محمد عمران والتحرر من جاذبية العالم الموازي
أسعد عرابي 14 يوليه 2023
تشكيل
بدون عنوان 2023: ألوان أكريليك وحبر على قماش
شارك هذا المقال
حجم الخط
من المعروف أن نخبة رواد النحاتين المتفوقين الاستثنائيين في المحترف السوري يقيمون محترفاتهم ومعارضهم على الأغلب في بلدان الشتات والنزوح الفرانكوفوني، بما في ذلك العاصمة باريس، ما خلا ماهر بارودي، الذي يعلّم في ليون، وعاصم باشا في غرناطة، والباقي في مدينة النور، وهم خالد ضوا، ومنهل عيسى، ومحمد عمران، يمارسون جميعهم الرسم والتصوير والغرافيك، إلى جانب أنواع النحت، لصعوبة نقله. هؤلاء جميعًا التمع اسمهم خارج سورية، ولا يعدم بعض المجيدين في الداخل، على غرار رمحين، ودحدوح، ولكنهم منشغلون بما يدر عليهم لقمة عيشهم مع العائلة، مما يشغلهم عن التفرغ مثل المجموعة الخارجة عن مساحة الوطن.
* * *
نقرب اليوم مجهرنا التحليلي الإستطيقي من أعمال محمد عمران الأربعين المعروضة على جدران غاليري "شيلتر" الأنيقة في الإسكندرية، ما بين منتصف يونيو/ حزيران، ومنتصف يوليو/ تموز من العام الراهن 2023م، وما أثارته رسومه الغرافيكية التعبيرية من جدل وحيوية نقاشات فنية في هذه العاصمة التشكيلية.
يقام المعرض بالتعاون مع غاليري دار الفنون في الكويت والقاهرة، حيث أقام عمران معرضيه السابقين. إذًا، هو معرض شبه متنقل ما بين الكويت والإسكندرية، عبورًا من القاهرة.
هو من مواليد دمشق عام 1979م، أتم دراسته في كلية فنونها، في قسم النحت عام 2000 م، ودرس فيها حتى عام استقراره في باريس 2007م.
تقيم موهبة عمران الواثقة توازنًا نسبيًّا بين نشاط معارضه النحتية وعروضه الغرافيكية من الأكريليك على قماش، لذا يبدو أشدهم ديناميكية وإنتاجًا على المستوى الكمي والنوعي. كتبه مرسومة بمستوى نخبوية نحته المتميز جدًا. كذلك بصمته وتماثل تماثيله، خاصة في معرض "انتظار"، الذي أقيم عام 2017 م في غاليري أوروبيا في قلب عاصمة التشكيل الفرنسية.
لكن ظهوره الحاسم مع جماهيرية الغرافيكية كان قد بدأ منذ فترة طويلة، على غرار معرضه البيروتي مع عدي الزعبي بعنوان جال الآفاق، وهو "جمهور ليل كموج البحر". هو عنوان الكتاب الذي جمع الرسوم والنصوص، تلاه كتاب معرض "جمهرة". وبالعكس، فإن عروضه النحتية تتمركز معارضها في باريس، حيث محترفه، لصعوبة نقلها. امتاز آخرها بعدمية الصمت المستديم. أشبه بالسكون الذي يسبق العاصفة، لحدة تعبيره المحبط الكافكاوي الزماني المتمثل في وحدة الأقنعة بالنظّارات السكونية. تبعه شراكاته في الصالونات الكبرى عن طريق صالة نهى في بيروت، حيث أقام معرضه الشخصي ولا يزال ملتزمًا بالعرض فيها، رغم شرود تظاهراته التي تصب اليوم في لؤلؤة الإسكندرية، موئل سعيد العدوي، ورباب النمر، وحامد ندا، وحامد عويس، وعبد الهادي الجزار. تخرج من محترفاتهم أسماء معروفة، مثل نذير نبعة، وغسان السباعي، وخالد المز، وممتاز البحرة، وسواهم.
إذا عدنا إلى موضوعنا الرئيسي المتمثل في اللوحات الغرافيكية والتصويرية والرسم التي تعانقها صالة "شيلتر" الإسكندرانية، بلغت إثارتها الجماهيرية أبعد الآفاق والضجة والشهرة، نقلت في الأساس بسبب نجاحها من القاهرة إلى الإسكندرية.
اعتمد فنه على تصوير الجمهور بطريقة ساخرة متباعدة العلاقات الهذيانية، مع تباعد نسب هؤلاء، بعضها معلق في الأشجار مثل الخفافيش بالمقلوب، تجمُّعُ عمالقة وأقزام يصور من شتى الجهات، بحيث تقوم في الفراغ بمعزل عن الجاذبية الأرضية. وبسبب علاقاتهم الملتبسة مع السيارات، وبعض الحيوانات، وإشارات المرور، فحشود رسومهم تتم بتداعٍ حلمي، وشطح حر. لذا أطلق على المعرض عنوان عجائبي: "زوار من عالم مواز". الواقع أنهم راسخون في مواقعهم الطبوغرافية بتكوينات ديكارتية محكمة لا تقبل التعديل، أو تغيير المواقع، ناهيك عن التصوير من الأطراف الأربعة، درجت عليها بعض المناهج الأسلوبية في رسوم مخطوطاتنا التراثية، مثل مخطوط "فنون الحرب والفروسية" المملوكي، والذي استلهم منه جورج بازلتز قلب الأشكال، مثل أحصنته وفرسانه، واعتمدته أنا كمنظور تعددي مشكاتي منذ عام 1985، فكنت أرسم المرأة الملفحة بالسواد في الاتجاهين.
أما تشكيلية لوحاته اللونية فتتحدد بعد رسمها بالحبر أو الأكريليك الأسود بطريقة التداعي السردي البطيء والتأملي، وكأنه يكشف العالم المخفي خلف التباس النكبة الجماهيرية الشامية الواقعية كتراجيديا، فهي من جديد ليست زيارة، وإنما نكبة متجذرة ومزمنة النزوح والقتل والمجازر المجانية منذ سنوات. هو ليس بعيدًا عن هذا الاعتراض الإنساني الشمولي، ينكشف من خلال الطابع "الإيكولوجي" لعنصر النبات والشجرة التي تتعشق هؤلاء الجماهير، وكأنها شجرة الحياة التي تمسّد جروحهم وترسخ دور الألوان الموزعة في شتى المواقع الجماهيرية بطريقة حدسيّة عاطفية، أو بالأحرى تراجيدية.
لقي المعرض مثل سابقيه نجاحًا منقطع النظير، خاصة لإثارة موضوعاته المتميزة المتفردة ذات الخصوصية غير التقليدية. قد يكون من أنجح معارض الموسم الحالي على ضفاف مدينة التشكيل العريقة الإسكندرية، رمز التبادل الثقافي منذ مؤسسها إسكندر المقدوني الكبير.
أما جماهير لوحاته فقادمون فعلًا من كوكب مواز يدعي النكبة الشامية.
والتطبيق المتفرد لمنظور عين الطائر، أو المشكاة، أو السيمورغ، المتجذر في القبة السماوية، هو مثل قدرنا المعلق، وهو الهارب من مغناطيس ثقالة الجاذبية الأرضية وماديتها.
أسعد عرابي 14 يوليه 2023
تشكيل
بدون عنوان 2023: ألوان أكريليك وحبر على قماش
شارك هذا المقال
حجم الخط
من المعروف أن نخبة رواد النحاتين المتفوقين الاستثنائيين في المحترف السوري يقيمون محترفاتهم ومعارضهم على الأغلب في بلدان الشتات والنزوح الفرانكوفوني، بما في ذلك العاصمة باريس، ما خلا ماهر بارودي، الذي يعلّم في ليون، وعاصم باشا في غرناطة، والباقي في مدينة النور، وهم خالد ضوا، ومنهل عيسى، ومحمد عمران، يمارسون جميعهم الرسم والتصوير والغرافيك، إلى جانب أنواع النحت، لصعوبة نقله. هؤلاء جميعًا التمع اسمهم خارج سورية، ولا يعدم بعض المجيدين في الداخل، على غرار رمحين، ودحدوح، ولكنهم منشغلون بما يدر عليهم لقمة عيشهم مع العائلة، مما يشغلهم عن التفرغ مثل المجموعة الخارجة عن مساحة الوطن.
* * *
نقرب اليوم مجهرنا التحليلي الإستطيقي من أعمال محمد عمران الأربعين المعروضة على جدران غاليري "شيلتر" الأنيقة في الإسكندرية، ما بين منتصف يونيو/ حزيران، ومنتصف يوليو/ تموز من العام الراهن 2023م، وما أثارته رسومه الغرافيكية التعبيرية من جدل وحيوية نقاشات فنية في هذه العاصمة التشكيلية.
يقام المعرض بالتعاون مع غاليري دار الفنون في الكويت والقاهرة، حيث أقام عمران معرضيه السابقين. إذًا، هو معرض شبه متنقل ما بين الكويت والإسكندرية، عبورًا من القاهرة.
هو من مواليد دمشق عام 1979م، أتم دراسته في كلية فنونها، في قسم النحت عام 2000 م، ودرس فيها حتى عام استقراره في باريس 2007م.
تقيم موهبة عمران الواثقة توازنًا نسبيًّا بين نشاط معارضه النحتية وعروضه الغرافيكية من الأكريليك على قماش، لذا يبدو أشدهم ديناميكية وإنتاجًا على المستوى الكمي والنوعي. كتبه مرسومة بمستوى نخبوية نحته المتميز جدًا. كذلك بصمته وتماثل تماثيله، خاصة في معرض "انتظار"، الذي أقيم عام 2017 م في غاليري أوروبيا في قلب عاصمة التشكيل الفرنسية.
لكن ظهوره الحاسم مع جماهيرية الغرافيكية كان قد بدأ منذ فترة طويلة، على غرار معرضه البيروتي مع عدي الزعبي بعنوان جال الآفاق، وهو "جمهور ليل كموج البحر". هو عنوان الكتاب الذي جمع الرسوم والنصوص، تلاه كتاب معرض "جمهرة". وبالعكس، فإن عروضه النحتية تتمركز معارضها في باريس، حيث محترفه، لصعوبة نقلها. امتاز آخرها بعدمية الصمت المستديم. أشبه بالسكون الذي يسبق العاصفة، لحدة تعبيره المحبط الكافكاوي الزماني المتمثل في وحدة الأقنعة بالنظّارات السكونية. تبعه شراكاته في الصالونات الكبرى عن طريق صالة نهى في بيروت، حيث أقام معرضه الشخصي ولا يزال ملتزمًا بالعرض فيها، رغم شرود تظاهراته التي تصب اليوم في لؤلؤة الإسكندرية، موئل سعيد العدوي، ورباب النمر، وحامد ندا، وحامد عويس، وعبد الهادي الجزار. تخرج من محترفاتهم أسماء معروفة، مثل نذير نبعة، وغسان السباعي، وخالد المز، وممتاز البحرة، وسواهم.
إذا عدنا إلى موضوعنا الرئيسي المتمثل في اللوحات الغرافيكية والتصويرية والرسم التي تعانقها صالة "شيلتر" الإسكندرانية، بلغت إثارتها الجماهيرية أبعد الآفاق والضجة والشهرة، نقلت في الأساس بسبب نجاحها من القاهرة إلى الإسكندرية.
"تقيم موهبة عمران الواثقة توازنًا نسبيًّا بين نشاط معارضه النحتية وعروضه الغرافيكية من الأكريليك على قماش" |
اعتمد فنه على تصوير الجمهور بطريقة ساخرة متباعدة العلاقات الهذيانية، مع تباعد نسب هؤلاء، بعضها معلق في الأشجار مثل الخفافيش بالمقلوب، تجمُّعُ عمالقة وأقزام يصور من شتى الجهات، بحيث تقوم في الفراغ بمعزل عن الجاذبية الأرضية. وبسبب علاقاتهم الملتبسة مع السيارات، وبعض الحيوانات، وإشارات المرور، فحشود رسومهم تتم بتداعٍ حلمي، وشطح حر. لذا أطلق على المعرض عنوان عجائبي: "زوار من عالم مواز". الواقع أنهم راسخون في مواقعهم الطبوغرافية بتكوينات ديكارتية محكمة لا تقبل التعديل، أو تغيير المواقع، ناهيك عن التصوير من الأطراف الأربعة، درجت عليها بعض المناهج الأسلوبية في رسوم مخطوطاتنا التراثية، مثل مخطوط "فنون الحرب والفروسية" المملوكي، والذي استلهم منه جورج بازلتز قلب الأشكال، مثل أحصنته وفرسانه، واعتمدته أنا كمنظور تعددي مشكاتي منذ عام 1985، فكنت أرسم المرأة الملفحة بالسواد في الاتجاهين.
أما تشكيلية لوحاته اللونية فتتحدد بعد رسمها بالحبر أو الأكريليك الأسود بطريقة التداعي السردي البطيء والتأملي، وكأنه يكشف العالم المخفي خلف التباس النكبة الجماهيرية الشامية الواقعية كتراجيديا، فهي من جديد ليست زيارة، وإنما نكبة متجذرة ومزمنة النزوح والقتل والمجازر المجانية منذ سنوات. هو ليس بعيدًا عن هذا الاعتراض الإنساني الشمولي، ينكشف من خلال الطابع "الإيكولوجي" لعنصر النبات والشجرة التي تتعشق هؤلاء الجماهير، وكأنها شجرة الحياة التي تمسّد جروحهم وترسخ دور الألوان الموزعة في شتى المواقع الجماهيرية بطريقة حدسيّة عاطفية، أو بالأحرى تراجيدية.
لقي المعرض مثل سابقيه نجاحًا منقطع النظير، خاصة لإثارة موضوعاته المتميزة المتفردة ذات الخصوصية غير التقليدية. قد يكون من أنجح معارض الموسم الحالي على ضفاف مدينة التشكيل العريقة الإسكندرية، رمز التبادل الثقافي منذ مؤسسها إسكندر المقدوني الكبير.
أما جماهير لوحاته فقادمون فعلًا من كوكب مواز يدعي النكبة الشامية.
والتطبيق المتفرد لمنظور عين الطائر، أو المشكاة، أو السيمورغ، المتجذر في القبة السماوية، هو مثل قدرنا المعلق، وهو الهارب من مغناطيس ثقالة الجاذبية الأرضية وماديتها.