوى الرفيع للأغنية اللبنانية في الصوت والكلمة واللحن والتوزيع، قبل الهبوط المريع الذي طاول الفن العربي، وأوله اللبناني، مع بدء ظهور الفضائيات، وانتشار ظاهرة الفيديو كليب، التي أعلت من شأن الاستعراض على حساب قيمة الفن في الأغنية؛ وهو، للأسف، ما أوصل الأغنية العربية إلى مستواها الحالي بالغ الرداءة والركاكة. حيث ما تحتاجه الأغنية حاليًا هو استديو صوت بتقنيات ممتازة، وكاميرا بفلاتر متطورة، وإيقاعات مكررة، في كل ما يقدم من الأغاني، بحيث لا يمكن تمييز أغنية عن أخرى، ولا صوت عن آخر، ولا مغنية عن أخرى؛ لا يمكن تمييز أي شيء سوى مستوى الرداءة والانحدار المرافق لكل فيديو كليب، أو تراك صوتي جديد. وهو ما جعل إيلي شويري قبل سنوات من رحيله يقول متحسرًا: "اليوم أنا مش أنا، وما يجري لا يعنيني ولا يثير اهتمامي، أعاني من الواقع الفني المتردي، لا سيما وأنني جئت من حقيقة البارحة".
حقيقة البارحة التي تحدث عنها إيلي شويري هي ليست فقط مرحلة الرحابنة التي عززت وجود الأغنية اللبنانية مقابل الأغنية المصرية، بل هي المرحلة العربية الفنية كلها، ذلك أن إيلي شويري (المولود في الأشرفية في بيروت عام 1939) عاصر المرحلة الذهبية للفن العربي، وجايل عظماءه من مطربين وملحنين وشعراء في لبنان ومصر والعراق، ممن وضعوا الأغنية العربية في قلب العالم، حين استطاعوا نقلها من محليتها لتكون عالمية من دون أن تفقد خصوصيتها الشرقية، لا سيما في الموسيقى التي ظل أساسها التخت الشرقي بمقاماته الطربية، رغم تطعيمه بالآلات الغربية، كالأكورديون، والبيانو، والفلوت، والغيتار... إلخ، وبالجمل الموسيقية المقتبسة من الكلاسيك الغربي، وموسيقى الجاز، والفلامينكو، والفالس، وكثير من الجمل الموسيقية العالمية، ما أعطى غنى حقيقيًا للفن العربي، ودل أيضًا علي الثقافة الموسيقية التي كان يتمتع بها فنانو عصر ما قبل الانحدار والركاكة الفنية في عالمنا العربي.
كان إيلي شويري ابن تلك المرحلة بامتياز، فهو الذي تعلم العود باكرًا على يد عازف كويتي، ثم تدرب مع عازف عود مصري، ما جعله ملمًا بمعظم الإيقاعات الموسيقية العربية، وهو أيضًا ما فتح له الطريق ليكون في لبنان واحدًا من أهم عناصر مرحلة الرحابنة، حيث قدم معهم ما يزيد على خمسة وعشرين عملًا مسرحيًا، كان فيها البياع وهولو، وفضلو، وشاكر الكندرجي، والبوسطجي، وكثير من الشخصيات التي جعلت منه (أيقونة في معبد الرحابنة)، كما وصفه ذات يوم الصحافي اللبناني سعيد فريحة.
"لحن إيلي شويري وكتب ما يقارب ألفًا وخمسمئة أغنية وعمل فني، كان أجملها ما غناه وديع الصافي وصباح، أما الأكثر شهرة له فهي أغنية "يا بلح زغلولي"" |
شهرة إيلي شويري في سورية لدي أبناء جيلي والجيل الأسبق جاءت أولًا من عمله مع الأخوين رحباني، لهذا فإن أكثر أغانيه شهرة لدينا هي أغنية "وصلوا الحلوين وقعدوا بالعلوة"، التي غناها في اسكتش "ليلة حب"، وهي واحدة من أبدع ما غناه شويري من كلمات وألحان الأخوين رحباني، تضاف إليها أغنية أقل شهرة "يا زهرة النار" في مسرحية الشخص، وتضاف إليهما أيضًا مجموعة من الثنائيات الغنائية التي أداها مع فيروز وصباح وهدى حداد وجورجيت صايغ، وغيرهن ممن اشتغلن في فرقة الأخوين رحباني، وتحولن لاحقًا إلى مطربات معروفات بأسمائهن الشخصية، بعد أن تدربن على يد الأخوين العبقريين.
لم تطل مدة وجود إيلي شويري مع الرحابنة، إذ استطاع، باكرًا، أن يؤسس لنفسه خطًا آخر مختلفًا عما قدمه مع الرحابنة، أكثر ميلًا للتخت الشرقي، وأقل تأثرًا بالطقس الكنسي اللحني الذي تميز به الأخوين رحباني، لكنه احتفظ منهما برقة الصوت الذي تدرب في تلك المدرسة، ورغم أن خامة صوته تميل إلى الرقة، إلا أنها عنده أكثر ميلًا لأن تكون مكتسبة نتيجة تدريب طويل على أداء المونولوج الغنائي الذي يتناسب مع طبقة صوته؛ والذي استخدمه لاحقًا حينما بدأ بالتلحين لكبار المغنين اللبنانيين، وفي مقدمتهم وديع الصافي، وصباح، لتتوالى بعدها أعماله الجميلة التي أدى بعضًا منها بصوته هو، ولعل أجملها بالنسبة لي هي أغنيته "وحدو الزمن"، التي غناها في منتصف الثمانينيات، وكان لافتًا وقتها أن زمنها كان يقارب الخمس عشرة دقيقة في الوقت الذي كانت فيه الأغنية العربية لا تتجاوز الدقيقتين، أو ثلاث دقائق، وبرر ذلك (كما كتب الصحافي والشاعر عبد الغني طليس) أنه "كان يريد أن يسترجع السلطنة على المسرح، أن يغني ليسلطن ويطرب نفسه قبل المستمعين". وفي الحقيقة، فإن استعادة سريعة للقاءات التي أجريت معه في العقد الماضي تظهر كم كان شويري يشعر بالأسف على حال الأغنية العربية الحالية التي قال إنها "ستنتهي سريعا ولن يتذكرها أحد، ربما يستطيع المطربون حاليا تجميع ثروة، لكنهم لا يستطيعون تجميع سميعة حقيقيين ولا ذاكرة فنية أصيلة".
لحن إيلي شويري وكتب ما يقارب ألفًا وخمسمئة أغنية وعمل فني، كان أجملها ما غناه وديع الصافي وصباح، أما الأكثر شهرة له فهي أغنية "يا بلح زغلولي"، التي غنتها داليدا رحمة، بعد أن غناها هو بصوته، كذلك أغنية "إيام اللولو"، التي تنازعت صباح وسميرة توفيق على ملكية حقوقها وقتها. كما اشتهر شويري بأغنيات وطنية علقت في ذاكرتنا طويلًا، كأغنية "بكتب اسمك يا بلادي"، التي كادت أن تحل في سورية مكان نشيدها الوطني لشدة تعلق السوريين بها، إذ كانت بديلًا عن الأغنية الوطنية السورية المفقودة، ذلك أن النشيد الوطني الذي غناه السوريون وقتها كان مخصصًا لتمجيد الأسد لا الوطن (منذ تكريس حكم الأسد لم يعد للوطن السوري وجود خارج الأسد). أما أغنيته الأشهر في الحرب اللبنانية فهي (يا ناس حبو الناس الله موصي بالحب)، التي حاول من خلالها استعادة رؤية الأخوين الرحباني للعالم، وهي الرؤية التي ترى في الحب طريقة وحيدة لحل مختلف النزاعات الشخصية والعامة. غير أن هذه الرؤية الرومانسية، رغم جماليتها، كانت طريقة للهروب من الواقع والحقيقة، عبر إشهار المحبة في الفن، والتبشير بها كمعجزة، وهذا كان دأب الرحابنة في معظم أعمالهم، وهو ما جعل زياد الرحباني ابن الحرب بامتياز يسخر من رؤية عائلته للبنان والعالم، ويكتب أعمالًا تشرح الواقع، وتشرح الفن الذي كان يجمل الواقع، والذي كان الراحل إيلي شويري جزءًا منه.