عن جديد النحات الأسترالي رون مويك: مزج الطبيعة بالفانتازيا
سمير رمان 24 يوليه 2023
تشكيل
منحوتة "الطفل الكبير" في معرض ماستربيس/ كريستيز/لندن (13/6/2011/Getty )
شارك هذا المقال
حجم الخط
ولد الفنان رون مويك/ Ron Mueck عام 1958 في أستراليا، لكنه يعيش ويعمل في بريطانيا على جزيرة وايت وسط بحر المانش. بدأ موييك حياته الإبداعية بإعداد ألعاب ودمى لتلفزيون الأطفال، واعتبارًا من عام 1996 كرّس نفسه تمامًا لفنّه. عرف الفنان بمنحوتاتٍ ذات أبعادٍ غير طبيعية مقارنة بمقاسات البشر، كان بعضها هائل الحجم، وبعضها الآخر قزمًا ضئيل الأبعاد.
هذا العام، استضافت مؤسسة كارتييه/ Fondation Cartier في باريس معرض هذا الفنان الأسترالي، مؤسس أسلوب النحت المعتمد أبعادًا فانتازية لمنحوتاته، محطمًا بذلك كلّ أبعاد الواقع، ولكن المنحوتات طبيعيّة من حيث الموضوع في الوقت نفسه.
الموت... الخوف والعنف
في صندوقٍ زجاجي من تصميم الفنان جان نوفيل، تنتصب ثلاث جماجم عملاقة بارتفاع نصف قامة رجل. تبدو اللوحة وكأنّها مقبرة عمالقة تركت مهجورة. تدعى هذه المنحوتة "الكتلة"، وجيء بها للمرة الأولى إلى معرض كارتييه الباريسي من متحف ملبورن الوطني. في مدخل صالة المعرض، تنتشر 100 جمجمة بيضاء صنعت من البلاستيك الزجاجي، بالإضافة إلى واحدة أُخرى تحمل الرقم 101 نُحتت من المعدن.
المعرض هو الثالث للفنان في مؤسسة كارتييه: ففي عام 2005 افتتح باكورة معارضه. أمّا معرضه الثاني، فأقيم عام 2013، ولاقى نجاحًا هائلًا. ربما كانت مؤسسة كارتييه تودّ أن يعرض الفنان أعماله مراتٍ أكثر، ولكنّ الفنان مقلٌّ، ويعمل بإتقانٍ شديد ودقّة متناهية، ليستغرق إنجاز عملٍ واحدٍ فقط عامًا بأكمله. تمرّ شهورٌ كاملة يقضيها الفنان في تشكيل الأجسام الصناعية، وفترةً مماثلة لتقليد دقيق لكلّ شعرةٍ من شعر الوجه والجسد، وكلّ لونٍ تصطبغ به كلّ بقعة من بقع الوجه، أو الجسد. يطبّق المعايير نفسها على تقليد الرموش، وعلى شفافية العيون. وفي كلّ النماذج التي يبدعها، يعمد الفنان إلى جعلها أكبر، أو أصغر، بكثيرٍ، من الأبعاد الحقيقية، وليس بينها منتج واحد تقترب أبعاده من الأبعاد البشرية. لا تنقل الصورة الفوتوغرافية مثل هذا الشعور بالكمال: فالانطباع يتعزّز بمشاركة النظارة في تشكيل المنحوتة، باعتبارهم معيارًا للمقارنة مع العمل المعروض.
يقول الفنان، وهو يبني أهرامًا من رؤوسٍ ميتة، إنّه كان يتخيّل سراديب الموتى وجماجم سكان باريس القدماء المرصوفة على طول جدران السرداب، الذي يقع مدخل سراديبه المرعبة على بعد مئات الأمتار فقط من مقر مؤسسة كارتييه الحالي. بالنسبة للفنان مويك، تمثل منحوتة "الكتلة" الغرور، وتذكّر بالموت. يعود عمل الفنان هذا إلى ستة أعوامٍ، ولكنّه بالنسبة لزوار المعرض، وكذلك بالنسبة للنقاد، يمثّل صرخة مدوية جديدة منذرة بالخطر القادم: الحرب تعود إلى أوروبا، وستتناثر الجماجم على ترابها من جديد.
هنالك عملان فقط من أعمال الفنان الخمسة تخفف من تكرار الموت وغموض شخصيته، هما تمثالان لطفلين رضيعين ولدا للتو. منحوتة "الفتاة"، وتعود إلى عام 2006، عبارة عن فتاةٍ رضيعة ممددة بكامل طولها البالغ خمسة أمتارٍ على منصّة العرض، وتظهر بوضوحٍ بقايا الحبل السرّيّ الذي كان يربطها بأمّها وقد التصق به بعض الشعر. الفتاة تنظر للمرة الأولى إلى العالم الذي يسكنه الأقزام! أمّا العمل الثاني "الطفل" فقد أنهاه الفنان عام 2000، وهو ضئيل الأبعاد، يبلغ طوله بالكاد 25 سنتيمترًا، ولذلك ثبِّت على الجدار في وضعية المولود الجديد وقد رفع كلًا من ساقيه، ليبدو وكأنه علِّق فوق سرير معدٍّ لصلب الضحايا الأقزام في عالم العمالقة.
"ثلاثة كلاب" ترمز المنحوتة الرئيسة للفنان "ثلاثة كلاب" إلى الزمن البائس الذي يعيش فيه البشر. المنحوتة عبارة عن "ثلاثة كلاب" عملاقة من سلالة دوبرمان تقف متأهبّة للوثوب على أوّل شخصٍ تلقاه لتنشب أسنانها في حنجرته. إنّها ليست كلابًا مدجّنة من حكايات الكاتب الدانماركي هانس أندرسون (1805 ـ 1875)، بل هي تجسيد لكلاب الإغريقي سيربيروس/ Cerberus ذات الرؤوس الثلاث، التي وقف عاجزًا في مواجهتها، والتي لا تهتم بسحر أنغام المغني الساحر الإغريقي أورفيوس/ Orpheus، فبقيت متيقظةً لا تنام. إنّها شياطين سوداء حقيقية قادرة من خلال وقفتها المتوعدة، وأجسادها المشدودة بتوترٍ واضح، على بثّ الرعب في قلب المشاهد، حتى وإن كان يعي تمامًا أنها ليست سوى تماثيل جامدة. المنحوتة إشارةٌ واضحة إلى كيف يمكن أن تنقلب القوة المدربة على الخضوع لإرادة أشخاصٍ آخرين من عقالها، وتندفع نحو الحريّة منقلبةً على مروضيها. وفي عالمنا، يمكن بسهولةٍ أن ينقلب صديق الإنسان إلى عدوٍّ شرس بمجرّد حدوث تغييرٍ بسيط في المقاييس.
على عكس المعروضات الأخرى، تمّ إخفاء كلاب الدوبرمان المرعبة في قبوٍ منارٍ بأضواءٍ اصطناعية تجعلها أكثر رعبًا. هنالك أيضًا تعرض منحوتة جديدة ليست بالكبيرة "هذا الخنزير الصغير"، وتمثّل خمسة رجالٍ ينهالون بالضرب المبرح على خنزير صغير لا حول له ولا قوة. في هذه المنحوتة الصغيرة، تقصّد الفنان إبقاء أحجام هؤلاء الرجال القساة دون حجم الإنسان الطبيعي، لتمثّل مجموعةً من القتلة يمارسون عملهم اليومي المعتاد. أما اللوحة الأخيرة "شخص على القارب" (2002) فجاءت أشدّ قتامة، إذ يجلس رجلٌ عارٍ على مقدمة القارب وقد أرهقه اليأس: ربما يقلّه القارب إلى عالم ما بعد الموت، أو يذهب به إلى مستقبلٍ واقعيٍّ أشدّ بؤسًا وأكثر قتامة!
سمير رمان 24 يوليه 2023
تشكيل
منحوتة "الطفل الكبير" في معرض ماستربيس/ كريستيز/لندن (13/6/2011/Getty )
شارك هذا المقال
حجم الخط
ولد الفنان رون مويك/ Ron Mueck عام 1958 في أستراليا، لكنه يعيش ويعمل في بريطانيا على جزيرة وايت وسط بحر المانش. بدأ موييك حياته الإبداعية بإعداد ألعاب ودمى لتلفزيون الأطفال، واعتبارًا من عام 1996 كرّس نفسه تمامًا لفنّه. عرف الفنان بمنحوتاتٍ ذات أبعادٍ غير طبيعية مقارنة بمقاسات البشر، كان بعضها هائل الحجم، وبعضها الآخر قزمًا ضئيل الأبعاد.
هذا العام، استضافت مؤسسة كارتييه/ Fondation Cartier في باريس معرض هذا الفنان الأسترالي، مؤسس أسلوب النحت المعتمد أبعادًا فانتازية لمنحوتاته، محطمًا بذلك كلّ أبعاد الواقع، ولكن المنحوتات طبيعيّة من حيث الموضوع في الوقت نفسه.
الموت... الخوف والعنف
"فتاةٍ رضيعة ممددة بكامل طولها البالغ خمسة أمتارٍ على منصّة العرض، وتظهر بوضوحٍ بقايا الحبل السرّيّ الذي كان يربطها بأمّها وقد التصق به بعض الشعر" |
في صندوقٍ زجاجي من تصميم الفنان جان نوفيل، تنتصب ثلاث جماجم عملاقة بارتفاع نصف قامة رجل. تبدو اللوحة وكأنّها مقبرة عمالقة تركت مهجورة. تدعى هذه المنحوتة "الكتلة"، وجيء بها للمرة الأولى إلى معرض كارتييه الباريسي من متحف ملبورن الوطني. في مدخل صالة المعرض، تنتشر 100 جمجمة بيضاء صنعت من البلاستيك الزجاجي، بالإضافة إلى واحدة أُخرى تحمل الرقم 101 نُحتت من المعدن.
المعرض هو الثالث للفنان في مؤسسة كارتييه: ففي عام 2005 افتتح باكورة معارضه. أمّا معرضه الثاني، فأقيم عام 2013، ولاقى نجاحًا هائلًا. ربما كانت مؤسسة كارتييه تودّ أن يعرض الفنان أعماله مراتٍ أكثر، ولكنّ الفنان مقلٌّ، ويعمل بإتقانٍ شديد ودقّة متناهية، ليستغرق إنجاز عملٍ واحدٍ فقط عامًا بأكمله. تمرّ شهورٌ كاملة يقضيها الفنان في تشكيل الأجسام الصناعية، وفترةً مماثلة لتقليد دقيق لكلّ شعرةٍ من شعر الوجه والجسد، وكلّ لونٍ تصطبغ به كلّ بقعة من بقع الوجه، أو الجسد. يطبّق المعايير نفسها على تقليد الرموش، وعلى شفافية العيون. وفي كلّ النماذج التي يبدعها، يعمد الفنان إلى جعلها أكبر، أو أصغر، بكثيرٍ، من الأبعاد الحقيقية، وليس بينها منتج واحد تقترب أبعاده من الأبعاد البشرية. لا تنقل الصورة الفوتوغرافية مثل هذا الشعور بالكمال: فالانطباع يتعزّز بمشاركة النظارة في تشكيل المنحوتة، باعتبارهم معيارًا للمقارنة مع العمل المعروض.
"الفنان مقلٌّ، ويعمل بإتقانٍ شديد ودقّة، ليستغرق إنجاز عملٍ واحدٍ عامًا بأكمله. تمرّ شهورٌ كاملة يقضيها الفنان في تشكيل الأجسام الصناعية، وفترةً مماثلة لتقليد دقيق لكلّ شعرةٍ من شعر الوجه والجسد" |
يقول الفنان، وهو يبني أهرامًا من رؤوسٍ ميتة، إنّه كان يتخيّل سراديب الموتى وجماجم سكان باريس القدماء المرصوفة على طول جدران السرداب، الذي يقع مدخل سراديبه المرعبة على بعد مئات الأمتار فقط من مقر مؤسسة كارتييه الحالي. بالنسبة للفنان مويك، تمثل منحوتة "الكتلة" الغرور، وتذكّر بالموت. يعود عمل الفنان هذا إلى ستة أعوامٍ، ولكنّه بالنسبة لزوار المعرض، وكذلك بالنسبة للنقاد، يمثّل صرخة مدوية جديدة منذرة بالخطر القادم: الحرب تعود إلى أوروبا، وستتناثر الجماجم على ترابها من جديد.
هنالك عملان فقط من أعمال الفنان الخمسة تخفف من تكرار الموت وغموض شخصيته، هما تمثالان لطفلين رضيعين ولدا للتو. منحوتة "الفتاة"، وتعود إلى عام 2006، عبارة عن فتاةٍ رضيعة ممددة بكامل طولها البالغ خمسة أمتارٍ على منصّة العرض، وتظهر بوضوحٍ بقايا الحبل السرّيّ الذي كان يربطها بأمّها وقد التصق به بعض الشعر. الفتاة تنظر للمرة الأولى إلى العالم الذي يسكنه الأقزام! أمّا العمل الثاني "الطفل" فقد أنهاه الفنان عام 2000، وهو ضئيل الأبعاد، يبلغ طوله بالكاد 25 سنتيمترًا، ولذلك ثبِّت على الجدار في وضعية المولود الجديد وقد رفع كلًا من ساقيه، ليبدو وكأنه علِّق فوق سرير معدٍّ لصلب الضحايا الأقزام في عالم العمالقة.
"ثلاثة كلاب" ترمز المنحوتة الرئيسة للفنان "ثلاثة كلاب" إلى الزمن البائس الذي يعيش فيه البشر. المنحوتة عبارة عن "ثلاثة كلاب" عملاقة من سلالة دوبرمان تقف متأهبّة للوثوب على أوّل شخصٍ تلقاه لتنشب أسنانها في حنجرته. إنّها ليست كلابًا مدجّنة من حكايات الكاتب الدانماركي هانس أندرسون (1805 ـ 1875)، بل هي تجسيد لكلاب الإغريقي سيربيروس/ Cerberus ذات الرؤوس الثلاث، التي وقف عاجزًا في مواجهتها، والتي لا تهتم بسحر أنغام المغني الساحر الإغريقي أورفيوس/ Orpheus، فبقيت متيقظةً لا تنام. إنّها شياطين سوداء حقيقية قادرة من خلال وقفتها المتوعدة، وأجسادها المشدودة بتوترٍ واضح، على بثّ الرعب في قلب المشاهد، حتى وإن كان يعي تمامًا أنها ليست سوى تماثيل جامدة. المنحوتة إشارةٌ واضحة إلى كيف يمكن أن تنقلب القوة المدربة على الخضوع لإرادة أشخاصٍ آخرين من عقالها، وتندفع نحو الحريّة منقلبةً على مروضيها. وفي عالمنا، يمكن بسهولةٍ أن ينقلب صديق الإنسان إلى عدوٍّ شرس بمجرّد حدوث تغييرٍ بسيط في المقاييس.
على عكس المعروضات الأخرى، تمّ إخفاء كلاب الدوبرمان المرعبة في قبوٍ منارٍ بأضواءٍ اصطناعية تجعلها أكثر رعبًا. هنالك أيضًا تعرض منحوتة جديدة ليست بالكبيرة "هذا الخنزير الصغير"، وتمثّل خمسة رجالٍ ينهالون بالضرب المبرح على خنزير صغير لا حول له ولا قوة. في هذه المنحوتة الصغيرة، تقصّد الفنان إبقاء أحجام هؤلاء الرجال القساة دون حجم الإنسان الطبيعي، لتمثّل مجموعةً من القتلة يمارسون عملهم اليومي المعتاد. أما اللوحة الأخيرة "شخص على القارب" (2002) فجاءت أشدّ قتامة، إذ يجلس رجلٌ عارٍ على مقدمة القارب وقد أرهقه اليأس: ربما يقلّه القارب إلى عالم ما بعد الموت، أو يذهب به إلى مستقبلٍ واقعيٍّ أشدّ بؤسًا وأكثر قتامة!